194

Qissat Adab Fi Calam

قصة الأدب في العالم (الجزء الأول)

Genres

ولا بد لك - إن أردت أن تعلم ما قاله أفلاطون - من قراءته. وحسبنا في هذا الموضوع أن نشير إلى فكرتين أساسيتين: الأولى فكرة سقراط في الفضيلة بأنها العلم والرذيلة بأنها الجهل، أي أن الإنسان لا يسيء السلوك إلا عن جهل، ولو عرف لاهتدى، وهذا رأي له قيمته ونصيبه من الصواب. وقد عبر سقراط عن ذلك حين ذكر قاتلوه ساعة موته، فقال: «سامحوهم فإنهم لا يعرفون ما يعملون.» والفكرة الرئيسية الثانية في «المحاورات» هي رأي أفلاطون بأن عالم الأشياء الذي يحيط بنا إنما يصور عالما آخر قوامه أفكار عقلية، فكل شيء هنا شبح لفكرة هناك، فإذا ما أحببت إنسانا جميلا أو زهرة جميلة فأنت إنما تحب في حقيقة الأمر فكرة الجمال التي تتمثل في الإنسان والزهرة، لا هذا الإنسان الشخص بعينه، ولا تلك الزهرة بذاتها، وهذه خلاصة موجزة «للحب الأفلاطوني»، الذي أخذت تلوكه الألسنة في غير معناه حتى أفسدته. ولعل أجمل ما يمتع القارئ الذي لا يريد أن يغوص في الفلسفة العميقة محاورة «الجمهورية» ومحاورة «الدفاع» ومحاورة «المأدبة»؛ ففي «الجمهورية» وصف للدولة المثلى التي يجب أن يكون على رأسها فيلسوف مفكر يسيطر عليها كما يسيطر العقل على شئون الجسد، وفي «الدفاع» رواية جميلة لمحاكمة سقراط ودفاعه عن نفسه أمام قضاته، وفي «المأدبة» شرح مفصل للحب الأفلاطوني صيغ في أسلوب هو أجود ما جرت به براعة الفيلسوف في جمال التعبير. وفيما يلي مثال لنثر أفلاطون، وهي قطعة ختمت بها محاورة فيدون، وفيها يصور موت سقراط: ... نهض ودخل غرفة الحمام، يصحبه أقريطون، الذي أشار إلينا بأن ننتظر؛ فانتظرنا نتحدث ونفكر في أمر الحوار وفي هول المصاب. لقد كنا كمن ثكل أباه، وأوشكنا أن نقضي ما بقي من أيامنا كالأيتام. فلما تم اغتساله جيء له بأبنائه (وكانوا طفلين صغيرين ويافعا)، كما وفدت نساء أسرته، فحادثهن وأوصاهن بعض نصحه، على مسمع من أقريطون، ثم صرفهن وعاد إلينا.

ها قد دنت ساعة الغروب، فقد قضى داخل الحمام وقتا طويلا، وعاد بعد اغتساله فجلس إلينا، ولكنا لم نفض في الحديث. وما هي إلا أن جاء السجان وهو خادم الأحد عشر، ووقف إلى جانبه وقال: لست أتهمك يا سقراط بما عهدته في غيرك من الناس من سورة الغضب، فقد كانوا يثورون ويصيحون في وجهي حينما آمرهم بتجرع السم، ولم أكن إلا صادعا بأمر أولي الأمر. أما أنت، فقد رأيتك أنبل وأرق وأفضل ممن جاءوا قبلك إلى هذا المكان، فليس يخامرني شك أنك لن تنقم علي، فليس الذنب ذنبي، كما تعلم، إنما في جريرة سواي ... وبعد، فوداعا، وحاول أن تحمل راضيا ما ليس من وقوعه بد، إنك لتعلم فيم قدومي إليك. ثم استدار فخرج منفجرا بالبكاء. فنظر إليه سقراط وقال: لك مني جميل بجميل، فسأصدع بما أمرتني به، ثم التفت إلينا وقال: يا له من فاتن! إنه ما انفك يزورني في السجن، وكان يحادثني الحين بعد الحين، ويعاملني بالحسنى ما وسعته ... انظر إليه الآن، كيف يدفعه فضله أن يحزن من أجلى! فلزام علينا، يا أقريطون، أن نفعل ما يريد. مر أحدا أن يجيء بالقدح إن كان قد تم إعداد السم، وإلا فقل للخادم أن يهيئ شيئا منه؛ فقال أقريطون: ولكن الشمس لا تزال ساطعة فوق التلاع، وكثير ممن سبقوك لم يجرعوا السم إلا في ساعة متأخرة بعد أن كانوا يأكلون ويشربون وينغمسون في لذائذ الحس، فلا تتعجل إذن؛ إذ لا يزال في الوقت متسع!

فقال سقراط: نعم يا أقريطون، لقد أصاب من حدثتني عنهم فيما فعلوا، لأنهم يحسبون أن وراء التأجيل نفعا يجنونه، وإني كذلك لعلى حق في ألا أفعل كما فعلوا، لأني لا أظن أني منتفع من تأخير شراب السم ساعة قصيرة! إنني بذلك إنما أحتفظ وأبقي على حياة قد انقضى أجلها فعلا، إني لو فعلت ذلك سخرت من نفسي. أرجو إذن أن تفعل ما أشرت به ولا تعص أمري! فلما سمع أقريطون هذا، أشار إلى الخادم فدخل، ولم يلبث إلا قليلا حتى عاد يصحبه السجان يحمل قدح السم؛ فقال سقراط: أي صديقي العزيز! إنك قد مرنت على هذا الأمر، فارشدني كيف أبدأ؟ فأجاب الرجل: لا عليك إلا أن تجول حتى تثقل ساقاك، ثم ترقد فيسري السم. وهنا ناول سقراط القدح، فحدق في الرجل بكل عينيه، يا أشكراتس، وأخذ القدح جريئا وديعا لم يرع ولم يمتقع لون وجهه؛ هكذا تناول القدح وقال: ما قولك إذا سكبت هذا القدح لأحد الآلهة؟ أفيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجاب الرجل: إننا لا نعد يا سقراط إلا بمقدار ما نظنه كافيا. فقال: إني أفهم ما تقول، ومع ذلك فيحق لي بل يجب علي أن أصلي للآلهة أن توفقني في رحلتي من هذا العالم إلى العالم الآخر؛ فلعل الآلهة تهبني هذا؟ فهو صلاتي لها، ثم رفع القدح إلى شفتيه وجرع السم حتى الثمالة رابط الجأش مغتبطا، وقد استطاع معظمنا أن يكبح جماح حزنه حتى تلك الساعة، أما وقد رأيناه يشرب السم، وشهدناه يأتي على الجرعة كلها، فلم يعد في قوس الصبر منزع، وانهمر مني الدمع مدرارا على الرغم مني، فسترت وجهي وأخذت أندب نفسي ... حقا، إني لم أكن أبكيه، بل أبكي فجيعتي فيه حين أفقد مثل هذا الرفيق، ولم أكن أول من فعل هذا، بل إن أقريطون، وقد ألفى نفسه عاجزا عن حبس عبراته، نهض وابتعد، فتبعته، وهنا انفجر إيولودورس الذي لم ينقطع بكاؤه طول الوقت في صيحة عالية وضعتنا جميعا موضع الجبناء، ولم يحتفظ بهدوئه منا إلا سقراط. فقال: ما هذه الصرخة العجيبة؟! لقد صرفت النسوة خاصة حتى لا يسئن صنيعا على هذا النحو؛ فقد خبرت أنه ينبغي للإنسان أن يسلم الروح في هدوء، فسكونا وصبرا ... فلما سمعنا ذلك اعترانا الخجل وكفكفنا دموعنا، وأخذ سقراط يتجول حتى بدأت ساقاه تتخلخلان - كما قال - ثم استلقى على ظهره، كما أشير له أن يفعل . وكان الرجل الذي ناوله السم ينظر إلى قدميه وساقيه حينا بعد حين، ثم ضغط بعد هنيهة على قدميه وسأله: هل أحس فأجاب أن لا، ثم ضغط على ساقه، وهكذا صعد ثم صعد، مشيرا لنا كيف أنه برد وتصلب. ثم لمس سقراط نفسه ساقيه وقال. ستكون الخاتمة حين يصل السم إلى القلب. فلما أخذت البرودة تتمشى في أعلى فخذيه كشف عن وجهه، إذ كان قد دثر نفسه بغطاء وقال (وكانت هذه آخر كلماته):

إنني يا أقريطون مدين بدين لأسكلبيوس،

202

فهل أنت ذاكر أن ترد هذا الدين؟ فأجاب أقريطون إنه سيوفي الدين، ثم سأله إن كانت لديه رغبة أخرى، ولم يكن لهذا السؤال من جواب. وما هي إلا دقيقة أو دقيقان حتى سمعت حركة؛ فكشف عنه الخادم، وكانت عيناه مفتوحتين فأقفل أقريطون فمه وعينه.

هكذا يا أشكراتس قضى صديقنا الذي أدعوه بحق أحكم من قد عرفت من الناس، وأوسعهم عدلا وأكثرهم فضلا.

ثم جاء أرسطو الذي شق للفلسفة طريقها مدى عشرين قرنا، فقد لبث حتى القرن السابع عشر يعرف بين الفلاسفة ب «الفيلسوف»، وبلغت سيطرته على عقول الناس حدا لم يعرفه فيلسوف سواه، حتى جاء رجال النهضة - بيكون في إنجلترا، وديكارت في فرنسا - فرفعوا لواء الثورة على رجل الفلسفة الأكبر، وطالبوا بحقهم في التفكير المستقل الذي لا يعرف الحدود والقيود. وما كان أرسطو نفسه لينكر على أحد هذا الفكر الحر، لكنهم تابعوه ومشايعوه خلال القرون هم الذين وضعوه من الناس موضع المعلم الذي تجري كلماته مجرى القضاء الذي لا يرد. وكيف ينكر أرسطو على أحد حرية الفكر، وهو ذاك الروح الطليق، والعقل المتطلع، والعالم الذي يبحث ويبحث حتى ينتهي ببحثه إلى الحق؟! أخذ أرسطو عن أستاذه أفلاطون ثم انشق عليه؛ وأهم ما يختلفان فيه هو فكرة المثل، أو العالم العقلي الذي جزم أفلاطون بوجوده نموذجا تجيء على نسقه الأشياء. فما كان لأفلاطون الحالم الشاعر الفنان سوى أن يمزق بخياله حجب المادة التي تحيط به ليرى من ورائها أفكارا مجردة هي من الأشياء بمثابة الأصل من الصورة. أما أرسطو ذو العقل العلمي والفكر المنطقي فحصر نفسه في حدود ما يرى ويلمس، فهذه الأشياء في الحقائق ذاتها ولا شيء وراءها، وليس للمعاني المجردة وجود إلا في عقل الإنسان الذي يجردها. وماذا يعني تاريخ الأدب من هذا الفيلسوف؟ يعنيه أسلوبه العلمي الواضح الدقيق، فلئن كان أفلاطون بمثابة قصيدة من الشعر الطائر بأجنحة الخيال، فأرسطو قطعة من النثر الرزين الرصين؛ اقرأ له كتاب الأخلاق،

203

واقرأ له كتاب السياسة، ثم اقرأ كتابه في «الشعر» الذي لا يزال عمدة للنقاد إلى هذا اليوم فلن تقرأه قراءة الدرس العميق حتى يكون منك ناقد صائب الحكم على إنتاج الأدباء. (ب) الخطابة

Unknown page