ومنذ أن أحسست بغياب الحياة العقلية من «قصة نفس»، نشأت عندي الرغبة في أن أعقب على «قصة نفس» بتوءم لها أسميه «قصة عقل»، ولبثت تلك الرغبة حائرة، تظهر لحظة لتعود فتختفي، حتى أراد لي الله توفيقا فأخرجتها إلى دنيا الناس.
ولعل من أهم العوامل التي كانت تضعف عزيمتي دون تحقيق تلك الرغبة ما يقرب من عشرين عاما؛ أن الشطر الأعظم من الأفكار، التي هي أفكاري وليست مستعارة من أحد، جاء مفرقا في عدد ضخم من «المقالات»، فمن هذه الناحية يمكن اعتبار كل مقالة منها كتابا صغيرا يحمل فكرة محددة، لم يكن ينقصها إلا الإسهاب في عرضها لتكون كتابا له حجم الكتب كما يألفها الناس، فإذا أردت أن أقدم صورة لإنتاجي العقلي، كان لا بد من جمع تلك الأفكار المفرقة وتصنيفها تحت رءوسها التي تحتويها، فربما كنت أنا أوضح رؤية لما أنتجته من غيري إذا أراد أن يضطلع بعمل كهذا، فقد كنت على يقين من أنني - خلال أربعين سنة على الأقل من (من 1940 إلى 1980م) - سرت على خطوط فكرية محددة واضحة، برغم ظهورها في أشكال مختلفة بين كتب ومقالات، ومن تصوير أدبي إلى كتابة تحليلية علمية. لكن الرءوس الفكرية واضحة؛ فأنا أدعو بكل قوتي إلى أن نزيد من اهتمامنا «بالعلم»، حتى ولو جاء ذلك على حساب الجانب الوجداني، وأدعو إلى الأخذ بأسس الحضارة العصرية وما يتبعها من ثقافة، ثم أدعو إلى البحث عن صيغة تصون لنا هويتنا دون أن يضيع منا العيش في عصرنا ... هي خطوط واضحة أدرت عليها كل ما بذلته من جهود.
لكنني كلما هممت بالكتابة في «قصة عقل»، ترددت في منهج السير كيف يكون؛ فقد فكرت مرة في أن أجعل طريق السير على مراحل، كل مرحلة منها عشر سنوات، منذ بدأت نشاطي العقلي (1930م) بصورة جادة وإلى الساعة التي هممت بالكتابة فيها؛ وذلك لأني - بالفعل - أجد لكل عقد من السنين في حياتي العقلية سمة بارزة تميزه من سواه؛ ففي العقد الأول (1930-1940م) كنت أقتصر على عرض أفكار أنقلها عن أصحابها في كتاب أو في مقالة؛ وفي العقد الثاني (1940-1950م) ركزت طاقتي في نقد الحياة المصرية في مقالات روعي في معظمها أن تلتزم «أدب المقالة»، ذلك فضلا عن أن ذلك العقد من السنين هو الذي قضيت جزءه الأوسط دارسا في إنجلترا، ومحصلا للدكتوراه من جامعة لندن، ومبلورا لنفسي وقفة فلسفية لازمتني إلى اليوم؛ وفي العقد الثالث (1950-1960م) اتجهت بمعظم جهدي نحو التأليف الجامعي، وهو تأليف دار كله على محور الوقفة الفلسفية التي انتهجتها؛ وفي العقد الرابع (1960-1970م) صببت اهتمامي على طائفة من الأفكار شاعت يومئذ في حياتنا الثقافية شيوعا كان طابعه الغموض الشديد، فتناولتها بالتحليل الذي يبين حقائقها؛ لتكون على وعي بمضمونها قبل أن نجعلها موضع قبول أو رفض؛ وأما العقد الخامس (1970-1980م) فقد انصرفت خلاله إلى محاولات لم تهدأ للبحث عن نقاط يلتقي فيها جوهر تراثنا بجوهر العصر الحاضر، لعلنا نجد الصيغة التي تجمع الطرفين في وعاء ثقافي واحد.
أقول إني فكرت ذات يوم في أن أجعل هذا التقسيم التاريخي أساسا للكتاب، لكنني عدت فخشيت أن يضيع علي وعلى القارئ ما حرصت على ألا يضيع، وهو إبراز «الأفكار» الأساسية التي صنعتها بنفسي، أو اصطنعتها لنفسي، ونسجت منها موقفا عقليا متسقا موحدا، فلقد لحظت في مناسبات كثيرة أنه حتى أخص الخاصة ليس على دراية بأنني صدرت فيما كتبته عن «موقف»، بحيث ظن أنني إنما كتبت ثم كتبت ثم كتبت، ولكنها كتابات جاءت كما اتفق كأنها ذرات الهباء لم تجتمع منها ذرة إلى ذرة عن قصد وتدبير وغاية موحدة.
لهذا آثرت آخر الأمر أن أسير على طريق يحقق التسلسل التاريخي إلى حد ما، ولكنه في الوقت نفسه يبرز أهم الرءوس التي أدرت فكري على منوالها.
كان الفرق كبيرا بين صورة حياتي كما رأيتها في «قصة نفس»، وصورة حياتي كما رأيتها وأنا أكتب «قصة عقل»: في الحالة الأولى رأيت نفسا صنعها آخرون فتلقيتها راضيا بها أو مرغما عليها، وفي الحالة الثانية رأيت «عقلا» صنع نفسه بنفسه، وهو راض كل الرضا عما صنع، ويحمل تبعته أمام الله وأمام الناس، ومع ذلك فإنني لشديد الرغبة في أن يقف التوءمان معا جنبا إلى جنب أمام القراء؛ ولهذا فقد صحت عزيمتي - بإذن الله - أن أدفع بقصة نفس إلى الحياة من جديد، بعد شيء من المراجعة أتجنب به بعض ما لحظته من أوجه النقص في تكوينها الأدبي.
أسأل الله الهدى والتوفيق.
الجيزة، في 8 يونيو 1982م
زكي نجيب محمود
الفصل الأول
Unknown page