والفن - كما يقولون - تصوير للحياة! مقياس الفن - بل معنى «الفن» - هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا، لو قلت كلاما يصور حقيقة عامة تنطبق على هذا وذلك، فقولك بعيد عن الفن الرفيع، ومن هنا كانت ثورتي النفسية وكان غيظي الشديد كلما قرأت لكاتب من كتابنا يقول عن هذا الشاعر أو ذاك من أسلافنا: إنه شاعر لحكمته أو لصدق حكمه أو لما إلى ذلك، الحكمة والحكم الصادق أدخل في باب «العلم»؛ لأنها تعمم القول ولا تخصصه في تصوير موقف فريد، وإلا فخبرني - أثابك الله - وما الفرق بين شاعرهم حين يقول: «والظلم من شيم النفوس» وبين عالم الطبيعة حين يقول: «التمدد بالحرارة من شيم الحديد» و«الغليان من صفات الماء»؟! كلاهما يعمم الحكم، وإذن فكلاهما عالم وليس بأديب، ولا يكون ذلك الشاعر شاعرا إلا إذا صور حالة جزئية فريدة من حالات الظلم، أو صور ظالما معينا يتجسد الظلم في أعماله ... (اقرأ الفصل كاملا في كتاب «قشور ولباب» تحت عنوان «النقد الأدبي بين الذوق والعقل»).
5
جوهر الفن كائنا ما كان موضوعه - والأدب جزء من الفن بمعناه الأوسع - هو «الشكل» الذي أقامه الفنان إطارا يبث فيه المضمون الخبري (من «خبرة») الذي أراد أن يجسده للعين أو للأذن والشكل أو الصورة (= الفورم) تبعا لذلك هو - أو ينبغي أن يكون - موضع النظر بالدرجة الأولى عند الناقد.
ليس المراد - بداهة - هو أن نعرض على الناس أشكالا خالية، بل لا بد لهذه الأشكال أن تجيء مترعة بالمحتوى، لكن هذا المحتوى نفسه قد نعرضه سائبا لا تضمه «صورة» فيظل معناه قائما، لكنه لا يعود الفن عندئذ هو وسيلة نقل هذا المعنى، إننا إذ ننطق بصيغة البحر الطويل من أوزان الشعر العربي، فنقول: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن، فلا ننطق بذلك «شعرا»؛ لأن ما نقدمه به شكل مفرغ من مادته، واملأ هذا القالب بمضمون من حياة الإنسان يصبح شعرا، كقول امرئ القيس في هذا الشكل الشعري:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وكما أن الشكل وحده لا يكون شعرا، فكذلك المضمون الحياتي وحده متحللا من قالب الشكل لا يكون شعرا كذلك، فما كان ليكون شعرا ما قاله امرؤ القيس لو قال: تعاليا معي نقف عند سقط اللوى، التي هي بين الدخول وحومل؛ لنبكي معا بكاء تثيره فينا ذكرى الحبيب وذكرى الدار التي كان يسكنها.
على أننا مع التسليم التام بضرورة امتزاج الصورة وما يملؤها امتزاجا يستحيل أن ينفصل في مجرى الخبرة الحية، إلا أننا - مع ذلك - نقول: إن جانب الشكل هو الصفة التي تجعل الفن فنا، وإذن فلا بد لتلك الصفة أن تكون في عملية النقد الفني ركنها الركين، فالمجموعة الصوتية التي أصبحت «موسيقى» قد انخرطت في «شكل» فأصبحت موسيقى، والمجموعة اللونية التي أصبحت «لوحة» قد انتظمت في «شكل» فأصبحت لوحة فنية، ومجموعة الألفاظ التي أصبحت شعرا لم تصبح كذلك إلا لأنها انصبت في «شكل» يمكن أن يوزن أو يقاس.
ولقد أفردت دراسة «للصورة» في الفن وفي الفلسفة على السواء؛ لأتعقب هذا المصطلح الهام باحثا عن دلالاته الحقيقية؛ ابتغاء مزيد من الوضوح لما رأيته مفتاحا للعمل الفني كائنا ما كان ميدانه النوعي (راجع في كتابي، فلسفة النقد «موضوع» الصورة في الفلسفة والفن).
في الفقرة الأولى من هذا الفصل عرضت مختلف التيارات النقدية؛ لأختار لنفسي منها واحدا أوثره على سائرها، وكان ما اخترته هو الوقوف عند القطعة الأدبية ذاتها (أو القطعة الفنية عموما) للنظر في الطريقة التي بنيت بها، أي للنظر في الشكل أو في الصورة التي اتخذت إطارا لها، وذلك قبل البحث عن «المعاني» التي وردت في ثناياها؛ لأن القطعة أصبحت أدبا أو أصبحت فنا بفضل شكلها دون الحد من قيمة المعاني المحمولة على عريشتها، وقد ذكرت في الفقرة الأولى مدرسة نقدية يهمها البحث من وراء الشكل الفني عن «نفسية» من بناه، ومدرسة نقدية ثانية تنفذ خلال الشكل الفني لتقع على الظروف الاجتماعية التي أحاطت بالفنان وهو يصوغ فنه، وعلقنا على ذلك بقولنا: إن المدرسة النفسية أرادت أن تشتري علم نفس بالفن وأرادت المدرسة الثانية أن تشتري علم اجتماع بالفن، وفي كلتا الحالتين نزل الفن ليكون مجرد وثيقة تثبت شيئا أهم منه، وأما إذا جعل الناقد موضع اهتمامه طريقة التكوين ذاتها التي بسببها أصبح الأدب أدبا والفن فنا، فإنه بذلك يجعل الصدارة للقيم الأدبية أو الفنية ؛ لأنه أعطاها الأولوية الأولى، ونظر إليها من حيث هي غاية في ذاتها وليست مجرد وسيلة لغيرها، حتى لو سلمنا بأنها وسيلة «جميلة» مع ذلك؛ لأنها برغم جمالها فهي ما زالت «وسيلة» لما هو أهم منها عند من أراد أن يتخطاها للبحث عما وراءها.
Unknown page