مقدمة
كونستانتين نجروزو (1801-1864)
إسكندر لابوشنيانو1 (1514-1569)
إيون كريانجا (1837-1889)
ي. ل. كاراجيالي (1852-1912)
باربي ديلا فرانسيا (1852-1918)
تيودور أرغيزي (1880)
بنايت إستراتي (1884-1935)
سيزار بترسكو (1892)
ال. ساهيا (1908-1937)
زهاريا ستانكو (1902)
مقدمة
كونستانتين نجروزو (1801-1864)
إسكندر لابوشنيانو1 (1514-1569)
إيون كريانجا (1837-1889)
ي. ل. كاراجيالي (1852-1912)
باربي ديلا فرانسيا (1852-1918)
تيودور أرغيزي (1880)
بنايت إستراتي (1884-1935)
سيزار بترسكو (1892)
ال. ساهيا (1908-1937)
زهاريا ستانكو (1902)
قصص رومانية
قصص رومانية
تأليف
محمد مندور
مقدمة
هذه صفحات مختارة من فن القصص في الأدب الروماني تمثل ألوانا مختلفة من هذا الفن عند شعب صديق يشبه في كفاحه من أجل التحرر والوعي بذاته شعبنا العربي إلى حد كبير، بل ربما كان كفاحه أكثر عنفا وضراوة، حتى بالنسبة للغته القومية والاحتفاظ بمقوماته الأصلية.
فالشعب الروماني الأصلي جاءته اللغة اللاتينية مع الغزو الروماني، وتطورت تلك اللغة كلهجة محلية حتى أصبحت ما يعرف اليوم باسم اللغة الرومانية، ولكن هذه اللهجة التي أصبحت لغة لم تتم وتتطور وتستقر بغير عوائق وهزات أتتها من غزوات جيرانها وسيطرتهم على البلاد بعد تضعضع الإمبراطورية الرومانية؛ فتعرضت تلك اللغة لمؤثرات سلافية عميقة، ثم لمؤثرات تركية قد تكون أقل عنفا واتساعا، ولكنها مع ذلك عاقت نمو اللغة القومية وأصابتها بالبلبلة؛ نتيجة لاحتلال تركيا لرومانيا قرونا طويلة، ولكن الشعب الروماني الأصيل استطاع بالرغم من كل ذلك أن يسترد المقومات الأساسية لقوميته وفي مقدمتها اللغة، وكان ذلك بنوع خاص وبشكل واضح في القرن التاسع عشر، فإن ظهور القوميات في أوروبا نتيجة للروح الثورية التي اشتعلت بكل بلد من بلاد أوروبا في ذلك القرن.
وإذا كان الشعب الروماني في مرحلة كفاحه من أجل قوميته الأصيلة، وتدعيم هذه القومية بكل دم قوي سليم قد تعرض في ثقافته وأدبه وفنه إلى مؤثرات غربية قوية؛ كالمؤثرات الألمانية والفرنسية وغيرها، فإنه لم يلبث ابتداء من منتصف القرن الماضي تقريبا أن تخطى تلك المرحلة أيضا ليعتمد على نفسه، ويبحث عن أصالته الخاصة، وقاد هذه الدعوة عدد من أدباء رومانيا ومثقفيها الذين التفوا في مقاطعة مولدافيا - بنوع خاص - حول المجلة التي أصبحت من مشاعل تاريخ الثقافة والأدب والفن في رومانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي مجلة «داسيا الأدبية»، ورأى هذا النفر من الأدباء والفنانين أن طريقهم إلى الأصالة هو العودة إلى ماضيهم القومي، ويوميات مؤرخيهم الأوائل بلغتهم الرومانية النقية من جهة، واستحياء آدابهم الشعبية من جهة أخرى، باعتبار أن تلك الآداب هي التي تعبر عن الروح الأصيلة للشعب وتقاليده، ومواضع اهتمامه بطريقة تلقائية نابعة عن طبيعة الحياة، وغير متأثرة بالثقافات والتيارات والآداب والفنون الوافدة من الخارج، والتي تؤثر بنوع خاص في المثقفين لا في أدباء وفناني الشعب.
وأخيرا دراسة واقع الحياة الرومانية المعاصرة والكشف عما فيها من مظالم ومساوئ، وتصوير مشاهد الطبيعة وحياة البشر المرتبطة بتلك المشاهد، والمتأثرة بها والمؤثرة فيها، وهذه هي التيارات الثلاثة التي سيجدها القارئ في هذه المختارات التي يرجع أقدمها إلى أبعد من سنة 1840؛ أي التي تقع كلها في الفترة الحديثة التي أخذت فيها رومانيا تكتشف نفسها، وتستكمل مقومات أصالتها. (1) مادة القصص
ففي هذه المختارات سيلتقي القارئ بالتيار التاريخي في مثل قصة «ألكسندرو تابو شنيانو» للكاتب «كونستنتين نيجروزو» التي استقى مادتها من كتاب اليوميات القدماء، وصور فيها ذلك الصراع الدامي الذي كان يجري بين الأمراء في العصر الإقطاعي للسيطرة على الحكم، ويرسم فيها لوحة دامية لمذبحة فظيعة دبرها أحد هؤلاء الأمراء لمنافسيه على نحو ما فعل محمد علي بالمماليك في مذبحة القلعة الشهيرة في تاريخنا الحديث، بل وأشد ضراوة، وقد أعمل المؤلف في تصوير هذه اللوحة خيالا قاسيا تهتز من حوله أصلب الأعصاب.
وفي هذه المختارات يلتقي القارئ بالحكايات الشعبية التلقائية التي قد لا تكون فيها الحبكة الفنية، ولكن فيها سخر السذاجة وعصير الحياة الشعبية النضرة في مثل قصة «الأب نيكيفور الحلنجي» للكاتب «إيون كرييانجا» الذي تقرأ قصته الشعبية فيخيل إليك أنك تسمع متحدثا شعبيا خفيف الروح، ولا تقرأ لكاتب محترف.
وبالمثل في قصة الكاتب الكبير «كاراجيالي» التي سماها «فندق مانيوالا»، وصور فيها نزوات النفس الفطرية ومغامراتها، التي لا تحس فيها بأي افتعال أو تصنع، وتوهمك بأنها من صميم الواقع الممكن الحدوث في الحياة التلقائية ومصادفاتها العجيبة ومعتقداتها الساذجة.
وإلى جوار القصص التاريخية والفولكلورية، سيلتقي القارئ بالتيار الواقعي الفني المحبوك الذي يرسم صورا أخلاقية دقيقة مكتملة القسمات، مجسدة في شخصية نموذجية، مثل: شخصية «الحاج ديدوز» للكاتب «باربودي لافرانكيا» التي يجسد البخل على نحو لا يقل دقة وشمولا وثراء في التفاصيل عن شخصية «هارباجون» عند «موليير»، و«إيوجين جراندين» عند «بلزاك».
حتى إذا انتقلت إلى الكاتب «تيودور أرغيزي» التقيت بالمنمنمات؛ أي: اللوحات الفنية الصغيرة الشاعرية الروح والأسلوب في مثل لوحاته عن «القط» و«شجرة العرائس» و«سن سعيد» و«خطاب عائلي» و«رجل مسكين» و«ماريا نيكيفور»، وهي لوحات تتفاوت بين المثالية العاطفية المرهفة في تصويره الشعري للقط، ولحياته في المنزل وللأطفال، وبين الواقعية النقدية الحادة في مثل لوحات «الرجل المسكين» و«ماريا نيكيفور»، وهذه اللوحات لا نعتبرها قصصا إلا تجاوزا؛ لأنها في الواقع وكما قلنا منمنمات؛ أي: ميداليات فنية صغيرة مطرزة في دقة وشاعرية ساحرتين.
ولما كانت البيئة الزراعية أسبق إلى الوجود في رومانيا - التي كانت أول الأمر تعتمد في حياتها على الزراعة قبل كل شيء - فقد كان من الطبيعي أن ينصرف اهتمام الأدباء والفنانين أول الأمر إلى هذه البيئة ومشاكلها وويلاتها، عندما أدركوا أن واقع حياتهم هو المنبع الثري الذي ينبغي أن يمنحوا منه، ومن هنا جاءت قصص مثل: «أمطار يونيو» للكاتب «ساهيا» التي تصور كفاح الفلاحين الرومانيين، وشجاعة المرأة الرومانية التي تلد في الحقول في تجلد، وهي تعمل كادحة مع زوجها في سبيل لقمة العيش وسط الطبيعة المتجهمة وضغط السلطات الحاكمة وقسوتها، بل وتلد توأمين؛ فيبلغ عدد أطفالها التسعة، وزوجها لا يملك إلا قطعة صغيرة من الأرض لا يدري كيف يشبع بها أحد عشر فما جائعا، وهي قصة بالغة القوة والإثارة ورائعة البنان الفني والتعبير الموحي.
ولما كانت رومانيا قد أخذت تتصنع - وبخاصة في القرن العشرين - بعد اكتشاف ثروتها المعدنية الضخمة - وبخاصة آبار البترول الغنية - فقد كان من الطبيعي أن يمتد اهتمام أدبائها وفنانيها إلى البيئة العمالية الصناعية الجديدة، ومن هنا أخذ يظهر هذا النوع من القصص في مثل الفصل الذي ترجمناه من رواية «الذهب الأسود» للكاتب «سيزار بترسكو»، وهو كاتب تقدمي مناضل صور في روايته الصراع العنيف بين الشعب الروماني ورأس المال الأجنبي المستغل الذي وفد إلى رومانيا للسيطرة على ذهبها الأسود؛ أي على ينابيع بترولها الغزيرة.
ولما كانت حياة الإنسان العاطفية لا بد من أن يكون لها نصيبها في كل إنتاج أدبي فني، وفي أية صورة اتخذها هذا الإنتاج، فقد كان من الطبيعي أن نلتقي في فن القصص الروماني أيضا بالقصص ذات الطابع العاطفي الخالص في مثل قصة «شجرة الليلا» التي تكون فصلا من رواية «الجذوع مرة» للكاتب «زهاريا ستانكو» الذي عرف كيف يمزج في قصته بين المأساة العاطفية الخاصة لبطلها وبطلتها، وبين ويلات الحرب ومآسيها المفجعة، وفي مثل قصة «كيراكيرالينا» الرائعة للكاتب بنيات إستراتي، التي مزج فيها المؤلف بين صورة عاطفة الصداقة البريئة المخلصة بين فتى روماني شريد وبائع يوناني متجول التقى به في بلاد الشرق، وبين صورة حياة هذا الشريد الشقية المعذبة؛ نتيجة لظلم وانحلال كبار أثرياء الإمبراطورية العثمانية وتجارتهم بالرقيق الأبيض الذي وقعت بين براثنه «كيراكيرالينا» أخت هذا الشريد، وخرج المؤلف من المزج بين الصورتين المتقابلتين المتداخلتين بلوحة متكاملة موحدة تهز أعماق العاطفة الإنسانية الشريفة. (2) الأشكال الفنية
وبالرغم من أن المجموعة الفرنسية التي اخترت منها هذه الصفحات من فن القصص الروماني تحمل اسم
Nouvelles Rumaines ، وقد أعدها الأستاذ الروماني «تيودور فيانو»، وقدم لها كما قدم لها أيضا الأستاذ الفرنسي «جان بوتيير» المتخصص في الآداب واللغة الرومانية، إلا أن مختارات هذه المجموعة لا تنطوي كلها تحت المصطلح الفني الذي اتخذ عنوانا لها، بل تضم - كما رأينا - قصصا قصيرة وأخرى متوسطة وفصولا من روايات طويلة، بل ولوحات فنية شعرية الطابع.
والواقع أن في اللغة الفرنسية ثلاثة مصطلحات يطلق كل واحد منها على نوع خاص من فن القصة؛ فهناك لفظة
Cone
التي تقابل ما اصطلحنا في العربية على تسميته بالقصص القصيرة، كما أن لفظة
Roman
التي اصطلحنا على ترجمتها إلى العربية بلفظة الرواية أو القصة الطويلة ، بينما هناك لفظة ثالثة هي
Nouvelle
التي لم نستقر بعد على مرادف لها بالعربية، وهي تطلق في الفرنسية على نوع من القصص المتوسطة الطول التي يغلب عليها عادة الطابع الإخباري، وربما كان ذلك هو السبب في تسميتها بلفظة
Nouvelle
التي تعني في أصلها اللغوي «الخبر»، وإن كنا نلحظ أنه إذا كان عملاق هذا الفن القصصي الخاص الكاتب الفرنسي «بروسبير ميرميه» قد احتفظ له بطابعه الإخباري حتى لتكاد القصص التي كتبها من هذا النوع تقتصر على تصوير الأحداث دون الوصف والتحليل المسهبين، إلا أن هذه الخاصية لم تلتزم دائما من الكتاب الآخرين الذين اكتفوا في إدخال قصصهم تحت هذا النوع بالاعتماد على كمها.
أي اعتبروا كل قصة متوسطة الطول داخلة فيه، مع أنه من الواجب فنيا ولتمييز هذا النوع من غيره من أنواع القصص أن يحتفظ له بطابعه الإخباري، وعندئذ كنا نستطيع أن نترجم هذا المصطلح إلى العربية بعبارة القصة الإخبارية متخذين لها نماذج من قصص «بروسبير ميرميه» التي كتبها في هذه الصورة، مثل: «كولومبا» و«ماتيو فالكوني» وغيرهما.
ومهما تكن الاختلافات الشكلية الاصطلاحية، فإن هذه الصفحات من فن القصص الروماني تكون نماذج رائعة للفن القصصي كله مهما اختلفت صوره وأبعاده، وهي تعطي فكرة واضحة متكاملة عن اتجاهات هذا الفن ومنابعه وأهدافه ومواضع اهتماماته. (3) أوجه شبه
والقارئ العربي - فضلا عن المتعة الثقافية والفنية التي سيجدها عند قراءة هذه الصفحات المختارة - فإنه لن يعدم الوقوع على أوجه شبه بين حياة شعبنا العربي وكفاحه واتساع اهتماماته وبحثه عن أصالته الخاصة، وبين حياة الشعب الروماني وكفاحه واتساع اهتماماته هو الآخر وبحثه عن أصالته الخاصة.
وإذا كنت لم أقرأ حتى اليوم لأحد أدبائنا تصويرا لمذبحة المماليك في القلعة - مثلا - على نحو ما قرأت هنا قصة الكاتب «نيجيرتسو» عن مذبحة «ألكسندرو لابونشيانو»؛ فإنني قد وجدت مع ذلك ما يشبه هذا الفن القوي في مثل قصة «العسكري الأسود» للدكتور «يوسف إدريس»، كما أنني ألاحظ أن فننا القصصي يمر اليوم بنفس المراحل والتطورات والاهتمامات التي مر بها الفن القصصي الروماني عندما أخذ يعود إلى ماضيه في القصة التاريخية منذ «جورجي زيدان»، ثم عندما أخذ يتجه إلى حياتنا الريفية بأسلوب يجمع بين الرومانسية العاطفية والواقعية في قصة «زينب» «لمحمد حسين هيكل»، وأخيرا اتجاه أدبائنا نحو مشكلات ومعارك الفلاحين في مثل قصة «الأرض» «لعبد الرحمن الشرقاوي»، وكفاحنا الوطني في «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وفي الفترة الأخيرة اهتمامنا بالآداب الشعبية وجمعها وتسجيلها، ودراستها كأساس لاستيحائها في أدبنا الجديد الذي أخذت طلائعه تظهر.
ويسرني أن ألاحظ أيضا أن حركة التصنيع القائمة الآن على قدم وساق في بلادنا لا بد أن تخلق عما قريب الأدب الذي يعالج حياة الطبقة العاملة وكفاحها الصناعي، ومشاكلها الخاصة على نحو ما حدث في الأدب الروماني سواء بسواء.
وهكذا أرجو أن يفيد عملي المتواضع في ترجمة وتقديم هذه المختارات إلى قراء العربية فائدة تجمع بين المتعة الفنية الخالصة وإبراز أوجه الشبه والالتقاء والتقارب بين كفاح الشعوب النامية وبحثها عن ذاتها.
محمد مندور
كونستانتين نجروزو (1801-1864)
ينتمي كونستانتين نجروزو إلى أسرة متواضعة من نبلاء ملدافيا، وهو أحد جماعة كتاب مجلة «داسيا الأدبية» التي كان يديرها «ميخائيل كجالنيشاينو»، والتي كانت تهدف قبيل ثورة سنة 1848 إلى الكفاح في سبيل أدب قومي أصيل، وهو كاتب موهوب تميز في بدء حياته الأدبية بالطابع الرومانسي، ولكنه لم يلبث أن تكشف في «أسود فوق أبيض» و«خطايا الشبابا» عن كاتب واقعي عامر بالسخرية قادر على أن يصور شخصيات ومواقف أصيلة من حياة ملدافيا في أواسط القرن الماضي، وهو خالق القصة التاريخية، وتعتبر قصة «إسكندر لابوشنيانو» أروع ما كتب في هذا الفن، كما أنه خلف قصيدة ملحمية إضافية بطلها الرئيسي هو إتيين الكبير الذي حكم ملدافيا في القرن الخامس عشر، وقد كان مترجما متحمسا عرف الجمهور الروماني بمؤلفات موليير وفلتير وفيكتور هيجو وا. كانتمير وبوتشكين وغيرهم.
إسكندر لابوشنيانو1 (1514-1569)
(1) وإذا كنتم لا تريدونني فإنني أريدكم
كان يعقوب الهرقلي
2
قد مات مقتولا بأسلحة ستيفان تومسا
3
الذي كان يحكم البلاد، عندما استطاع إسكندر لابوشنيانو - الذي كانت جيوش يعقوب قد هزمته مرتين وفر لاجئا إلى القسطنطينية - أن يحصل على تعضيد الجيوش التركية، وأن يعود ليسترد الحكم من تومسا المغتصب، ويسترجع العرش الذي ما كان ليفقده قط لولا خيانة النبلاء، وقد دخل ملدافيا على رأس سبعة آلاف فارس، وثلاثة آلاف من الجنود المرتزقة ومزودا بفرمان بأمر خان التتار بأن يمد له يد العون كلما احتاج إليها.
وها هو الآن يعدو فوق خيله، وإلى جواره وزيره روكدان، وقد امتطى كل منهما جوادا عربيا، وتدجج بالسلاح من الرأس إلى القدم، وقال إسكندر بعد لحظة صمت: «ما رأيك يا روكدان؟ هل سننتصر؟»
وأجاب الوزير: «لا شك في ذلك يا سيدي، فالبلاد تئن تحت نير تومسا، وسيعطيك الجيش كله لمجرد أن نعده بزيادة المرتبات، وأما عن النبلاء الذين لا يزالون أحياء، فإن خوف الموت هو وحده الذي يمسكهم، ولكنهم عندما يرون قوات عظمتك سينضمون إلينا ويتخلون عنه.» - إني لأسأل الله ألا أضطر إلى أن أفعل ما فعله الحاكم ميركيا
4
في الفلاكيين، ولكني أكرر ما قلته لك أكثر من مرة من أني أعرف هؤلاء النبلاء بحكم حياتي بينهم. - إن الأمر لعظمتك تقضي فيه بحكمتك السامية، وظلا في مثل هذا الحديث حتى وصلا إلى قرية تيكوشي بين بوخارست ومدينة إياسي، ووقفا عند حافة غابة لكي.
واقترب أحد السواس ليقول: يا سيدي، لقد وصل بعض النبلاء وهم يطلبون الإذن بالمثول أمام عظمتك.
وأجاب إسكندر: فليأتوا.
وفورا دخل إلى خيمة إسكندر أربعة من النبلاء محاطين بأتباعه وضباطه، وكان اثنان منهما أكبر سنا واثنان أصغر، والأكبر هما موتزوك وزير الداخلية، وفيفر تزا كبير الياوران، وأما الأصغر فهما القائدان المساعدان سبانكوك وستروبكي.
واقتربوا من الأمير إسكندر، ثم انحنوا حتى الأرض، ولكنهم لم يقبلوا - كما جرت العادة - ذيول قفطانه.
فأجابوا: لك السعادة والرخاء يا صاحب العظمة، واستطرد إسكندر يقول: لقد علمت بالرزايا التي حلت بالبلاط، وقد جئت لإنقاذها، وأنا أعلم أن الناس ينتظرونني في غبطة.
وأجاب موتزوك قائلا: فلتسمح عظمتك بأن أقول أن كل شيء هادئ عندنا، ولربما يكونوا قد قصوا عليك أشياء لا وجود لها ، فلدى قومنا عادة سيئة هي تفخيم الأشياء تفخيما مسرفا، ولقد كلفنا بأن نخبرك أن الشعب لا يريدك ولا يحبك، وأن عظمتك تحسن صنعا لو عدت إلى ...
وأجاب لابوشنيانو - وعيناه تقدحان الشرر: «إذا كنتم لا تريدونني ولا تحبونني، فإنني أنا أحبكم، وسأستمر في طريقي، وافقتم أم لم توافقوا، وأما أن أترك أنا البلاد، فأهون منه أن يرتد الدانوب صاعدا إلى منبعه! آه! البلاد لا تريدني، بل أنتم الذين لا تريدوني إذا صح فهمي!»
فقال سبانكيوك: «إن رأس الرسول لا يمكن أن تقطع، وإن من واجبنا أن نخبرك بالحقيقة، فالنبلاء مصممون على الهجرة إلى المجر وبولندا وفلاشيا، حيث لهم أقارب وأصدقاء، وسيعودون مع جيوش أجنبية؛ فتنزل المحنة بشعبنا عندما يصطدم البعض بالبعض، ولربما قاسيت أنت نفسك يا صاحب العظمة من هذه المحنة؛ وذلك لأن الأمير ستيفان تومسا ...»
فقاطعه قائلا: «تومسا! هل هو الذي علمك أن تتكلم بهذه الجرأة؟ لست أدري لماذا لا أسحق فكيك؟!»
ثم أضاف - وهو ممسك بالمدقة النحاسية التي كانت في قبضة بوجدان: «إن هذا الملعون تومسا هو الذي علمك ...؟»
فقال فيفيرتزا: «لا يمكن أن يكون ملعونا ذلك الذي استحق أن يسمى «مسحة الرب».» - «ولكن ألست أنا أيضا «مسحة الرب»؟ أولم تقسموا لي أنا - أيضا - بالولاء عندما لم أكن غير نبيل يافع؟ وأنت يا بترو، أولم تكن أنت الذي اختارني؟ وكيف كان حكمي؟ أي دم أرقته؟ ومن الذي خرج من عندي دون أن ينال حقه بالعدل والقول الطيب؟ ومع ذلك لا تريدونني الآن ولا تحبونني! ها ها ها!» وأخذ يضحك، والضحك يلوي عضلاته وعيناه تختلجان بلا توقف.
وقال سترويكي: «فلتسمح يا صاحب العظمة بأن أقول لك: إن أرضنا ستطأها من جديد أقدام عصابات البرابرة، وعندما تنهب أسراب الأتراك بلادنا وتدمرها، فما الذي سيتبقى لتتولى عليه الملك يا صاحب العظمة؟»
وأضاف سبانكيوك: «ثم ما الذي ستستطيع أن تشبع به نهم هؤلاء الوثنيين الذين اصطحبتهم معك يا سيدي؟» - بأموالكم لا بأموال الفلاحين الذين تنهبونهم، فأنتم تعتصرون الشعب، وقد حان الوقت لكي تعتصروا بدوركم! كفى! ارحلوا أيها النبلاء، اذهبوا لتنصحوا من أرسلكم بأن يتنحى عن طريقي إذا كان لا يريد أن أصنع من عظامه أبواقا ومن جلده طبولا!
وانصرف النبلاء محزونين فيما عدا موتزوك الذي بقي، فسأله الأمير: «لماذا بقيت؟» فأجاب موتزوك - وقد جثا على ركبتيه: «مولاي، لا تعاقبنا على قدر أوزارنا، ولتذكر أنك نشأت من هذه الأرض، ولتتذكر قول الكتاب المقدس لتغفر لنا أخطاءنا، ولتجنب هذه البلاد التعسة الدماء، اصرف يا مولاي هذه العصابات الوثنية، ولا تحتفظ إلا بالمولدافيين الملتفين حولك يا صاحب العظمة، ونحن مسئولون عن ألا يمس أحد شعرة من رأسك، وإذا احتجت إلى جيوش فسوف نحمل السلاح جميعا رجالا ونساء وأطفالا، وسوف نثير البلاد من أجلك، ونسوق أتباعنا وعبيدنا، ألا فلتمنحني ثقتك!»
فقال لابوشنيانو الذي أدرك قصده: «أمنحك ثقتي؟ لعلك تظن أني لا أعرف المثل المولدافي القائل: قد يغير الذئب من وبره، ولكنه لا يغير من طبعه؟ ولعلك تظن أنني لا أعرفكم، ولا أعرفك أنت أكثر من الآخرين، وأنني لا أعلم كيف تخليت عني عند الهزيمة وأنت قائد جيوشي؟ حقا، لقد كان فيفيرتزا عدوا لي دائما، لكن وفي صراحة، وسبنسيوك لا يزال شابا، وقلبه عامر بحب وطنه، وأنا أحب أن أرى جرأته التي لا يحاول أن يخفيها، وستويكي طفل لم يعرف بعد الناس والملق والكذب، كما لا يعرف أن كل ما يلمع ليس ذهبا، وأما أنت يا موتزوك، أنت الذي شاب في العداوة، وتعود تملق جميع الأمراء، وخان المستبد كما خانني وكما ستخون تومسا، قل لي، أوما أكون بالغ الحمق إذا عدت فمنحتك ثقتي؟ ومع ذلك، فإنني أغفر لك محاولتك خديعتي، وأعدك بأنني لن أدنس سيفي بدمك، وسأجنبك الهلاك؛ لأنني في حاجة إليك لكي تعينني على تحمل عداوة الشعب، فلا تزال هناك زنانبير ولا بد من تنظيف الخلية!»
وقبل موتزوك يده كالكلب الذي يلعق يد من يضربه بدلا من أن يعضها، فقد كان مغتبطا بالوعد الذي حصل عليه، وكان يعلم أن الأمير إسكندر سيكون في حاجة إلى رجل مغامرات مثله، وكان تومسا قد أمر رسله بأن يعودوا إذا لم يستطيعوا إقناع لابوشنيانو، وأن يتجهوا إلى القسطنطية لكي يحاولوا حملها على التخلي عنه بتقديم الضراعات والهدايا، ولكنهم عندما رأوا أنه يتمتع برضا الباب العالي، وتوجسوا خيفة من العودة إلى تومسا خاوي الوفاض، فقد طلبوا من الأمير إسكندر الإذن لهم بالبقاء ومصاحبته، وتلك كانت خطة موتزوك باسترضاء لابوشنيانو، وحصلوا فعلا على ذلك الإذن. (2) سيكون عليك تقديم الحساب يا سيدتي
أحس تومسا بعجزه عن مقاومة لابوشنيانو، ففر إلى فلاشيا، ولم يعترض أي عائق طريق لابوشنيانو، ففي كل مكان استقبله الشعب بفرحة وثقة متذكرا فترة حكمه الأولى التي كانت أقصر من أن تكشف عن خلقه البغيض.
ولكن النبلاء كانوا يرتعدون، وكان لديهم سببان قويان للقلق، فهم يعلمون أن الشعب يبغضهم، وأن الأمير لا يحبهم.
وبمجرد أن وصل لابوشنيانو أمر بحمل كميات كبيرة من الخشب إلى جميع قلاع مولدافيا - ما عدا قلعة هوتان التي تقع على الحدود بين يسارابيا وأوكرانيا - ثم أمر بإشعال النار فيها لتدمير مأوى أولئك الساخطين الذين طالما احتموا خلف هذه الجدران؛ لكي يدبروا المؤامرات ويثيروا الفتن؛ ولكي يحطم نفوذ النبلاء ويهدم أركان الإقطاع، انتحل كافة الأعذار لكي ينتزع منهم أملاكهم، وبذلك يحرمهم من الوسيلة الوحيدة التي بقيت بين أيديهم لإخضاع الشعب وإفساده.
ولما كان يرى أن هذه الإجراءات لا تكفي، فقد أخذ يقتل - من وقت إلى آخر - بعض النبلاء لأهون خطأ يرتكبونه في الوظائف العامة، أو لأصغر مطلب يتقدمون به، كانت الرءوس تتدلى معلقة على باب القصر مع بطاقة تدون عليها الجريمة الحقيقية أو الوهمية التي ارتكبها كل منهم، وما تكاد رأس تتعفن حتى تحل محلها رأس أخرى.
ولم يجرؤ أحد أن يغتابه، فضلا عن أن يتآمر ضده؛ وذلك لأنه كون لنفسه حرسا من المرتزقة الألبانيين والصربيين والمجريين، والمطاردين بسبب جرائمهم، الذين وجدوا ملجأ عنده، وبفضل سخائه عليهم التفوا حوله، وأما الفرق المولدافية وقوادها من الضباط الذين أخلصوا له، فقد وضعهم في الاحتياطي، كما سرح معظم الجند ، ولم يستبق منهم إلا العدد القليل.
وذات يوم تحدث طويلا مع موتزوك الذي كان قد استرد حظوته لديه، والذي خرج من القصر بعد أن عرض عليه خطة لجباية ضرائب جديدة، ثم أخذ لابوشنيانو يتمشى في صالة القصر، وقد لاح أنه مضطرب يحدث نفسه، ويدبر - فيما يبدو - مذبحة جديدة وجريمة جديدة، وإذا بالباب السري يفتح وتدخل الأميرة روكساندرا.
ويقول الراوي: إنه عندما مات أبوها الأمير الطيب بترولاريس
5
الذي بكاه الشعب كله، ودفن في دير بروباتا المقدس الذي كان قد بناه، بقيت هذه الأميرة وهي في غضاضة العمر تحت وصاية أخويها الكبيرين إلياس وستيفان، وخلف إلياس أباه على العرش، ولكنه بعد حكم قصير قضاه في الدعارة اتجه إلى القسطنطينية، حيث اعتنق الدين الإسلامي وخلفه ستيفان على العرش، وكان أسوأ من أخيه، فأرغم الأجانب وجميع الكاثوليك على التخلي عن دينهم، وكثير من الأسر الغنية التي كانت مستقرة في البلاد أخذت طريقها إلى المنفى؛ مما أصاب الزراعة والتجارة بأضرار فادحة.
وأما النبلاء الذين كان معظمهم ذوي قربى للبولنديين والمجريين، فقد اتفقوا مع المنفيين على القسم على موت ستيفان، ولقد كان من الممكن أن يتريثوا في تنفيذ خطتهم لولا أن حياة الأمير المنحلة حملتهم على التصميم على العمل بأسرع ما يمكن، فالراوي يقول في سذاجة: «إن أية سيدة نبيلة لم تكن تستطيع أن تنجو من نهبه لها ما دامت جميلة.»
وذات يوم بينما كان الأمير بناحية تيتورا في مقاطعة إسي القديمة، ينتظر النبلاء الذين كانوا في صحبته عودة أقاربهم المنفيين، وخافوا أن يفلت من أيديهم، فقطعوا حبال خيمته، وانقضوا عليه وقتلوه.
ومن أسرة بترولاريس، لم يبق الآن غير روكساندرا، وكان النبلاء قتلة أخيها قد قرروا تزويجها ممن يدعى «يولد» الذي رشحوه لتولي العرش، ولكن لابوشنيانو الذي اختاره النبلاء المنفيون تصدى «ليولد»، وبعد أن هزمه وسجنه قطع أنفه واحتجزه في أحد الأروقة، ولكي يكسب قلب الشعب الذي كان لا يزال يذكر حكم لاريس الطيب، تزوج من ابنة هذا الأمير.
وهكذا أصبحت روسكاندرا الرهينة من نصيب المنتصر ، ودخلت إلى الصالة وفي ملابسها من الأبهة ما يليق بزوجة وابنة وأخت أمير.
كانت ترتدي ثوبا مذهبا، وفوقه صدار من المخمل الأزرق مبطن بالفراء، أكمامه الواسعة تتدلى إلى الخلف، وحول خصرها حزام مذهب ذو حلقات زمردية مطعمة بالحجارة الكريمة، وحول عنقها عدة صفوف من اللؤلؤ الدقيق، وكانت بطانة الفرو التي تميل قليلا على كتفها تزينها ريشة من الزمرد، وقد ثبتت إلى جوارها زهرة الزبرجد، ووفقا لموضة العصر كان شعرها المرسل يتهدل على ظهرها وكتفيها.
وكان في وجهها ذلك الجمال الذي اشتهرت به نساء رومانيا، وإن يكن اختلاط الأجناس قد انحط به، وكانت حزينة كالزهرة التي تتعرض للشمس دون ظل يحميها، فهي قد رأت أقاربها يموتون، ورأت أحد أخويها يتخلى عن دينه، كما رأت الآخر يقتله أعداؤه.
وقد كان من المقرر أول الأمر أن تتزوج من «يولد» الذي لم تكن تعرفه مجرد معرفة، ولكن الشعب تصرف في قلبها دون استشارتها، واضطرها أن تصبح زوجة للأمير إسكندر الذي أطاعته وكأنه مولاها وسيدها، وودت أن لو أحبته، ولكنها لم تجد عنده أقل قدر من الحساسية.
اقتربت وانحنت وقبلت يده، فطوقها لابوشنيانو من خصرها، ورفعها كالريشة، ثم أجلسها على ركبتيه، ثم طبع على جبهتها قبلة، وهو يقول: ما الأمر يا أميرتي الحسناء؟ وما الذي جعلك تتركين مغزلك مع أن اليوم ليس يوم عيد؟! ومن الذي أيقظك مبكرا هذا الصباح؟ - إنهن الأرامل اللائي بللن بدموعهن عتبة بابي، وهن يصحن طالبات الانتقام من الرب، ومن العذراء المقدسة لكل ما تريق من دماء.
فأربد وجه لابوشنيانو، وأرخى ذراعه عن خصرها، وخرت روكساندرا عند قدميه وهي تقول: آه يا سيدي وزوجي الشجاع! كفى إراقة دم وكفى أرامل وأيتاما، فأنت يا صاحب العظمة بالغ القوة، ولا يمكن أن ينال منك شيئا هذا النفر من النبلاء المساكين، وما الذي ينقصك يا مولاي؟ وأنت لست في حرب، والشعب هادئ وخاضع، وأما أنا فالله يعلم كم أحبك، وأطفالك صغار وحسان، وأذكر أننا جميعا مقضي علينا بالموت، وأنت نفسك يا صاحب العظمة فان وسوف تقدم حسابا ، ولا يمكن أن يكفر بناء الأديرة عن إراقة الدماء، كما أن محاولة تهدئة الله ببناء الكنائس يعتبر تحديا له.
فصاح بها لابوشنيانو قائلا: اخرسي أيتها المرأة الحمقاء.
ثم نهض فجأة واضعا يده - كما جرت العادة - على الخنجر المعلق في حزامه، ولكنه عاد بسرعة إلى السيطرة على نفسه، وانحنى لينهض روكسندرا وهو يقول لها: يا سيدتي، لا تتركي مثل هذه الأقوال الحمقاء تخرج من فمك، وأنا في الواقع لا أدري ماذا يمكن أن يحدث، توجهي بالشكر إلى القديس ديمتري الشهيد العظيم الذي يوزع الزيت المقدس، ويحمي الكنيسة التي بنيناها في بانجاراتزي، إذ منعني من ارتكاب خطيئة عندما ذكرني أنك أم أطفالي. - لن أسكت ولو لقيت حتفي، فبالأمس وأنا داخلة إلى القصر ألقت امرأة وأطفالها الخمسة بأنفسهم أمام عربتي لكي يوقفوني ويطلعوني على رأس مثبتة بالمسامير على الباب.
وقالت المرأة: «إنك ستحاسبين يا سيدتي على تركك زوجك يذبح أبناءنا وأزواجنا وإخوتنا، انظري يا سيدتي ... ها هو زوجي أبو هؤلاء الأطفال الخمسة الذين أصبحوا يتامى ... انظري جيدا.» وأرتني الرأس الملطخة بالدماء ... ونظرت إلى تلك الرأس نظرة مروعة! آه يا سيدي ... منذ تلك اللحظة وأنا أرى تلك الرأس وأرتعد، ولم أعد أعرف طعم الراحة.
وقال لابوشنيانو - وهو يبتسم: وماذا تريدين؟
أريد أن توقف سفك الدماء وأن توقف المذابح، ولا أريد أن أرى رأسا مقطوعة؛ وذلك لأن قلبي يتمزق.
وأجاب الأمير إسكندر: لن تري ابتداء من بعد غد ... وأنا أعدك بذلك، وغدا سأعطيك دواء ضد الخوف.
كيف؟! ماذا تعني؟
سترين غدا، وأما الآن يا أميرتي المحبوبة فاذهبي لرؤية أطفالك، وللعناية ببيتك كربة بيت طيبة، واعملي على إعداد وليمة؛ لأن النبلاء سيكونون ضيوفي غدا.
وخرجت الأميرة روسكاندرا بعد أن قبلت يده من جديد، وصحبها زوجها حتى الباب.
ودخل قائد الشرطة فأسرع الأمير نحوه، وهو يقول: هيه ... هل أعددتم كل شيء؟ - نعم، أعددنا كل شيء. - ولكن، هل سيحضرون؟ - نعم، سيحضرون. (3) إن ما نريد هو رأس موتزوك
في اليوم السابق دعي النبلاء إلى الاجتماع في اليوم اللاحق - يوم العيد في الكنيسة العامة - حيث سيحضر الأمير أيضا لسماع القداس، ثم يأتي الجميع إلى القصر لتناول الطعام.
وعندما وصل الأمير كان القداس الكبير قد ابتدأ، وكان جميع النبلاء قد اجتمعوا في الكنيسة.
وخلافا للمعتاد كان لابوشنيانو ذلك اليوم في كامل أبهته الأميرية، فعلى رأسه التاج الكبير، وفوق قميصه البولندي من المخمل الأحمر كان يلبس - وفقا للزي العثماني - معطفا طويلا من الفراء، وأما السلاح فلم يكن يحمل منه غير خنجر ذهبي المقبض، ومن خلال أزرار قميصه كان يلوح درع الزرد.
وبعد أن سمع القداس نزل عن مقعده الأميري لكي يذهب إلى الماء المقدس؛ ليرسم به علامة الصليب أمام الأيقونات، وفي خشوع كبير اقترب من تابوت القديس يوحنا الصغير وأحنى ركبته لكي يقبل المخلفات المقدسة ويقول: إنه كان في تلك اللحظة بالغ الشحوب، وإن مخلفات القديس أوشكت أن ترتعد.
وعندما عاد إلى مقعده التفت نحو النبلاء، وقال: أيها السادة النبلاء، منذ أن ارتقيت العرش وأنا أظهر نحو أغلبكم شدة بالغة، ولقد كنت قاسيا فظيعا فأرقت دما كثيرا، والله يعلم كم ندمت وكم أسفت، ولكنكم تعلمون أن ما اضطرني إلى ذلك إلا الرغبة في إيقاف المنازعات وخيانات أولئك الذين كانوا يدبرون لهلاكي ولخراب البلاد، وأما اليوم فقد تغير الموقف، وعيون الناس قد زالت عنها الغشاوة، فأدركوا أنه لا يمكن أن يكون هناك قطيع بلا راع، وكما قال المسيح: «سأضرب الراعي فتتبدد النعاج»، أيها السادة النبلاء، فلنعش من الآن في سلام، وليحب بعضنا البعض كإخوة وفقا لإحدى الوصايا العشر التي تقول: «أحب أخاك الإنسان كما تحب نفسك»، وليصفح أحدنا عن الآخر ما دمنا جميعا فانين، ولنصل لمخلصنا يسوع المسيح - وهنا رسم علامة الصليب - لكي يغفر لنا خطايانا، كما يغفر بعضنا لبعض خطاياه.
وبعد هذه الخطبة العجيبة تقدم إلى وسط الكنيسة، ورسم علامة الصليب من جديد، ثم التفت نحو الجميع، ونظر أمامه أولا ثم عن يمينه وعن يساره، وقال: اغفروا لي أيها القوم، وأنتم أيضا أيها السادة النبلاء. «ليغفر لك الله يا صاحب العظمة»، هكذا قال الجميع، ما عدا شابين من النبلاء ظلا صامتين مستغرقين في التفكير، وهما مرتكنين إلى قبر بالقرب من باب الكنيسة، ولكن أحدا لم يلاحظهما.
وخرج لابوشنيانو من الكنيسة، وهو يدعو النبلاء إلى الوليمة التي أعدها لهم، ثم امتطى حصانه واتجه نحو القصر وانفض الجميع.
وقال أحد النبيلين اللذين لم يمنحا الغفران للأمير إسكندر: ما رأيك؟
وأجاب الآخر: رأيي ألا نذهب إلى هناك.
ثم اختفى الاثنان في الجمع، وكان سبانيوك وسنرويكي.
كانت استعدادات ضخمة قد اتخذت في القصر لهذه الوليمة، وكان قد ذاع أن الأمير قد تصالح مع النبلاء، وكان النبلاء قد تلقوا في غبطة هذا الحدث؛ لأنه سيمكنهم من الحصول على مناصب جديدة، ومن جمع ثروات جديدة بنهب الفلاحين، وأما الشعب فلم يكترث لهذه المصالحة، فهو لم يكن يأمل منها نفعا ولا ضررا ... وكان الشعب يقبل إسكندر حاكما، بينما كان يزمجر ضد موتزوك، ذلك الوزير الذي لم يكن يستخدم نفوذه عند الأمير إلا في اضطهاد، كلما رفع التظلمات التي يشكو منها من نهب موتزوك، وكان لابوشنيانو لا يرد عليها، أو لا يلقي إليها بالا.
وباقتراب موعد الوليمة أخذ النبلاء يصلون كل على جواده، مصحوبا باثنين أو ثلاثة من الخدم، ولاحظوا أن صحن القصر كان مليئا بالجنود المرتزقة المسلحين، وأن أربعة مدافع كانت مصوبة نحو المدخل، ولكنهم ظنوا أنها وضعت هناك لإطلاقها - كما جرت العادة - احتفالا بتلك المناسبة المبهجة، وإذا كان البعض قد خشي أن تكون هناك مكيدة، فإنهم بعد دخولهم لم يستطيعوا الارتداد؛ وذلك لأن الأبواب كانت محروسة، وكان الحراس قد تلقوا الأوامر بألا يسمحوا لأحد بالخروج.
وما إن تجمع النبلاء - وعددهم سبعة وأربعون نبيلا - حتى جلس لابوشنيانو على رأس المائدة، وعن يمينه بتروتوزان رئيس الديوان، وعن يساره الوزير مع موتوزك ونفخ في البوق؛ فأخذت أطباق الطعام تصل.
وفي ذلك الوقت لم يكن ذوق الطعام مرفها في ملدافيا، فحتى في أكبر الولائم، كانوا يقتصرون على قليل من الألوان، فكان هناك الحساء البولوني، ثم أطباق يونانية بالخضر الطافية في الزيت، والأرز التركي، وأخيرا أنواع مختلفة من اللحوم المحمرة، وكانت المفارش والفوط من نسيج رقيق ينسج في البيوت، وكانت الصواني التي يحمل عليها الطعام، والأطباق والكئوس كلها من الفضة، وعلى طول الجدار كانت تصف الدنان الكبيرة المنبعجة، مليئة بنبيذ أودوبستي وكتناري، وخلف كل نبيل وقف خادم يسكب له الشراب، وكان جميع هؤلاء الخدم مسلحين.
وفي صحن القصر إلى جوار بقرتين كبيرتين أو أربعة كباش محمرة كانت هناك ثلاثة براميل نبيذ مفتوحة، وكان الخدم يشربون ويأكلون كما يشرب ويأكل النبلاء، وكانت جميع الرءوس قد أخذت تدب فيها الحميا، وقد أخذ النبيذ يعمل عمله، فالنبلاء يقدحون كئوسهم في جلبة، ويشربون على صحة الأمير، والجند المرتزقة يجاوبونهم بصيحات مرحة وطلقات المدفع تزأر.
واقتربت الوليمة من نهايتها عندما رفع فيفرتسا رأسه، وهو يقول: «إنني أرجو لك حياة طويلة يا سيدي! فلتحكم في سلام في هذه البلاد، وليثبك الله فيك برحمته، نيتك الطيبة في ألا تهلك النبلاء بعد الآن، وألا تظلم الشعب ...»
ولم يتم حديثه إذ ضربه قائد الشرطة بالمدقة على جبهته؛ فخر ميتا.
وصاح قائد الشرطة قائلا: آه! أتسبون الأمير؟ اهجموا عليهم أيها الرجال ... وبسرعة استل الخدم الواقفون خلف النبلاء خناجرهم وأخذوا يضربون، كما دخل الجنود المرتزقة بقيادة ضابطهم، وانقضوا على النبلاء بالحراب، وذلك بينما سحب لابوشنيانو الوزير موتزوك من يده نحو النافذة المفتوحة، وأخذ يتأمل المذبحة التي ابتدأت وهو يضحك، بينما موتزوك تصطك أسنانه وشعر رأسه يقف، وهو يحاول الضحك أيضا إرضاء لسيده، وكان هذا المشهد الدامي في الواقع منظرا بشعا، ولنتصور صالة طولها خمسة عشر قدما وعرضها اثنا عشر، وبها حوالي المائة من القتلة المصممين على القتل - أي جلادين - ومن المحكوم عليهم بالإعدام، فريق يدافع بجنون اليأس، وفريق بسورة الحميا، ولكن النبلاء الذين لم يتوقعوا مثل هذا الغدر، والذين حضروا مجردين من السلاح، لم يستطيعوا الصمود في الدفاع، فأخذوا يتساقطون من الضربات الجبانة التي تلقوها من الخلف، وكان الشيوخ منهم يموتون وهم يرسمون الصليب، بينما دافع عدد من الشبان عن أنفسهم - في جنون - مستخدمين في ذلك كل ما وصلت إليهم أيديهم من كراسي وأطباق ومعالق، كما أن البعض كان يطبق على رقبة قاتله رغم ما به من جروح ويكاد يخنقه، ومن كان ينجح منهم في انتزاع حربة، كان يقتضي ثمنا باهظا لحياته.
وقتل عدد من الجنود المرتزقة، ولكن أحدا من النبلاء لم يفلت من القتل عند نهاية المذبحة، فالسبعة وأربعون جثة كانت ممددة على الأرض، وفي تلك المعركة انقلبت المائدة وتحطمت الدنان، واختلط النبيذ بالدم مكونا بركة فوق البلاط.
وبينما كانت المذبحة دائرة في أعلى، كان القتل يدور أيضا في صحن القصر، وعندما رأى خدم النبلاء أنفسهم وهم يهاجمون غدرا أخذوا يهربون، ومن استطاع منهم الهرب بتسلق الجدران جرى ليستنفر بيوت النبلاء، ويدعو إلى العون الخدم الآخرين، وبذلك أثاروا الشعب، وراحت المدينة كلها تجري نحو أبواب القصر، وتهاجمها بضربات البلط.
وكان الخمار قد أثقل الجند، فلم يقاوموا إلا مقاومة ضعيفة، بينما أخذت الجموع تزداد حمية.
وعلم لابوشنيانو بهياج الشعب؛ فأرسل قائد الشرطة لكي يسأل الشعب عما يريد وعما يطلب.
وقال الأمير - وهو يلتفت نحو وزيره: والآن يا موتزوك، أوما تراني على حق في التخلص من كل هؤلاء الأشرار، وفي تخليص البلاد من مثل هذا الطاعون؟
وأجاب هذا التابع الحقير بقوله: «إن ما فعلته يا سيدي في منتهى الحكمة، ومنذ زمن طويل كنت أفكر في أن أنصح به يا صاحب العظمة، ولكن حكمتك سبقت نيتي، ولقد أحسنت صنعا بقتلهم؛ وذلك لأن ... لأن ... بدون ذلك ...»
وقاطع لابوشنيانو موتزوك الذي أخذ يتلعثم قائلا: ولكني ألاحظ ... ثم أضاف: بودي أن آمر بإطلاق المدافع على هؤلاء الرعاع. - فليكن ... ولتطلق المدافع عليهم، وأي بأس في قتل عدد من هؤلاء الأجلاف، إذا كان كل هؤلاء النبلاء أنفسهم قد هلكوا ... نعم فليقتلوا جميعا.
وأجاب لابوشنيانو - باشمئزاز: لقد كنت أتوقع هذه الإجابة، لكن لنسأل أولا عما يريدون؟
وفي تلك الأثناء كان مدير الشرطة يطل من أعلى الأسوار على الجمهور؛ ليصيح به قائلا: «أيها الناس، إن صاحب العظمة الحاكم يريد أن يعرف ماذا تريدون ؟ وماذا تطلبون؟ ولماذا ثرتم؟»
وظل الناس فاغري الأفواه، فهم لم يتوقعوا مثل هذا السؤال.
وكانوا قد حضروا دون أن يعرفوا لماذا، كما أنهم لم يكونوا يعرفون ماذا يريدون، ثم أخذوا يكونون جماعات صغيرة، ويسأل بعضهم بعضا عما يجب أن يطلبوه، وأخيرا أخذوا يصيحون: «فلتخفض الضرائب! ولتوقف إجراءات ملاحقتنا من أجل الديون! ليوقف نهبنا ... إننا في بؤس، ولم يعد لدينا مال! ... لقد سلبنا موتزوك كل شيء، موتزوك موتزوك هو الذي سلخنا ونهبنا! إنه مستشار الحاكم! ألا فليقتل! ... موتزوك يجب أن يموت! إن رأس موتزوك هي التي نريد!»
ولاقت هذه العبارة الأخيرة صدى في كل القلوب، فأصبحت كالشرارة التي تشعل نارا عاتية، فتجمعت جميع الأصوات لتكون صيحة واحدة هي: «إن رأس موتزوك هي التي نريد.»
وعندما رأي لابوشنيانو قائد الشرطة داخلا سأله: «ما الذي يريدون؟!»
فأجابه قائلا: «رأس الوزير موتزوك.»
وانتفض هذا الأخير كمن لدغته أفعى قائلا: ماذا؟ ... ماذا تقول؟ لا بد أنك أسأت السمع يا صديقي ... لعلك تمزح، ولكن الوقت ليس وقت مزاح ... ما معنى هذه الكلمات؟ ولماذا يريدون رأسي؟ ... إنك أصم لم تحسن السمع.
وقال الحاكم: «بل نعم ... استمع أنت فصيحتهم تصل إلى هنا.»
وبالفعل، كان الجند قد أوقفوا المقاومة، وكان الشعب قد أخذ يتسلق الجدران، وهو يصيح بملء حنجرته: «فليسلم إلينا موتزوك! إن رأس موتزوك هي التي نريد!»
وصاح هذا المجرم قائلا: «آه ... يا لتعاستي ... أيتها العذراء النقية، لا تتركيني أهلك! ماذا فعلت في هؤلاء الناس يا أم الإله أنقذيني ... وأقسم أن أبني كنيسة وأن أصوم بقية أيامي وأن أطلي بالفضة عرشك المقدس القائم في دير نيامتزو ... أيها الأمير البالغ الرحمة، لا تصغ إلى هؤلاء الفلاحين الأجلاف! أصدر أوامرك بضربهم بالمدافع وليهلكوا جميعا، فأنا نبيل كبير، وما هم إلا فلاحين أجلاف.»
وأجاب لابوشنيانو - في برود: «فلاحون نعم! ولكنهم كثيرون، أليست خسارة أن نقتلهم جميعا من أجل فرد واحد؟! إني أحتكم إليك ... اقبل الموت من أجل هذا البلد الذي كما كنت تقول لي من قبل لا يريدوني ولا يحبني! وإني لسعيد إذ أرى الشعب يكافئك عن الخدمات التي قدمتها إلي، أنت الذي باع جيشي في أنطون زكلي، ثم تخلى عني لينضم إلى تومسا.»
وصاح موتزوك - وهو يشد لحيته بعد أن أيقن من كلمات الطاغية أنه لا أمل في النجاة: «يا لتعاستي! ... دعني على الأقل أعود إلى بيتي لأرتب شئونه! ارحم زوجتي وأطفالي! دعني أؤدي شعائر الاعتراف في الكنيسة!» ثم أخذ يبكي ويصيح وينتحب.
فصاح به لابوشنيانو قائلا: «كفى! لا تنتحب كالمرأة! كن شجاعا كروماني أصيل! وما جدوى الاعتراف؟! وماذا يمكن أن تقول للقس؟ هل تقول إنك لص وخائن وملدافيا تعلم ذلك؟! هيا خذوه وسلموه للشعب، وقولوا له: هكذا يجازي الأمير إسكندر كل من ينهبون البلاد.»
وفورا قبض عليه قائد الشرطة وضابط الجنود المرتزقة، وأخذا يجرانه وهو يعوي بكل قواه ويحاول أن يقاوم، ولكن ماذا تستطيع يدا عجوز إزاء أربع أيد قوية! وحاول أن يستخدم ساقيه كمتراسين، ولكنه أخذ يصطدم بجثث النبلاء الآخرين، وينزلق فوق الدماء التي كانت قد تجمدت على البلاط، وأخيرا خارت قواه وسحبه أعوان الطاغية خارج القصر، وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة، وألقوا به إلى الجموع.
ووقع هذا النبيل التعس في أيدي ذلك التنين الذي مزقه إربا في أقل من لحظة.
وقال رسل الطاغية: «هكذا يعاقب الأمير إسكندر من ينهبون هذا البلد.»
ورد الجمهور قائلا: «فليحي صاحب العظمة الحاكم!» واكتفى بهذه الضحية وانصرف.
وبينما كان موتزوك التعس يهلك على هذا النحو، كان لابوشنيانو قد أصدر الأوامر برفع أدوات المائدة ومفارشها، ثم قطع رءوس جميع النبلاء المقتولين، وإلقاء جثثهم من النافذة.
ثم أخذ الرءوس وصففها على مهل وسط المائدة واضعا في الصفوف السفلية رءوس النبلاء الأقل شأنا، وفي الصفوف العلوية رءوس الأكثر شأنا وفقا لأنسابهم وألقابهم، حتى اكتمل أمامه هرم من سبع وأربعين رأسا، وعلى قمته رأس بيرهم حامل الأختام.
وبعد أن غسل يديه اتجه نحو باب سري، ودفع المزلاج والقضيب الخشبي الذي كان يغلقه، ثم دخل إلى مقصورة الأميرة.
ومنذ بدء هذه المأساة كانت الأميرة روكسندرا لا تعرف شيئا عما يجري، ولكنها مع ذلك كانت تشعر بالقلق، ولم يكن باستطاعتها أن تعلم سبب الضجة التي سمعتها؛ لأن النساء - كما كانت العادة عندئذ - لم يكن يخرجن من مقاصيرهن، كما أن الخادمات لم يجرؤن على المخاطرة بأنفسهن وسط جيش لا يعرف أي نظام، ومع ذلك فإن واحدة منهن أكثر جرأة كانت قد خرجت، وعندما سمعت عن حركة تمرد ضد الحاكم جاءت لتخطر سيدتها.
وكانت الأميرة الطيبة ترتعد خوفا من غضب الشعب، وعندما دخل عليها إسكندر، وجدها تصلي أمام الأيقونة ومن حولها أطفالها.
وصاحت قائلة: «آه ... هأنت ذا ... شكرا لله! لقد كنت في خوف شديد.» - لقد أعددت لك ما يشفيك من خوفك على نحو ما وعدتك، تعالي معي يا سيدتي!
ولكن ماذا كانت تلك الصيحات، وذلك العواء الذي كنت أسمعه؟ - لا شيء! ... إن الخدم كانوا يتشاجرون، ولكنهم هدءوا الآن.
ثم أخذ روكسندرا من يدها وقادها نحو الصالة ... وعندما رأت ذلك المشهد المخيف صرخت صرخة فظيعة وأغمي عليها، فقال لابوشنيانو وهو يبتسم: «المرأة هي المرأة دائما، فهي تفزع عندما ينبغي عليها أن تبتهج!»
وأخذها بين ذراعيه وحملها إلى مقصورتها، ثم عاد بعد ذلك إلى الصالة، حيث قائد الشرطة وضابط الجنود المرتزقة ينتظرانه.
وقال للضابط: «تول أنت قذف جثث هؤلاء الكلاب من فوق الأسوار، وصفف رءوسهم على الجدران، وأما أنت يا قائد الشرطة، فلتحضر إلي سبانكيوك واسترويكي»، ولكن سبانكيوك واسترويكي كانا الآن بالقرب من نهر دنيستر، وكان أعوان الأمير الذين لاحقوهما قد أدركوهما في نفس الوقت الذي أخذا يعبران فيه النهر، وقد صاح بهم سبانكيوك قائلا: «قولوا لمن أرسلكم: إننا سنلتقي قبل أن نموت.» (4) إذا حدث أن شفيت، فإنني أنا أيضا سأحمل البعض على ارتداء المسوح
منذ ذلك المشهد كانت أربع سنوات قد مرت لم يأمر خلالها الأمير إسكندر بإعدام أحد من النبلاء؛ وذلك وفاء بالوعد الذي كان قد قطعه للأميرة روكسندرا، ولكنه أخذ يشبع نهمه الطاغي إلى رؤية الناس يتألمون باختراع أنواع مختلفة من التعذيب.
كان يفقأ الأعين ويقطع الأيدي ويشوه كل من يشك بهم، وإن تكن شكوكه على غير أساس؛ لأن أحدا لم يعد يجرؤ أن يهمس ضده.
وبالرغم من كل ذلك لم يكن مطمئنا؛ لأنه لم يستطع أن يضع يده على سبانكيوك وسترويكي اللذين أقاما في كامينتزا «في أوكرانيا» في انتظار وترقب اللحظة المناسبة، وبالرغم من أن إسكندر كان له صهران من الأمراء ذوي النفوذ في البلاط البولوني، فإنه كان يخشى أن يستنفر هذين النبيلين البولنديين اللذين كانا يترقبان أية تعلة لكي يدخلا ملدافيا، ولكن هذين الرومانيين كانا أكثر وطنية من أن يجهلا أن الحرب ودخول جيوش أجنبية معناه نهاية وطنهما.
وكان لابوشنيانو قد دعاهما مرارا إلى العودة مقسما بأغلظ الإيمان أنه لن يسيء إليهما، ولكنهما كانا يعرفان جيدا قيمة هذا القسم، ولكي يحكم لابوشنيانو رقابته عليهما أقام في قلعة هوتان التي قوى استحكاماتها، ولكنه أصيب بالتيفوس ثم استشرى فيه المرض سريعا حتى دنا به من حافة القبر.
وأثناء هذيانه لاح له أنه يرى جميع ضحايا قسوته الفظيعة، وهم يهددونه ويرعبونه، ويدعونه إلى الحساب أمام الله، وعبثا كان ينقلب في فراش ألمه بحثا عن الراحة.
واستدعى مطران المدينة تيوفان والقسس والنبلاء، وقال لهم: إنه قد وصل إلى نهاية حياته، وطلب منهم الغفران في تضرع ثم ابتهل إليهم لكي يرأفوا بابنه روكدان وارث العرش ويساعدوه؛ لأنه غض الإهاب ومحاط بأعداء أقوياء لا يستطيع مقاومتهم، كما لا يستطيع الدفاع عن البلاد بدون اتحاد النبلاء وإخلاصهم وطاعتهم.
ثم أضاف قائلا: «وأما عن نفسي، فقد اعتزمت إذا شفيت أن أنقطع للعبادة في دير سلاتينا، وأن أطلب الغفران حتى تحين نهايتي؛ ولهذا أرجوكم أيها الآباء أن تخففوا عني مواعظكم عندما ترونني أقترب من الموت.»
ولم يستطع أن يقول أكثر من ذلك؛ إذ أخذته التشنجات، وتصلب جسمه في إغماءة شبيهة بالموت، حتى إن مطران المدينة والقسس ظنوه يقترب من نهايته، فخففوا عنه المواعظ ونادوه باسم «بيس» - وهو صيغة التدليل لبترو - الاسم الذي كان يحمله قبل أن يصبح أميرا.
وبعد ذلك حيوا الأميرة روكسندرا كوصية على العرش حتى يبلغ ابنها القاصر سن الرشد، وأعلنوا روكدان أميرا لموافيا، ثم انطلق الفرسان نحو النبلاء سواء منهم من كان في البلاد ومن كان في المنفى ونحو قواد الجيش.
وعند هبوط الليل وصل سبانكيوك واسترويكي، وما أن وطئت أقدامهما الأرض عند بعض الأصدقاء حتى اتجها مسرعين نحو الحصن الذي كان صامتا ومهجورا وكأنه قبر عملاق، ولم يكن يسمع غير خرير مياه الدنيستر الرتيب وهي تصدم الجدران الرمادية العالية، ثم صيحات جنود الحرس المملة، وهم يلوحون في ضوء الشفق مستندين إلى رماحهم الطويلة، وعندما وصل النبيلان إلى القصر أدهشهما ألا يلتقيا بأحد، وأخيرا دلهما أحد الخدم على حجرة المريض، وعند دخولهما سمعا ضجة كبرى ووقفا يصغيان.
كان لابوشنيانو قد صحا من إغمائه.
وعندما فتح عينيه رأى راهبين واقفين: أحدهما عند وسادته، والآخر عند نهاية الفراش بلا حراك كتمثالين من برونز، وألقى بنظرة على جسمه، فرآه مدثرا في معطف، ومسوح راهب ملقى بالقرب منه، وأراد أن يرفع يده غير أن مسبحة من الصوف عاقته، وظن أنه يحلم وأغلق عينيه، ولكنه عاد ففتحهما ورأى نفس الأشياء: المسبحة والمسوح والرهبان.
وسأله أحد الرهبان عندما رآه لا ينام قائلا: «كيف حالك أيها الأخ بيسي؟»
وذكره هذا الاسم بكل ما حدث، وصعد الدم إلى رأسه، ونهض قليلا وهو يقول: «ما هذه الوحوش ... آه ... إنكم تعبثون بي! اخرجوا من هنا يا حثالة القسس! اخرجوا وإلا قتلتكم جميعا عن بكرة أبيكم.»
ونظر حوله ليتبين ما إذا كان هناك سلاح في متناوله، ولكنه لم يجد إلا المسوح الذي ألفاه في هياج على رأس أحد الرهبان.
وعندما سمعت الأميرة وابنها ومدير البلدية والنبلاء والخدم صيحاته، هرعوا جميعا إلى حجرته.
وفي هذه اللحظة وصل النبيلان اللذان كانا يسترقان السمع من خلف الباب.
وقال لابوشنيانو بصوت مبحوح فظيع: «آه ... لقد ألقيتم المعطف فوقي وأنتم تظنون أنكم ستتخلصون مني! نحوا الغشاوة عن أبصاركم، إن الله أو بالأحرى الشيطان سيرد لي صحتي، وعندئذ ...»
وقال الأسقف - مقاطعا: «لا تجدف أيها التعس ! إنك في ساعتك الأخيرة! اذكر أيها المذنب التعس أنك الآن راهب ولم تعد أميرا! اذكر أن تجديفك هذا وصيحاتك تلك تفزع هذه المرأة المسكينة البريئة، وهذا الطفل الذي هو كل أمل ملدافيا.»
فرد المريض - وهو يجاهد لكي ينهض من الفراش: «اخرس أيها الوحش المنافق! أنا الذي جعلتك أسقفا، وأنا الذي سأعزلك ... آه ... لقد ألقيت فوقي المعطف، ولكنني إذا شفيت سوف ألقيه أنا على الكثيرين ... وأما عن هذه الكلبة، فسأقطعها إربا هي وابنها لكي أعلمها ألا تصغي بعد إلى نصائح هؤلاء الوحوش أعدائي، لقد كذب من قال إنني راهب ... إنني لست راهبا بل أميرا! إنني الأمير إسكندر! إلي بأتباعي! أين رجالي الشجعان؟ اضربوا! اضربوا حتى النهاية! إنني آمركم! اقتلوهم جميعا! ولا ينجون منهم أحد! آه إنني أختنق! إلي بالماء ... الماء ... الماء!»
ثم خر فوق سريره، وهو يلهث من الغضب والهياج.
وخرج الأسقف والأميرة حيث وجدا سترويكي وسبانكيوك في انتظارهما عند الباب.
وقال سبانكيوك - وهو يمسك الأميرة من يدها: «يا سيدتي، يجب أن يموت هذا الرجل فورا ... ها هو مسحوق ضعيه في كأسه ...» فصاحت وقد تملكها الذعر: «سم؟!»
ورد سبانكيوك قائلا: «نعم سم! وإذا لم يمت هذا الرجل فورا، فإن إمارتك أنت وابنك تتعرض للخطر، لقد عاش الأب ما يكفي، كما ارتكب ما يكفي من الجرائم، يجب أن يموت الأب لكي يستطيع الابن أن يعيش.»
وخرج خادم من حجرة المريض، فسألته الأميرة: «ما الأمر؟»
لقد استيقظ المريض وهو يريد ماء ويطلب ابنه، وقد طلب إلي ألا أعود بدونه، فصاحت الأم الحنون وهي تضم في لهفة الطفل إلى صدرها: «آه ... إنه يريد قتله!»
وأضاف سبانكيوك قائلا: «لم يكن هناك وقت للتردد يا سيدتي، تذكري حكم الطاغية ستيفانتزا،
6
واختاري بين ابنك وزوجك، واستدارت المرأة المسكينة نحو الأسقف وعيناها تسحان الدموع قائلة: وما رأيك يا أبي؟» - إن هذا الرجل قاس وفظيع يا بنيتي، فاستمدي الرأي من الله مولانا، وأما أنا فسأشرع في الإعداد للرحيل مع ملكنا الجديد، وليغفر الله لمن كان أميرنا، وليغفر لك أنت أيضا.
هكذا قال الأسقف الورع ثم أخذ ينصرف.
وتناولت الأميرة روكسندرا من يد إحدى الخادمات كأسا من الفضة مليئة بالماء، وفي غير وعي منها تقريبا وتحت ضغط النبلاء أسقطت فيه السم، ودفعها النبلاء إلى حجرة المريض.
وسأل سبانكيوك سترويكي الذي كان قد وارب الباب لكي ينظر: ماذا يفعل؟
إنه يطلب ابنه ويقول: إنه يريد رؤيته ... إنه يطلب ماء ... الأميرة ترتعد ... إنها تقدم له الكأس ... إنه لا يريد أخذها.
ووثب سبانكيوك، واستل خنجره.
لا ... إنه يأخذها ... إنه يشربها الآن ... ألا شكرا لك يا رب!
وخرجت الأميرة روكسندرا شاحبة ترتعد واستندت إلى الحائط، وقالت - وهي تبتسم: «إنكم أنتم الذين ستحاسبون أمام الله؛ لأنكم أنتم الذين دفعتموني إلى ارتكاب هذه الخطيئة.»
فدخل الأسقف ليقول للأميرة: «فلنرحل!»
ولكن من الذي سيعنى بهذا البائس؟
ورد النبلاء قائلين: «نحن.»
وقالت للأسقف: «آه يا أبي، ماذا نصحتني أن أفعل؟!» ثم انصرفت معه وهي تبكي.
ودخل النبلاء إلى حجرة المريض.
وكان السم لم يفعل بعد فعله، ولابوشنيانو ممدد على ظهره في هدوء، ولكنه بالغ الضعف، وعندما دخل النبيلان نظر إليهما طويلا ولم يعرفهما، فسألهما: من يكونان؟ وماذا يريدان؟
وأجاب أحدهما: «أنا ... أنا سترويكي.»
وأضاف الآخر: «وأنا سبانكيوك، وما نريده هو أن نراك قبل أن تموت كما وعدنا.»
فتنهد إسكندر قائلا: «آه ... أعدائي.»
واستمر سبانكيوك قائلا: «أنا الذي أردت قتله عندما أهلكت السبعة وأربعين نبيلا، ولكني أفلت من براثنك، أنا سبانكيوك الذي جردته من أملاكه، حتى اضطرت زوجته إلى أن تستجدي على أبواب الطيبين من الناس.» - وصاح المريض - وهو يضغط بيديه على بطنه: «آه! ... ما هذه النار التي تلتهمني!» - صل صلاتك الأخيرة؛ لأنك ستموت والسم أخذ يعمل عمله. - آه ... لقد سممتموني أيها المجرمون! يا إلهي أشفق بروحي! آه يا لها من نار! أين الأميرة؟ أين ابني؟ - لقد رحلوا وتركوك معنا. - لقد تخلوا عني وتركوني معكم! آه ... اقتلوني، فلا أريد أن أتعذب أكثر من هذا.
ثم التفت إلى استرويكي قائلا: «اطعني أنت بالخنجر! ارحمني! أنت الأصغر سنا! خلصني من العذاب الذي يمزقني، اطعني بالخنجر!» - لن أدنس خنجري الشجاع بدم بغيض لطاغية مثلك.
وازدادت الآلام ... وأخذ المسموم يتلوى في تشنجات عنيفة، وصاح: آه! إن روحي تحترق! إلي بالماء! أعطوني شيئا أشربه.»
وقال سبانكيوك - وهو يتناول الكأس الفضية من فوق المائدة: «خذ هذه، ففيها ثمالة من السم، اشربها وانتعش بها.»
وقال المريض - وهو يضغط على أسنانه: «لا! لا! لا أريد!»
وأمسك به سترويكي ليمنعه من الحركة، بينما فتح سبانكيوك بسن رمحه أسنانه؛ لكي يبتلع السم الذي تبقى في الكأس، وأخذ لابوشنيانو يخور كما يخور الثور أمام القرمة والبلطة التي سيضرب بها، ثم حاول أن يستدير نحو الحائط.
فقال النبلاء: «كيف ذلك؟ أتريد أن تتجنب رؤيتنا؟ إن عقابك هو أن ترانا! تعلم الموت يا من لم يعرف لحياته غير القتل.»
وأمسك به الاثنان ومنعاه عن الحركة وهما ينظران إليه في نشوة جهنمية، ويقرعانه بما ارتكب من جرائم.
أخذ الأمير التعس يتلوى في تشنجات الاحتضار، وهو يرغي ويصر بأسنانه، وقد برزت عيناه من رأسه، وانثال فوق وجهه عرق ثلجي كنذير كئيب بالموت، وبعد نصف ساعة من التلوي بالعذاب، أسلم روحه بين جلاديه.
تلك كانت نهاية إسكندر لابوشناينو الذي لطخ تاريخ ملدافيا ببقعة من الدم.
وفي دير تاتينا الذي بناه ودفن فيه يستطيع الإنسان أن يرى اليوم صورة هذا الأمير هو وأسرته.
إيون كريانجا (1837-1889)
كريانجا هو أكبر قصاص روماني، وقد ولد في أسرة من الفلاحين الأميين، ولكنه تثقف وأصبح قسيسا، ثم معلما أوليا، وكان يتمتع بالذكاء والخيال والحساسية وروح الدعابة التي يمتاز بها فلاحو ملدافيا.
وكان كريانجا يملك عبقرية الرواية الشفوية التي جعلته يتفوق تفوقا لا مثيل له في حكاية القصص والطرائف الشعبية الملدافية.
وفي سنة 1875 بناء على نصائح صديقه الكبير الشاعر ميخائيل إيمنسكو أخذ يكتب ذكرياته، ويسجل الحكايات والقصص الخرافية التي تغذت بها طفولته، وإذا بواحد من كبار القصاصين يظهر في رومانيا بفضل «ذكريات طفولته» التي لا تنسى من جهة، وقصصه من جهة أخرى، أمثال: «الحماة وزوجات أبنائها الثلاث»، و«المعزة ذات الجديان الثلاثة »، و«كيس النقود ذو الفلسين»، و«دانيلا بريبلياك»، و«قصة الخنزير»، و«حكاية ستان المسلوخ»، و«قصة هاراب ألب»، و«إيفان المخلاة»، و«الأب نيكيور الحلنجي»، و«الأب إبون رواتا» و«الاتحاد» ... إلخ.
وحياة القرية الرومانية كلها بأخلاقها ومعتقداتها وقصصها الخرافية، وصورة فلاح ملدافيا المرهق بالعمل، البسيط المنصف العاقل المرح، كل هذا يبرز في قصص كريانجا ذات الأسلوب الغض ذي العصير الشعبي الذي يحتفظ بنضرة خالدة. (1) الأب نيكيفور «الحلنجي»
ليس الأب نيكيفور شخصية خرافية، فنيكيفور قد وجد وعاش فعلا في قرية تتوييني ضاحية مدينة ترجول نيامترولي في ملدافيا بالقرب من قرية فيناتوري نيامتزولي، وقد عاش تقريبا في الفترة التي كان جد جدي يلعب فيها موسيقى القرب في حفل التعميد الذي أقامه ببيته ديديو العجوز في قرية فيناتوري! وكان الإشبين، وهو الأمير باكيه نفسه الذي قدم له العجوز ديديو هدية مكونة من تسعين حملا لكل منها - بغير استثناء - عين محاطة ببقعة سوداء! وكان القسيس عما لعم أمي كلوبوك قارع أجراس ديز نياموتزو، وقد أطلق عليه اسم القارع؛ لأنه صب لهذا الدير - على نفقته الخاصة - ناقوسا كبيرا كان يحب أن يقرعه بنفسه في أيام الأعياد الكبرى، وهكذا عاش الأب نيكيفور في ذلك الزمن في قرية تتوييني.
كان الأب نيكيفور حوذيا بمهنته، وبالرغم من أنه لم يكن يملك كأسواط غير حبال من الزيزفون، فإن عربته كانت متينة ومريحة وواسعة، والمظلة الكبيرة التي تغطيها تمنع المطر والشمس من دخولها، وصندوق الزيت وعدة التشحيم والكوريك، وكانت كلها معلقة في السهم.
وأثناء السير كان يحتك بعضها ببعض، فتحدث الصوت: كراك كراك كراك! وفي الحلقة الحديدية المدلاة من الدرابزين - في أسفل ناحية اليسار - كانت بلطة صغيرة معلقة معدة للاستعمال عند الحاجة، وكانت هناك مهرتان بيضاوان كالثلج وملتهبتان كالجمر، تحملان النير دائما تقريبا، وأقول تقريبا لأن الأب نيكيفور كان تاجر مواش أحيانا، وعندما يلوح له الربح، لم يكن يتردد في أن يبيع أو أن يقايض على إحدى هاتين المهرتين؛ حتى ولو كان في طريق السفر، وكان النير يظل أحيانا معلقا في الفضاء.
وكان هذا العجوز يحب دائما المهار الصغيرة الجميلة، وكان هذا موضع ضعفه، ولقد تسألونني: ولماذا يفضل المهار دائما والمهار البيضاء؟ وسأقول لكم السبب: فهو يفضلها لكي تنجب له، وهو يفضل البيضاء؛ لأنها - كما يقول - تغنيه عن مصباح الليل!
ولا نعتقد أن نيكيفور كان يجهل المثل السائر الذي يقول: إنه من الأفضل دائما ألا تكون حوذيا لخيول بيضاء ولا خادما عند امرأة، فهو يعرفه جيدا، ولكن المهار كانت له، وإذا اعتنى بها فحسنا يفعل، وإذا لم يعتن فمن الذي سيؤنبه على ذلك!
والأب نيكيفور لم يكن ليقبل قط أن يعمل حوذيا على عربة نقل، وكان يتجنب حمل الأشياء الثقيلة خوفا من أن يصاب بقيلة في خصيته! وكان يقول: إن العمل على عربة ركوب أفضل بكثير؛ لأن الإنسان يتعامل عندئذ مع البضائع الحية التي تنزل عندما يصعد الطريق أو ينزل، ثم عند الوقوف إلى أن يصبح الإنسان: إلى العربة سيداتي وسادتي!
وكان الأب نيكيفور قد جدل بيديه سوطا من الكتان ذا طرف من الحرير، وكان يفرقع به فرقعة تصم الآذان، وفي كل مرة تسير العربة في طريق صاعد، كان ينزل من مقعده ليجر العربة مع مهاره، سواء أكانت تلك العربة محملة أم لا، وعندما ينحدر الطريق كان يفعل نفس الشيء حتى لا يضني خيله العزيزة، وكان على زبائنه - أرادوا أم لم يريدوا - أن يترجلوا هم أيضا، وإلا لما كف الأب نيكيفور عن الزمجرة وإرسال العبارات اللاذعة من مثل قوله: هلا نزلتم قليلا أيها السادة، فالحصان حيوان لا يعرف الكلام!
وأما إذا عرف الإنسان كيف يستأنسه بتقديم كأس صغيرة، فعندئذ لا يكون هناك من هو ألطف من الأب نيكيفور، وعندما كان يلتقي برجل يركب حصانا كان يصيح به: ما هذا أيها الغضنفر، لقد سبقتني وتركتني خلفك.
أليس كذلك أيها السيد؟ ثم يطلق سوطه في مهارة، وهو يغني:
أيتها البيضاء إلى الخلف
أيتها البيضاء إلى الأمام
النير يتدلى من ناحية
هوب! مهرتي تعدو كثمانية
لأن جالتزي على بعد خطوتين.
وإذا التقى في الطريق بنساء أو آنسات، أخذ يغني أغنيات فكهة توافق مزاجه، مثل:
عندما تزوجت من عجوزتي
بكت ثمان عاشقات
ثلاث ذات أزواج
وخمس من بنات بلدي.
آه! كيف لا يشوقنا السفر، وبخاصة في شهر مايو مع مثل هذا الرفيق اللطيف الذي لا تعوزه النكتة الفكهة، ولكن أحيانا عندما يمر أمام فندق، فيتظاهر صاحبه بعدم رؤيته له، فلا يقدم له شيئا من شراب، تراه يزمجر، ولكنه مع ذلك يحث الخطى نحو الفندق التالي.
وفي فترة ما اشترى الأب نيكيفور مهرتين تعدوان عدوا عجيبا، ولم يكن فيهما غير عيب واحد، وهو توقفهما - مهما يكن من أمر - عند كل ملهى؛ وذلك لأنه كان قد اشتراهما من قسيس!
فلم تكن هناك عندئذ مطافئ تستطيع أن تبيعه مهارا أخرى قادرة على أن تعدو دون توقف.
ويؤكد والدي أنه سمع من العجائز نقلا عن الأب نيكيفور نفسه أن مهنة العربجي في ترجوي نيامتزولي كانت قديما مهنة طبية، إذ كان لديه من الزبائن أكثر مما يلزمه، ولم يكن يكاد يغادر فراتيك حتى يصل إلى أجابيا، ولا يبرح أجابيا حتى يدخل سريعا إلى فراتيك، ومنها يعدو إلى رازبوييني حيث الأديرة المليئة بالرهبان، وحيث الزبائن الذين لا يعرف ماذا يفعل بهم، وكان عليه أن ينقلهم حينا إلى بياترا، وحينا آخر إلى بولتيشيني، ثم إلى الأسواق وإلى جميع الأديرة، مثل: دير نيامتزو ودير سيكو، ثم إلى ابتيسكا فضلا عن أعياد القديسين.
وقال والدي أيضا: إنه سمع جد جدي يحكي أن أسقف نياميتزو التقي في ذلك العصر ببعض الراهبات، وهن يتسكعن في السوق في أحد أيام المقدس، فقال لهن: ما هذا أيتها الإخوة؟ - باركنا أيها الأب الجليل. - لماذا لا تقرن يا أخواتي ساكنات في الدين، تفكرن في خلاصكن، ولو في الأسبوع المقدس على الأقل؟
فأجبن - في خشوع: آه أيها الأب الجليل، إنه هذا الصوف الذي يعذبنا، وليغفر لنا الرب، ولولاه ما وطئت أقدامنا هذا السوق، وأنت تعلم أن هذا النسيج الصوفي هو الذي يأتي بغذائنا، وهو عمل بطيء ولكنه عمل على أية حال وفي الحركة بركة.
وعندئذ تنهد الأسقف المسكين، وكظم غيظه وصدره يكاد ينشق، ثم ألقى الوزر على الأب نيكيفور، وهو يقول: يا ليت هذا الحوذي ينفق إلى غير رجعة، فهو الذي ينقلكن، ولو نفق لما بقي أحد لينقلكن من كل صوب إلى السوق!
وعندما علم الأب نيكيفور بذلك اضطربت نفسه فيما يقولون، وأقسم ألا يتعامل طوال حياته مع رجال الكنيسة؛ وذلك لأنه كان لسوء حظه متدينا، وخشي أن يجلب لنفسه لعنات القساوسة، وهذا هو السبب في أنه عدا مسرعا إلى دير فوفيدينيا، حيث يقيم الراهب كيفياك فوق جبل آتوس، وهو الراهب الذي يصبغ لحيته وشعره بالكريز الأسود، وينضج البيض يوم الجمعة المقدس على الشمعة تكفيرا عن خطاياه! ومنذ تلك الحادثة اتخذ حوذينا قرارا بتفضيل التعامل مع التجار.
وكان الأب نيكيفور يقول: إن التاجر هو وحده الذي يعيش بالمقالب، ولا يقع فيها! وعندما كان يسأل عن سبب ذلك، كان يجيب - في مرح: تلك هي إرادة الله.
وماذا تنتظرون من الأب نيكيفور المرح بطبيعته؟ ومع ذلك فقد أخذت تشوبه بعض الكآبة بسبب تلك الحياة الملعونة.
فزوجته العجوز لا أدري ما الذي أصابها، ولكنها أخذت تتفكك منذ حين! فهي تشكو حينا من هذا الجنب، وحينا من الجنب الآخر، تشكو اليوم من الأذن وغدا من الساق ثم من العينين!
وكانت تتنقل بحثا عن الدواء بين امرأة وأخرى، وتلجأ إلى السحر، وقد ضاق الأب نيكيفور بذلك، وأصبح ضيق الصدر باستمرار، وعندما كان يقضي في البيت يومين أو ثلاثة أيام متتالية، كان يصيح زمجارا شكسا غضوبا، حتى إن عجوزه المسكينة كانت تطيب نفسها لرؤيته يرحل.
ومن المؤكد أن الأب نيكيفور قد ولد في الطريق؛ وذلك لأنه كان يصبح رجلا آخر بمجرد أن ينطلق على الطرق الكبيرة، وكان لا يتوقف عن فرقعة سوطه، وإطلاق النكات على المسافرين، وقص الحكايات تلو الحكايات عن الأماكن التي يمر بها.
وذات صباح في يوم الأربعاء السابق على عيد القيامة، كان الأب نيكيفور قد خلع عجلات عربته لكي يشحمها، وإذا به يلمح الأستاذ ستيرول من قرية نياموتزو - وهو تاجر أصباغ ومراهم، وبودرة، وأدهنة، وأدوات تجميل، وصبغات للشعر، وزيت اللوز، وزهر الكبريت، والحشيشة المغربية، وورق أرمينيا، وغيرها من السموم الصغيرة.
في ذلك العصر لم يكن هناك صيدلي في نياموتزو، وكان الأستاذ ستيرول يحضر كل ما يحتاجه الرهبان والراهبات، وإذا شئتم الحق كان يزاول أيضا نوعا آخر من التجارة سأكتفي بالتلميح به، وعليكم الفهم! وهو نوع أكثر أهمية بكثير من عمل قسيس الاعترفات نفسه، ولولا الأستاذ ستيرول لأغلقت الأديرة أبوابها! - صباح الخير يا أب نيكيفور. - وعليك السلام يا أستاذ ستيرول! أي ريح مواتية قادتك إلى هنا؟ - أتيت من أجل زوجة ابني، إنها تريد الذهاب إلى بياتزا، كم تطلب لتحملها إليها؟ - آه ... لا بد أنها تحمل معها عددا من الأغطية كما جرت العادة عندكم، ولكن لا بأس، فعربتي واسعة وبها مكان، ولكي لا أساومك يا أستاذ ستيرول، أعطني ستة عشر ليا - أي: قطعة صغيرة جميلة من الذهب - وأنا أحملها لك كالملكة، وها أنت ترى كيف جددت عجلات عربتي، بل وشحمتها أيضا؛ بحيث أصبحت تنزلق كقباقيب الانزلاق. - تسعة ليات تكفي يا أب نيكيفور ... وابني سيقدم لك بعض الكئوس في بياتزا. - فليكن! على بركة الله يا أستاذ ستيرول، وأنا أقبل لأننا في عز السوق، ولربما وجدت زبائن عند العودة، ولكنني أود أن أعلم فقط متى سنرحل؟ - على الفور يا أب نيكيفور إذا كنت مستعدا. - طبعا، أنا مستعد يا أستاذ ستيرول، ولكني يلزمني فقط أن أسقي مهاري، اذهب لتخطر زوجة ابنك وسألحق بك بعد لحظة.
وفي نشاط ومهارة - كما اعتاد - ملأ العربة بالشوفان، وشد فوقها الغطاء، وربط فيها المهار، وألقى بمعطف فوق كتفيه، وتناول سوطه، وها هو يرحل يا أطفال، فلم يكد الأستاذ ستيرول يصل بيته حتى كان الأب نيكيفور قد وصل بعربته.
وخرجت من البيت ملكة زوجة ابنه لكي ترى حوذيها على نحو ما يجري العرف في الريف، كانت ملكة مولودة في بياتزا، وها هما خداها متوردان، ربما لشدة ما بكت لفراق حمويها! وكانت تلك أول زيارة لها لنياموتزو، أو كما يقولون باكورة زيارتها لحمويها، ولم تكن قد تزوجت إستيك ابن الأستاذ ستيرول إلا منذ أسبوعين، أو على الأصح لم يكن إستيك قد تزوج ملكة؛ لأنه هو الذي ترك بيت أسرته كما تجري العادة، وبعد أسبوعين اصطحب ملكة إلى بياتزا لمزاولة أعماله. - أرى أنك قد حافظت على كلمتك يا أب نيكيفور.
باستطاعتك يا أستاذ ستيرول أن تثق دائما بكلمتي، ثم إنني لا أعرف شيئا في المصابيح، وأفضل أن أبدأ رحلتي في الصباح الباكر؛ لكي أصل قبل هبوط الليل.
هل ستصل بياتزا عند المساء يا أب نيكيفور؟
ما هذا يا أستاذ ستيرول، إنني أرجو أن أصل بفضل الله بعد الغداء مباشرة!
إن ثقتي فيك كاملة يا أب نيكيفور، وأنت أكثر مني دراية وخبرة بهذه الأمور، ولكني مع ذلك أرجوك أن تقود بعناية حتى لا تقلب زوجة ابني!
آه يا أستاذ ستيرول! لقد زاولت هذه المهنة لزمن مديد، وكم نقلت من سيدات وراهبات وبنات أشراف وعلية القوم، وبفضل الله لم يشك في أحد، وذلك فيما عدا الأخت إيفلامبيا بوابة دير فاراتيك، التي كانت لي معها بعض المضايقات بسبب ما اعتادته من ربط بقرتها في مؤخرة العربة أينما ذهبت؛ وذلك لكي تحصل دائما على اللبن مجانا!
وكان في هذا ما يزعجني؛ لأن البقرة هي البقرة دائما، وكانت تلتهم الشوفان من عربتي، بل لقد كسرت سلم العربة ذات يوم، كما أنها في المرتفعات كانت تختلف فتشد الوثاق، حتى كادت أن تخنق مهاري ذات مرة، وبالجملة «طهقت» منها، وتجرأت على أن أقول لها: لماذا أيتها الأخت كل هذا الشح بدراهم معدودات، مع أنك لست بخيلة فيما يتعلق بالإنفاق الكبير؟ رنت إلي عندئذ برقة لتقول في صوت هامس: اسكت أيها الأب نيكيفور! اسكت! لا تغضب من هذه البقرة المسكينة التي لا ذنب لها، فآباء جبل أنتوس المقدس هم الذين أملوا علي - كقاعدة - ألا أشرب إلا من لبن نفس البقرة لكي أظل شابة زمنا طويلا، ولا حيلة لي في ذلك، فلا بد من طاعتهم في كل شيء؛ وذلك لأن فخامتهم يعرفون أكثر مما نعرف نحن الخاطئات، وعندما علمت ذلك أحسست أن الأخت على شيء من الحق وتركتها وشأنها، وعلى أية حال فإنها لم تكن تخلو من العته؛ وذلك لأنها لم تكن تريد أن تشرب إلا من نبع واحد، وأما أنت يا أستاذ ستيرول، فأظن أنك تلصق بي بقرة أثناء الرحلة! وأما عن السيدة الصغيرة، فأنا متأكد أنها ستنزل عندما نصل إلى مرتفع أو منخفض حاد، وبخاصة أن المناظر جميلة الآن في الريف على نحو مذهل، ولكن كفى ثرثرة! هيا اصعدي يا سيدتي فسأحملك إلى زوجك العزيز! آه ... هؤلاء السيدات الشابات ... إنني أعرفهن جيدا! فعندما يبعد عنهن الزوج لا يقر لهن قرار، ولا يفكرن إلا في العودة السريعة إلى البيت على نحو ما يعدو الحصان إلى الحظيرة.
هيا يا أب نيكيفور! فأنا أصعد إلى العربة، ثم أخذ الجميع يحملون في سرعة الأغطية والوسائد الوثيرة وسلة مليئة بالمأكولات وأمتعة أخرى صغيرة، وأخيرا ودعت ملكة حمويها، ثم تربعت على الأغطية في قلب العربة! وقفز الأب نيكيفور إلى مقعده، وقرقع بالسوط بينما الأستاذ ستيرول وذووه على عتبة الباب ينظرون إليه، وهم يسيرون ووجوههم مبللة بالدموع.
وأثناء عبور المدينة كان الحوذي يعدو عدوا جهنميا، وكأن لمهاره أجنحة.
وفي غمضة عين عبروا الوادي والقرية وتل هيموجستي، كما قطعوا المسافة بين أوشيا وجرومانزستي قفزا. - آه! يا إلهي ... انظري يا سيدتي الصغيرة إلى هذه القرية الجميلة، إنها جرومانزيستي
1
لو كان مثل هذا العدد من العجول في مرعاي، وكان لك من الأطفال قدر من مات هنا عبر القرون من وحوش ووثنيين أقذار، إذن لأحسسنا بمناعة تامة. - ألا ليس إله يهبني أطفالا يا أب نيكيفور! - وأنا عجول يا ابنتي العزيزة؛ وذلك لأنني فقدت كل أمل في إنجاب أطفال، فعجوزتي عاقر ولم تستطع الملعونة أن تعطيني ولو طفلا واحدا! ألا سحقا لها! فيوم يتحطم غليوني ستذهب عربتي إلى الجحيم، ولن تجد مهاري لها سيدا! - لا ينبغي أن تحزن يا أب نيكيفور، فتلك بلا ريب إرادة الله ، ولقد سطر في كتبنا المقدسة أن البعض لم يوهبوا أطفالا إلا في سن الشيخوخة. - دعيني من كتبك فلي فيها رأيي الخاص، وإنه لمن العبث أن ترج الماء في القربة فلن يخرج منه زبد! ولقد سمعت أنا أيضا عندنا في الكنيسة من يقول: إن الشجرة التي لم تعد تحمل ثمارا يجب أن تستأصل من جذورها، وأن ترمى في النار، وهذا قول حق! والشيء الذي يدهشني هو أنني قد صبرت على معاشرة هذه العجوز حتى اليوم، ودينكم من هذه الناحية خير من ديننا، فالمرأة التي لا تنجب أطفالا تأخذون غيرها، وإذا لم تنجب هذه الأخرى انتقلتم إلى غيرها، حتى تنتهوا إلى واحدة حظيت ببركة الله، وأما الأمر عندنا فمختلف، حيث نلزم بأن نعيش حتى آخر رمق مع امرأة عاجزة، والأطفال لا أثر لهم، ومع ذلك فسيدنا المسيح لم يصلب من أجل رجل واحد في هذه الدنيا! أليس كذلك يا سيدتي الصغيرة؟! أجيبيني إذا استطعت! - قد تكون على حق يا أب نيكيفور. - من المؤكد أنني على حق يا سيدتي الصغيرة! هو هو ... أعوذ بالله! أي شوط قطعناه! لقد أخذنا نثرثر، وها نحن قد وصلنا فجأة! ... آه يا إلهي! إنه كان يعلم ماذا يفعل عندما أعطى كل إنسان رفيقا! هيا ... إلى الأمام يا مهاري العزيزة، وها نحن قد وصلنا إلى غابة بروماتزستي مصدر رعب التجارة وفزع النبلاء! هيه ... هيه ... يا سيدتي الصغيرة! لو كان لهذه الغابة فم يحكي ما شهدته، لسمعت منه حكايات مفزعة لا تكاد تصدقها الآذان! - ولكن ما الذي حدث هنا يا أب نيكيفور؟ - آه يا سيدتي الصغيرة! إن ما حدث لا يمكن وصفه! تصوري أن أحدا لم يكن يستطيع أن يمر من هنا دون أن ينهب ويعذب ثم يقتل، وكان هذا يحدث ليلا أكثر مما يحدث نهارا، وأما عن نفسي فقد لاقيت أحيانا ذئابا وحيوانات متوحشة أخرى، ولكني كنت أتظاهر بعدم رؤيتها، وأتركها تمر في سكون إلى حال سبيلها. - يا إلهي ... لا تحدثني يا أب نيكيفور عن الذئاب ، فأنا أخشاها خشية فظيعة!
لقد قلت لكم: إن الأب نيكيفور كان رجلا مهزارا، وإنه كان يملك الموهبة التي يقص بها حكايات تجعلك تموت من الضحك، أو تهلك من الخوف. - احذري يا سيدتي الصغيرة فها هو واحد قادم! - يا ويلي! أين أستطيع أن أختبئ أيها الأب نيكيفور؟ - حيث تستطيعين يا سيدتي الصغيرة، وأما عن نفسي فلست خائفا ولو جاء من الذئاب قطيع بأكمله!
وعندئذ تعلقت ملكة المسكينة - في يأس - بعنق الأب نيكيفور، والتصقت به كالعلقة، وظلت كذلك بعض الوقت، ثم سألته بصوت مرتجف: أين هو يا أب نيكيفور؟ وأين يمكن أن يكون؟ - لقد عبر الطريق أمامنا وتوغل في الغابة، ولكنك أوشكت أن تخنقيني يا سيدتي الصغيرة، ولو أنني أرخيت من يدي الأعنة لكان أمرنا عجبا.
وردت ملكة - فورا - بنغمة ضارعة: أيها الأب نيكيفور، لا تحدثني بعد الآن عن الذئب وإلا مرضت من الخوف. - لست أنا الذي يحدثك عنه، بل هو الذي يأتي ... انظري ... ها هو يعود. - آه ... يا إلهي!
ثم عادت إلى الاختفاء في جوار الأب نيكيفور. - آه ... هذا الشباب! إنك تريدين أن تلعبي ... أليس كذلك يا سيدتي الصغيرة؟ وعلى أية حال، لقد كان من حظك أن تكوني معي أنا، الذي لا تضطرب رأسه ولا يخاف الذئب ولو كان أحد آخر مكاني ... - ولكن قل يا أب نيكيفور ... إنه لن يعود ثانية؟ - يا للعجب! أتريدين ذئبا في كل لحظة؟
ومع ذلك فهناك واحد خلف كل شجرة، وهم لا يتنزهون قطعانا إلا في سانت أندريه، وأما عن الصيادين فهل تصدقين أن قليلا من الذئاب هي التي تقع بين أيديهم في المطاردات الكبرى؟ هيا ... فلنرح قليلا مهارنا، فها قد وصلنا إلى تل الدراجون الذي يقولون: إنه سقط عنده تنين هائل كان ينفث اللهب من حلقه، ولم يكن إنسان يجرؤ على أن يمر على هذه الناحية، وعندها ترتعد وترتمي مذعورة بعضها فوق البعض. - يا إلهي! وأين هو ذلك التنين يا أب نيكيفور؟ - وكيف أعرف ذلك والغابة كبيرة؟! لا بد أنه مختبئ في ناحية ما! ومن الناس من يقول : إنه بعد أن التهم العديد من الناس بل وقشر الأشجار، مات هنا في هذا المكان، ومنهم من يقول: إنه شرب لبن بقرة سوداء، ثم ارتفع إلى السماء التي كان قد نزل منها، ولكن أي القولين نصدقه؟ ... لست أدري! والناس يتحدثون كيفما اتفق، وأما أنا فلحسن الحظ لا أخشى التنين أيضا؛ وذلك لأنني أعرف الكثير من الوسائل السحرية، فأنا أقبض على الأفاعي في وكرها على نحو ما تتلقين أنت الكتكوت من البيضة. - ولكن أي نوع من الوسائل السحرية تعرف يا أب نيكيفور؟ - لا تطلبي مني هذا يا سيدتي الصغيرة، فأنا لم أقله حتى لعجوزتي نفسها، بالرغم من أننا متزوجان منذ أربعة وعشرين عاما، وقد فعلت كل شيء لكي تعرفه حتى صدعت رأسي، ولكن دون جدوى؛ حتى لأظن أنها ستموت كمدا ... وإلى حيث ألقت! ... وحسنا تفعل، حتى أستطيع أن أبحث عن «وظووظة» وأنعم بالحياة يومين أو ثلاثة ثم أموت راضيا، ولقد أوشكت روحي أن تزهق من هذه العجوز العفنة التي تطاردني من المساء إلى الصباح، وتتشاجر معي بسبب كل «وظووظة»، ولا أكاد أفكر في العودة إلى منزلي والالتقاء بها حتى يصيبني الصرع، وأود لو رحت في داهية! - هيا ... هيا! اسكت يا أب نيكيفور، فأنتم جميعا كذلك أيها الرجال! - ها قد وصلت يا سيدتي الصغيرة إلى نهاية الغابة ... هيا انزلي أثناء صعودنا هذا السفح، ولو لتليين رجليك، انظري إلى هذه الأزهار الجميلة، التي تنبت على حافة الغابة، وتعطر الهواء المحيط بها، أليس من الخسارة أن تظلي معسكرة في العربة؟
وقالت ملكة وهي ترتجف: إنني خائفة من الذئب يا أب نيكيفور. - هيا فلنفرغ نهائيا من هذا الذئب! أوما لديك شيء آخر تحكينه؟! - آه ... بل تقف قليلا حتى أنزل. - هيا ... اقفزي بخفة! هيا ... ضعي قدمك فوق السلم ... هوب! هكذا ... وينتهي الأمر! ... وفي رأيي أنك الآن شجاعة، وأنا أحب الشجعان كالدجاجات المبللة!
وبينما كانت ملكة تقطف بعض أزهار البراري من أجل إستيك، كان الأب نيكيفور - بعد أن أوقف الخيل - يصلح بعض الهينات في العربة، ثم أخذ يصيح بسرعة: أوما انتهيت يا سيدتي الصغيرة؟ ... هيا اصعدي ولنرحل على بركة الله، فالطريق الآن منحدر باستمرار تقريبا.
وما إن صعدت ملكة حتى سألت: ألسنا متأخرين أيها الأب نيكيفور؟
فأجابها: لقد انتهت الآن أشق مرحلة، وعما قريب سأصل بك إلى بياتزا.
ثم فرقع بسوطه، وهو يصيح:
إلى الخلف يا بيضاء
إلى الأمام يا بيضاء
النير يتدلى من أحد الجوانب
هيا! مهرتي ستعدو كثمانية
لأن جالتزي على بعد خطوتين.
ولم يكد يقطع مائة متر حتى انكسر محور العجلات، فصاح نيكيفور: «يا لله! أما حكاية!»
بينما صاحت ملكة قائلة: «يا إلهي! سيافجئنا الليل في الغابة!» - هيا يا سيدتي الصغيرة ... لا تكوني نذير سوء! كم مرت بي أحداث مماثلة في حياتي، وبينما تتناولين وجبة خفيفة، ومهاري تزدرد قليلا في الشوفان، سأكون قد أصلحت المحور.
ولكن الأب نيكيفور عندما بحث عن البلطة لم يجدها في مكانها.
فقال الأب نيكيفور - وقد قطب حاجبيه من شدة الغضب: «آه! لم يبق إلا هذا! ألا سحقا لك أيتها العجوز! أهكذا اهتمامك بي؟! البلطة ليست هنا وهذا واضح!»
وعندما رأت المسكينة ملكة هذا أخذت تتنهد، وقالت: «والآن يا أب نيكيفور ما العمل؟» - هيا يا سيدتي الصغيرة، لا تحرقي دمك فنحن لم نفقد كل أمل!
ثم أخرج سكينا قديمة من جرابها، وشحذها مرتين أو ثلاث مرات على حجر للشحذ، وقطع غصنا من شجرة بلوط صغيرة، وشط به قدر المستطاع، ثم أخذ يبحث في قاع عربته لعله يجد قطعة حبل، ولكن كيف يجدها إذا كان أحد لم يضعها؟
وعندما تبين أنه لن يجد قطع حبائل خرجه وطرفا من المقود وجدلهما معا، ونجح في أن يربط المحور الذي ارتجله، ثم وضع العجلة في مكانها وثبت السلم وقلب النير وربطه في مقدم العربة، فاغرا فاه: «هيا يا سيدتي الصغيرة! ... كم تعلمنا الشدائد! ... لا ينبغي لأحد أن يخاف وهو صحبة الأب نيكيفور ابن قرية توتوبيني، والآن اثبتي جيدا في مكانك، فسأقود هذه المهار بسرعة مجنونة ... ولكن تأكدي أنني سأري عجوزتي الويل بلكماتي الخشنة عندما أعود إلى البيت، وسوف أدحو عقيصة شعرها؛ لكي أعلمها كيف تهتم بزوجها؛ وذلك لأن المرأة إذا لم تضرب تصبح كالطاحونة بغير ماء! هيا اثبتي في مكانك يا سيدتي الصغيرة ... شي! شي!»
وأخذت المهار تعدو بشدة حتى راحت العجلات تقرقع، والغبار يتصاعد إلى السماء، ولكن بعد جولة صغيرة أخذ المحور المرتجل يسخن ويهبط، ثم ... كراك! وها هي العجلة تقفز بعيدا عن العربة. - يا للداهية! لا بد أنني قد قابلت هذا الصبح قسيسا أو أي شؤم آخر! - ماذا سنفعل أيها الأب نيكيفور؟ - سوف نرى يا سيدتي الصغيرة! وعلى أية حال اطمئني ولا تفزعي، ونحن لحسن الحظ لسنا وسط الحقول، وفي الغابة - والحمد لله - أخشاب لا حد لها، ولربما أعارنا عابر سبيل بلطة.
وفي هذه الأثناء لمح مسافرا قادما نحوهما وعلى ظهره خرجه. - أسعد الله أوقاتك أيها الصديق! أرجو ألا يكون الطريق قد انقسم ظهره كعربتك. - لا مجال لمثل هذا الهذر أيها الصديق، فمن الأفضل أن تمد لي يد العون؛ كي أعيد المحور إلى مكانه، وأنت ترى ما وصلت إليه من إعياء. - لا سبيل إلى ذلك، فأنا على عجلة، ويجب أن أصل إلى أوسلوبيني، وليس أمامك إلا أن تقضي الليل في الغابة، ولن يصيبك أي ضجر!
فرد نيكيفور غاضبا: «إنه ليدهشني ألا تستحي من مثل هذا القول، ما الذي يدور برأسك العجوز الخربة؟»
فأجابه الرجل - وهو مستمر في الطريق: «لا تغضب يا صديقي إنها مجرد دعابة، وداعا! وليحفظك الله.» - انظري يا سيدتي الصغيرة، كم الناس أشرارا! إن الغنائم وحدها هي التي تغريهم! آه ... لو كان معي زجاجة نبيذ أو عرق بالعربة، لما ظللت هكذا وسط الطريق! تأكدي من ذلك! هيا! على الأب نيكيفور أن يتصرف هذه المرة أيضا وسأحاول.
ثم أخذ يشذب غصنا آخر، وظل يسويه حتى استطاع في النهاية أن يضعه في مكانه، ثم أخذ يقرقع بسوطه من جديد، وأخذت المهار تعدو حتى اشتبكت العجلة في حجر، وانكسر المحور من جديد. - آه! ... لقد أخذت أعتقد يا سيدتي الصغيرة أننا سنضطر إلى قضاء الليل في الغابة، كما قال ذلك الرجل الذي مر بنا. - يا إلهي! هل هذا ممكن يا أب نيكيفور؟ ما هذا الذي تقوله؟ - وماذا تريدينني أن أقول؟ انظري! ها هي الشمس تغرب خلف التل، ونحن لا نزال هنا، ولكن لا بأس! اطمئني يا سيدتي الصغيرة، فأنا أعرف في الغابة ساحة مكشوفة على بعد خطوتين من هنا، فلنذهب إليها حيث سنكون كأننا في بيتنا، فالمكان مكنون والمهار ستستطيع أن ترعى فيه، وستنامين داخل العربة، بينما أقوم أنا بحراستك طول الليل، وعلى أية حال فليلة واحدة لا تدوم قرنا، وسترين كيف تمر! وأما عن عجوزتي فسوف تدفع الثمن؛ فبسببها حدثت كل هذه المضايقات. - فليكن! افعل ما شئت يا أب نيكيفور ما دام ما تفعل صالحا. - اطمئني يا سيدتي الصغيرة إلى أن كل شيء سيكون على خير حال.
وسحب الأب نيكيفور المهار بالمقود، وقلب العربة، وجرها بقدر استطاعته إلى الساحة المكشوفة. - انظري يا سيدتي الصغيرة! جنة الله على أرضه! كم يود الإنسان أن يعيش فيها ولا يموت أبدا! آه! إنكم لا تعلمون شيئا عن جمال العالم! انزلي قليلا قبل أن يخيم الظلام، سوف نجمع بعض الخشب الجاف، ونضرم النار طوال الليل لكي نطرد الناموس وجميع حشرات العالم.
ولما لم تجد المسكينة ملكة بدا من ذلك نزلت من العربة، وأخذت تجمع الأغصان الصغيرة.
آه! ما أجملك في هذا الوضع يا سيدتي الصغيرة! كأنك من بنات ريفنا، أولم يفتتح أبوك - مثلا - حانة في إحدى القرى؟ - نعم، لقد أدار فندقا لزمن طويل في قرية بودستي. - آه! لقد كنت أتساءل لماذا تجيدين الحديث بلغة ملدافيا؟ ولماذا تلوح عليك سيماء بناتنا؟ ولن أصدقك بعد الآن إذا قلت أنك تخافين الذئب، والآن! ما رأيك في هذه الساحة المكشوفة؟! لقد كان من الممكن أن تموتي دون أن تعرفي ما هو الجمال! أنصتي قليلا إلى هذا الكروان وكيف يشع مرحا، وهذه العصافير التي تتنافس في الزقزقة. - من يدري ما الذي سيحدث لنا هذه الليلة يا أب نيكيفور! وماذا سيقول إستيك؟ - إستيك! ... سيظن أنه يرى الله عندما تعودين! - ولكن هل تظن أن إستيك يستطيع أن يفهم هذه الأشياء وكل ما يمكن أن يحدث في السفر؟ - يخيل إلي أنه كعجوزتي، لا يعرف شيئا غير أنه ينتقل من الموقد إلى الفرن، هيا سيدتي الصغيرة لنرى هل تعرفين كيف تشعلين النار؟
وأخذت ملكة ترص الأغصان الصغيرة، بينما قدح الأب نيكيفور زناده، وأخذ الاثنان يضرمان النار، ثم قال نيكيفور: انظري كيف تقرقع هذه الأغصان يا سيدتي الصغيرة! - إنني أرى جيدا يا أب نيكيفور، ولكن يجب أن أقول لك إنني غير خائفة. - ما هذا الذي تقولينه؟ لكأنك من أسرة إستيك! شيئا من الشجاعة! وإذا كنت رعديدة إلى هذا الحد اصعدي إلى العربة ونامي، وسيمر الليل كلحظة، وعما قريب سيبزغ الفجر.
وشجعت كلمات الأب نيكيفور ملكة؛ فصعدت إلى العربة وتمددت لتنام، بينما أشعل نيكيفور غليونه، وفرش معطفه على الأرض، وتمدد هو أيضا على جنبه إلى جوار النار، وأخذ يشد بضعة أنفاس، وبينما كان النوم يغزوه تطايرت شرارة ووقعت على أنفه. - أعوذ بالله ... إنها بلا ريب شرارة من الأحطاب التي جمعتها ملكة ... آه! لقد حرقتني ... هل تنامين يا سيدتي الصغيرة؟ - لقد نمت قليلا يا أب نيكيفور ... ولكن الأحلام أخذت تراودني واستيقظت. - عجيبة! لقد حدث لي نفس الشيء! ... لقد أحرقت شرارة طرف أنفي وطار النوم، ويخيل إلي أنني قد نمت ليلة كاملة! ثم كيف ننام مع هذه الأسراب من الكروان المجنونة التي تتفجر فرحا! ولكن ما العمل والآن موسم الحب بالنسبة إليها؟ ... - هل تنامين يا سيدتي الصغيرة؟ - لقد كنت على وشك النوم يا أب نيكيفور. - اسمعي ... لدي فكرة! سأطفئ النار؛ لأنني ذكرت فجأة أن رائحة الدخان يجذب الذئب الملعون. - إذن، أطفئها يا أب نيكيفور!
وفورا غطى الأب نيكيفور النار بالتراب وأخمدها. - والآن نامي مطمئنة يا طفلتي العزيزة، فالنهار سيأتي قريبا ... آه ... يا للغباء ... لقد أطفأت النار، ونسيت أن أشعل غليوني، ولكن لحسن الحظ معي القداحة ... آه! ... هذا الكروان الشقي! إنه لا يبخل على الحب بشيء!
وظل الأب نيكيفور ساكنا قليلا من الزمن؛ لينتهي من تدخين غليونه، ثم نهض في خفة على أطراف أصابعه واقترب من العربة، وكانت ملكة قد أخذت تشخر قليلا، فهزها الأب نيكيفور وقال لها: «يا سيدتي الصغيرة، يا سيدتي الصغيرة ...» فردت ملكة - وهي تنتفض خائفة: «... ماذا يا أب نيكيفور؟» - لقد خطر لي أن أنتهز فرصة نومك؛ لكي أمتطي مهرة وأعدو بها إلى البيت؛ لكي أعود منه بمحور للعجلات وبلطة، وعند بزوغ النهار سأكون قد عدت. - يا إلهي! ما هذا الذي تقول يا أب نيكيفور؟ أتريد أن تجدني عند عودتك ميتة من الخوف؟ - أعوذ بالله! فلتحفظك العناية يا سيدتي الصغيرة! هيا لا تخافي ... إن هو إلا خاطر لي. - كلا يا أب نيكيفور! وعلى أية حال، فلن أستطيع النوم الآن ... سأنزل وأمكث إلى جوارك طوال الليل! - أبدا يا سيدتي الصغيرة! ما هذا! ... ابقي حيث أنت مستريحة. - كلا! ... ها أنا قادمة!
وها هي تنزل وتجلس على العشب إلى جوار الأب نيكيفور، وظلت هي تقول جملة وهو يقول جملة حتى أخذها النوم ونامت نوما عميقا، وعندما استيقظا كان النهار قد انتشر في يوم بالغ الصفاء. - هيا يا سيدتي الصغيرة ... ها هي شمسنا المقدسة، هيا استيقظي يجب أن نغسل وجهنا، والآن ... هل أكلوك؟! هل تخلصت من الخوف؟!
وعند سماع هذه الكلمات عادت ملكة إلى النوم، وأما الأب نيكيفور فقد صعد - كرجل مسئول - إلى العربة وأخذ يبحث في الشوفان، وإذا به يعثر في القاع على بلطة وقطعة من حبل ومخرمة! - يا لله! ها هي! ومع ذلك فقد اتهمت ظلما عجوزتي المسكينة، والواقع لقد أدهشني ألا تهتم بي، والآن لكي أكفر عن اغتيابها سأشتري لها طربوشا أحمر، وكوفية في لون الكركم ترد إليها الشباب، وبينما كنت أنا أسرف في مداعبة الزجاجة، كانت هي المسكينة تعرف ما أنا بحاجة إليه أثناء الرحلة، والخطأ الوحيد أنها لم تضع تلك الأشياء في مكانها، ولكن كيف للنساء أن يحذقن شئون أزواجهن؟ - يا سيدتي الصغيرة، يا سيدتي الصغيرة. - ما الأمر يا أب نيكيفور؟ - أنصتي قليلا، تصوري ... إنني وجدت كل ما كان يلزمني (بلطة وحبلا وخرامة)! - أين وجدتها يا أب نيكيفور؟ - آه! تحت أمتعتك، لم يكن ينقصها إلا صوت تصيح به، وقد كنت كذلك الشحاذ الذي يجلس فوق كنز، ثم يطلب الصدقة ... وعلى أية حال، فمن حسن الحظ أن أجدها، ومن المؤكد أن عجوزتي المسكينة هي التي وضعتها. - آه! انظر يا أب نيكيفور كيف كنت سيئا؟ وكيف أثقلت روحك بالخطايا؟ - آه ... نعم يا سيدتي الصغيرة ... هذا حق! لقد أخطأت فيما أفضيت إليك عنها من ألفاظ السوء، ولم يبق لدي إلا أن أغني لها أغنية صغيرة للصلح:
يا عجوزتي المسكينة ... إنني أعدك
طيبة كنت أم سيئة
أن أحتفظ بك إلى الأبد!
وأخذ الأب نيكيفور يشمر عن ساعديه، ويقطع شجرة بلوط صغيرة ليصنع منها محورا للعجلات بالغ الجمال، وأعده على خير وجه، وأعاد العجلة إلى مكانها، وربط المهار في العربة، واستأنف الطريق في رفق وصاح: الآن اصعدي يا سيدتي الصغيرة وإلى الأمام!
ولما كانت المهار قد أكلت جيدا واستراحت، فقد وصلوا إلى بياتزا عند الظهر. - ها أنت في بيتك يا سيدتي! - شكرا لله يا أب نيكيفور، فلم أكن في حالة سيئة حتى في الغابة.
وفيما هما يثرثران وصلا إلى بوابة المعلم إستيك الذي كان عائدا لتوه من الكنيسة، وعندما رأى ملكة لم يتمالك نفسه من الفرح، وعندما علم ما صادفهما من مغامرات وأخطار، لم يعرف كيف يشكر الأب نيكيفور الذي غمره بالهدايا إلى الحد الذي أدهشه.
وفي اليوم التالي رحل مع زبائن آخرين، وعندما وصل إلى بيته كان في حالة من المرح أدهشت زوجته التي لم تره في مثلها منذ سنوات ... وكل أسبوعين أو ثلاثة كانت السيدة ملكة الصغيرة تأتي إلى نياموتزو لزيارة حمويها، ثم تعود وحدها مع الأب نيكيفور لا غير، ولم تعد تخاف من الذئب.
وبعد عام وربما أكثر أخذ الأب نيكيفور يدلي باعترافات وهو يعب النبيذ، فهو يقص على أحد أصدقائه مغامرة غابة دراجون، وخوف السيدة الصغيرة ملكة، وصديقه هو الآخر يدلي أيضا باعترافات أمام أصدقاء آخرين ، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الناس - وهم دائما أشرار - عن معاكسة الأب نيكيفور بتسميته «نيكيفور الحلنجي»، ولصق بالمسكين هذا الاسم، وبالرغم من أنه قد أصبح منذ زمن طويل ترابا، فإنهم لا يزالون يسمونه «نيكيفور الحلنجي»!
ي. ل. كاراجيالي (1852-1912)
يعتبر كاراجيالي الأديب المسرحي والقصاص - الكاتب الواقعي - الروماني الكبير في القرن التاسع عشر، وبحكم مولده في أسرة من الممثلين عرف البيئات الحضرية معرفة رائعة، وصور حياة وأخلاق سكان المدن على نحو لا يجارى، ويعتبر مسرحه «ليلة عاصفة - الخطاب المفقود - السيد ليونيدا مشتبكا مع الرجعية - مشاهد من المرجان - كارثة» ألذع هجاء وأصدقه لأخلاق المجتمع البورجوازي الإقطاعي في نهاية القرن الماضي، وفي صوره القلمية «الثعلب - العدالة - صاحب الضيعة الروماني - مكافأة التضحيات الوطنية - تمبورا - الصديق فلان - الساعة الخامسة - السيد جوان - زيارة - سلسلة التهاون - استطلاع - س. ف. ر ...» إلخ، وكذلك في قصصه وأقاصيصه «نصيبان كبيران - شمعة عيد الفصح - خطيئة - في زمن الحرب - في فندق مانيوالا - كير إيانيوليا ...» إلخ يضيف كاراجيالي إلى روحه النقدية مواهبه الكبيرة كقصاص يستلهم الفولكلور، أو يستوحي الخوارق، وبحكم طبيعته الجدلية لم يتردد في أن يشهر سنة 1907 في منشور سياسي سماه: «من الربيع إلى الخريف» بحركة قمع ثورات الفلاحين في ذلك العام، وتنكرت له سلطات ذلك العهد وشنعت عليه، فاعتزل في برلين في آخر حياته حيث توفي سنة 1912 وهو في الستين من عمره.
ومع ذلك بعث إنتاجه إلى الخلود، وهو اليوم في مكان الصدارة في الأدب الروماني ومن أمجاده.
ومن باريس إلى هلسنكي، ومن لندن إلى سانتياجو، ومن موسكو إلى القاهرة طافت مسرحية «الخطاب المفقود» أرجاء العالم مؤيدة مكانة كاراجيالي كأحد كبار كتاب المسرح في عصرنا الحديث. (1) في فندق مانيوالا
في ربع ساعة تصل إلى فندق مانيوالا، ومنه إلى قرية بوتستي العليا من ضواحي بوخارست، خمسة فراسخ يستطيع الحصان أن يقطعها في ساعة ونصف إذا سار خببا دون عدو، وهي رحلة يتحملها الحصان الصغير إذا زود بالشوفان، ومنح ثلاثة أرباع الساعة راحة في الفندق، ومعنى ذلك أن ربع ساعة وثلاثة أرباع ساعة - أي ساعة كاملة - يجب أن تضاف إلى الساعة والنصف التي تستغرقها الرحلة إلى بوتستي، فيكون الزمن كله ساعتين ونصف، ولما كانت الساعة الآن السابعة، فإنني في الساعة العاشرة على أكبر تقدير سأكون عند الحكمدار إيوداكي، ولقد تأخر قليلا وكان يجب أن أرحل قبل الآن، ولكن لا بأس فسينتظر على أية حال.
وبينما كانت تراودني تلك الخواطر، رأيت عن بعد وعلى مسافة طلقة نار أضواء كثيرة في فندق مانيوالا - وكان هذا لا يزال اسمها - بالرغم من أن الرجل قد مات منذ خمس سنوات، وأرملته هي التي تدير الفندق.
يا لها من سيدة قادرة أرملة مانيوالا! فلقد قادت الزورق؛ وذلك لأن الفندق كان في حياة زوجها على وشك أن يباع.
وأما الآن ... فالديون قد سددت، والبناء قد جدد، وبنيت حظيرة من الحجر، وجميع الناس يؤكدون أن لديها مالا غير قليل، بعضهم يزعم أنها قد وجدت كنزا، وآخرون يتهمونها بالسحر، وفي ذات يوم جاء اللصوص لينهبوا المنزل، وحاولوا أن يكسروا الباب، فرفع البلطة أحدهم - وكان أقواهم، شحط في قوة الثور - وأخذ يضرب الباب بكل قواه، ولكنه خر على الأرض ورفعوه ميتا، وحاول أخوه أن يتكلم ولكنه لم يستطع فقد أصبح أبكما! وكانوا أربعة ... ووضع الاثنان الآخران الميت على ظهر أخيه، وحملا قدميه لكي يدفنوه في مكان بعيد، وأثناء خروجهم من الفندق أخذت السيدة مانيوالا تصيح من النافذة قائلة: اللص! وفجأة ظهر ضابط الشرطة ورجاله أمام اللصوص، وكانوا أربعة من الخيالة الذين تابعوا هؤلاء اللصوص، وأخذ الشاويش يصيح: «من السائر هناك؟!» وهرب اثنان من اللصوص ولم يبق إلا الأبكم وأخوه الميت على كتفيه، ولم يكن التحقيق سهلا فجميع الناس يعلمون أن الرجل لم يكن أبكما، وقد ظنوا أنه يتصنع البكم، فأخذوا يضربونه لكي يسترد صوته، ولكن عبثا، ومنذ ذلك اليوم لم يجرؤ أحد على أن يفكر في سرقة الفندق.
ولم أكد أحرك كل هذه الذكريات في نفسي حتى كنت قد وصلت؛ حيث رأيت في فناء الفندق عددا كبيرا من العربات الواقفة، بعضها محمل بألواح الخشب التي ستنحدر بها في السهل، وبعضها الآخر محمل بأكياس الذرة التي صعدت بها من الوادي، وكنا في إحدى أمسيات الخريف والهواء منعش، وسائقو العربات يتدفئون إلى جوار النار، تلك النار التي لمحتها عن بعد، وقاد سائس حصاني إلى الحظيرة لكي يعطيه حقه من الشوفان، ودخلت الفندق حيث كان جمع كثير من الناس يشربون ويغنون، بينما جلس اثنان من الغجر وسنانين في ركن؛ أحدهما يغمز قيثارته، والآخر جيتاره على طريقة مقاطعة أولتينا، وكنت جائعا ومقرورا، وقد نفذت الرطوبة إلى عظامي.
فسألت خادم المقصف: «أين المديرة؟» - عند الفرن. - لا بد أنها أكثر دفئا هناك.
وعبرت ممرا تاركا ردهة الفندق لكي أذهب إلى المطبخ، وكان مطبخا بالغ النظافة، ووسط عطن المعاطف المصنوعة من جلود الغنم والأحذية الخشبية والأخفاف الجلدية المبللة كانت تتصاعد مشهية رائحة الخبز الساخن.
وكانت السيدة مانيوالا تشرف على الفرن. - إنني مسرور بأن أجدك في صحة طيبة يا مدام مرجيولا. - على الرحب والسعة يا سيد فانيكا. - هل هناك في هذه الساعة شيء أن أتبلغ به؟ - حتى في منتصف الليل ... بالنسبة لمثلك من خيار الناس.
وفي سرعة أمرت السيدة مرجيولا خادمة عجوز بأن تعد المائدة في حجرتها ... ثم اقتربت من طاقة إلى جوار الموقد، وقالت لي: هيا اختر لنفسك.
وكانت السيدة مرجيولا جميلة قوية البنية، واسعة العينين، وكنت أعرفها منذ طفولتي ومنذ أن كان المرحوم والدي - والذي لا يزال - حيا، حيث مررنا عدة مرات بفندق مانيوالا الذي يقع في طريقنا عندما نذهب إلى السوق، ولكنها - ومنذ أن عرفتها - لم تبد لي ساحرة إلى هذا الحد، وكنت شابا وفتى وسيما مغامرا، بل وأقدر على المغامرة مني على التلطف، وبينما كانت منحنية على الموقد اقتربت منها من الناحية اليسرى وطوقت خصرها، ومست يدي ذراعها الأيمن الذي كان لحمه مكتنزا كالمرمر، وقرصتها وكأنني مدفوع بالشيطان!
ونظرت إلي السيدة شذرا، قائلة: أليس لديك ما هو خير من هذا لتفعله؟ - إن عينيك رائعتان يا مدام مرجيولا. - هيا! لا داعي للمجاملات! قل لي أولا: ماذا تريد أن أقدم لك؟! - قدمي لي ... قدمي لي ... ما عندك. - حسن ... حسن.
وأخذت أكرر متنهدا: آه! حقا إن عينيك رائعتان يا مدام مرجيولا! - ماذا يمكن أن يقول حموك لو سمعك؟ - أي حمى؟ ... وكيف تعرفين؟ - أتظن أنك إذا اختفيت تحت قلنسوة الفراء لن يرى أحد ماذا تفعل؟ أولست ذاهبا إلى الحكمدار يورداكي لكي تخطب ابنته الكبرى؟! هيا لا جدوى من أن تنظر إلي هكذا، اجلس على المائدة في حجرتي.
وكنت قد رأيت في حياتي حجرات نظيفة ومريحة، ولكنني في الحق لم أر مثل هذه الحجرة ... أي فراش! وأية ستائر! وأية جدران! وأي سقف! ... كلها بيضاء كاللبن، ومصباح المائدة وجميع المفارش مطرزة برسوم متباينة، وكانت دافئة في دفء الجو الذي تهيئه الدجاجة تحت جناحيها لصغارها ... ثم رائحة التفاح والكمثرى البرية.
وعندما هممت بالجلوس إلى المائدة أخذت - مجاراة للعادة التي ألفتها منذ الطفولة - أدور باحثا عن جهة الشرق لكي أرسم علامة الصليب، وفحصت الجدران من حولي في عناية الواحد بعد الآخر، ولكني لم أجد الأيقونة، وعندئذ قالت مدام مرجيولا: ما الذي تبحث عنه؟ وأجبت: الأيقونات ... أين هي؟
فقالت: سحقا للأيقونات! إنها أوكار للبق والصراصير!
كم هي نظيفة! ... وجلست على المائدة، ورسمت علامة الصليب كالعادة، وفجأة انطلقت صرخة نافذة، لا شك أنني قد وضعت كعب حذائي الحديدي على قط عجوز كان قابعا تحت المائدة، وقفزت مدام مرجيولا وفتحت الباب، فانطلق القط الهائج إلى الخارج، بينما اندفع الهواء البارد إلى الحجرة وأطفأ المصباح، وأخذنا نبحث عن أعواد الثقاب ونتحسس مكانها، وبحثت أنا هنا، وبحثت هي هناك، والتقينا في الظلام صدرا أمام صدر، وبطبيعتي المغامرة أمسكتها بقوة بين ذراعي وأخذت أقبلها، ومع أن المرأة أخذت تقاوم، إلا أنها بدت مستسلمة أحيانا وكانت وجنتاها كالنار وشفتاها رطبتين، وإلى جوار أذنها كان يقف زغب جلدها.
وأخيرا وصلت الخادمة حاملة شمعة وصينية عليها الطعام، وكنا - بلا ريب - قد قطعنا وقتا طويلا في البحث عن أعواد الثقاب؛ لأن زجاجة المصباح كانت قد بردت تماما، وأشعلنا المصباح، يا لها من وجبة خبز ساخن، وبط محمر مع الكرنب ، وسجق مشوي من لحم الخنزير، ونبيذ معتق وقهوة تركي، وضحك وثرثرة ... يا لها من امرأة مدهشة مدام مرجيولا! وبعد القهوة قالت للخادمة العجوز: احملي إلينا قنينة من نبيذ الموسكا.
يا له من نبيذ رائع! ... لقد أخذت أحس بمفاصلي تنخدر، وكان الفراش إلى جواري فتمددت قليلا لكي أدخن سيجارة، وأنا أرتشف من كأسي القطرات الأخيرة ذات اللون العنبري، ومن خلال دخان الطبقا أخذت انظر إلى مدام مرجيولا، وهي جالسة على مقعد في مواجهتي تلف لي السيجار، وقلت لها: حقا يا مدام مرجيولا، إن عينيك رائعتان ... ولكني أريد ... - ماذا؟ - قهوة أخرى إذا كان ذلك لا يضايقك، ولكن أقل سكرا هذه المرة!
وأخذنا نضحك، وحملت الخادمة القهوة وقالت: يا سيدتي ... إنك هنا تتحدثين ولا تعرفين ماذا يحدث في الخارج! - ماذا هناك؟ - لقد أخذت الرياح تهب وستدمر كل شيء!
وفي غمضة عين وقفت ونظرت في الساعة، فإذا بها العاشرة وثلاثة أرباع، وهكذا بدلا من أن أمكث نصف ساعة في الفندق مكثت ساعتين ونصف، وهذا ما يحدث عندما نأخذ في الثرثرة. - فليحضروا لي حصاني! - من؟ ... لقد نام السواس! - إذن أذهب بنفسي إلى الحظيرة؟
وقالت مدام مرجيولا وقد انفجرت ضاحكة، ووقفت بيني وبين الباب: لقد سحرتك أسرة الحكمدار!
وفي رفق نحيتها عن طريقي ووصلت إلى الشرفة، وكان الجو مريعا حقا، فالنيران التي أشعلها سائقو العربات قد انطفأت، والحيوانات والناس قد ناموا فوق أكوام سيقان الذرة، وقد انكمش بعضهم إلى جوار بعض على الأرض، بينما أخذت الرياح تنبح هائجة في الفضاء.
وصاحت مدام مرجيولا - وهي ترتعد، وقد أمسكت بيدي بقوة: «إن العاصفة في هياج، ولست مجنونا لكي ترحل في مثل هذا الجو! اقض الليلة وسافر غدا في وضح النهار.» - هذا مستحيل.
وانتزعت يدي من يدها، واتجهت نحو الحظيرة، حيث أيقظت سائسا بعد عناء وأخرجت حصاني، وبعد أن لسعته بالسوط قدته حتى المدخل وصعدت إلى الحجرة لكي أودع مضيفتي فوجدتها جالسة فوق الفراش غارقة في أفكارها، وقد أمسكت بين يديها بقلنسوتي تقلبها بلا انقطاع.
وطلبت منها الحساب فأجابت - وقد ركزت نظراتها إلى قاع قلنسوتي: ستدفع عند عودتك.
ثم نهضت وقدمتها إلي، فأخذتها ووضعتها على رأسي منحرفة قليلا، ونظرت إلى المرأة في عينيها التي كانت تلمع بشكل غريب وقلت لها: إنني أقبل عينيك يا مدام مرجيولا. - سفر سعيد.
وقفزت فوق السرج، وفتحت لي الخادمة باب الساحة وخرجت، وارتكزت بيدي اليسرى فوق عجز الحصان، والتفت إلى الخلف، ومن خلف السياج العالي لمحت باب الغرفة مفتوحا على مصراعيه، وفي فجوته شبح المرأة الأبيض، وقد قوست يديها فوق حاجبيها.
وتركت حصاني يسير الهوينى، بينما أخذت أهمس بأغنية حب، حتى إذا أخذت أدور حول السياج لأواصل طريقي، أخذت اللوحة تختفي عن ناظري، فصحت: هيا فلنواصل السير، ورسمت علامة الصليب وعندئذ سمعت الباب يقرقع والقط يموء، ولا ريب أن مضيفتي قد قدرت أنني لم أعد أراها، فدخلت بسرعة إلى الدفء، وحشرت القط خلف الباب، القط الملعون الذي يحوم دائما حول الناس.
وكنت بلا ريب قد قطعت شوطا من الطريق، وكانت الرياح التي تزداد عنفا تهزني فوق السرج، وفي السماء كانت السحب تتلو السحب وكلها سوداء، وكأنها تفر من غضب السماء، وبعضها منخفض يطير نحو السهل، والبعض الآخر الأكثر ارتفاعا يتجه نحو التلال والستار الذي تنشره كثيفا حينا، وخفيفا حينا يحجب - لزمن طويل - الشعاع الضعيف الذي يرسله الهلال، وكان البرد والرطوبة يخترقاني، فأحس ببطن ساقي وذراعي وهي تتجمد، ومن كثرة إحناء رأسي لكي أقاوم الريح التي تعوق تنفسي، أخذت أحس بآلام في رقبتي وجبهتي وصدغي، بينما أخذت أذناي الملتهبتان تطنان، وظننت أنني قد أسرفت في الشراب وأسدلت قلنسوتي فوق رقبتي، ورفعت جبهتي إلى السماء، غير أن زمجرة السحب أخذت تنزل بي الدمار، وأحسست بالتهاب تحت الضلوع من الناحية اليسرى، وأخذت أنشق في عمق الهواء المثلوج ... ولكن بصيصا من ألم ملح أخذ يشق صدري، وخفضت ذقني، ولما كانت القلنسوة تشد على رأسي كجراب من حديد، فقد خلعتها ووضعتها فوق سهم السرج، وأحسست بالمرض، لقد أخطأت بالرحيل، لا بد أن بيت الحكمدار يورداكي نائم كله، ولا بد أنهم بعد طول انتظار قد قدروا أنني لست مجنونا لكي أسافر في مثل هذا الجو، وأخذت أدفع الحصان الذي كان هو الآخر يترنح وكأنه قد شرب مثلي.
وأخذت الريح تهدأ، ويخف الاكفهرار مؤذنا بالمطر، وساد صحو رمادي، ومن خلال السحب أخذ يقطر رذاذ دقيق نافذ، فأعدت لبس قلنسوتي، وفجأة أخذ الدم يحرق من جديد جدار جمجمتي، وأما الحصان فقد أخذ يلهث منهكا وقد أضنته الرياح، فأخذت أستحثه بكعبي وألسعه بالسوط، فخف إلى الأمام بضع خطوات سريعة، ثم استعصى ووقف تماما، وكأنه قد اصطدم بحاجز غير متوقع، ونظرت فلمحت فعلا على بضع خطوات أمام الحصان شبحا يقفز ويثب ... أهو حيوان؟! ولكنه أي حيوان؟ حيوان وحشي؟ ... ربما! لكن لا ... إنه بالغ الصغر ... وأمسكت بمسدسي وسمعت عندئذ - في وضوح - مأمأة معزاة صغيرة، ودفعت الحصان قدر استطاعتي، ولكنه استدار ليعود واستعصى ورفض المسير، فالمعزاة لا تزال هناك، وحملت الحصان على العودة، ولسعت جانبيه بالسوط وشددت على المقود، فتقدم بضع خطوات، ولكن المعزاة لا تزال هناك! وكانت السحب قد تبددت تماما تقريبا، فأصبحت أرى في وضوح، وإذا بها معزاة صغيرة سوداء، تغدو وتروح وتضرب الأرض بحوافرها، ثم تنتصب فوق رجليها الخلفيتين، وتقفز إلى الأمام وذقنها ملتصقا بصدرها، وجبهتها مرتفعة في هيئة الاستعداد للنطاح، وأخذت تقفز قفزات عجيبة وتثغو وتأتي بأغرب الحركات، فنزلت على الحصان الذي رفض أن يستمر في السير، وأمسكت بالمقود بالقرب من رأسه، وانحنيت قائلا: «بسي! بسي!» وبحركة من يدي دعوت المعزاة، وكأنني أقدم لها شيئا من الردة، فاقتربت المعزاة دون أن تتوقف عن الوثب، فاستعصى الحصان مفزعا وشد المقود لكي يتخلص من قبضة يدي، وسقطت على ركبتي ولكني لم أفلت المقود من يدي، واقتربت المعزاة من يدي فإذا بها جدي أسود لطيف جدا استطعت بسهولة أن أحمله؛ لأنه أليف، ووضعته في الناحية اليمنى من الخرج فوق بعض الثياب، وعندئذ أخذ الحصان يهتز وترتعش جميع أوصاله، وكأنما أخذته حمى الموت، وامتطيته فاندفع أمامه ذاهلا.
ولمدة طويلة ظل يندفع كالسهم قافزا فوق الحفر ومتخطيا الموانع وجذور الشجر دون أن أستطيع إيقافه، أو تعرف الأماكن أو تبين الجهة التي يحملني إليها، وخلال هذا الشوط السحيق الذي خاطرت أثناءه في كل لحظة بكسر رقبتي، وجسمي مثلوج ورأسي تحترق، أخذت أفكر في الفراش الوثير الذي أعرضت عنه في حمق ... لماذا؟ إن مدام مرجيولا كانت ستتخلى لي عن حجرتها، وإلا لما رجتني أن أبقى، وأخذ الجدي يتحرك في الخرج لكي يهيئ لنفسه مكانا أفضل، وأخذت أنظر إليه ورأسه الذكية تطل من الخرج، وهو الآخر ينظر إلي أيضا نظرة حكيمة، وتذكرت عندئذ عيونا أخرى، وأدركت مدى حمقي، واصطدم الحصان فأرغمته على الوقوف، وأراد أن يستأنف السير، ولكنه من شدة التعب خر على ركبتيه، وفجأة برقشت السحب وانفرجت قليلا عن الهلال الذي أنزلت بي رؤيته الدوار، فكأنني قد تلقيت على جبهتي ضربة هراوة، وقد كان أمامي وكأن بالسماء هلالين، فقد كنت متجها نحو التلال، ومن الواجب أن يكون الهلال خلفي، وأدرت رأسي بسرعة لكي أرى القمر، القمر الحقيقي ... لقد ضللت الطريق فأنا أنزل نحو السهل، أين أنا؟ ونظرت أمامي فرأيت حقلا من الذرة لم تقطع بعد عيدانه، ومن خلفي رأيت حقولا واسعة، فرسمت علامة الصليب مهتاجا، وبساقي المخدرتين غمزت جنبي الحصان؛ لكي أحمله على النهوض، وعندئذ أحسست على طول ساقي اليمنى هزة قوية ... وانطلقت صيحة، لا بد أنني قد دست الجدي، وفي سرعة تحسست الخرج فوجدته خاليا، لقد فقدت الجدي في الطريق، ونهض الحصان وهز رأسه واسترد وعيه واستعصى، ثم جمح فألقاني على الأرض وكأنما لدغته ذبابة شريرة، فانطلق يعدو في الحقول حتى اختفى في الظلام، وأفقت ونهضت مترنحا، فسمعت حفيف أعواد الذرة، وصوت رجل قريب يصيح: «بسي! بسي! يا ابن الحرام، اذهب إلى جهنم.»
فصحت: من هنا؟ - رجل طيب. - من أنت؟ - جورجي. - أي جورجي؟ - نطروز ... جورجي نطروز الذي يحرس حقل الذرة. - هل لك أن تدنو قريبا من هنا؟ - نعم ... نعم ... أنا قادم.
وأخذ شبح الرجل يظهر بين أعواد الذرة. - قل لي أيها الصديق ... أين نحن هنا ؟ لقد ضللت الطريق بسبب العاصفة. - إلى أين تريد أن تذهب؟ - إلى بوبستي العليا. - آه ... نعم ... أنا أعرف ... تريد أن تذهب إلى بيت الحكمدار يورداكي. - نعم. - في هذه الحالة لم تضل الطريق، وإن يكن أمامك بعد شوط طويل لتصل إلى بوبستي، فأنت لا تزال عند هاكولستي.
فأجبت في مرح: إذا كنت عند هاكولوستي، فأنا إذن لست بعيدا عن فندق مانيوالا. - إنه إلى جوارنا ... فنحن الآن خلف الحظيرة. - أرني الطريق لو سمحت، فلست أريد أن أكسر عنقي الآن.
كنت قد ضللت أربع ساعات تقريبا، وببضع خطوات وصلت إلى مدخل الفندق، وكانت حجرة مدام مرجيولا مضاءة، وأشباح تنعكس صورها على الستائر، لعل مسافرا أكثر فطنة مني قد اقتنص فرصة النوم على هذا الفراش البالغ النظافة، ومن الراجحة أن أضطر إلى الاكتفاء بأريكة بالقرب من الفرن، ولكن الحظ ابتسم لي؛ فلم أكد أدق الباب حتى سمع دقي، فأسرعت الخادم العجوز إلى فتح الباب، وما أن عبرت المدخل حتى أحست قدماي بشيء طري، وإذا به الجدي، نفس الجدي فهو جدي مضيفتي، وقد دخل هو الآخر إلى الغرفة وفي تعقل نام تحت الفراش.
شيء غريب! ... هل توقعت المرأة أنني سأعود! ... أم أنها نهضت مبكرة؟ فالفراش مسوى كما كان.
وكل ما استطعت قوله هو: مدام مرجيولا.
وأردت أن أشكر الله على نجاة حياتي، فرفعت يدي اليمنى إلى جبهتي، ولكنها أمسكت في سرعة بذراعي وأنزلته واحتضنتني بقوة.
ويخيل إلي أني ما زلت أرى تلك الحجرة، أي فراش! أية ستائر صغيرة! ... أية جدران! أي سقف! كلها بيضاء كاللبن! ومصباح المائدة، وكل هذه المفارش المطرزة برسوم متباينة كانت دافئة في دفء الجو الذي تهيئه الدجاجة لصغارها تحت جناحها، ثم رائحة التفاح والكمثرى البرية!
وكنت سأستمر مقيما في فندق مانيوالا لزمن طويل آخر لولا أن حماي الحكمدار يورداكي - قبض الله روحه - أتى صاخبا وانتزعني منه، ولقد هربت من بيته ثلاث مرات قبل الخطبة لأعود إلى الفندق، حتى كان يوم قبض علي فيه هذا العجوز، الذي أراد زوجا لابنته بأي ثمن، وكان القبض بواسطة أعوانه مكبل الأيدي والأرجل! وقادوني إلى دير في الجبل حيث قضيت أربعين يوما في الصوم والتسبيح وحضور القداس، وخرجت منه بعد التكفير لكي أخطب وأتزوج، وبعد ذلك بوقت طويل بينما كنت جالسا في ليلة شتاء صافية أنا وحماي على نحو ما يحدث كثيرا بالريف وأمامنا زجاجة نبيذ، دخل حارس المزرعة قادما من المدينة حيث كان يقوم ببعض المشتريات، وأخبرنا أن حريقا فظيعا قد هدم عند الفجر قرية هاكولستي، وأن فندق مانيوالا قد احترق من أعلاه إلى أسفله، ودفن تحت كومة من الفحم المحترق جثة مدام مرجيولا المسكينة.
وقال حماي - ضاحكا: وأخيرا التهمت النيران تلك الساحرة.
ورجاني حماي أن أقص عليه مرة أخرى وبعد مرات عديدة سابقة هذه الحكاية التي سمعتوها، والحكمدار يقسم أن المرأة كانت قد وضعت في قلنسوتي عملا مسحورا، وأن الجدي والقط كانا شيئا واحدا!
فقلت: كيف ذلك؟
فأجاب: صدقني ... لقد كانت الشيطان نفسه.
وأجبت: ربما ... ولكني إذا كان الأمر كذلك، فيبدو أن الشيطان قد يريد لك الخير أحيانا! - إنه يبدأ بذلك لكي يخدعك، ثم يقودك بعد ذلك إلى الهاوية التي يلقي بك فيها. - ولكن ماذا تعرف أنت عن ذلك؟ - فأجاب العجوز: ليس هذا من شأنك، إن له قصة أخرى.
باربي ديلا فرانسيا (1852-1918)
ينحدر ديلا فرانسيا من أسرة ريفية من البرجوازية الصغيرة؛ ولذلك احتفظ دائما بالحنين إلى الحياة الريفية، يوجه به ما تثيره في نفسه ضجة العاصمة من مضاضة، وبالرغم من أنه كان محاميا وخطيبا كبيرا ونائبا في البرلمان ووزيرا، إلا أنه يدين بشهرته لعمله الأدبي، فقصصه وحكاياته التي ابتدأها في سنة 1883 بقصة «سلطانيكا» تبعث الحياة في القرية الرومانية بكل ما فيها من شعر وصراعات درامية، وأما عندما يصور أخلاق المدينة، فإنه يستهدف الكشف عما فيها من فساد ورذائل على نحو ما فعل في قصص «لانكوموروا» و«الطفيليون» و«السيد موكيا»، و«الحاج تودوز»، و«اليوم السابق على الانتخاب» ... إلخ، وأحيانا يتحول ديلا فرانسيا إلى شاعر مرهف في حكاية الذكريات على نحو ما فعل عندما قص - في رشاقة وعاطفية - ذكريات طفولته في «الجد» و«الجدة».
وإذا كان نشاطه العام والسياسي قد استغرقه، فإنه قد عاد إلى الأدب حوالي سنة 1909؛ لكي يقدم إليه «أغنية البجع» والثلاثية المسرحية «الغروب» و«العاصفة» و«إبريون»، وهي مسرحيات تاريخية استوحاها من أحداث حكم إيتيين الكبير وخلفائه، وهذه الثلاثية لا تزال تعتبر من روائع الأدب الدرامي الروماني. (1) الحاج تودوز
1
عندما تعبر حي الصليب الحجري تجد نفسك في شارع فيتان، حيث تنهض على يساره كنيسة سانت ترينيتيه، وهي كنيسة بالغة الجمال من الداخل ومن الخارج على السواء، ولا يمكن أن تتمتع بمثل هذا الجمال إلا في الكنائس القديمة، وعندما تلقي السمع إلى ما يقوله القسس، وبخاصة المتقدمون منهم في السن، وعندما ينزل بك الدوار مما يقولون من عبارات الإعجاب، وهم يزعمون أن أصابع أيديهم لا تكفي لكي يعدوا العجائب التي يزخر بها هذا المكان المقدس، وعندما يتوه عجائز «السانت ترينيتيه» في حسابهم يحتدم بهم الغضب، بل ويعضون أصابعهم من الغيظ؛ وذلك لأنهم يستخدمون طريقة خاصة في عد عجائب كنيستهم، إذ يبدءون برفع أيديهم إلى مستوى عيونهم، ثم يضعون أصابعهم المنفرجة تحت أنفك، ويقولون عند كل عبارة إعجاب: «وهذه واحدة»، ويبلون أصبعا في فمهم، وعندما تحتدم المناقشة ينسون أنها أصابعهم فيعضونها، ثم تتحول المناقشة إلى مشاحنة، والمشاحنة إلى شجار، والشجار إلى قطيعة! وكيف يستطيعون أن يتفقوا وكل منهم يذكر ويمتدح ما يروقه هو لا ما يروق الآخرين؟
وإذا لم تكن من أبناء المدينة تشممك - ككلاب الصيد - ثلاثة أو أربعة شيوخ ممن يقضون وقتهم في الاستماع إلى غناء تلاميذ معلم المدرسة الشهير نيكوتزا، فاغري الأفواه، وقلنسواتهم على قفاهم، وما أن يحسوا بأنك غريب وأنك لم تزر كنيستهم، حتى يأخذوا في فرك أيديهم، ويأخذوا في السعال لتسليك أصواتهم، وفي غير عجلة وبخطى وقورة يتقدمون إلى لقائك، ويستقبلونك جميعا بنفس الألفاظ في نغمة ممطوطة، والرأس محنية إلى الخلف: «إنك لست من هنا أيها الشاب ... أليس كذلك؟ لعلك أتيت في مهمة سارة؟ ولعلك تبقى حينا طويلا؟ لا شك أنك أتيت لبعض الأعمال؟ ولكن ما رأيك في كنيستنا؟ نعم ... قل رأيك بإخلاص فلن يقطع أحد رأسك.»
وإذا ساقك الحظ السيئ إلى الإدلاء بملاحظات عن تماثيل القديسين الهيكلية المتصلة، وبعضها يحمل الرمح والبعض الحربة، ويمتطي البعض الحصان، بينما يقف البعض الآخر على قدميه، وقد ربع ذراعيه على صدره حتى برزت الأيدي على جانبي الصدر - لرأيت العجائز وقد رفعوا ذيول قفاطينهم؛ ليدسوها تحت أحزمتهم الحمراء، ويقطعون عليك الحديث الذي ابتدأ يجري على لسانك قائلين: «نعم أيها الشاب ... يوجد في العالم مصورون كبار للأيقونات، ولقد رأينا نحن - أيضا - أمثالهم، ولكننا رأيناهم - أيضا - يجنحون نحو الوثنية، فيصورون القديسين بعيون كعيون البشر وأيد وأقدام كأيدينا وأقدامنا، بينما القديسون الحقيقيون هم هؤلاء الذين ألفنا رؤيتهم منذ نعومة أظفارنا، وأما أنتم يا شباب اليوم فإنكم تسخرون من التقاليد ومن الكتب المقدسة بل ومن القديسين أيضا.»
2
ذلك كان رأيهم في ولن تنساهم قط، وسأذكر خاصة عيني ناظر أملاك الكنيسة المجعدتين، وهو يشرح لي لوحات الحوائط، ويضغط بسبابته على صور القديسين، ويصعد التنهدات الكبيرة وكأنه يريد أن يبكي على العصور التي خلت وعلى إيمان الماضي.
كانوا أربعة: ثلاثة منهم كانوا يرتدون معاطف طويلة، وقلنسوات ذات ظلال مصقولة، ولكن كابيه ومجعدة، وأما الآخر الذي كان يسمونه الحاج المعلم، فكان يرتدي معطفا قصيرا من قماش أصفر ناصل ملوث بالزيت، ومبرقش ببقع من الشمع.
أما ناظر الأملاك فلم يتوقف عن الحديث، بينما كان الثلاثة الأخر يسخرون مني وكأنهم يقولون: ماذا تنتظر لكي تعترف بهزيمتك! إن أحدا لا يستطيع أن يقاوم ناظرنا الذي كم رأى من أصناف الناس، وكم مرت به من أحداث.
وقال هذا الأخير مهتاجا: «ماذا تريد أكثر من ذلك؟ أوما يروقك هذا القديس بطرس ومنظره الشجاع فوق الحصان؟ وكيف يقتل هذا التنين الملعون وكأنه لا يبذل مجهودا أكثر مما يبذل في سحق دودة؟ وها هو الشهيد مينا الذي يهزأ من الماكر الشرير، وانظر إلى نيقولا الأسقف القديس وهامته المرفوعة في نبل.
ألا ما أجمل وجه هذا الشيخ وأصفاه! آه يا بني! ستعيش بلا ريب زمنا آخر طويلا، ولكن لن تتاح لك كثيرا فرصة رؤية مثل هذه الروائع! وأما ما تراه اليوم، فالحرس الوطني بريش الدجاج المغموس في اللون الأحمر، وتن تن تن ... إلى اليمين ... إلى اليسار ... انتباه ... مكانك سر! وأما الأماكن المقدسة ... يا للخجل!»
وكان الناظر تلهث أنفاسه ووجهه محتقن؛ فاستسلمت إلى الصمت، والآن ها هو دهيلز الكنيسة وها هي الشياطين التي تبلغ أظافرها ثلاثة أضعاف أصابعها طولا، والرجال ذوو الشعر الأشعث، والملائكة النحاف الطوال، وفوق الجميع الرب نفسه وسط السحب محاطا بقوس قزح.
ولم يعد الناظر يسيطر على نفسه، ووضع يديه فارتدت أكمامه حتى كتفيه، واستأنف بصوت حاد: «انظر كيف تتشبث الشياطين بكفة الميزان التي وضع فيها الأتقياء ولكن عبثا؛ لأن هذه الكفة سترتفع دائما إلى أعلى، فالعمل الطيب يستطيع أن يرجح شيطانين بل أكثر، وأنت تدرك أن هؤلاء - وأشار بأصبعه إلى صف من الرجال العراة البيض كالجليد الذين اتخذوا سبيلهم نحو الجنة - إن هؤلاء كانوا الطيبين المحسنين الذين لم يطمعوا في مال غيرهم، ولم يتمردوا ولم يسرقوا، ولم يتفوهوا عبثا باسم الرب، ولم يشدوا وثاقا غليظا على كيس نقودهم لكي يحكموا تاجه كما يحدث اليوم.»
وخفض الحاج رأسه وجمع ذيل معطفه، بينما ابتسم الآخران من جديد، وكأن ابتسامتهما الماكرة تريد أن تقول هذه المرة أيضا: إن ناظرنا يجيد الحديث هيا! ... استسلم، لا تحاول أن تقاومه إذا كنت لا تريد أن تسحق ترابا.
واسترسل الناظر يقول: «وها هم الأغنياء الأشرار الذين سيشوون في نار جهنم، وأكياسهم على أكتافهم، وقد ناءوا تحت ثقل ذهبهم وفضتهم.
وسعل الحاج وشد ظلة قلنسوته فوق عينيه، وأدار ظهره إلى لوحة يوم الحساب، وهو يصيح مهددا بقبضة يده الأغنياء الأشرار السائرين في سكون إلى الجحيم: «اجمعوا كنوزا في السماء! ... اجمعوا كنوزا في السماء، فإنه لمن السهل أن يمر جبل من سم الخياط عن أن يدخل غني في ملكوت السموات.»
وظل الناظر هكذا موجها قبضته نحو الحائط، بينما عرى الآخران رأسيهما، ورسما علامة الصليب، وهما يتمتمان: «أيها الرب ! ... إن قدرتك ورحمتك لا حدود لهما.»
وانسحب المعلم الحاج متسللا في هدوء وبطء واختفى، واستأنف الناظر قائلا: «لقد انسحب الحاج ... انسحب ناجيا بنفسه، فهو لا يحب أن يسمع مثل هذا الحديث، وهو لا يضع قط درهما في صندوق الكنيسة «الناظر لديه منها الكثير في الصندوق»، وذلك بالرغم من أن لديه في بيته أكواما من القطع الذهبية ذات الرنين، وهو يدفن في كل حين تحت الأرض قدورا مليئة بالأصفر الرنان، ومع ذلك فليس له في دنياه إلا بنت أخت آواها عندما سافر للحج لكي تحرس بيته الحقير، وهو لا يساهم قط في زواج فتاة أو تطهير بئر، ولا يدفع شيئا لتجميل المذبح الذي يتلقى أمامه الزيت المقدس، آه ... يا له من شقي!»
واشتعلت المناقشة بعد ذلك فورا كأنها اللهب. - الحاج يدفع ... هذا محال؟ وتساءل الناظر: لكأنكم لم تروه قط، وهو يستلل إلى الحانات ومحال البقالة! فهو يدخل ويلتقط خلسة زيتونة يحملها إلى فمه، ويدسها بين أضراسه، ويمضغها في هدوء، ما ثمن هذا الزيتون يا سيدي العزيز فلان؟ - كذا. - هذا ثمن غال ... غال جدا في الوقت الحاضر، فالحياة صعبة، ثم ينصرف ويدخل إلى الدكان المواجه، حيث يختلس قليلا من الكفيار، ويدسه بسرعة في فمه، ثم ... هم ... هم ... ويمضغه في أناة. - كم ثمن هذه البويضات السمكية؟ - كذا ... - هذا الثمن غال ... غال جدا ... والحياة صعبة ... ثم ينصرف ويدخل عند تاجر اللحوم المملحة في الناصية. - أرني قليلا من بضاعتك يا أخي ... وأنت تعرف أنني لم أعد أضع قدمي في دكان فلان.
ويأخذ شريحة من اللحم ويزدردها. - كم الثمن؟ - بالنقود. - كم؟ - كذا. - لقد أصبحت أثمانك لا تطاق والحياة صعبة.
وينصرف ويحس بالعطش؛ فيدخل عند تاجر المشروبات الروحية. - أذقني قليلا من شرابك ... أي نوع منه لديك؟
ويشفط ما تبقى في قاع زجاجة: جلو ... جلو ... جلو! - إنه أردأ من الطافيا! ... من يستطيع أن يشرب هذا؟! ومن يدفع له ثمنا؟! ... آه ... يا له من عصير!
ثم ينصرف، وهكذا يأكل الرجل ويروي ظمأه بينما بيته يطفح ثراء .
ويضحك العجائز: هي هي ... هو هو ... هي هي ... يضحكون حتى الدموع، وينطلقون في الحديث بحماسة، وأحدهم أكثر دهاء من الآخر بغمزات عينه، وهما يلويان طرف شاربيهما الواقفين كخطافين بيضاوين يهددان أنفهما. - إن عنق حذائه يرجع عمره إلى أيام شبابه، وكعب حذائه عندما يتآكل يصلحه بنفسه بواسطة قطعة من الجلد. - في كل مرة يلقاني تتكرر نفس الحكاية: «أعطني سيجارة ... لقد نسيت صندوق سجائري في البيت.»
تصور! إنه لم ينس شيئا على الإطلاق ... إنه يشرب العرق الذي يعده بنفسه، إنه يجمعه في الصيف، ويجففه ويسحقه بين كفيه، ويحتفظ به في خزانة، ثم يشرب طوال الشتاء ويسعل حتى تكاد روحه أن تزهق.
وسأل الناظر - وهو يضحك ويشد في شاربه: هل رأيتم قط ما تحت معطف الحاج؟ طبعا لا، وسأحدثكم عنه، ففي أحد الأيام بعد انتهاء القداس جرى حديث، وكان هناك عدد من الرجال وبعض السيدات، وظل الحاج صامتا على مقعد منعزل وكان يتربص القطعة من الخبز المقدس، وأشار شماس ماكر؛ ليريه على الأرض وعند أقدامنا قطعة صغيرة من النقود، ويقول له: «يخيل إلي يا سيدي الحاج أنها قد سقطت منك، وأنت ذاهب إلى التناول»، ويقفز الحاج فورا ويقترب من القطعة، ويحدجها بنظرة حادة تثبتها في مكانها حتى لتصعب زحزحتها ولو بالقدم، وأخيرا يمد يده ولكن في لحظة انحنائه ليتناولها انفجرنا كلنا رجالا وسيدات ضاحكين ونحن نقف من خلفه، فالحاج كان قد نسي في المنزل سرواله الداخلي، وبلغ ضحكنا حدا لم يجرؤ معه أن ينحني ليلتقط قطعة النقود، فاكتفى بالنظر إليها طويلا والدموع في عينيه، ثم غادر الكنيسة وهو يتمتم: «إنها نقودي! ... إنها نقودي!»
واستنتج الشماس من بنت أخت الحاج أنه كان يأخذ منذ عشر سنوات قطعا من قاع سرواله الداخلي لكي يرقعه بها عند الركبتين، وأن المعطف الذي كان طويلا قد أخذ يقصر باستمرار؛ لأنه يجز منه قطعا يرقعه بها عند الأكمام!
3
لم ير أحد قط مدخنة الحاج يتصاعد منها الدخان، فأثناء العاصف يتجمع الجليد أكواما حتى يصل إلى ارتفاع السقف، ومياه الأنهار تتجمد كما تشاء ، وكل هذا لا يعنيه، كما لا يعنيه أن يسقط البرد كالحجارة في قلب الشتاء، أو أن تصل الحرارة في شهر يوليو إلى الحد الذي تصاب منها الكلاب بالسعار، فهو يكتفي في الشتاء بأن يرتعد من البرد، وفي الصيف بأن يختنق من الحرارة!
وفي كل عام عندما يأتي عيد الميلاد وتقترح عليه بنت أخته التي أواها أن يذبح خنزيرا كما يفعل كل المسيحيين الطيبين، يرد عليها العجوز قائلا: «إنني أشعر بكثير من الألم يا بنت أختي عندما أسمعه يطلق الصرخات، إن قلبي لينفطر له حقا ولا حيلة لي في ذلك، فأنا شديد الحساسية.» - إذن فلتشتره جاهزا.
وعندما كانت ليانا توجه إليه مثل هذا الحديث، وريقها يجري وهي تفكر في شحم الخنزير، كان العجوز يرد في هدوء: خنزير ... إن لحمه كثير ... ويمكن أن يتلف ونحن لسنا غير اثنين لنأكل منه.
وعندما يقترب عيد الفصح كانت تسأله: «هل سيكون لدينا نحن أيضا يا عمي بيض أحمر من أجل العيد؟» - يا للحماقة! ... بيض أحمر؟! أوليس من الأفضل أكله طازجا؟ ... بيض أحمر نحتفظ به عدة أيام؟! - فلنكتف بتلوين عدد قليل. - إذا لم نلون إلا عددا قليلا، فإننا سنوقد النار عبثا، ونبذر في اللون، أي سنرمي النقود! الزمان صعب يا ابنة أختي. - إذن ... فقطعة مشوية من حمل. - حمل؟! أي نوع من الحملان؟! ثم كيف؟ وللحمل رائحة النعاج ... وعيد الفصح يقع هذا العام قريبا من الصيف. - أتسمي هذا صيفا يا عم تيدوز؟ أوما ترى المطر والجليد؟ - الجليد؟! كيف؟ ... إنه ليس جليدا، فهو يذوب بسرعة وأنا أختنق من الحر ... أف ... - وأنا أموت من البرد! - تموتين من البرد؟ ... موتي ... وهكذا عرفتك دائما نهمة ... ناكرة للجميل.
وتصمت لينا وتعلج لجامها، وهي فقيرة ليس لها أحد في العالم.
تصمت لأنه عندما يغضب العجوز يصيح ويصك الباب، ثم يرتمي على السرير، ويئن حتى منتصف الليل، ناسيا حتى أن يعطيها شيئا من الخبز.
ومنذ شبابه المبكر كان الحاج طفلا عاقلا «واعيا»، ولم يكن أحد يسمع مناغاته، ولا صوت خطواته ... ولم يكن يستخدم حذاءه أو يمزق ثوبه، وعندما يمسك بشيء يحكم قبضته عليه.
وبعد ذلك عمل صبيا في ورشة للأشرطة المطرزة، وكان يتحدث برشاقة وحرارة مع رفاقه في العمل، ويقول: «منذ أن كان طولي لا يتجاوز طول حذاء وأنا أفهم كيف يسير العالم، وقد أدركت أن خرقة من القماش يعثر عليها الإنسان في صندوق زبالة تمثل عملا إنسانيا، ويمكن أن يمتلكها الإنسان إذا احتفظ بها في عناية، وعندما كانت أمي تعطيني فلسا لكي أشتري فطيرا، كنت أبحث أولا في حقيبة كتبي، فإذا وجدت فيها قطعة من الخبز اكتفيت بها، وهلا يشبع الخبز الجوع، وإذن فلماذا الفطيرة؟ وكنت أدخر قطعة النقود ... قطعة من هنا، وقطعة من هناك، وها أنا أجمع بسرعة عددا منها ... يمكنكم أن تضحكوا، ومع ذلك فمن الممكن أن تجروا بين أيديكم قطعا من النقود، وسترون كيف ترطبكم في الحر وتدفئكم في البرد، ويكفي أن تفكروا فيما يمكن أن تستخدم فيه النقود؛ لكي تستشعروا نفس المتعة التي يمكن أن تستشعروها عندما تشترون بها فعلا شيئا ما، وعندما يستشعر الإنسان المتعة، فما الداعي لتملك الشيء المشترى؟
يمكنكم أن تضحكوا كما تشاءون، وأي شيء أكثر إشراقا من حفنة من القطع الذهبية المبسوطة فوق مائدة؟ نعم يمكنكم أن تضحكوا ... يمكنكم أن تضحكوا حتى القهقهة، فما أنتم إلا مبذرين لن تتذوقوا في حياتكم كلها المتعة الحقيقية.
وذات يوم لمحه صبي آخر ويداه ترتعشان، وعيناه تبرقان كلما تحدث عن النقود، فقال له - ممازحا: «إنك يا رفيقي تجمع وتدخر، ثم يأتي يوم تطير فيه مدخراتك، وعندئذ تستطيع أن تجري وراءها.»
وعندما سمع تيودوز هذه العبارات الآثمة، نهض واقفا على طرفي قدميه، وجمع قبضة يده وحملها إلى فمه، وصاح مغلق العينين: «عندما تستطيع أن تدس الأرض كلها في جيوبك ... عندئذ فقط ستستطيع أن تسرق نقودي! تأكد من ذلك! نعم تأكد من ذلك! ثم إنني ليس لدي فلس واحد، وفي وقتنا الحاضر لا يستطيع أحد أن يدخر شيئا على الإطلاق.»
كان تيودوز يعمل كثيرا ويجمع النقود، ولا يشرب ولا ينظر إلى بنات الحي، ولا يأكل إلا الخبز مبللا بالنبيذ الرخيص، وبعد عشر سنوات كان قد استثمر جزءا من ماله مع صاحب الورشة، وبعد ذلك بخمس سنوات أخرى أصبح شريكا معه مناصفة.
وفي أثناء السنوات الأولى من تلك الشركة، كان قد نحف كثيرا وشحب لونه، وفي سن الثلاثين كان يبدو شيخا والخوف والهموم أصابته بالمرض، ولكنه لم يقرر التزام الفراش، وكان شريكه ومعلمه السابق يدعوه إلى مائدته لكي يمكنه من استرداد قواه، وعندما كان يأكل لم يكن يترك إلا العظام بعد أن ينظفها تماما.
وبهذا النظام في الأكل استرد صحته بسرعة، وذات يوم وبينما كانوا يتناولون الإفطار على العشب؛ لكي يحتفلوا بعيد أول مايو، ويحتسون فيه العرق، سأله معلمه عرضا: «قل لي يا تيودوز ... أوما تريد أن أبحث عن فتاة لطيفة مناسبة ومعها بائنة محترمة؟ وذلك لأن الإنسان يعرف لماذا يعيش عندما يكون له طفل أو طفلان.» - مستحيل يا معلمي، مستحيل امرأة وأطفال يتطلبون غذاء وكساء وتعليما! ... ليست لدي القدرة على ذلك، والقليل الذي أمتلكه مستثمر في العمل، والمال الذي يستثمر في التجارة إنما يملكه جميع أولئك الذين يريدون أن يخاتلوك! - تيودوز يا بني! لا تقل هذا ... إنه خطيئة ... واحذر أن تجلب على نفسك الفأل السيئ!
ولف معطفه حول صدره، وتمتم بنغمة الغارق في التفكير: الفأل السيئ! ... مستحيل يا معلمي! الأطفال يتطلبون خبزا وملابس وتعليما، والمرأة ثيابا ونزهات ومعطفا من الفرو، وجونلات محبوكة ... مستحيل يا معلمي! ... صدقني ... مستحيل!
4
أي سعادة استشعرها الحاج يوم أن بقي السيد الوحيد في المشغل! ولقد أحس أول الأمر بما يشبه الحمى، فوجنتاه مشتعلتان وكذلك رأسه، وهو يشعر بنمنمة في عينيه، وفي كل لحظة كان يخرج إلى باب المشغل لكي يتأمله من الخارج ويتفحصه من جميع جوانبه، ويقيس الحجرات، ويتأمل الجدران في عناية، وأحيانا كان يقف على أطراف قدميه لكي يلقي نظرة فوق السقف، وكان المشغل بالنسبة إليه كطفل جميل وردي الخدين، وكأب سعيد لديه ما يغدق عليه حنانه أو كامرأة فاتنة، وهو المجنون الذي يرتمي تحت قدميها مغلق العينين خافق القلب.
لقد تحقق حلمه، الحلم الوحيد الذي راوده طوال حياته، فهو السيد الوحيد للدكان، وجميع بكرات الخيط ولفائفه وربطاته ملك له، وكذلك الأنوال والفكاكات، وأكوام الصوف، وهو وحده القائم على الخزينة، كما أنه هو وحده الذي يساوم ويحدد السعر، ويده هو وحده هي التي تلمس قطع النقود.
وفي أول مساء، بينما كان يغلق الأبواب والمتاريس، كانت عيناه تسبحان في كل ناحية، ولا يكف عن زجر صبيانه. - برفق! برفق انتبه! إن الأبواب ليست من حديد.
لا تصك المصاريع إنها ليست من حديد.
حاسب على الأقفال أيها الأخرق! إنها ... ثم حتى لو كانت ... هناك يايات ومفاتيح وهي تتكلف المال.
وعاد أدراجه عشر مرات لكي يمعن في فحص حانوته، وأخيرا ألقى عليه نظرة طويلة وابتسم له، وامتلأت عيناه بالدموع، ثم قرر أن ينصرف وهو يتمتم: «حانوتي المسكين! ... إنه حزين هو أيضا بستائره المسدلة وبابه المغلق، وكأنه رجل أغلق عينيه، ولكن عند الفجر فتحت عيناه ونوافذه أيضا، ولاح الحانوت وكأنه يتكلم؛ لكي يجذب الزبائن ويرجو لهم صباحا طيبا، ويدعوهم لكي يشتروا منه شيئا ... يا له من فاتن!»
وعاد الرجل إلى بيته مطأطئ الرأس أشعث الشوارب، وهو يجفف العرق الذي يغطي جبهته، ويسرع في مشيته ثم يبطئ ويتلمظ ويسعل، وأخذ يتحدث وحده، فهو يرى نفسه يجابه الجميع - الصبيان والعمال والحرفيين الصغار وتجار الجملة - ويبتسم للبعض ويشد على يده، بينما يتشاجر مع آخرين، وفي النهاية يتفق مع الجميع، فهو يقنعهم ويغريهم ويخدعهم، وها هو يصل إلى بيته منهكا.
وعند مفترق طرق؛ حيث يتفرع طريق يتجه نحو جاليا فرجيلوي، يقبع منزل الحاج في أقصى حديقة ملتفة، ويفتح باب الردهة ثم يغلقه، ويدير في سرعة المفتاح مرتين، ثم يدخل حجرة صغيرة مظلمة، ويوقد شمعة ويجلس على الفراش ورأسه بين يديه ومرفقاه على ركبتيه.
الجدران مشققة وصفراء، وكتل خشب السقف سوداء ومغطاة بطبقة من التراب، وفوق الأيقونات صورة للقديسين، تكاد تكون ممحوة، والسرير مغطى بنوع من السجاد الطويل الوبر، والمخطط بخطوط بيضاء وحمراء ، وإلى الحائط، أسندت وسادتان مليئتان بالقش، وعند مكان الرأس وسادة ثالثة مغطاة بكيس قذر، والأرض مرصوفة بحجارة عارية وباردة، والحجرة حزينة مظلمة وكأنها قبر، ومن الخارج لا يجرؤ الإنسان أن يلقي نظرة من خلال الزجاج الذي لا يتجاوز ربع صفحة من الورق خوفا من أن يرى في الداخل جثثا ممدة على ظهرها.
وقفز الحاج وأطفأ الشمعة، قائلا: «لا داعي للتبذير، ولست في حاجة إلى الضوء لكي أفكر! آه يا إلهي! يا إلهي! كم أنت طيب وحكيم، لو أن الشمس لم تكن موجودة، فكم من الشموع كان يلزمني لكي أضيء الحانوت بالنهار! يا لها من تكلفة!» ولم يكد يقر في الفراش حتى أخذت أنواع من الأفكار تغزوه لذيذة ولطيفة أولا ثم قلقة وداكنة.
أي سعادة في أن أكون وحدي يا سيد الدكان! لقد كان المعلم رجلا طيبا، ولكن مع ذلك مفتاحان للخزينة الواحدة، ويدان تتعاملان مع النقود، عشرون إصبعا تتجول فوق قطع النقود، أربعة جيوش وحسابان مختلفان، من يدرينا! قد يقع خطأ بسرعة، وقطع النقود بالغة الصغر، من الممكن أن تنزلق من بين الأصابع، وتسقط في الجيب ... في الكيس ... في حشو الملابس ... لقد كان معلمه رجلا طيبا شريفا، ولكنه كثيرا ما كان يتسامح مع العمال والموظفين والصبيان عندما يكسرون، أو يتلفون شيئا في الحانوت، وإذا جاء شحاذ أو اثنان أو عشرون، تكررت نفس الحكاية: «يجب إعطاؤهم شيئا ففي هذا بركة لأطفالنا، حسن جدا، ولكن الحاج ليس له أطفال، ونصف المال المبذول كان ثمرة عمله، والنقود ملكه ومتعته وسعادته، ثم إن المعلم كان يضطر إلى شراء ملابس وشمع لعيد الفصح، كما أنه كان مضطرا أن يدفع للإحسان والأعياد الدينية عندما كان المعلم يسحبه مرغما إلى الكنيسة ثم الصندوق!
أي فزع كان يوحى به للحاج! وكان الحساب واضحا، فوجبات الطعام يقدمها المعلم، ومكانته عند الناس وسمعته لا تعوض إسرافه في الكرم، والملابس الضرورية لتلبية دعوات الزيارة ... ونفقات الإحسان الباهظة، وفوق كل شيء عدم خبرته في تجارة الأشرطة المطرزة.
ويتململ الحاج في فراشه، فسعادته أكبر من أن يتحملها، وهو لا يستطيع النوم، فيضحك ويتنهد ويظل مستيقظا، ومع ذلك يحلم، ويا له من حلم رائع! ... آه! يا ليته يدوم دائما! وفي هذا الجو الخانق وهذه الظلمة، كم يكون رائعا أن ينتصب ليرى إلى جواره كومة من الذهب آخذة في الازدياد، وكأنها نهر يفيض على شاطئيه، ويرتفع من القدمين حتى قمة الرأس ... آه! كم سيكون الحاج إذن مثلوج الصدر؛ لأنه سيكون عندئذ قد رأى وجه الرب وخلوده قبل أن يسلم الروح، وإذا جاءه الموت ممسكا منجلا من الذهب فإنه سيمسك شباته بكلتا يديه!
قطرات المطر تدق الزجاج والحاج ينتفض وليس هناك أحد، ويجفف العرق الذي يتفصد من جبينه، وتلهث أنفاسه وكأنه يصعد تلا حاملا ثقلا على كتفيه وقلبه يدق، فحلم الموت السعيد الذي رآه قد تحول فجأة إلى حياة مليئة بالفزع، وتتساقط قطرات ثقيلة مجلجلة على الزجاج ... وفكرة أنه من الممكن أن يسطو عليه أحد تجعله يقفز من الفراش ويوقد الشمع، وهو شاحب كقطعة من القماش الأبيض، وشعره الطويل المشعث يتدلى في خصلات متناثرة فوق قفاه وفوق جبهته، ويلقي نظرة إلى الأيقونات، ويرسم علامة الصليب ويتذكر الرب، نعم يتذكر الرب، ويقول لنفسه: إنه إنما يشقى على الأرض بسبب الكسالى واللصوص، وإذا سرقوه فإنهم لن يسرقوا الحقيبة ذات المائة ألف دينار المدسوسة تحت الفراش فحسب، بل سيسرقون روحه، ويسرقونها عشرة آلاف مرة؛ لأنها منصهرة في كل من القطع الذهبية، وهو لم يعرف قط معنى الأرقام عشرة ومائة وألف، فليست إلا ألفاظا وأرقاما مرسومة على الورق أو محفورة، وفي العشرة آلاف قطعة ذهبية كان قد وضع قلبه عشر مرات، فالمائة قطعة تحتوي على قلبه مائة مرة، والألف ألف مرة، والمائة ألف لا تمثل بالنسبة له كومة من الذهب، بل مائة ألف من أطفاله، وكل منهم يجسد ملامحه وجزءا من ذاته، وهذا هو السبب في توجه أفكاره في تلك اللحظة نحو الرب. «سأشعل المسرجة بالقرب من الأيقونات، وإن يكن الرب الرحيم يرى بالتأكيد بوضوح حتى في الظلام»، قال ذلك الحاج وهو ينهض لكي يتجه بخطى تهزه نحو الصور المقدسة.
وأخذ في عناية الزجاجة التي تستخدم كمسرجة، ووضعها على الفراش، وضغط بأصابعه لكي يقيم الذبالة، وصب في الوعاء القذر محتوى الزياتة، وقاس بنظره سمك طبقة الزيت قائلا: «إصبع من الزيت! إصبع! هذا كثير! ... هذا تبذير ... النهار سيبزغ قريبا ... وجلالة الرب لن يستطيع أن يرى هذه الذبالة الصفراء، عندما تغمر الشمس العالم بالضوء.
ووضع الزجاجة في طاسة من الفخار وسكب فيها ماء، فتسرب الزيت إلى قاع الطاسة، ولم يبق منه في الزجاجة إلا طبقة في سمك شفرة السكين.
واندس الحاج تحت الغطاء وأخذت ذبالة المسرجة تقرقع وتئز، فاضطرب الحاج وأخذ يطن بين شاربيه قائلا: «لماذا تقرقع؟» إنه سيئ، ومع ذلك فقد وضعت ما يكفي من الزيت، لماذا تئز هذه الذبالة؟ ... المهم ألا تشتعل النار في الدكان.
5
هكذا وصل الحاج إلى الشيخوخة، وكانت حياته سلسلة متصلة من العذاب، فهو لم يكن يأكل أو يلبس تقريبا، وكان يعيش بغير نار وبغير وجبات ساخنة وبغير حب لأحد، يرتعد عندما يمس شبح ساقيه ويرتج بابه في النهار، ويقوم بكافة الأعمال، ويلوح بالليل في حجرته وفي ضوء الشمعة كشبح عظمي.
وفي أيام شيخوخته لاحظ أن تجارته في الأشرطة تتدهور؛ فصفى الدكان وباع كل شيء. «لقد كسبت مع ذلك لقمة العيش بالعمل المضني من سن الثامنة إلى سن الستين.»
ولكن هذا الشيخ الذي لم يكن له من أصدقاء وأطفال وزوجة غير النقود المدخرة والمخبأة بعناية، كانت تطارده فكرة وحيدة تسيطر على كافة أفكاره الأخرى، وتنزل الاضطراب بسعادته. «إن الرب يرى كل شيء، ويعطي كل إنسان جزاءه ... نعم! يرى كل شيء ... ولكن ماذا يرى في الحقيقة؟ إنني لم أسرق أحدا، ولم آخذ مال الآخرين، إنه يرى كل شيء، ويعطي كل إنسان وفق ما يستحق.»
وتذكر الحاج الأيقونات والعبارات التي سمعها في الكنيسة، فلماذا يعتبر الغني آثما ما دام لم يسرق ولم يضرب أحدا؟ وإذا أعطى الأغنياء كل يوم للفقراء، فإن الفقراء سيغتنون والأغنياء سيفتقرون، وماذا يمكن أن يكسب الرب من ذلك ؟ وجسم الحاج لم يطلب قط المرأة، وشفتاه لم تلامسا قط طفلا، ومعدته لم تشته أطباقا شهية، ومع ذلك فإنه مقضي عليه ألا يرى في الأبدية وجه الرب المشرق.»
وذات يوم لم يعد الشيخ يستطيع مقاومة أفكاره، فاتخذ قرارا خطيرا «نعم ... نعم، سأستجلب محبة الرب ... سأذهب إلى الحج في الأماكن المقدسة! أية تضحية بعد هذه؟ ... الأماكن المقدسة؟ ... حيث توجد غابة الصليب المقدس ... ويستطيع الإنسان أن «يسرح» بمن لم يحجوا باسم هذه الغابة المقدسة ... ولا بد أن جميع الغابات هناك مقدسة.»
وسافر العجوز للحج وعاد بلقب حاج، ولكن أكثر قذارة منه عندما سافر، وفي كل مرة طلب إليه أن يصف الأماكن التي زارها، كان يرد بالحديث عن المعجزات التي تجري في غابة الصليب المقدس، فقد رأى بعينه مرضى بالجذام تشفيهم الغابة المقدسة، فيكفي أن تمس جروحهم قطعة صغيرة، بل صغيرة جدا من خشبها لكي تندمل الجراح، ويعود الجلد أملسا في المواضع التي لم تكن من قبل غير هبر دامية، وراهب معتزل عاش عشر سنوات دون أن يأكل شيئا مكتفيا بأن يشم رائحة الخشب المقدس، كما أن مجنونا استرد عقله عندما مست جبهته قطعة من الخشب المقدس.
وبينما كان الحاج يقص تلك المعجزات، ويرسم الصليب باستمرار، كان يبيع قطعا من الخشب المقدس للعجائز والأرامل.
ومع أنه قد سعد سعادة غامرة بعودته إلى كنف الرب، وغبطته باسترداده المال الذي أنفقه في الحج، بل وتحقيق بعض الأرباح، فإنه مع ذلك كان يزمجر ويدور ببصره في كل ناحية قائلا: «يا لها من تجارة رابحة وعمل مجز وثروة يمكن جمعها! فخشب غابة الصليب يباع خيرا من الأشرطة! ومنذ أربعين عاما لو أن دكانا اتخذ بيعها تجارة؛ لجرى الذهب إلى خزينته كالطوفان، وأما الآن فالعالم يسوء يوما بعد يوم ... والإيمان يندر ... آه يا إلهي! يا إلهي!»
ورسم الحاج علامة الصليب مؤمنا بأن العالم يسير نحو الضياع!
ملعونة أيتها الشيخوخة! كم حملك ثقيل، فالسعال يأخذه مرات أكثر ويمكث معه وقتا أطول، ودمه لم يعد يحتمل البرد ، وذاكرته أخذت تهبط ، وفي مرات كثيرة كان يتشاجر مع نفسه: هناك ثمانية آلاف.
لا بل عشرة آلاف!
كيف ... عشرة؟
إذن، فلا بد أنه يوجد ثمانية في الناحية الأخرى.
كيف؟ مستحيل! لقد أجدت العد ليلة الأمس.
وأخذ سمعه يضعف أيضا، وإذا رفع صوته أخذه الخوف، وأخذ ينظر فورا في كل ناحية قائلا: آه! أيها الحاج المغفل ... الصغير العقل ... إنك ترفع عقيرتك كأنك تمتلك ثروة طائلة، ولكن لا ... إنك لا تملك شيئا! إنك في فقر أيوب! وبينه وبين نفسه كان يردد: «إن لدي بعض المدخرات وهذا حق، ولكن من الأفضل أن أوهم بأنني لا أمتلك فلسا واحدا.»
6
وحتى سن الثمانين لم يحدث للحاج شيء خطير، بل لم يصبه حتى ألم في أسنانه، فإذا كان قد فقدها في الشيخوخة، فإن فقده لها قد تم بغير ألم إذ سقط بعضها مع الخبز المقدد، والبعض الآخر مع لباب الخبز.
ولكن شتاء هذه السنة كان قاسيا، فالأشجار تقرقع في الحديقة، وفوق زجاج الحاج ارتسم الجليد كأوراق الشجر العريضة الكثيفة، وعبثا كانت بنت أخته تنظف بعض أجزاء هذا الزجاج، وعبثا كانت تكور فمها وتنفخ بنشاط، فبقع الجليد كانت لا تلبث أن تتغطى بطبقة من الثلج.
ويصيح الحاج - وهو متدثر في ركن من الفراش: «انفخي بقوة أكثر»، وترد البنت - وهي ترتعش رغم البطانية التي تلفها حول كتفيها: ها أنا أنفخ يا عمي الحاج ... أنفخ ... ولكن البرد يخترقني وأنفاسي تتقطع، أعطني خشبا إذا كنت لا تريد أن نتجمد قبل الغد.
ماذا؟ خشب؟ الآن؟ ... في هذا الوقت عندما يصل البرد إلى هذا الحد يتكلف موقد من الخشب على الأقل قطعة من الذهب ... أتفهمين؟ قطعة من الذهب!
وتنسحب ليانا لتأكل في الغرفة المجاورة، ويبقى الحاج وحده، وكل ما حوله حزين مظلم وبارد، وريح ثلجيته تتدافع في المدخنة، ولكنها لا تجد فيها حجرا ولا رمادا.
ويرتعش الحاج ويمضغ قطعة الخبز، وتسري في ظهره رعشات من الثلج، ولا يعود يشعر بما بين القدمين والركبتين.
وترتفع أكوام الجليد إلى مستوى النوافذ، وفي القرية كلها لا يسمع صوت ثان ولا نباح كلب.
وينام الحاج على مرارة، وهو يقول لنفسه: إن الشتاء لو استمر بهذه القسوة لن يستطيع أن يستغني عن الخشب، ولما كان الخشب غاليا، فإنه سيكون بلا شك طريح الفراش عند نهاية الشتاء، ولكنه مع ذلك نام في النهاية، وإن ظل يتفزز في فراشه، ويتقلب يمنة ويسرة، ويحلم طول الليل بأنه يتدفأ على ذهب نار كبيرة.
وفي الصباح تجده بنت أخته نصف متجمد، وبالكاد وجد القوة اللازمة ليقول: «ليانا ليانا ... أوقدي النار بسرعة، فسأموت من البرد»، ويمد لها يده بقطعة صغيرة من الذهب، وهو مغلق العينين، والخجل يرادوه من أن القطعة الذهبية ستحس بالسهولة التي يلقيها بها إلى الأيدي التي لا ترحم، ثم يطلق زفرة ينشق لها القلب!
وها هي النار تئز في المدفئة، وترسل حرارة حية وتلقي بظلالها على الحائط المواجه، والسقف يقرقع والجدران يغطيها البخار، وليانا تكشف سيقانها حتى الركبتين التماسا للدفء أمام النار، ويخرج العجوز من تحت الغطاء ويتدفأ، ولكنه مع ذلك يرتعش، وساقاه ترتجفان فهو منهك، ولأول مرة في حياته يموت لهفة لكوب من الماء.
لماذا أتيت بكل هذا الخشب؟ ... إنه أكثر من اللازم! أكثر مما ينبغي! ستضرمين النار في المنزل! آه ... الخبز لم يعد يكفيني، ولا أستطيع الوقوف على قدمي.
وأجابت ليانا: «قد تكون مريضا يا عمي ... هل تود أن أستدعي أحدا؟ ... هناك طبيب يسكن إلى جوار الصيدلي.»
وصاح الحاج: «لا يمكن أن يجرؤ أحد على تخطي عتبة داري ... وثمرة عملي طوال حياتي كلها لن تكفي لدفع ثمن ما يكتبه الطبيب على جذاذة ورق! إنني في صحة جيدة وقوي، ولم أشعر قط بأنني في مثل هذه الصحة!»
ولكن عندما حاول أن يخطو بضع خطوات انهار على الفراش في نفس اللحظة التي قال فيها: «بالتأكيد! لم أشعر قط بأنني في مثل هذه الصحة!»
وبعد ثلاث ساعات من الحمى غادر الحاج الفراش، وقد ظهر عليه الهزال والشحوب وغارت عيناه في محجريهما وتشعث شعره، وسألته ليانا في رفق عما إذا كان في حاجة إلى شيء .
فأجاب في حزن: «أريد ... أريد حساء دجاج ... وعليه قليل من الليمون ... لكن لا ... الليمون غال ... وعليه بضع نقط من حامض الليمون! واحذري أن تكون الدجاجة كبيرة، فأنا أريدها صغيرة ولكن طرية.»
وفي المساء فرشت ليانا فوطة كبيرة فوق الفراش، ووضعت فوقها سلطانية مليئة بالحساء الساخن، ومن هذا الحساء الدسم برز جناح دجاجة أصفر مذهبا، وعلى حافة السلطانية وضع ملعقة من القصدير، وإلى جوارها وضع زجاجة بها قدر إصبعين من النبيذ مغلقة بلفافة من الورق، وألقى الحاج نحو الفراش نظرة نهمة وجفف جبهته، وقال في ندم عميق: «يا لها من نزوة طفل!»
لقد خيل إليه أنه قد صهر في يده سبيكة من الذهب، وسبكها في السلطانية لكي يشفطها بعد ذلك بالملعقة! واقترب من الفراش وأخذ يأكل، وكان يقرقع بلسانه وصدغاه يغوران، وحاجباه يتقطبان إلى حد يكاد يحجب عينيه، وفجأة طرح الملعقة والتفت نحو ليانا صائحا: «أعطني ملعقة من الخشب ... فلهذه طعم غريب.»
وخرجت ليانا لتحضر الملعقة المطلوبة والحساء يسيل لعابها، فتكتفي بازدراد ريقها.
وأخذ الحاج يأكل في صخب، ولعدة مرات صهل وبصق، ثم قال: «احملي هذا الحساء لم أعد أريده ... فأنا أحس له بطعم الصدأ في أعماق حلقي ... إنه حامض ... ملحي ... إن طعمه رديء بشكل مخيف! احمليه ... أسرعي ... أوما ترين أن ما آكله هو حياتي نفسها؟»
وتناولت ليانا السلطانية وحملتها.
وترك الحاج رأسه تسقط على الوسادة المحشوة بالقش، ولاح كأن جسمه كله كريشة من لهب! ... يا لها من حروق! لقد أخذ يشعر كأن هوة سحيقة قد انفتحت تحته وأنه سيخر فيها، وأن سقوطه في جوفها يزداد عمقا باستمرار، وفي حلقه أخذ يحس طعم الذهب ودم الذهب، وأنه كالأب البائس الذي يأكل لحم أطفاله.
وعندما عادت ليانا إلى الحجرة نهض على مرفقيه، وقال - بصوت هائج: «أطفئي النار، وردي الجمر والرماد إلى التاجر! ارمي الحساء، ولكن ردي الريش وما تبقى من قطع اللحم إلى مكانها، فأنا أريد أن أسترد على الأقل نصف نقودي إن لم يكن كلها.»
وأخذ يجهش بالبكاء قائلا لنفسه: «أيها القاتل! ... أيها المجنون! أيها الوغد! أوما تشبع أبدا؟!» وتحجرت ليانا في موضعها دون أن ترفع عنه بصرها، وفي هذه اللحظة سمعت خلف الباب مواء قطتها، شريكتها في البؤس التي تقتسم معها الجوع والبرد، والكائن الوحيد الذي استطاعت أن تدلله وأن يعزيها.
وواربت ليانا الباب، فألقى الحاج نحوها نظرة مذعورة، وعندما رأى الحيوان ينزلق من فتحة الباب، صاح: «اقطعوا ذنبها! ... اقطعوا ذنبها! هذا الذنب الطويل، فهو الذي يحتاج إلى وقت طويل لكي يدخل الغرفة، فيدخل معه البرد، وفي وجودها نفقة أكثر! أين البلطة؟ أريد أن أقطعه لها بنفسي»! ونهض، فارتجفت ساقاه وانثنت ركبتاه، وأخذت جميع مفاصله تقرقع، وانثنى على نفسه، وأخذ يرمش بعينيه الجاحظتين ويفغر فاه واسعا، وسقط على ظهره، وذعرت ليانا وعدت إلى خارج المنزل وهي ترسم علامة الصليب.
وعندما هبط الليل أخذت ليانا ترقب خلف الباب، وهي ترتعد وقلبها يدق في قوة، وأرادت أن تدخل المنزل، ولكن الخوف من أن تجده ميتا أو مجنونا شلها عن الحركة، والريح تصفر في المزاريق، والجليد قد سد باب الدخول، والمدخل بارد مظلم.
وحول منتصف الليل أحست كأن بحجرة الحاج شخصا يسحب نفسه على أربع، فمدت أذنها سمعت في وضوح صوت قطع من النقود، فتمتمت قائلة: «إنه هو ... إنه لم يمت! فالنقود تمد في حياته ... مسكين يا عمي الحاج!»
وبعد أن هدأت قليلا أخذت تتحسس في الظلام حتى وجدت مقبض الباب، وفتحت دون أن تحدث صوتا وذهبت لتنام، وهي ترتفي في رف لعمها، قائلة: «آه المسكين! كم هو غني!»
وفي صباح اليوم التالي عندما دخلت حجرة الحاج وجدته في قميص النوم ... قميص بال ممزق، ووجهه نحو الأرض، وقد تمدد مغلق العينين فوق كومة من الذهب وهو مغطى بالذهب، واتخذ من كومة أخرى من القطع الذهبية وسادة.
وعندما رأته بنت أخته أخذت تبكي.
ولكن فيما يشبه المعجزة اهتز الحاج مرتجفا، فصلصلت قطع الذهب على طول جسمه من قدميه إلى جبهته، ورفع رأسه وفتح عينيه وأدار نحو ليانا نظرة خايبة، ثم تمتم بعبارات غير مفهومة ، وعض الهواء بأضراسه العارية، واستطاع أن يقول: لا تنظري ... اقفلي عينيك ... فالعينان أيضا تسرقان ... اقفلي عينيك.»
فتح فمه فانهار لسانه في حلقه، ومالت رأسه إلى ناحية وتصلبت ساقاه، وتشنجت يداه بين قطع الذهب، ونام إلى الأبد مفتوح العينين، ومحدقا في ليانا، وعندما غسلوه رأوا على ركبتيه وصدره وجبهته خاتم القطع الذهبية! ولكنه كان من الشاق إسدال جفنيه دون خلعهما، فإغلاق عينيه المذعورتين كان أمرا مستحيلا.
وأقامت له ليانا جنازة ضخمة ضمت عشرة قسيسين ومطرانا وعربة، وقربانا وراية كنيسة الترينيتين وزهورا وشموعا وأقمشة حداد، حتى أخذ من شاهدوا تلك الجنازة يقولون: «يا للجمال! يستطيع أن يكون راضيا.»
ومشت ليانا على رأس الموكب ومن خلفها عدد من الشيوخ، ومن بينهم ناظر أملاك الكنيسة الذي سأله أحد الشيوخ قائلا: هل ترك ثروة كبيرة؟ فأجابه الناظر: مليونا. - كم؟ ... مليونا؟! - مليون! أي عشرة من مئات الآلاف! - مسكين أيها الحاج! - لو أنه رأى كل ما أنفق على جنازته!
فقال أحد الشيوخ: «لمات.»
واخترقت العربة وهي تهز جلاجلها الفضية فناء الكنيسة، بينما كانت أصوات خافتة تترنم بصلاة الموتى: «فلتخلد ذكراه ... فلتخلد ذكراه.»
تيودور أرغيزي (1880)
يعتبر تيودور أرغيزي أكبر شاعر روماني بعد إيمينسكو، وقد دفعه القلق الأصيل في طبيعته وسط ظروف المجتمع الروماني في سنة 1900 إلى أن يحيا حياة متنوعة متناقضة خصبة التجارب، فعمل تباعا راهبا وصحفيا وحرفيا في رومانيا، أو في سويسرا حيث أقام زمنا طويلا.
وقد كرس أرغيزي جهده - في حماسة حارة لا تخبو - للشعر، كلما فرغ من تحرير تحقيقاته الصحفية الهادرة ضد مظالم وفساد الحكم البرجوازي، ومجموعة أشعاره الأولى «أقوال متجانسة» سنة 1927، تبعتها مجموعات أخرى مثل: «أزهار العفونة»، و«أشعار المساء»، و«سبع أغان»، و«الفم المغلق»، و«الأعشاب السيئة» ... إلخ.
وأخيرا الحلقتان الكبيرتان: «أغنية الإنسان» التي يحدد فيها أرغيزي وضعه التقدمي في معركة ازدهار المجتمع الاشتراكي، و«حلقة 1907» التي يرسم فيها صورة درامية لثورات الفلاحين سنة 1907، ويهاجم في عنف القمع الدموي الذي قوبلت به من الطبقات المسيطرة، ولنذكر من بين مؤلفاته النثرية: «أيقونات من الخشب»، و«الباب الأسود»، و«لوحات من مقاطعة كوتي»، و«كتاب اللعب» الذي يضم: «صور جديدة» و«ميداليات»، ثم روايات «عيون العذراء»، و«جبانة البشرى»، و«لينا.»
وفي الشعر والنثر على السواء قلب أرغيزي التعبير الأدبي رأسا على عقب بأنه أضفى عليه المعاني الجديدة النابعة من عبقريته الغنائية والساخرة، تشبيهاته الخام غير المسبوقة، ووضع كل ذلك في خدمة نزعة إنسانية مكافحة محبة للبشر والطبيعة والزهور والحيوانات.
وإلى جوار ميخائيل سادوفيانو - الذي توفي أخيرا - لا يزال الأكاديمي تيودور أرغيزي الدائم النشاط، الكاتب الكلاسيكي الكبير في الأدب الروماني رغم تجاوزه الثمانين من عمره. (1) ميلا
كنت أدير مكتبة في مصيف تائه وسط البحيرات، وهناك كنت أقضي إجازات الدراسة حيث أعيد بيع الكتب التي أكون قد اشتريتها أثناء العام مضافا إليها عدد آخر أحصل عليه بالتخفيض، وكان كل ما أملك من الكتب لا يعدو ملء أربعة صناديق، وكانت مرصوصة على رفين يضفي عليهما شيئا من الحيوية تمثال من الخزف، وفي هذا العام كنت قد اشتريت أيضا نسرا رماديا ووعلا.
كانت ميلا ترتدي ثوبا طويلا من قطعة واحدة يلفها كأنه القفاز، وكان ثوبا أسود محلى بأزرار من الصدف وينزل من عنقها إلى حذائها الذي يمسه، وكانت تأتي منذ أربع سنوات كل أسبوع لتختار كتابا تقرأه، ثم ترده، وقد اعتادت كتبي لمس أصابعها الشقراء الحانية وراحة يدها الوردية، وذات أصيل تأخرت وخبا الضوء وانتشر الظلام.
وتهافتت الأحاديث متباطئة كأنها العربات المحملة بأعشاب من الظلال تجرها ثيران هادئة، وأضاء مصباح في أحد الأدوار من الناحية الأخرى للطريق ثم مصباح آخر، وأخذت واجهات المحلات تتلألأ، وأمواج من خيوط الذهب ترتسم على مسافة أبعد في واجهات أخرى.
وخرجت من صمت لأستيقظ في قلب صمت آخر.
وفي مواجهة المكتبة، رفع جزار سكينا طويلة فوق فخذة خنزير مجففة لكي يبدأ في تقطيعها بمجرد أن تصدر له التعليمات من سيدة ذات عوينات بمقبض، بينما شاربه الأحمر يصفر في أذنيه.
ومثله كنت أتساءل: كيف أقطع الصمت المظلم في مكتبي؟ فقطعه يستثير الفكر، والفكر يجلب الصمت، صمتا عميقا كالنوم، وتحت مصباح مجاور عكس فجأة شعاعه في زرقة عينيها، لمحت دموع ميلا التي كانت تتساقط منذ وقت طويل دون أن أفطن إليها، وقد دفنت وجهها بين يديها، وكأنها تمثال نافورة في بستان، وهي تبكي في هدوء.
كانت دموعها بالنسبة إلي كأنين الزمن عندما يقترب الظلام، وكتنهدات الألفاظ المرصعة في أشعة تمزقها الأظافر، وكأنها العصافير الجريحة التي تخلت عنها روح معذبة.
لقد كانت الزهور والحقول والغابات هي التي تبكي، بل وربما أيضا مطر الخريف الرمادي، وكأن جوقة من القيثارات ترتعد في الفضاء، وزهرات أقحوان الغابات اللدنة تهتز فوق سيقانها الرهيفة، وكأنها لباب الذهب، وأشجار وهمية تلقي أوراقا وهمية على مخمل الطريق الذي تجوبه رعشة صدى يتيم.
وخطر لي أن أدير محول الكهرباء الموجود إلى جانبي، ولكنني شعرت بيدي يغزوها خدر عذب، وأحسست كأنني قد انغمست في ماء عميق فاتر هادئ لم تجرؤ ذراعاي أن تبرزا منه، وكثف الظل وكأن كتبي وجميع أشيائي قد نشر فوقها بساط من الزغب والعشب والحشائش.
وقالت أزهار النباتات المشعة للضوء: إن القمر سيظهر قريبا.
وقال الجراد الخفي: ستبرز أمام أبصارنا أبهاء ذات قباب، وبيوت على السفوح بأسقف من القرميد، وستنشق لنا بحيرة زرقاء مغطاة بالأزهار، وستخترق الوعول المستنقع؛ لكي تعود إلى مأواها.
ثم انظر ... ها هي الغزلان تقفز في الموج، وتتسقط بأذنيها همسات النسيم، ثم أنصت إلى هذه الأغنية العميقة التي تشبه النواقيس الغرقى، والضفادع ذات الظهر التركوازي تظهر في ضوء القمر فوق رعشة الموج.
وعن بعد علا صوت بوق في مكان محاط بجدران صخرية، وطرقات مزدانة بالزهور، وحاول رجل يشد حزاما ذا مفاتيح أن يفتح في رفق الأبواب الحديدية الصامتة، وخطت قدمه فوق الدرجات المخملية، وكنت هناك خالي النفس وسط كتبي كلها، وميلا إلى جواري ساكنة متكئة على الأرفف، وقد توقف لساني كإبرة البندول، وكنت أخشى أن أحركه، وكيف تستطيع ساعة توقفت أن تحدد الزمن وسط الليل، فالإنسان ينظر فيه دون أن يرى، وكان وجه ميلا أبيض كالقماش وباردا، ومددت ذراعي لكي أضيء النور، فاصطدمت يدي بكتفها إلى جواري، بينما امتدت يدها لتتحسس رأسي، وكأنها تبحث عن قبس، وعندما تصبح الألفاظ عبثا تعرف الأيدي كيف تجد الألفاظ والأفكار المناسبة. - وسألت ميلا: لماذا تبكي؟ لماذا؟! - أنا لا أعرف البكاء. - ولكننا نبكي على غير وعي منا كالغرقى فوق جزيرة مظلمة.
ودخل زبون ضعيف البصر يتعثر في خطاه إلى الدكان فأعادنا إلى الواقع، وهو يقول: «عفوا ... هل هنا أحد؟ ... إنني أريد مرجعا حسنا في الفلسفة العامة.» (2) القط
لقد دخل المنزل منذ شهرين في انطلاق وبساطة، وبالرغم من أنها كانت أول مرة يدخل فيها، فقد لاح كأنه يعرف الأماكن، وأنه قد امتلك يوما شيئا في هذا المنزل، بدليل الألفة المتناهية التي كانت تلوح في نظرات عينيه الصفراوين، وثبات خطوته المخملية المنسابة التي أخذ يجوب بها الحجرات وبفروته المخملية، وملكة الملوك نفسها لا يمكن أن يكون لها مثل أقدامه الرقيقة، وخطوه الأرستقراطي الطلق، والمشية العذبة التي يسير بها قطنا الضال.
من أين أتيت أيها القط الأسود كسواد الظلام، واللدن كالبخار المتصاعد من الهوات الداكنة؟ وكيف اخترت مسكننا مأوى؟ وهل كنت عندنا من قبل أثناء غيابنا أو نومنا أو رحلاتنا إلى البحيرات المكسوة بقصب الأعشاب؟ كيف هبطت إلى هنا؟
هل أرسلك أحد لا نعرفه يعنى بنا؟
نياو! هكذا أجاب القط، وقد رفع نظراته المشعة من عينيه القمريتين نحونا واثقا من أنها ستلتقي بنظراتنا، فالله قد منح جميع الكائنات التي خلقها وسيلة للتفاهم، والأعين هدية السماء، وقد خلقت خارج إطار الدم واللحم، وكأن كل عين زهرة تحمل في جوفها فتاتا من نجمة.
ما دمت قد أتيتنا فجأة؛ فأهلا بك يا مينو، انظر إلى هذه الأريكة، سأعطيها لك هدية! وانظر إلى هذه المرآة التي ستتجمد أمامها! وفي هذا الإناء الفخاري المطلي بالميناء، ستجد نبع ماء لفمك الصغير الشبيه بورقة القرنفل الوردية الشاحبة، وسيملؤه لك الأطفال كل يوم بدلوهم البلوري، وها هم الأطفال.
وأجاب القط: مياو مياو!
وفراؤه المخملي يمتد على طول جسمه من الصدغ إلى الذنب، وهو يروح ويغدو حاكا دفئه بسيقان الأطفال العارية.
والولد الذي لم ير القط من قبل في قمة الانفعال، بينما الطفلة مأخوذة بفرائه الأسود كالليل، وبقفازات مخالبه الناعمة كريشة فنان، والجدة الأكثر خبرة في كثير من الأشياء تضفي علي القط وفرائه فضيلة جلب السعادة.
ولم يتركنا القط، وفوق وسادة من الحرير الخفيف التي تشبه الظلال مطرزة بخيوط من الذهب أخذ ينام ليلا ونهارا، وكأنه سيستريح طوال حياته من مشاق ثقيلة أنهكته في حياته السابقة، ولما كنا نعمل بلا راحة، فقد سعدنا بأن نؤوي في بيتنا عاشق الراحة والكسل الباسم، وقد زينا الحجرة التي ينام فيها قطنا بأثمن ما نملك من مقدسات: الذبالة والكتب والأيقونات، وما احتفظنا به من مخلفات الأجداد كساعة الحائط التي تدق الساعات في بطء كأنها ناقوس البرج، والأبسطة الصوفية المخططة كأنها الطرق عندما تستحم بضوء الشمس، وشرابة حرير من المفرش تداعب أذن القط، وكأنها فراشة سوداء نسيت على صدغه ذي الشوارب.
إنه يغزل كالمغزل، ويوشوش كالبحر، ويغني كالريح، ويصفر كسيقان القمح، على نحو ما تنتحب الغابة، والماء ينساب منها، ويئن الصفصاف وتزمجر العاصفة، وهو في نومه يضع أذنه على الأرض ليسمع مزهر العالم، وصوته يغني في كل شيء في السماء وفوق الأرض، وفي الهاوية، وفوق القمم الضاربة في الفضاء، وحلمه يسمع كصدى قيثارات المياه! (3) شجرة العرائس
1
ما دمتم قد كنتم عقلاء، وما دمتم لم تدقوا اليوم الطبل بالعصي فوق الطست، وما دمتم لم ترموا الأطباق من النافذة، وما دمتم لم تكسروا أسنان الأقلام التي أشحذها بعناية كل يوم، وما دمتم لم تتركوا الصنابير مفتوحة تغرق البيت كله، وما دمتم لم تلطخوا مقابض الأبواب بالمربى، وما دمتم لم ترموا في النار كيس طباقي، وما دمتم لم تحاولوا إصلاح ساعتي بالشاكوش ولم تشووها بعد، ما دمتم لم تصنعوا من حذائي حساء، وما دمتم لم تحدثوا خروقا وفتحات جديدة في ملابسي، فإنني سأصحبكم معي! نعم ... هيا يا صغاري الأعزاء! البنت مع بابا، والولد مع ماما لنتنزه في الحقول بصحبة كلبنا جريفي!
سنخترق أولا ستائر الأعشاب المجنونة، ونسير عبر غابات الشيح، وعبر دانتيللا براعم الأقحوان الصفراء.
وبمجرد أن نخرج من هذه الجنة الوحشية، ستحس أقدامكم بعش القديس جان ندوس على بساطه: أنا بأرجلي الكبيرة، وأنتم بكعوبكم الصغيرة التي تشبه قطع الخبز المجمرة الوردية، ولا تلقوا علي أسئلة كثيرة في وقت واحد حتى لا أرتبك، ولا تكونوا طلعة فتسألوا لماذا الأرض سوداء والعشب أخضر والسماء زرقاء؛ وذلك لأنني لا أعرف شيئا عن ذلك إطلاقا! وستنطلق أمامنا عصافير، وقطا مستحيل الجسد، وغربان كبيرة، فلا تسألوني كيف ولماذا تطير لأنني لا أعرف، ولا ترموني بالحجارة، وإلا اختفيت في العشب، ورفضت أن أستمر في السير ما لم يعطني كل منكم عشر قبلات صغيرة؛ واحدة على خدي، والثانية على الخد الآخر، وعلى الذقن، وعلى طول أذني، وعلى عيني مغلقة.
ماذا كنت أقول؟ ... آه نعم ... تذكرت ... ما دمتم قد كنتم عقلاء، فسأريكم شيئا على الناحية الأخرى من القناة، وهو الطاحونة، حيث ترون رجلا عجوزا ذا لحية من الكتان وحواجب كالفرشة يطحن طوال النهار الدقيق الجيد لصنع الحلوى، ولن تأخذوا في الصياح عندما نمر إلى جوار الطاحونة؛ لأن العجوز سيخرج إلى العتبة ويهددنا بإصبعه الطويل كالعصا، وعندئذ سأرفع ساقي إلى عنقي! وإذا أمسك بكم العجوز فإنه سيضطركم إلى صنع كرات صغيرة من دقيق الذرة لفئران الطاحونة، ولديه منها ما يقرب من الثمانمائة!
وعند عبور القناة سأحملكما أنتما الاثنين على ظهري: أحدهما على الكتف الأيمن، والآخر على الكتف الأيسر؛ لكي لا تمسك الكابوريا بأرجلكم، وتنغمس في صفحة أقدامكما، وسترون في الماء بهيمة كبيرة وطفليها فوق ظهرها، منحنيين فوق القناة، فلا تسألاني عنهم، ولا تسخرا مني، وإلا انحنيت في الماء على أربع، وعبرت في هذا الوضع بكم القناة، وأنا أصيح «كواك كواك» مثل هذه الضفدعة التي أخرجت من الماء خيطومها الأخضر لكي تضللنا وتخيفنا.
ثم إنني سأريكم شجرة تنمو فوقها العرائس؛ ولذلك سماها الناس «أبو العرائس»، وليس لتلك العرائس أم، بل لهم أب فقط، ولكنكم لا تستطيعون أن تتصوروا أي أب هو، بشواربه الاثني عشر، وذقونه الاثني عشر الشبيهة بذقون الجدي، وفي لون الجزر، وعرائس الأسرة كلها في هيئة واحدة، فقد احمروا لطول بقائهم في الشمس!
وسأريكم غابة تصنع العرائس مكسوة بملابسها، مكسوة بسبعة قمصان بيضاء، ومن فوقها شد الأب عباءة ذات لون أخضر فاتح، وسترون هذه العرائس واقفة على الشجرة ملفوفة بملابسها «المكشكشة.»
سترون العرائس بشعورها الحمراء المجعدة وسنأخذها معنا، ونقص شعرها لنعطيها ملابس أخرى؛ وذلك لأن شجرة العرائس شجرة ذكية، فهي تصنع أيضا لآلئ من العنبر الأصفر التي تأكلها الأرانب بالليل في ضوء القمر.
ليس هذا إلا جزءا صغيرا جدا مما سأريه لكم، وإذا أراد بابا - ويجب أن يريد وإلا ضربناه بجوارب ماما - فسأريكم أشياء أخرى كثيرة خلف النهر وخلف التل، وخلف الأماكن التي يطن فيها النحل ويجأر الدب. (4) سن سعيدة
على المائدة
الملعقة لا تمسك باليد اليسرى ... حاسب على الفوطة ... ستوسخها! ولست أدري ما العمل؟ فالأطفال يوسخون خمسة أطقم من المفارش كل يوم! لقد قلت لك: إنك ستصيب ملابسك بالبقع.
هيا ... ارفع كوعك فسينغمس في الصلصة، والخبز لا يقضم قضم الفئران، بل تؤخذ منه كسرة، يؤكل اللباب مع القشرة! حاسب ... تمخط ... لقد فقدت منديلك مرة أخرى ... هيا ... مخط أنفك بقوة ... مخطه مرة أخرى ... ألم تسمع؟ ... تمخط بكل قواك أيها القذر الصغير ... هيا ... غيروا له طبقه! انظروا إلى هذا الخنزير ... ستأكل ما قلت لك أن تأكله لا ما تريده، إن من يريد أن يصبح جميلا يجب أن يأكل الشعرية، شدوا أذنه! يا إلهي ... لم أر قط أطفالا عصاة إلى هذا الحد، من الذي علمك أيها الأبله أن تضع الصلصة البيضاء في «الكومبوت»! امسح فمك! لا ليس بكمك أيها القذر بل بالفوطة! لقد لوثت وجهك حتى العينين، وبقيت الشعرية على أنفك! لا! لا! اشرب ماء فالنبيذ ليس للأطفال، وستشرب منه في مقتبل العمر!
هل لك أن تسرني بأن تقلع عن «التكشير»، وإلا أخذت علقة على عجزك بدلا من الكمثرى، فالكمثرى تقشر قبل أن تؤكل!
لا تمسك السكين هكذا، فستجرح نفسك ... هه! ... أخيرا ... لقد تعلمت كيف تقشر الكمثرى، الفظ النفاية في الطبق ... هه! لقد أوشكت أن تختنق، وفي المرة القادمة لن تستمع إلي فتكون الطامة.
لقد أكلت جيدا؟ ... قبل يدي وقل شكرا ... هيا ... قبل! ... لا بطرف شفتيك بل من كل قلبك ... لا بونون الآن بل بعد فترة.
والآن اجلس هناك والعب في لطف أثناء تناولنا للغداء، إذا أردت أن أصحبك معي للنزهة! اجلس هناك ... هل سمعت؟ ولا تتحرك، فسوف نقوم بنزهة جميلة ... أليس كذلك؟
في النزهة
ستجنني ... أين ومتى وسخت ثوبك؟ ألم أقل لك أن تظلي عاقلة أثناء ارتدائي لملابسي؟ بأي حائط احتككت؟ وأنت ... ما هذا البنطلون المفكوك الأزرار؟ هل رأى أحد مثل هذا؟ تعال هنا كي أنظف حذاءك! ما هذا الحذاء «المزيكاتي»؟ أوما تخجل؟ لقد أضعت زرك «زرارك»! أعطني يدك كي نعبر الطريق، ولكن لا ... فأنت تريد أن تدوسك العربات! لقد قلت لك ألف مرة أن تنظر إلى اليمين وإلى اليسار قبل أن تعبر الطريق، وأن تعطيني يدك! هيا! تماسكوا بالأذرع وسيروا بلطف ... كيف؟ أوما تريد أن تعطي ذراعك لأختك؟ أين أنت فيما تظن؟ أعطها ذراعك وفورا ولا تزعجني بزمجرتك! ماذا قلت لك في أذنك؟ لماذا شتمتها أيها الوقح؟ اترك يدها كي أضعك في هذا الركن، وستسرني بألا تتحرك من هنا حتى يأتي جندي المرور ليأخذك منه! ... وأنفك ملصق بالزجاج ... يا للعجب! هذا الغلام الشقي يجب أن يترك وحيدا، وها هو قد أخذ يتسلق السياج وسيمزق ثيابه، تعال هنا! أتسمعني! لا تضطرني إلى أن أصيح! تعال هنا فورا وإلا أتيت أنا يا رأس البغل، خذ هذه فستعلمك أن تكون أكثر طاعة!
لا لا! إنها ليست لك ... اغرب عني، بل لهذا الكلب، وإلا قفز عليك ووسخك! هيا! اذهب أوما ترى كيف أن الكلب أعقل منك! لقد فهم وابتعد!
لا، لا بالونات تنفجر فورا، ولديك من المطاط كل ما تريد في البيت! لا لا! لا داعي للطبلة، فقد أصبت أذني بالصمم! هيا! ارفع رأسك إلى أعلى! ما هذه الأكتاف المحنية؟ أتريد أن تصبح أحدبا ؟ لا ... اترك هذه القمامة يا قذر ... مستحيل! هذه الزهور ملك للبلدية، ولا تمش على العشب وإلا جاءك أبو الشوارب «وهبشك»، لا ... الإنسان لا يشرب ماء المدينة! كيف ستأكل هذه الفطائر الملوثة، والملبن لديك في البيت خير من هذا! واللعب لديك منها ما يكفي ... لا تلمسها فالملك يقيم هنا، أنت ثانية؟! ألا أستطيع أن أنظر في واجهة دكان، الشيكولاتة تسبب ألما في المعدة! لا ... هذا ليس للأطفال! لماذا تحك ساقيك هكذا؟ ... لا تستند على لوح الزجاج فستكسره ... ماذا تفعل هناك؟ أخرج إصبعك من فمك!
إذا كنتم عقلاء وسرتم في لطف؛ فسنذهب إلى المنزل وسأقص عليكم حكاية الدب والقنفد.
في المنزل
لا ... اغتسل أولا وسنرى بعد ذلك، اخلعوا ملابسهم وألبسوهم قميص النوم وأعدوا الحمام بماء فاتر ... وتتكرر نفس الحكاية عندما تأتي عملية الاغتسال ... هل رأى أحد قط إنسانا يأكل أو ينام قبل أن يبتسم؟ ... ما هذا بغير صابون؟ ماذا في الصابون؟ هكذا بالصابون والماء الساخن! لا تبكي وإلا أصبحت قبيحة! فأنت ملحوسة كالفأر الذي رأيته منذ أيام، اسكتي ستقلبين المائدة وتكسرين كل شيء! انتبهي إلى المرآة، خذوها من يديها، لا تشدي المفرش، إنها الساعة السابعة والنصف ولم تذهبي بعد إلى الفراش! في الساعة الثامنة يجب أن يكون الأطفال وسط الأحلام ... لا لا! نامي سريعا! ليست هناك صور، ولقد قلت لك مع ذلك إنني سأعود إليك وأنت نائمة، ما هذه الوسائد الملقاة على الأرض؟ أوما تخجلين من الضحك علي؟ إلى النوم فورا، لماذا هذه الشقاوة؟ ... آه! وإنك ستتسلين بذلك ... هه ... خلاص! فأنا أنام.
أيها الشقي! انتظر قليلا حتى أنادي بابا! هيا يا بابا تعال ومعك حقيبتك، وخذ هؤلاء الملاعين الذين لا يريدون أن يناموا! ماذا تقولين؟ ليس هنا ملاعين، أوما تخجل من هذا؟ لا لا لا! سننام أولا، وسنقرر غدا متى نذهب للنزهة، نام الولد الصغير وبين ذراعيه عروس عجوز من الخشب، والبنت تحتضن على صدرها قسيسا في ثوب أحمر وقلنسوة ونظارات.
وقالت الأم: آه، كم أتعبوني ... هؤلاء العفاريت الصغار ، وقال الأب: قبليهم برفق لكيلا توقظيهم.
قال ذلك وهو يدخل غرفة النوم بمعطفه وطاقيته المبطنة وعصاه، ولنذهب سريعا إلى المائدة فالساعة الآن التاسعة والنصف. (5) خطاب عائلي
كان لدينا قديما في صندوق قبعات قديم دب من القطيفة لو لم يكن أصفر في لون عباد الشمس لأصبح مخيفا، ولارتعد منه المخزن كله، وكان تحت أخشاب السقف أيضا خروفان مجزوزان، وثلاثة أبقار كسيحة ومهر سكن هناك؛ لأنه من الخشب!
وكان دبنا إذن أصفر، وهذا اللون يجرد الأشياء من صرامتها ولا يخيف أحدا؛ ولهذا اختارته الأزهار، وكان للدب فوق ذلك عينان من الزجاج تتجهان بنظراتهما مباشرة إلى السقف، وأعتقد أن الآنسة الخياطة بعد أن كست الدب بست قطع من القطيفة - التي فصلتها بمهارة - أخطأت في اختيار الصندوق، وعندما همت بتركيب العينين، فبدلا من أن تأخذ عيني دب أخذت عيني حمامة! والدب فيما يبدو لي يجب أن تكون نظرته شريرة، ومع ذلك فنظرة دبنا كانت مليئة بالطيبة.
كان الدب قد أقام هنا في المنزل عامين كاملين قبل أن يصعد إلى المخزن، ولكنه كان يحدث من الأضرار ما اضطرني إلى أن أعزله، وهكذا استيقظ ذات صباح ليجد نفسه في صندوق القبعات، بعد أن حاولت عبثا وبكل الطرق أن أرده إلى الاستقامة.
فالخياطة عندما كست دبنا بقطيفة جاكتة مبطنة من مخلفات الجدة، لم يخطر ببالها أنها بحبك هذا الكساء قد خلعت عليه دون أن تدري عيوبا لم تكن في الجاكتة، ولا في القطيفة في الزمن الخالي، وأبو جميع الدببة الذي يتجول في الخفاء عبر العالم، ويسهر على صغاره هناك بأعلى الجبل، حافرا لها كهوفا، ومدحرجا في الشتاء كتلا من الصخر؛ ليوصد بها أبواب تلك الجحور، والذي يقلق صغاره أثناء نومها ويمشطها، ويقص أظافرها بمنشار من الفضة يحتال لكي يمر بالدببة الصغيرة ذات القطيفة المحاكة للأطفال، وبالفتيات الصغيرات الرقيقات الأنامل، ويخدشهم هنا وهناك.
ودبنا قد اكتسب عادة السرقة الرديئة، ولم يكن يسرق إلا البونبون والشيكولاتة والمربى والفواكه والملبن! وبمجرد أن يأتي بابا إلى المنزل، ومعه صندوق من الحلوى كان يتشممه ويسرع في الإجهاز عليه دون أن يراه أحد.
من أكل الشيكولاتة؟
فتصيح البنت والغلام معا في جوقة صائحين: إنه الدب!
لقد رآه الاثنان معا، وقبضا عليه مرات كثيرة وهو يحاول الهرب تحت الأريكة ممسكا الصناديق بين ذراعيه، وذات يوم مزقا أذنه المحشوة بالقطن، وخلال عامين كاملين التهم الدب بهذه الطريقة جميع المربى والحلوى والمشمش الأخضر والبندق والليمون الحلو والفالوذج، ولكن من الواجب أن نقول: إنه لم يكن يأكل السلطانية دفعة واحد، بل يأخذ منها قليلا كل مرة، وكان يتناول بضع ملاعق من المربى، وحفنة بونبون يتلمظ بها قليلا قليلا.
وهكذا تقرر عزل اللص في المخزن كعقاب له، وللمحافظة بعد ذلك على المربى وبونبون الأطفال، ولكنه استمر في السرقة التي ينزل لأجلها من المخزن، حقا إننا لم نقابله قط على درج السلم؛ لأنه يحذرنا، وأما الأطفال فقد رأوه هم ولعدة مرات، فهو يقترب مختلسا الخطى، ويفتح الدولاب وينزع الأغطية ويفرغ السلاطين والصناديق، ثم يعود سريعا إلى جحره؛ وذلك لأن الدب لا يفكر في الاختفاء من الأطفال، وكان نفيه إلى المخزن ضرورة حتمية بعد أن تبين أن الجمل الصغير المجعد قد انتقلت إليه العدوى من الدب، فأخذ هو الآخر يأكل السكر.
والكرة حذت حذو الجمل، فأخذت تتذوق هي الأخرى المربى المسروقة والبونبون والفطائر، بل يلوح أن الدب لم يأكل قط قدر ما أخذت تأكل جميع الكرات التي تهجم الآن على السلاطين والصناديق وتفرغها بسرعة.
وبابا لم يعاقب الدب أو الجمل أو الكرات؛ لأنه يعلم أنها لا بد أن تنمو كما أن الدواليب لا تغلق بالمفتاح، بل وغطاء صناديق البونبون مرفوع قليلا، وورق السلفان الذي يغطي سلاطين المربى غير مربوط؛ وذلك لأن الكرات ليس لها أصابع تحل بها الخيط وتفتح الدواليب، ومع ذلك فبابا سيتربص أحد الأيام في الدولاب نفسه، وعندما يأتي الدب والجمل في هدوء لكي يتمتعا وبين مخالبهما ملعقة صغيرة، سيجدون بابا مختفيا بين سلاطين المربى، ولست أدري من الذي سيتملكه الخوف أكثر من الآخرين عندئذ ويولي الأدبار: الجمل أم الدب أم بابا؟
سأكتب لكم بما يتم. (6) الرجل المسكين
كنا نعرفه شقيا بائسا، وقد اعتدنا حالته الاجتماعية الثابتة إلى الأبد، كأحد حروف الأبجدية، فهو مثقل بالهموم، ويستنشق حزنا عميقا.
ولم يكن يعرف كلما التقينا به حديثا غير حديث الظلم الأبدي الذي وقع فريسة له، والمضايقات العديدة التي لا بد أن يخوض فيها كل يوم وكأنها البرك أثناء غدوه ورواحه، والرجل المسكين كان يعمل مدرسا أو موظفا أو صحفيا أو بغير مهنة محددة، وكان الرجل المسكين مشتتا ومجمعا، وكثيرا ما نلتقي في كافة الطرقات وكافة الأيام بمثل هذا الرجل المسكين المسحوق بين العربات التي خرجت عن شريط الحياة.
وذات يوم بينما كنا نكدح مع عائلتنا في نزهة يوم أحد على الأقدام بعيدا عن المدينة، مر الرجل المسكين إلى جوارنا في سيارة فخمة، وكل من أفراد أسرته يحمل مخلاة محشوة بالمأكولات، وقد أغرق أشباحنا في تراب الطريق، وأوشك أن يدوسنا، وعند عبوره بنا لمحنا ولاح متأثرا، من كان بالسيارة؟! يلوح أنه قد حيانا!
وبعد أيام قليلة قابلنا الرجل المسكين سائرا على قدميه في المدينة مقوسا ممزق الثياب خابي النظرة، وكان يحمل تحت ذراعه حقيبة مليئة بالكتب، وقد أوضح لنا - دون أن نطلب منه شيئا - كيف ولماذا كان يوم الأحد الماضي في سيارة فخمة، وقد شل معارضتنا بإلحاح، فأكد أنها كانت عربة أحد أصدقائه، وهو رجل ثري يضعها أحيانا تحت تصرفه لكي يمكنه هو وأسرته من الذهاب إلى الجبل؛ لاستنشاق قليل من الهواء، وقد انتهز الفرصة لكي يصل إلى مصيف بوستيلي في الجبل، وعاد في نفس المساء إلى بوخارست، والخوف يسيطر عليه من وقوع حادثة، لا بالنسبة له ولا بالنسبة لقبيلته العائلية، بل بالنسبة للسيارة، وكان قد تعلم القيادة لحسن الحظ، وكان مثالا للحذر، فعند انحناءات الطريق كان يهدئ إلى أقل سرعة ممكنة، وكذلك عند ملتقى الطرق، وكان مالك العربة رجلا ثريا وكريما، فكان يعطيه البنزين نفسه مجانا؛ لكي يجعل النزهة أقل ما تكون كلفة عليه، وأما فيما عدا ذلك، فالأمور تأخذ مجراها العام، ولما كان الرجل المسكين لا بد له من أن يأكل في بيته، فقد نقل ببساطة وجبته من العاصمة إلى الجبل.
وفي يوم آخر أخذ الرجل المسكين يبني بيتا، ووجدناه يصيح بالأوامر وسط الجرادل والحفر المملوءة بالجير على حافة رصيف، ويقسم كالوثني، وعند رؤيته لنا تحول إلى رجل ودود لطيف، ولاح خجولا، ولكن في غير اضطراب، ورأى أن يقدم لنا تفسيرات مؤصلة، فامرأته قد ورثت من عم بعيد مات بغير وارث مباشر، ولو كانت التركة متواضعة، لما منع ذلك الأسرة من أن تتشجع، فتذكر أن لها صديقا بالغ الغنى كان قد وعدها بقطعة أرض صغيرة للبناء عن طريق القرض، على أن ترده عندما تستطيع دون أن يضع أحد السكين على عنقها، وأما الطوب فقد استعاره من صاحب مصنع كانت أحواله على غير ما يرام، وقد حصل منه أيضا على الخشب والجير، وعندئذ لم ير ضيرا في أن يبدأ العمل، وأن يسير في المهمة، فالنجاح يصل إليه الإنسان دائما بقوة الإرادة والنشاط؛ وخاصة مع الإيمان بالله، وكوخ يملكه الإنسان في نهاية حياة كادحة، أوما يستحقه رجل مسكين؟ وما دام قد أخذ في بنائه فليجعله أكبر اتساعا حتى ينجزه في وقت أسرع، وكان يضم سبع شقق، وأضاف الرجل المسكين: لا بأس! شيء قد بني باقتصاد شديد وبأقل قدر من المواد.
الرجل المسكين هنا والرجل المسكين هناك، وفي كل مكان يحاول الرجل المسكين أن يخفف ولو قليلا من بؤسه في فترة أزمة لم ير لها مثيل من قبل، وبطريق غير محسوس لم يعد رجلا مسكينا وأصبح رجلا وقحا ثرثارا، يمتدح الشرف والاقتصاد وروح التنظيم والعمل والمثابرة، وجميع الفضائل التي يستخدمها رجل مسكين لكي يمتلك منزلا كبيرا وعربة كبيرة وأرضا واسعة وثروة ضخمة، بريئا عندما يسرق، وجريئا عندما يصل إلى هدفه.
الرجل المسكين! ماذا تريدون؟ إنه يفعل ما يستطيع. (7) ماريا نيكيفور
اتهمت بالسرقة من أسيادها ماريا نيكيفور الأبية، المنتمية إلى مقاطعة أولكينيا، ذات المظهر الذي يشبه مظهر سيدات المجتمع، وألقيت في السجن وهي حامل دون دليل يدينها، غير القرائن التي ساقتها ضدها طبيعتها الصامتة وفمها المغلق في عناد، واقتيدت ماريا إلى عنبر النساء، كالمهر الضال وسط قطيع من الجاموس الغارق في الأوحال.
وعند العتبة ارتدت خطوة وشدت قبضة يدها كأنها ستضرب، فدفعها الحارس برفق في عنبر النساء، ولكنها دخلت في تردد متسللة حتى نهاية العنبر، وكأنها على حافة معجنة الوحل، لا ينبغي أن توضع القدم على حافتها إلا في حذر.
ودعتها القديمات في المهنة قائلات: «هيا يا منافقة! إذا كنت لم تخجلي من السرقة، فلا ينبغي أن تتحرجي منها! هيا! أقدمي، وحدثينا كيف ضربت الضربة!»
وحاصرتها تلك الطغمة من النساء ذوات الأوجه الكريهة التي تتفاوت بين الانحلال والحيوانية، وقد جلسن في حلقة داخل العنبر يقشرن البسلة، ورأت ماريا نفسها مضطرة إلى أن تودع لفة ملابسها عند الحارسة، وقد وضعت فيها رداءها الجميل الخاص بجبال جورج ومنديلها الهفاف، الذي كان يعطيها يوم الأحد هيئة ملكة منحدرة من مملكة الغزلان والوعول بين خادمات بوخارست، وأخذت أصابعها تسرد حبات البسلة وكأنها المسبحة، وانتهى الموسم وجاء دور الكرنب والطماطم والخيار، وأخذت ماريا تقشر خضروات الشتاء في غير تململ، وكان صوت يصيح من وقت إلى آخر: «إذن يا ماريا، هل سرقت أم لا؟ ... يلوح أنك قد سرقت مفارش من أسيادك.»
وردت ماريا - وهي ترسم علامة الصليب: أنا أسرق مفارش؟! لعنكن الله.
ومر الخريف ثم الشتاء كله، وفي الربيع وضعت ماريا طفلا كان أول طفل يولد في هذا السجن، وكانت محجوزة منذ سبعة أشهر دون أن تستدعى للتحقيق، وقد حرك نبأ ميلاد كائن إنساني في السجن انفعالا جديدا في قلب ثمانمائة سجين، وقد كان هناك لصوص عتاة مكبلو الأيدي والأرجل يجرون قيودهم منذ سنوات متعثرين فيها، وكأنهم بروميتيوس الهارب من صخرة عذاب، والقتلة الخطرون، والنشالون النصابون، والمحتالون الخبثاء بقلنسواتهم المخططة، وطاقيات المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وجميعهم عندما وصل إلى العالم، هذا الكائن الغريب، ونزل في وسطهم، أحسوا بموجة من الحرارة تغمرهم، وبخدر باسم يدب في طبيعتهم الوحشية، ورأوا في هذا الكائن الرهيف يدا تمتد إليهم من الله.
وتم التعميد بعد القداس في كنيسة السجن في حضور جميع المجرمين الذين رددوا الترانيم، وغنوا النشيد للرب، وترنموا بصوت ناعم كالقطيفة: «أيتها العذراء المقدسة، يا أم الرب، امنحينا رحمتك»، وكان القسيس الذي قدم من القرية ليباشر الشعائر هو المواطن الوحيد الحر، وأما بقية الجوقة من مغنين وشماسين ومؤمنين فكانوا من المحكوم عليهم بعقوبات تمتد من سنة حبس إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، فهم يمثلون جميع مواد قانون العقوبات.
وتلقى الطفل هدايا عديدة، فقدمت له ملاعق من الخشب مصنوعة في السجن، وحمالات بيض جميلة النقش، ومسبحات مصنوعة من شعر أشقر، ولآلئ من لباب الخبز حمراء اللون ملونة بالماء المنساب من ميازيب السقف، المطلية باللون الأحمر!
وأعطاه ميتيتا صانع القيثارات قيثارة جديدة صنعها له خصيصا، واللص ماراكينيانو مبسما وشمعدانا، بينما أهداه مزور نقود فلسا من الفضة الحقيقية، معلقا في خيط من الحرير كبركة.
وحوالي عيد الفصح أخذت ماريا تستفيد من بعض المزايا، والإدارة ابتدأت تشك في إدانتها، فمنحتها حق التنزه في فناء السجن، حيث كانت تخرج وطفلها بين ذراعيها وكأنها العذراء، وكانت إدارة السجن تحترم وضعها كأم احتراما مشوبا بالقلق، وما كان المسجونون يرونها تظهر تحت الأشجار حتى يتملكهم خوف غريزي.
ومر عام ونصف على هذا النحو، وكان من الممكن أن تمر الحياة كلها، لو أن إدارة السجن لم تنه من خلال الروتين المعقد، إلى كتبة النيابة أنهم قد نسوا أن هناك امرأة ومعها طفل ما زالت موجودة بالسجن ولم تقدم للمحاكمة، ولعدم وجود أدلة في الملف حكم عليها بالحبس خمسة عشر يوما، وفي الواقع أنه كان من الصعب الإفراج ببساطة عن امرأة متهمة بالسرقة، وبعد المحاكمة عرف أن أسيادها السابقين قد وجدوا المفارش المذكورة في دولاب كانوا قد دسوها فيه عند عودتهم من المرقص.
واستمعت ماريا إلى الحكم دون أن ترفع بصرها عن ثديها الذي كان يرضع منه طفل متورد يقرقع بشفتيه، أزرق العينين عميقهما.
وكانت سعيدة بفكرة أنها ستستطيع بعد خمسة عشر يوما ، أن تحمل طفلها الحبيب خارج تلك الأقبية والأبواب المغلقة في السجن.
وفي اليوم السادس عشر ودعت اللصوص نساء ورجالا، وأسندت رأس طفلها على كتفها المطرز بحرير قميصها، وأخذت لفافة ملابسها، وتوجهت نحو مكاتب الإدارة حيث قال لها الموظف المختص: «إن أمر الإفراج لم يصل بعد، وليس لك إلا أن تنتظري، فهو لن يتأخر»، وانتظرت ماريا ساعة وأخرى، ثم جاء وقت الغداء. - ألم يصل ذلك الذي تحدثت عنه. - لم يصل بعد.
وهكذا انتظرت حتى وقت العشاء، ثم يوما آخر ... ثم اثني عشر يوما! ومات الطفل الذي كان قد سقط مريضا في تلك الأثناء، وفي اليوم الثالث عشر ترك الطفل السجن وحده محمولا إلى المقبرة في نعش يجره حصان واحد، وبقيت ماريا بلفافة ملابسها، والهدايا التي كانت قد قدمت للطفل في السجن ذي الأقفال الثقيلة، وفي اليوم الخامس عشر وصل الأمر، فقد كانوا قد نسوها للمرة الثانية!
وعند عتبة باب السجن الكبير، ترنحت ماريا نيكيفور وانهار وجهها، وعجزت عن أن تتم الخطوة التي بدأتها، وتجمدت أمام الأسوار ذات المخابئ العالية التي يكمن فيها الحراس، ومن فوقها ترتفع قباب الكنيسة، وأكثر علوا قبة السماء البيضاء في الخريف.
وفي مواجهتها على مسافة ما كانت تلوح المقبرة، وإلى اليمين الطريق الذي ينحدر إلى المدينة ... إلى العاصمة.
بنايت إستراتي (1884-1935)
بالرغم من أن بنايت إستراتي قد كتب مؤلفاته أول الأمر بالفرنسية، إلا أن جوركي البلقان - كما عرفه في روعة رومان رولان - ينتمي إلى رومانيا بالمادة وروح الخلق، وهو قد ولد في برايلا على شاطئ الدانوب، وقد عاش إستراتي شبابه كما وصفه في قصصه الطريفة المؤثرة، واضطر إلى أن يزاول كافة المهن، وأن يمر بكافة التجارب، وبعد سنوات شاقة طويلة عرف في فرنسا - بعد سنة 1920 - النجاح الذي ضمنه له إنتاج أدبي فريد في نوعه، يضم الشعر، والواقعية الحادة، والاعترافات، والحوار الدسم، وتصوير الفلاحين المرهقين بالبؤس، وتمرد الفقراء وسحر المواني، والدعارة في الطبقات الدنيا، وسحر الشرق الأوسط، والحنين إلى سهول الوطن.
فكل هذا وجده القارئ الغربي في كتب إستراتي ، مع ما نثره فيها من اصطلاحات وأمثلة رومانية نقلها كما هي إلى الفرنسية لكي يزيد من إشراق أسلوبه، ولنذكر من إنتاجه القوي الأصالة قصص: «أدريان زغرافي»، و«كيراكيرالينا»، و«العم إنجيل»، و«الهيدوكيون»، و«أشواك باراجان». (1) كيراكيرالينا
يقص إستاورو - بائع الليمونادة في قرية برايلا برومانيا - على صديق له تاريخ حياته الغريبة المحزنة.
منذ طفولته شاهد حياة اللذة التي عاشتها أمه وأخته كيرا، وهما معا تجمعان بين الاستهتار والجمال.
كما شهد تأديب الأب - وهو نجار متيسر - والأخ الأكبر للمرأتين، لمحاولة ردهما إلى حياة أكثر وقارا، فأم ستاورو - الذي كان يسمى عندئذ دراجومير - أنهكت ضربا وفقدت إحدى عينيها، وذات يوم هربت ومعها طفلاها اللذان انفصلت عنهما سريعا، ولم يرياها بعد ذلك قط.
وعاد دراجومير وكيرا إلى قرية برايلا، حيث عاشا في نزل، حتى كان يوم استطاع فيه تركي عجوز اسمه ناظم أفندي أن يغريهما ويقتادهما إلى مركبه الشراعي الفخم، وسجنت كيرا في حريم القسطنطينية، وأتلف الغاصب الحقير أخلاق الأخ إتلافا نهائيا.
وبعد أشهر طويلة في السجن الفخم، استطاع دراجومير أن يفلت، وكان عندئذ في الخامسة عشرة من عمره، جميلا فخم الثياب، ولكن في سذاجة لا تصدق، وأخذ يتسكع في المدينة إلى أن التقطه مصطفى بك، الذي وفر له حياة أكثر بذخا من حياته عند ناظم أفندي، ولكنه أضاف الكحول إلى الانحرافات الأخرى التي كان اليافع قد عرفها.
ومع ذلك فبرغم الرقابة الشديدة استطاع دراجومير أن يهرب مرة أخرى، والكمر - أي حزام النقود المشدود على وسطه - مليء بالقطع الذهبية والحلي.
واستطاع أن ينتقل إلى بيروت، حيث استغلته أسرة من الفنانين، ثم انتقل إلى دمشق حيث سرق منه - في أحد الفنادق - الحزام الذي يضم ثروته كلها، وها هو يرى كيرا في عربة تدخل إلى فيلا فاخرة، فأراد أن يدخل هو الآخر، ولكنه ضرب ضربا مبرحا بعصب ثور، وترك على حافة الطريق في شبه إغماء من الألم. •••
هنا تصل رحل عذابي إلى قمتها، وهنا تنتهي أحزان ثلاث سنوات من الطفولة المعذبة؛ وذلك لأنه إذا كان الله قد قسا علي وحرمني من كيرا، فإنه لم يحرمني من لطفه، إذ أرسل لي صديقا.
جمعت جسمي الجريح، وبمشقة استطعت أن أسحب نفسي إلى الناحية الأخرى من الطريق، وانطرحت على الأرض منهكا، وفي تلك اللحظة اقترب مني رجل بين الأربعين والخمسين من عمره، فقير الثياب، في زي يوناني، حاملا في يد وعاء السحلب، وفي الأخرى سلة بها الكوبات، ووضع أدواته وربع أذرعه، وتفوه بعلامة تعجب صادرة من أحشائه قائلا باليونانية: «آه يا غلامي المسكين! لقد شهدت ضربك ووقفت عاجزا، أية إساءة ارتكبتها في حق هؤلاء المتوحشين لكي يعذبوك على هذا النحو؟!»
وتطلعت إلى وجهه المشرب بالإخلاص، وذقنه الشعثاء التي خطها الشيب، وعينيه الطيبتين الناضحتين بالألم تحت جبهته المجعدة، وتملكني الغضب وتمردت على مشاعري الخاصة قائلا: «اذهب إلى الشيطان، اغرب عني.»
وانفجرت باكيا، فتوثبت طيبته، قال: «لماذا ترسلني إلى الشيطان يا بني؟ ... إنني أشعر حقا بالشفقة نحوك، وأريد عونك في محنتك.» - دعوني لحالي، أنتم جميع الرجال بشفقتكم وقلبكم، لقد قاسيت منهما الكثير وأريد أن أموت وحدي. - أوه! البائس ... في هذه السن الصغيرة، وقد تقزز من الحياة! ولكن اشرب مع ذلك هذا الكوب من السحلب الدافئ، فإنه سيرد إليك شيئا من القوة.
وقلبت كأس السحلب، ولكني لم أستطع تكوين رأي، فأية قاعدة أو أي فهم يمكن أن أستخلصه من هذه التجربة القصيرة، عندما أذكر أن كثيرا من الرجال الذين بدءوا بالتظاهر بالطيبة والكرم، قد تكشفوا في النهاية عن أنذال مجرمين؟ نعم، في سن السادسة عشرة كنت قد عرفت حقارة النفس البشرية، وإن لم أعرف كل شيء.
لم أعرف بوجه خاص أن أعمال الخليقة بالغة التعقيد والتنوع، وأن ألف دناءة نعانيها لا تعطينا الحق في أن نبصق على الإنسانية كلها، والله نفسه قد أدرك ذلك عندما غضب من الإنسانية المخطئة؛ فقرر أن يعاقبها دون أن يستأصلها، ما دام قد أنقذ من الكارثة نبيا عادلا وأسرته، وإذا كانت الإنسانية التي عاشت بعد الطوفان لم تكن خيرا من الإنسانية السابقة، فإنها لا تتحمل مسئولية ذلك، إذ إن الله «مثلي في السادسة عشرة» لم يحسن فهم العالم، ولم يعرف ماذا يفعل.
ولقد عرفت أنا منذ اليوم الذي أرسل لي فيه القدر بربايني بائع السحلب ذا النفس القدسية، أن الرجل الذي تتاح له فرصة الالتقاء في حياته بمثل بربايني يجب أن يعتبر نفسه سعيدا، وإن كنت لم ألتق قط من هذا النوع إلا به وحده، ولكن كان فيه الكفاية لتحمل الحياة، بل ومباركتها أحيانا كثيرة، والتغني بالثناء عليها؛ وذلك لأن طيبة رجل واحد أقوى من شرور ألف، فالشر يموت في نفس الوقت الذي يموت فيه فاعله، بينما يظل الخير يشرق بعد اختفاء الرجل العادل الذي فعله.
اضطررت إلى التسليم، وعلم بائع السحلب رسول العناية الإلهية المأساة كلها، وكان علاجه سريعا كالبرق.
قال لي - مستخدما في حذر اسمي المنتحل بعد أن صاغ منه تصغيرا: «ستاوراكي! يجب أولا أن تقلع عن البحث عن أختك بهذه الطريقة غير الحكيمة، واعلم أنه من الأسهل أن تنتزع ظبية من فم النمر، عن أن تنتزع امرأة محبوسة في الحريم، وإذا استطعت أن تتغلب على هذا الضعف العاطفي، فإن ما عدا ذلك يعتبر في منتهى السهولة، فأنت تملك ثلاثة جنيهات مجيدية، فهذا المبلغ من المال يكفي لكي تشتري إبريقا للسحلب وأكوابا، أي ما تراه بين يدي، وهو الذي يمكنني من أن أعيش حرا منذ عشرين سنة، وبعد ذلك تحمل الإبريق على ذراع والسلة على الآخر، وباربايني إلى جوارك، وسنذهب في مرح نجوب الطرقات والميادين والأعياد والأسواق، ونصيح - في بهجة: «سحلب! ... سحلب! ... سحلب! ... ها هو السحلب اللذيذ! وستفتح أمامك أرض المشرق واسعة حرة! نعم حرة؛ لأنهم مهما قيل عن الاستبداد في الأرض التركية، فإنه ليست هناك أرض يستطيع أن يعيش فيها الإنسان بحرية أكبر، ولكن على شرط: هو أن تمحو نفسك وأن تختفي بين الجموع، ولا تلفت إليك الأنظار بأي شيء، وأن تكون أصم أبكم، وعندئذ فقط تستطيع أن تدخل في كل مكان غير مرئي، والأبواب المغلقة لا تفتح إلا لمن يقتحمهما.»
ولم يكد يأتي اليوم التالي حتى كنت أحمل بين ذراعي الإبريق وسلة الأكواب، وأصيح في شجاعة إلى جوار باربايني: «سحلب ... سحلب لذيذ»، وعرفت عندئذ الطريقة التي يمكن أن يدخل بها في الكمر، ذلك الصديق الخائن، الذي لا قلب له، والذي تركه من قبل.
فالنقود تتساقط من كل ناحية، ودخلت الحرية في كيسي، وعند هبوط المساء تذوقت سعادة الرجل الذي يستطيع أن يعيش دون أن تمتلئ جيوبه بالذهب، وعند تدخين نرجيلتنا في إحدى الشرفات، أخذت أتشرب الطيبة التي تشع من شخص باربايني كله، لقد كنت معترفا له بالجميل وأحببته كما يحب الإنسان أبا طيبا وصديقا، وأقمت عنده وعملت معه، وكنا نتناول طعامنا معا، وأوقات تسكعنا نتذوقها معا، وهكذا أصبحنا لا نفترق، ولم تلبث صداقة قوية أن ربطتنا بأن غرست الغصن الصغير في جذع الشجرة الناضجة.
بل وسبق باربايني حب استطلاعي بأن كشف لي عن ماضيه الذي لم يكن خاليا من الهنات، بل من المرارة.
كان يعمل مدرسا في مدينة صغيرة ببلاد اليونان، وارتكب غلطة عاطفية حكم عليه بسببها بسنتين من السجن وفقد وظيفته، وعند خروجه من السجن ترك المدينة لكي يجوب عدة مدن أخرى، اشتغل فيها بالتجارة، وقاسى محنا وعقد صداقات، ودمي قلبه، وكادت مغامرة غرامية أخرى أن تقضي على حياته، وعندئذ عبر إلى آسيا الصغرى وعاش في الوحدة والاستقلال، بل وفي الحكمة تقريبا.
كان رجلا يجيد الكلام ويجيد الصمت، يصدر عن طيبة لا تتحول إلى بله، وعندما لا يروقه أحد كان يرى أن لا جدوى من الإلحاح، وكان يعرف كل لهجات الشرق الأدنى، ويوزع فراغه بين القراءة والتسكع وغسل ملابسه، ولم يكن يدفعني إلى شيء، بل كان يريني فقط ما هو خير ونافع ومن الذكاء أن أفعله، قد تعلمت كتابة وقراءة اللغة اليونانية، ولما رآني متعلقا بحياته - في أمانة - لم يساومني في محبته.
وفي البدء أناديه بلقب «يا سيد»، ولكنه طلب مني أن أناديه ببربا، وبعد قليل أخذت أنسى فقدي لكمري وكنزه الثمين، وأخذت أتحول إلى تلميذ له وصديق وحيد، وعزاء لأيام شيخوخته.
ولكن بقي لي قبل ذلك سفح شاق لأتسلقه، وقد تسلقناه معا.
كنت قد نسيت فقد كمري، ولكنني لم أستطع أن أنسى فقد أختي، وكنت أحب باربايني، ولكني أعبد كيرا، ولما كنت متأكدا من وجودها خلف الباب الذي ضربت عنده فقد وسوس لي الشيطان أن أعود إليه.
كنا في قلب الصيف، وبعد ثلاثة أشهر من النزهة الحزينة في باب توما، وفي غفلة من برباياني قمت بعدة زيارات للفيلا الملعونة، وحومت من بعيد، وتربصت وتجسست، ولكن بلا جدوى، فنساء أخريات كن يخرجن في العربة، وأما كيرا فلا، وشجعني الحذر الذي استخدمته في أن أقرر ذات مساء أن أكون أكثر جرأة، وحصلت على سلم مستقيم، واستعنت بالليل المظلم، وذهبت لأسند السلم إلى جدار مرتفع يحيط بالفناء، وكنت أبحث عن وسيلة أستطيع بها أن أرى داخل الحريم، حيث كنت أعلم أن النساء يرحن ويغدون دون نقاب.
ولكنني لم أجد غير شبابيك مغلقة، وثابرت ودرت حول الحائط، وانتهيت بأن وجدت نافذة مضيئة، ولم تكن غير غرفة كبيرة مؤسسة بأثاث فاخر لا أحد فيها، وانتظرت خافق القلب بأعلى السلم، آملا دائما أن أرى النساء يمررن تحت بصري.
وفجأة فرقعت خشبة السلم التي كنت جالسا فوقها، وأوشكت أن أسقط، وتجمدت من الخوف، وظللت معلقا على نحو ما عندما جاءت هزة مفاجئة عنيفة أراحتني، فقد انتزع مني السلم، وسقطت بين ذراعي جندي البوليس الذي كال لي اللكمات دون أن يتفوه بكلمة واحدة، وشد وثاقي ووضعت في عربة يجرها حمار اقتيدت فورا إلى دمشق، حيث ألقيت في الحجز الاحتياطي.
والحجز الاحتياطي في تركيا ذلك العهد كان جحر النسيان بالنسبة للرعايا العثمانيين، فالشقي الذي يدخله - وبخاصة بسبب الجرائم الكبيرة كجريمتي - لم يكن يعرف قط متى سيحاكم ما لم يجر شخص ذو نفوذ حاملا الهدايا؛ ليضرع إلى أحد الحكام، ولم يكن أقسى ما يعانيه عندئذ فقدان الحرية، بل الحياة الفظيعة التي يعيشها في داخل هذا الحجز، وبخاصة عندما يكون السجان رجلا شابا.
وفي زنزانتي كنا دستة على سرير مشترك مكون من صف طويل من ألواح الخشب العارية يملأ ثلاثة أرباع الحجرة، وفي أحد الأركان جردل من الخشب بغطاء يذهب إليه كل منا لقضاء حاجته، وتنبعث منه رائحة كريهة خانقة، وقمل الجسم وقمل الرأس والبق الذي لا حصر له، والفئران تمرح في فرق، ولم يعد أحد يهتم بقتلها؛ لأن قتلها يستغرق عمرا كاملا!
وأنواع التعذيب البشعة كانت ترتكب تحت أبصار الجميع، فالترك واليونانيون والأرمن والعرب لم يعودوا رجالا، والحقارة الإنسانية كانت على نحو لا تنعقد المقارنة إلا بينها وبين نفسها؛ وذلك لأن الجنس البشري هو وحده الذي يستطيع أن ينحدر إلى مثل هذا المستوى من بين كائنات الأرض كلها!
في جهنم الأرض هذه ووسط هؤلاء الوحوش وقعت، وكنت غنيمة طيبة بالنسبة إليهم.
لم يقم أحد بالدفاع عني أو حمايتي، لا من بين المسلمين ولا من المسيحيين، وأسوأ من ذلك أنهم تقاتلوا بسبب الفريسة الطازجة، وانتزعوا لحى بعضهم بعضا، وهكذا خلال شهر عرفت أفظع الإهانات التي يمكن أن يتصورها الإنسان!
واليوم لست نادما على الوقوع في هذه المحنة، فبفضلها عرفت أعماق الكائن البشري، وإذا كنت قد ظللت خيرا رغم كل ما رأيته وكل ما عانيته؛ فإنما ذلك احتراما مني لمن خلق الطيبة وجعلها نادرة، ووضعها بين الوحوش كمبرر وحيد للحياة.
كنت أعتبر نفسي مدفونا حيا وأفكر في الموت، ولقد حدث لمسجونين لم يستطيعوا تحمل التعذيب أن شنقوا أنفسهم في قضبان منافذ الهواء الصغيرة بواسطة الأشرطة التي مزقوها من ملابسهم، بينما كان الجميع ينامون في الليل، وكنت مصمما على أن أفعل مثل هؤلاء الشهداء.
ومع ذلك أخذ صوت داخلي يدفعني نحو الأمل، فقد كنت أعرف أنني لم أعد وحيدا في العالم كما كنت من قبل، فهناك في الخارج رجل ذو قلب صديق نادر، وبالرغم من أنه فقير وبغير حماة، فإنه طيب وذكي ولا بد أنه يفكر في ويعمل على إطلاق سراحي.
وكنت على حق؛ فذات يوم فتح باب الزنزانة ودخل الحارس ومن خلفه باربايني، يا لها من سعادة غامرة! وظهور كيرا وحده هو الذي يمكن أن يضفي علي تلك السعادة، ولكن في نفس الوقت أي حزن، فالشر قد أشعل الشيب في رأس الرجل المسكين، وألقيت نفسي على صدره باكيا، وكل ما ظهر من شفقة أمام هذا المشهد المؤلم هو أن صاح رجل يوناني ممدد على سرير: «آه! أيها الشيخ العزيز أهذا ولدك؟ إنه بضاعة جيدة بالنسبة لهذا المكان! فقد تمتعنا به، وها أنت تأتي لتختطفه!»
إنها أخف عقوبة استطعت أن أحصل عليها، فخطؤك جسيم؛ إذ أردت أن تدخل بالليل إلى الحريم، ومع ذلك لا تحزن فسأصحبك، والعالم كبير وسنكون أحرارا، وإذا استمعت إلي في المستقبل ستكون سعيدا على الأرض التركية ... هيا إلى اللقاء استعد لفجر الغد.
لم أستطع أن أنام طوال الليل، وعند بزوغ الفجر أخرجوني.
وكان على الباب فارسان من الجند مسلحان بالبنادق والخناجر ومعهما عربة، ورأيت عندئذ أننا كنا ثلاثة محكوما علينا بالاستبعاد، وكان باربايني هناك ومعه أمتعتنا، ووضع الكل على العربة وابتدأت الرحلة إلى ديار بكير.
إن حياة الإنسان لا تقص ولا تكتب، وحياة الإنسان الذي أحب الأرض وجاس خلالها أكثر استعصاء على القصص، وعندما يكون هذا الرجل عاطفيا حارا عرف جميع درجات السعادة والبؤس وهو يجوب العالم، فإن محاولة رسم صورة حية لحياته يصبح عملا مستحيلا تقريبا، مستحيلا عليه هو نفسه، ثم مستحيلا بالنسبة لمن يسمعونه، والسحر والطرافة والمتعة في حياة رجل قوي النفس صاخبا ومغامرا في نفس الوقت، ليست دائما في الأحداث البارزة في تلك الحياة، بل في التفاصيل حيث الجمال عادة، ولكن من ينصت للتفاصيل؟ ومن يتذوقها؟ ثم بنوع خاص من يفهمها؟
ولهذا كنت دائما عدوا لعبارة: «قص علينا طرفا من حياتك!»
وهنا أيضا صعوبة ... عندما يحب الإنسان لا يعيش وحده، والإنسان لا يعيش وحده حتى عندما يريد ألا يحب - كما هي حالي اليوم - وهذا حق على الأقل بالنسبة للعاطفيين الذين لم يكفوا عن أن يحيوا على الذكريات؛ وذلك لأنه ليست هناك ذكريات بغير حاضر.
ولقد يرغب الإنسان في الموت كما رغبت بإخلاص عدة مرات في حياتي ، ولكن الوجوه الجميلة التي عرفتها في الماضي كانت تتقدم إلي حية وتلين قلبي، وتحل البهجة محل المرارة، وتضطرني مرة أخرى ومن جديد إلى البحث عن البلسم الخالد في وجوه الناس، ومن بين تلك الوجوه الجميلة كان باربايني.
لا أستطيع تقريبا أن أقص شيئا عنه، فقد عشت ثماني سنوات ملتحما بحياته، وقد جاب شبحانا ديار بكير، وحلب وأنقرة وسيواس وإيرزروم ومائة مدينة أخرى صغيرة وقرية، ولم نبع شيئا غير السحلب، ولقد مرت السجاجيد والمناديل والسكاكين والعطور والعقاقير والخيول والكلاب والقطط جميعها بأيدينا، ولكن السحلب المبروك هو الذي كان ينقذنا دائما من البؤس، وعندما كانت تطرحنا إحدى العمليات التجارية أرضا كنا نجري عدوا لإحضار الأباريق المسكينة التي علاها الصدأ، ثم «سحلب ... سحلب ... ها هو السحلب اللذيذ» ونحن نتبادل النظرات ونضحك.
كنا نضحك؛ لأن باربايني كان صديقا لا نظير له، وكنت أنا سبب الكارثة دائما بسوء تصرفي الخارق، ومن بين حماقاتي أذكر واحدة كانت عاتية: كنا قد وضعنا نقودنا كلها في حصانين جميلين اشتريناهما من سوق كبير على بعد خمسة عشر كيلومترا تقريبا من أنقرة، وكنا سعداء؛ لأن الصفقة كانت طيبة في رأينا، وفي طريق العودة، بسبب الانشراح وبسبب التعب أيضا، ثارت بي رغبة في أن نتوقف أمام حانة منعزلة.
وكنا في الليل، وعارضني باربايني قائلا: دع هذا يا ستاوراكي، ولنواصل السير إلى المنزل حيث يتناول كل منا كأسا.
لا يا باربايني! هنا ... دقيقة واحدة فقط؛ لكي نحتفي بحظنا.
واستسلم الرجل المسكين وربطنا الحيوانين في عمود بالخارج، واحتفلنا بكأس وعيوننا على النافذة، ثم بآخر، وأخذ الجوع يفري بطوننا فأكلنا وشربنا دورقا ثم آخر؛ لأن باربايني أو أنا لم نعد نبصق على الحياة الطيبة، وتحركت القلوب فأخذنا نغني:
لقد سكرت من جديد
ومن جديد تكسر الكئوس
آه ... إنك تفعل كالحيوان السيئ.
ولكن وسط الأغنية وقف باربايني هادئا ونظرته إلى ألواح الزجاج السوداء، وقال: أي نعم يا ستراوراكي ... إنني أدرك أنك حيوان سيئ؛ لأن الحيوانين الجميلين اللذين كانا بالخارج لم يعودا هناك إن لم أكن سيئ الرؤية.
وفي قفزة خرجت، ولكنني لم ألتقط غير ضوضاء عدو صاخب يتردد صداه في الليل.
وبعد ساعة ونحن نتعثر في الظلام، ونتردى في كافة الحفر صاح بي باربايني مؤنبا: «لقد أردت أن تحيي حظنا، والآن فلتمش على قدمك أيها الطفل الخائب العنيد، ولكي تعزي نفسك غن، لقد سكرت من جديد ...»
ويل لمن يجهل أن السعادة هي أن يحس الإنسان بقلبه ينبض في أرض الإنسان الطيبة، تلك الأرض الرفيعة المستوى التي تمدك بعصيرها المنعش.
فخلال السنوات التي التحمت فيها حياتي بحياة باربايني في كل موحد، كانت الطبيعة نفسها تبدو لي ودودة أخوية شاعرية، وكان كل شيء يلوح لي جميلا وجديرا بأن يحب، وفقد القبح ما يوحي به من تقزز، وكانت الحماقة تصطدم بسخريتنا، والاحتيال ينكشف، وعنف الأقوياء لاح لي محتملا، وعندما كان الاحتكاك بالابتذال يأخذ بخناقنا كنا نهرب منه إلى الحياة في صمت ... إلى الحياة؛ حيث تتحدث الطبيعة وحدها بالعينين والقلب، كان باربايني قادرا على أن يمشي يوما بأكمله دون أن يتفوه بلفظ، وبالنظرة وحدها كان يريني ما يستحق الانتباه، وكان يسمي هذا حماما مطهرا، وكان هذا حقا، فمشاهد الطبيعة الصامتة تطهر وترد للإنسان - الذي تجرحه الحقارة - روحه، وليس هناك - مهما بلغ من القوة - من يستطيع أن يمر بالميكروب دون أن يحس بالعدوى.
ولكن هذا الصديق الكبير لسن يفاعتي، كان فوق ذلك عالما بالعصر القديم وفلسفاته، وبجميع أحاديثه عن الحياة، وهي الأحاديث التي كانت ممتعة في أوقات الراحة، وكان يؤديها بأمثلة يستمدها من الحكمة، وهو لم يكن حكيما، ولكنه كان يحب سكينة القلب الواعية.
وقال لي: إن عاجلا أو آجلا، لا بد أن ينتهي الرجل الذكي إلى فهم عدم جدوى الصخب العاطفي الذي ينزل الاضطراب بالسلام ويحرق الحياة، وسعيد من يصل إلى فهم ذلك سريعا، فإن ذلك سيزيده متعة بالحياة.
وفي يوم من أيام الخريف البارد وجدنا أنفسنا في معسكر للمناورات بالقرب من حلب؛ فانقض الجنود على شرابنا الساخن، وأسرع الضباط أنفسهم لينعموا به، ولما كانت لدينا جمرات تحت الإبريقين فقد وقفوا يستكتبون ويتحادثون، وقص ضابط كبير على مرءوسيه حماية الجنرال صديق الإسكندر الأكبر الذي أعطى رأيه إلى جانب اقتراح السلام الذي تقدم به دارا، قائلا: «كنت مستعدا أن أقبل لو أن الإسكندر الأول أو القاهر الأكبر كان قد رد.»
وأنا أيضا لو كنت ... لو كنت ...
وارتبك الضابط التركي وقال: «آه ... ماذا كان اسم صديق الإسكندر هذا؟»
ورد باربايني الذي كان ينصت للمحادثة: «بارمنيون.»
فصاح الضابط: «برافو أيها العجوز، كيف عرفت ذلك، والإنسان لا يلتقي بإسكندر الأكبر وهو يبيع السحلب؟»
فأجاب صديقي: «بل نعم، فجميع الناس في حاجة إلى أن يستدفئوا كما ترى!»
وراق الضابط هذا التلميح المزدوج المعنى، وترفق فتحدث معنا، ولكن في تلك اللحظة التقت نظرتي بنظرته فقال: «لقد رأيتك في مكان ما، ووجهك معروف لي.»
فأجبت - وقد علت الحمرة وجهي: «لقد كنا في نفس العربة مع مصطفى بك في القسطنطينية منذ خمس سنوات.»
إي والله، هذا حق، أنت الغلام الذي كان يبحث عن أمه ذات العين المفقوءة أيها البائس، لا بد أنك قاسيت الأمرين من هذا الشيطان اللعين.
قاسيت كثيرا ... لم أكن أعرفه.
ولكن هل يستطيع الإنسان أن يطمئن على هذا النحو إلى أول من يلقاه عندما يأخذ في مداعبة خدود طفل؟
وظل الضابط يتحدث إلينا وقتا طويلا، وكشف لي عن السوءات التي كان يرزح تحتها مصطفى بك، ثم اهتم بباربايني وتحمس لثقافته، وعند افتراقنا شد على أيدينا في حرارة ورجانا أن يقبل كل منا جنيها تركيا من الذهب قائلا: «إنه ليس بقشيشا، لكنه تقدير لحكمة العجوز ومحنة الشاب.»
وعند العودة إلى المنزل استخلص باربايني العبرة فقال: «انظر يا استاورو ... في كل مكان مضللون، ولكن الذكاء يسقط الحواجز حتى ولو كانت ترتدي حلة عسكرية.»
وأخذ باربايني يدخل في الشيخوخة، ومرض القلب يجعله من عام إلى عام غير صالح لكسب قوته، والتعب يرهقه، وأصبحت السوداوية تعاوده مرات أكثر، وكنت أنا في الثانية والعشرين قويا شجاعا واسع الحيلة، وبفضل المدخرات الصغيرة التي كانت لدينا استطعت أن أقرر دعوته إلى الخلود إلى الراحة ؛ ولكي تروقه تلك الراحة اخترت لإقامتنا مكانا لم نستكشفه من قبل؛ هو جبل لبنان.
آه ... يا له من جبل جميل وحزين، وكلما فكرت في العام الذي أقمناه فيه ثمل قلبي ودمي في نفس الوقت! ... غزير غزير ... وأنت يا دليتا! وأنت يا هرمون! وأنت يا ملمتين، وأنت يا شجرات السدر ذات الأذرع الطويلة الحانية التي كان يلوح أنها تريد أن تحتضن الأرض كلها، وأنت يا أشجار الرمان التي تكتفين بثلاث حفنات من الطحلب الذي ينمو في فجوات الصخور؛ لكي تهبي المسافر الجوال فاكهتك الغزيرة العصير.
وأنت أيها البحر الأبيض الذي تستسلم في متعة إلى لمسات إله الدفء، وتمد صفحتك الشاسعة الصافية إلى نوافذ البيوت اللبنانية الصغيرة المتدرجة أمام اللانهاية!
إلى كل هذا أقول: وداعا فلن أراك بعد ذلك، ولكن عيناي ستحتفظان إلى الأبد بضوئك الناعم الفريد، لقد خبا هذا النور في ذاكرتي، فالحياة لم تشأ أن تتم سعادتي، ولكن يا إلهي! أين ومتى تمنحنا الحياة المتع الكاملة؟
سيزار بترسكو (1892)
ابتدأ سيزار بترسكو في سنة 1922 بمجموعة من القصص «خطابات ...» ثم رسخت قدمه ككاتب مرموق بفضل روايته الطويلة «انهيارات» سنة 1927، وهي التي عرى فيها صراع الطبقات في المجتمع الروماني قبل وبعد الحرب العالمية الأولى.
وككاتب خصب خطط سيزار بترسكو لعمل بلزاكي واسع حققه إلى حد بعيد، والثلاثون قصة ورواية التي كتبها يمكن أن تكون «كوميديا بشرية» تجمع حقائق المجتمع الروماني من 1920 إلى 1944 وتنقدها بلا رحمة، مثل: «كاليافيكتوري» و«كنز الملك درماييتس»، و«الذهب الأسود»، و«يوم أحد الأعمى»، و«عين مصاص الدماء»، و«كارلتون»، و«في الجنة العامة»، و«مدينة البطارقة» ... إلخ.
ومنذ سنة 1944 دخل سيزار بترسكو - عضو أكاديمية الجمهورية الرومانية الشعبية - معركة المثقفين الرومانيين من أجل بناء الاشتراكية، ولم يتخل عن هذه المعركة التي يساهم فيها بقصصه واستطلاعاته ومذكرات سياحاته، مثل: «تعال وسوف ترى»، و«رجال الأمس واليوم والغد»، و«مذكرات ثأر»، و«تأملات كاتب» ... إلخ. (1) الذهب الأسود
لقد حول اكتشاف طبقات كبيرة من البترول - في سرعة - قرية بيكول فويفوديزي إلى مدينة ، وأدى تدفق الذهب الأسود إلى تغيرات اجتماعية عميقة، ولما كانت رءوس الأموال الرومانية قد أصبحت سريعا غير كافية، فقد تكونت شركة دولية مديرها العام إنجليزي هو ريجينالد جيبونز، وأسرع أليكوتوادر بربكوب ككثير غيره من الفلاحين إلى بيع أرضه للشركة المستغلة وبدد - بسرعة - المال الذي دفع له واستسلم للخمر، ولما لم يعد يملك غير بيت صغير، فقد اضطر إلى أن يقبل وظيفة متواضعة كحارس للمغارة، ولكن كانت له بنت هي هينوتزا الرقيقة الرائعة الجمال التي تعلق بها ريجينالد جيبوتز وتزوجها، وبعد أن أملى على بريكوب - مقابل معاش يمنحه إياه - أن يذهب ليعيش في مكان يبعد بمقدار مائة كيلو متر، وبالرغم من أن هينوتزا كانت مخطوبة لغيره، فإنها قد استسلمت - كواجب - لزواج بلا حب ظل زواجا أبيض، وعاشت في إطار باذخ، ولكن مع رجل بارد العاطفة، لا بد أن تخضع لمطالبه المذلة، وأصبحت حياتها من يوم إلى يوم أقسى احتمالا؛ حتى اضطرت المرأة الشابة أن تسلم نفسها بإرادتها إلى موت فظيع في لهب جردل من البنزين أشعلته بنفسها.
وعند العودة من تشييع الجنازة أخذ المهندس سباستيان لودوس الذي أحب المتوفاة حبا لم يعترف به قط، والجيولوجي الهولندي فان دن فونديل يتحدثان في مكتب بمعمل التكرير.
انهار سباستيان لودوس على مقعده وجبهته في يده، وعلى المقعد الآخر أمام المائدة جلس فان دن فونديل.
وبنفس خاوية أخذ ينظر إلى الطين الذي يغطي حذاءه وقد احتفظ في يده بالصحيفة الهولندية التي كان البواب قد أعطاها له فأخذها منه آليا.
كان الاثنان عائدين من الجنازة، ولم يكونا يستطيعان أن يقولا لماذا جاءا إلى هنا بدلا من الذهاب إلى مكان آخر، ولماذا أتيا معا بدلا من أن يبحث كل منهم عن رفيق آخر أو يبقى وحده خاليا بنفسه.
وفي الخارج خلف زجاج النوافذ المخططة بشعيرات المطر، كانت الحياة في معمل البترول تجري كالمألوف في مدينة المضخات والأفران والبطاريات والبروج والقباب والأعمدة والخزانات، والعمال يروحون ويغدون محملين بالمواسير والآلات في أيديهم، وعربات النقل تمر في ضجة، والدخان الذي تسوقه السحب والمطر يطفو كأعلام منكسة، والرياح تدفعه فيتبدد، محاولا التسلل على طول النوافذ، متلويا - في عناد - كأنه دخان نار أوقدت، ويبحث عن منفذ إلى السماء ولكن السماء ترده إلى عالمه، عالم الأبراج والأفران والبطاريات والخزانات.
وقال سباستيان لودوس - في صوت مكتوم: «سأعترف لك بشيء ... وهو اعتراف صعب، ولكنني أعرف أنه سيصبح غدا أكثر صعوبة، غدا وفي المستقبل وإلى الأبد» ... ولم يقم فان دن فونديل بأية حركة، ولاح أنه لم يسمع شيئا واستمر ينظر إلى الطين الذي يغطي حذاءه، وقد انهارت رأسه المستديرة فوق صدره، وكأنها تستعد لأن تنفصل وتتدحرج عند قدميه.
واستأنف سباستيان لودوس قائلا: «أعتقد أنه بالنسبة لهذا الكائن.»
وتوقف لأن الألفاظ لم تسعفه، وقد ظل الاعتراف غامضا حتى بالنسبة له نفسه، وكان من الصعب أن يدلي به للغير.
ورفع فان دن فونديل يده الممسكة بالصحيفة وأسندها إلى حافة المائدة.
وحدق فيه من تحت حواجبه الغزيرة وقال - في ألم: «أنا أعرف ... لا فائدة من أن تقول شيئا إذا كان لديك شيء من العاطفة نحوها فلماذا أخفيته؟ ... لماذا أخفيته على نفسك؟ ... لماذا لم تمنع ذلك؟»
وغطى سباستيان لودوس عينيه بيده وأجاب: «لم أكن أدرك الحقيقة، وعندما اكتشفتها كان الوقت قد فات.»
وأجاب فان دن فونديل - بنغمة قاسية: «وكيف فات الوقت ولم يمض غير ساعتين؟ فقبل الساعتين لم يكن هناك محل لفوات الوقت، وقد مضت ثلاثة أيام وثلاثة أسابيع وثلاثة شهور، ولم يكن الوقت قد فات!»
وقال سباستيان لودوس: «لقد كانت زوجة مديري.»
وهز فان دن فونديل كتفيه وحدق في وجهه بشفقة، واستمر المهندس الشاب يقول: «لقد كانت زوجة مديري، وواجبي كرجل شريف حظر علي أن أكشف لها عن مشاعري، وفوق ذلك فعلت كل ما أستطيع؛ لكي لا يثير سلوكي عندها أي شك، وتجنبتها، وعندما كنت ألقاها كنت أدير لها ظهري؛ لكي أتحدث مع أي إنسان ألقاه في أي موضوع كان.»
وقال فان دن فونديل بابتسامة مرة: «لقد كنت بطلا ... رجل شرف ... لو كنت وغدا لدنست شرفها ، ولكننا ما كنا لندفن اليوم حفنة من الرماد!»
وجرت في سابستيان لودوس رعدة، وأخفى وجهه بين يديه، واستمر فان دن فونديل - في غير رحمة - قائلا: «لقد كانت وحيدة وتعسة، وكان شبابها في حاجة إلى دفء شباب آخر، ولم نستطع أن نفعل شيئا لا أنا ولا الثري زهاربادو هو ولا السيدة مداليا جريتزسكو زوجة كبير المهندسين، ولكن أنت، أنت الذي كنت تحبها، يا له من شيء محزن! لقد كان يكفي أن تحس بهذا الحب من بعيد، والحب يولد الحب، وعندئذ كانت ستجد فيك سندا كاللبلاب الذي يتسلق على الجدار.»
وتمتم سباستيان لودوس قائلا: «لقد كانت شريفة متكبرة.» - متكبرة؟ ... لا ... ولم يكن هناك ما يدعوها إلى ذلك. وأما شريفة فنعم، ولكن الحب لا يخل بالشرف، وكان من الممكن أن تحب، وكنا نستطيع أن نبعدها من هنا، وكنت أنت ستنتزعها من هنا، وبعد أن ترحل تلحق بها. - إن مستقبلي إن لم يكن يسمح بذلك ... وكان فيه تحطيمه.
وزمجر فان دن فونديل - في نغمة كئيبة: آه ... المستقبل ... البترول، هناك في لندن أبله آخر هو خطيبها الأول الذي ذهب إلى هناك؛ لكي يرتب لمستقبله على جثتها ... المستقبل! ... البترول! ...»
ونظر إلى الخارج من خلال النافذة.
ومن كل جانب كانت الحركة دائبة حول الغلايات الملتهبة وكائنات لطحنها الدخان بالسواد حول الغلايات الحمراء والسواء.
وقال - وهو يضرب بالصحيفة حافة المائدة: «هل لاحظت أن وجهه لم يبد عليه أي انفعال؟ لقد بكى الجميع وانتحب الجميع واهتز الجميع من شدة الانفعال، بما في ذلك مدام تينا ديابوني زوجة ناظر المحطة نفسها، وأما هو فقد مر متقلص الفكين، ونظرته مثبتة أمامه.»
وعندما انتهى كل شيء قفل راجعا واعتزل في بيته، وكان همه الأول والوحيد إزالة آثار الحريق بأسرع ما يمكن، وأنا متأكد أنه الآن يدخن ويقرأ جرائد لندن.
وضرب فان دن فونديل المائدة في عنف من جديد بالصحيفة، فتمزق غلافها واستمر يمسك بالصحيفة آليا كما أخذها من البواب، وهو يوقع جمله بضرباتها على حافة المائدة، وسقطت عيناه على عناوينها الكبيرة.
وترك الصحيفة تفلت من يده ثم التقطها وأخذ يقرأ: «ليد في 18 سبتمبر، إن التحقيق الذي جرى حول موت المهندس و. و. سووموندان لم يسمح حتى الآن بالكشف عن السر الذي يقلق منذ ثلاثة أيام مدينتنا الهادئة، وافتراض الانتحار قد نحي جانبا، وليس هناك شك في الوقت الحاضر في أن المخترع البائس قد مات مقتولا، وباعث القتل كان السرقة فيما يبدو، الأدراج والمكتب والدواليب قد وجدت كلها مقلوبة رأسا على عقب، والأوراق في حالة فوضى بالغة، فقد عثر في المدخنة على بقايا رماد، ومن المعروف أن المهندس و. و. سووموندان يعيش منذ اثني عشر عاما معتزلا في مسقط رأسه، عاملا وحده في معمله الخاص المتواضع، مستغرقا في مشكلة العصر المثيرة، مشكلة مستخرجات البترول.
ونحن نميل إلى الربط بين نهاية هذا المواطن التعس والنهائية الغامضة التي انتهى إليها المهندس رودولف ديزل مخترع المحرك ذي الاحتراق الداخلي الذي يحمل اسمه، والذي أحدث ثورة في الصناعة الحديثة، فعلى نفس النحو في 30 سبتمبر سنة 1913 اختفى المهندس رودولف ديزل الذي كان عندئذ في عنفوان العمر، وهو يتأهب للسفر إلى لندن لكي يناقش تطبيق اختراعه الجديد الذي كان من المقدر أن يغير بناء محركات الغواصات، ونحن نستند على هذه السابقة وعلى الصراع الدائر بين شركة شل الهولندية ومجموعة روكفلر؛ لإحباط المحاولات التي يقوم بها الدكتور فردريك برجويس مكتشف الوقود الصناعي، ولما كانت تلك المجموعات قد انتهت باحتكار شركة بيرجينا الدولية لإنتاج البترول الصناعي، وبذلك أصبحت تحتكر في الوقت الحاضر تنفيذ براءات الاختراع، فإننا نعتقد أنه من الممكن الادعاء بأن المجرم القاتل كان يعمل لحساب أحد هاتين المجموعتين القويتين، فمثل هذا المنافس الخطر كان لا بد من إزالته بأي ثمن وبكافة الطرق.
وجريمة القتل تعتبر من هذه الناحية من أسهل الوسائل في عصر يمكن فيه أن تعد من شيكاغو خطة محكمة لقتل إنسان مقابل خمسمائة دولار، وبذلك تفقد مدينتنا ابنا نبيلا، بل أكثر من ذلك؛ تفتقد الإنسانية رجلا نافعا.»
وإن فان دن فوندل وهو يقدم الصحيفة إلى سباستيان لودوس ويقول: «اقرأ إذن ... المستقبل ... البترول!»
ثم تذكر أن المهندس الروماني لا يستطيع أن يفهم المقال المكتوب بالهولندية فطوى الصحيفة ونهض كما نهض بدوره سباستيان لودوس.
ونظرا من خلال النافذة، ثم اقتربا مجذوبين بما يجري في الخارج.
وعند الباب كان أليكو توادير بريكوب مشتبكا مع أحد الحراس.
كان يريد أن يدخل والحارس يحاول أن يمنعه؛ فصعقه أليكو توادير بريكوب بلكمة من قبضة يده وعبر على جسمه.
ووصل مضموم القبضتين عاري الرأس بارز العينين، وفي المقبرة وقف صامتا محطما مرتخي الجسم يتحامل هنا وهناك دون أن يلفظ بكلمة أو يبدي مقاومة.
والآن فقط أخذ اليأس يدب في نفسه، فإحدى بناته كانت قد أهلكتها صاعقة من السماء، والأخرى صاعقة من أحشاء الأرض، واقترب بارز العينين مضموم القبضتين مشعث الشعر.
وأراد سباستيان لودوس أن يضغط على الجرس، ولكن فان دن فوندل أمسك بيده ولواها قائلا: «اتركه، إنه الهياج الجنوني.»
وخضع المهندس وإن لم يفهم.
وأما المهندس الأجنبي المحتل الذي جس الذهب الأسود في كافة أركان الكرة الأرضية من القطبين إلى المناطق الاستوائية إلى كافة الأطراف المتقابلة، فإنه كرر وكأنه يحدث نفسه: «أنا أعرف ما هو، إنه الهياج الجنوني الذي يحسه الأهالي، وهو في هذه اللحظة هياج فردي أعمى انبثق عن اليأس، أعمى وفرديا، وهو أول عرض وأول نذير، ولكن بعد ذلك وفي الغد وبعد عام أو عشرة أخشى أن يتخلى هذا اليأس الأعمى الفردي عن مكانه ليحل محله صراع من نوع آخر، صراع منظم واع تقوم به الجماهير الشعبية لاسترداد حقوقها وحريتها وثرواتها التي طالما سلبها منهم أسياد اليوم وشركاؤهم في الجريمة، وهذا أمر حتمي لا مفر منه، وأما نحن فلا نستطيع ذلك، وإنما يستطيعه أولئك الذي سيفعلونه حتما وكقدر لا مفر منه، وهذه هي الأمارة التي كنت أنتظرها يا زميلي وصديقي الشاب!»
وصمت.
صمت ونظر وهو يقترب خطوة.
ومر أليكو توادير بريكوب أمام النافذة مشدودا في الملابس الضيقة لحضري من الضواحي، حيث كان قد نفي بإرادة السيد ريجينال ديبونز، مر كشبح ضخم مخيف حجب ضوء النهار كله.
وحاول رئيس عمال بولندي أن يقول له شيئا، ولكن أليكو توادير بريكوب ألقاه بظهر يده في الوحل وواصل طريقه، فهياجه الجنوني لم يكن يبحث عن رجال، على الأقل في تلك اللحظة.
وخلع أليكو من العقب باب كشك المراقبة، بقفله وما يتبعه.
وفهم سباستيان لودوس ...
كما فهم دون فوندل أيضا.
واستدار المهندس الروماني ليمسك بالتليفون.
ولكن الأجنبي قبض على ذراعه، ومرة أخرى سلم سباستيان لودوس - بسلبية أدهشته هو - نفسه، وغطى عينيه وأذنيه إذ كان يعرف ما سيحدث حتما.
وأدار الرجل الهائج عندئذ المفاتيح المتحكمة في الضغط: مفتاحا ثم مفتاحين فثلاثة فستة، وأصبحت غلاية ثم اثنتان ثم ستة على وشك الانفجار بعد عشر دقائق.
وأشعل فان دن فونديل غليونه وجلس على حافة النافذة وانتظر.
وفي مدينة الأفران العالية والغلايات والبروج والمخازن، المدينة المحاطة بأسوار حمراء، أخذت تجري وتضطرب وتتزاحم وتتناثر في كل ناحية أشباح سوداء، وتأتي لتدق باب المكتب، وترك فان دن فونديل النافذة لكي يدير قفل الباب مرتين، وبذلك لم يعد يزعجه أحد، كما لم يعد أحد يستطيع أن يستنجد بالتليفون.
وبعد شهر أو شهرين ستعود الغلايات مرة أخرى إلى مكانها وتعمل من جديد ولن يتغير شيء.
ولكن الرجل المشعث الشعر الموجود الآن في كشك المراقبة كان قد وصل إلى حقه في التنفيس عن ذلك العبء الكبير الخادع من الجنون الهائج.
وفتح سباستيان لودوس عينيه وأذنيه، بينما أخذ فان دن فونديل يدخن في هدوء وينتظر.
الانفجار المروع ... سيل من النار انقذف ليغزو السماء، ثم انفجار ثان آخر وغيرهما ... وأخذت النار تندلع من مخزن إلى آخر، راقصة متداخلة تصبغ السحب باللون الأحمر وتتبدد ثم تلتقي من جديد، وتهز في الهواء ستارا أحمر يشبه قطيفة الأرائك وستائر النوافذ.
وقال فان دن فونديل - وهو يضع يده على كتف سباستيان لودوس: «والآن نستطيع أن نذهب، أن نذهب لأداء واجبنا.»
وأدار المفتاح وفتح الباب.
وخرج الاثنان وسط الحريق الذي تتحرك فيه أشباح سوداء بعيدا عن الغلايات والأفران المتفجرة التي كان ينبعث منها سيل ضخم من اللهب والدخان.
وشق أليكو توادير بريكوب لنفسه طريقا عبر العقبات البشرية وقبضة يده إلى الأمام، وعيناه داميتان وشعره متناثر جاف، وأخذ يلكم بقبضته دون أن يعرف من يلكم؟ ولماذا؟
ومر إلى جواره.
وصاح فان دن فونديل: «بريكوب»!
ورد عليه أليكو توادير بريكوب بلكمة من قبضته في صدره؛ فترنح فان دن فونديل وسقطت قبعته وغليونه والصحيفة التي كان يحملها آليا.
وانحنى وجمعها في هدوء، وبكم سترته مسح قبعته، ثم وضع الغليون والصحيفة في جيبه، وأضاء اللهب رأسه المستديرة بشعاع مخيف كما أضاء الجميع.
وانفجرت غلايات أخرى في زمجرة الزلزال وهزت الأرض والجدران وأطاحت بالنوافذ هشيما.
وأخذ سباستيان لودوس يجري في كل ناحية، ويتحرك - في صخب - عاري الرأس، معطيا أوامر قصيرة عديمة النفع، واستدار فان دن فونديل ليرى إلى أين يذهب أليكو توادير بريكوب وقال: «إنه الآن يطارد الرجل.»
ولكن لم يكن هناك أحد ليسمعه.
فأليكو توادير قد عبر الباب تتقدمه الجموع، مطلقا صرخات مخيفة، وشق العملاق طريقه عبر الجمهور وهو يضرب بلكماته - على غير بينة - الرءوس والصدور.
ووصل إلى باب ريجينالد جيبونز، وهز الأقفال الثقيلة ولكن الحديد كان أقوى من قبضته، وأقوى منه الجدران والحجارة.
واقتربت منه فتاة صغيرة في رداء وظيفي أسود، وقالت: «السيد بريكوب!»
وبكف ملطخة بالدم دحرجها العملاق في الطين.
ونهضت نيفاستويكا صديقة المرحومة.
لم تقل شيئا، ولم تبك ولم تمسح الطين الذي لطخ مريلتها الجديدة، بل تسللت تحت ذراع الرجل، ووقفت على أطراف أصابع قدميها وأدارت القفل؛ فانفتح الباب وقالت: «هيا! سأفتح لك أيضا باب الدخول.»
ولكن أليكو توادير بريكوب سبقها، فباب من ألواح البلور يكفيه كتفه.
الكتاب الثاني، الفصل التاسع
ال. ساهيا (1908-1937)
بالرغم من موت ساهيا المبكر، فإنه يعتبر رائد هذا الجيل الشاب من الكتاب التقدميين الذي يزدهر اليوم في رومانيا.
لقد عمل صحفيا مكافحا في سبيل الأفكار اليسارية في «العهد الجديد» و«القمصان الزرقاء»، وترك ساهيا إنتاجا صغيرا منعه الموت وحده من أن يثريه ويتمه، وفي قصصه وحكاياته كان أول من حقق الطريقة البسيطة المباشرة في وضع المشكلات وتصوير الناس في مثل: «ثورة الميناء»، و«المصنع الحي» أو «أمطار يونيو» التي تعتبر اليوم من القطع الكلاسيكية في الأدب المستوحى من حياة العمال.
ونزاهته العقلية وشجاعته، وروحه الديمقراطية الصامدة لا تزال تعتبر مثلا حيا لكتاب اليوم الشبان، الذين يواصلون اتجاهه في الكتابة والكفاح وسط الظروف الجديدة التي تلت التحرير. (1) أمطار يونيو
كانت شمس يونيو تصوب أشعتها الحارقة إلى السهول، وقد جف العشب جفافا تاما وغاض عصير الحقول، فالقمح نادر والسنابل ضامرة، وشواشي الأزهار البرية الزرقاء ونبات ذيل القط تنتثر على جوانب الدروب الصلبة.
وكانت بعض بخات من المطر قد سقطت حول منتصف مايو، ثم لم تسقط بعدها قطرة ماء واحدة.
واتخذ سهل برجان منظرا جهما، ونهر إيالو منزا ينساب في هدوء بين شواطئه المحروقة ليتجه نحو الدانوب.
ومن وقت إلى آخر يخترق الهواء الخانق صهيل مكتوم لأحد الخيول، والسماء صافية زرقاء، وفي الأفق من ناحية المستنقعات على حدود برجان أخذت ترتسم سحابة واحدة وهي تتقدم نحو حاصدي القمح.
وقطع بيتر ماجون عمله ونهض وهو يقرقع عظامه، وهب نسيم خفيف من الشرق على ظهره فنفخ قميصه المبلل بالعرق، وقد نصل طلاء مقبض منجله الأزرق على راحة يده اليمنى؛ فرشق آلته في حزمة من القمح، وانتزع بيده حزمة من اللبلاب ودعكها بقوة بين راحتيه، ولكن الطلاء الأخضر كان قد تسرب إلى المسام فلم يستطع محوه، وأخذ العرق يتصبب من جبهته على خديه زاحفا إلى ذقنه؛ لكي يسقط فوق صدر قميصه.
كان بيتر ماجون طويلا ضامرا طويل الرقبة كالنعامة، وحزمة من البوص تلف خصره، وكان يعمل عاري القدمين مرفوع السراويل إلى ركبتيه، وبذلك يكشف عن ندبة كبيرة في ساقه اليمنى التي كانت قذيفة قنبلة قد أطاحت بسمانتها أثناء الحرب؛ مما أعطى ساقه شكل قطعة الخشب المنخوبة.
وإلى جواره كانت تعمل أنا وبطنها المستديرة تكاد تمس ذقنها، وكانت تجد مشقة في أن تتحرك، ومشيتها تشبه مشية البطة المسمنة أكثر مما ينبغي، فهي تسير منفرجة الساقين، وترسل من وقت إلى آخر أنات خافتة.
وكانت بلا حذاء هي أيضا، ويداها كبيرتان يعلوهما القشف، وكانت تمسك بيدها اليسرى في عناية بحزمة من القمح، وباليمنى تقطع السيقان في بطء لكي تتجنب الهزات.
وكانت تلبس على رأسها منديلا أصفر عقدت أطرافه على فمها لكي لا يضايقها التراب الذي يتصاعد من القش عندما تحركه، ومن الأرض الجافة ومن وقت إلى آخر، كانت تذهب لتتمدد فوق القش كحيوان أنهكه التعب، وعندئذ كانت الدموع تتصاعد إلى عينيها، وبطنها تتخذ شكل تل مشوه.
وألقى بيتر ماجون نظرة قلقة على امرأته فرآها منبعجة بشكل مخيف، وعندما كانت تنحني كان يلوح أن أنفها ووجهها كله يدخل في بطنها، وبعد كل حزمة تقطعها من القمح كانت تمسح عينيها بطرف منديلها، فتلوح لبيتر وكأنها تبكي.
فسألها: «ماذا يا أنا؟ هل تبكين؟»
لا جواب. - قولي ... هل تبكين؟
وأسندت أنا يديها فوق ركبتيها، ثم مرت بهما - في مشقة - فوق فخذيها وعجزها، وكل من هذه الحركات تزيد بطنها انتفاخا، وخلعت المنديل الذي يغطي فمها لكي تربطه على قمة رأسها.
وأجابت - وهي تنفخ: «أبكي؟ ... لماذا؟!» - لقد اعتقدت أنك تبكين. - لا ... ولكني أشعر فقط أنني ثقيلة جدا، ولا أدري لماذا أحس أنني ثقيلة اليوم وكأنني في أول حمل لي.
واقترب ثور ميزاندرو لوكيا وهو موثق القدمين، قافزا من حافة الحقل، وهو يرسل نحوهما نظرات خبيثة، ويستعد للدخول في القمح.
فأسرع ماجون إليه وهو يقسم، ويضرب بظهر منجله. - يا لله! يا لك من حيوان! أتريد أن ترعى حقلي؟ أنا لا أملك مائة فدان من الأرض بل أملك هذه النتفة!
وارتفع صوت ليزاندرولوكيا الذي كان يحصد هو الآخر على مسافة قريبة قائلا: «حيلك يا أب ماجون! لا تضرب ثوري ... بل سقه ناحيتي.»
ومرة أخرى انتشر الصمت على السهل.
وبيتر ماجون يحصد بيده العريضة حزما من القمح في حرارة ونهم بالغين، وأنا على العكس تتحرك في مشقة، فهي دائما متأخرة عن زوجها؛ ولذلك كان بيتر يعود أدراجه عندما يتقدمها بكثير.
وصمت الاثنان وأحيانا كان منجله يتعثر في بعض الجذور فيصيح لاعنا ، بينما تلوح أنا وكأنها لم تسمع شيئا، مكتفية بأن تدير رأسها نحوه وتبتسم بشدة، وكأنها تبتسم رغما عنها، فعيناها حزينتان وقد اتسعتا مسرفا.
وحوم صمت مر فوق سهل برجان، وكأنه يهتز في الهواء تحت وقدة الشمس، فالأرض تحترق، وسيقان القمح تتقصف، وأوراق الذرة تصفر اصفرارا مبكرا وتنكمش في شكل أقماع.
ومع ذلك فالفلاحون يعملون، ولا يرى الإنسان غير ظهورهم وهم يتقدمون منحنين عبر حقول القمح، فهم يحصدون وعندما ينهضون يفحصون السماء، والزنابير تضرب بأجنحتها السنابل المنحنية.
ومن ناحية المستنقعات ترتسم بقعة بيضاء هي سحابة خفيفة تكاد تشبه خيطا من الدخان على وشك التبدد.
ويمتد الجفاف متسللا كالمرض ...
ويحسه الإنسان في زرقة السماء الكثيفة، وفي خوار الدواب، وفي كل ساق سنبلة فوق الأرض المنهكة، وهو يمتد أبكما ثقيلا كالموت مبتلعا المياه والحياة.
ومرة أخرى تذهب أنا؛ لتتمدد على القش.
وينظر إليها بيتر مانجوم ويتابع بعينيه حركة بطنها وهي تصعد وتنتفض في إيقاع، ويقول: «يا لها من حياة! ... هذه المسكينة أنا ... تلد كالكلبة، وكيفما اتفق طفلا بعد آخر، ويسألها: متى الوضع؟» - في الحقيقة لا أذكر، وأظن أنه لم يحن الوقت، ربما كان بعد أسبوع.
وتبتسم وهي تنظر إلى المساء ممدة على ظهرها. - انهضي إذن ولنسرع!
وتنهض أنا وتعمل في صعوبة، وتتداخل سيقان القمح، وتترك خلفها صفا من السنابل التي يجمعها بيتر في صبر وهو يربط حزمه، وأخيرا يقول: ربما كان من الأفضل أن تذهبي لتستريحي إلى جوار العربة قليلا، فهناك ظل والحرارة أهدأ، وحملك يثقلك فيما أرى، ولا أباهي إذا ذكرت أنك تلدين في الحقول، والقرية كلها تتحدث عن ذلك. - آه ... القرية ... ليس هناك غيري تلد في الحقول، وأنا أعلم أن الرجال يضحكون ... ولكننا نحن نلد أطفالنا في أي مكان يأتينا فيه ألم المخاض، والله - لا الرجال - هو الذي ينظم كل هذا.
ومرت بطرف منديلها الأصفر فوق وجهها لكي تمسحه، وخلعت - في عناية - مريلتها من فوق بطنها، وذهبت والأرض تحرق صفحة قدميها، وكانت أنا في قوام ماجون تقريبا، وأخذت تمشي بخطى واسعة ، ولكن حملها المتقدم كان يفسد اتزان مشيتها، وظلها يتبعها - طويلا مشوها - فوق القش المنتصب، ويعكس على قمة الذهبية فيصيبها بالدكنة.
وبسرعة تمددت أنا في ظل العربة رغم ندرة هذا الظل، فنصف جسمها ابتداء من الخصر معرض للشمس، وقد أصابها بالتصلب ألم حاد، ولكن هل هو إشارة الخلاص؟ لقد وضعت مرة على هذا النحو، وكان ذلك في الخريف وقت جمع الذرة تحت مطر خفيف.
ويقلقها هذا الألم الذي يتكرر، وتأمل ألا يحدث الوضع الآن، وعرق غزير بارد يثلج كليتيها، فتفزع وتمسك بيدها اليسرى عجلة العربة، وباليمنى تتعلق بالقش الذي اقتلعته من الأرض.
وظلت ساكنة وعيناها إلى السماء وأنفاسها متوقفة.
وفي أعلى - أي في أعماق زرقة السماء - تتابع عصفوران وكأنهما نقطتان بالغتا الصغر وهما يغنيان، وعلى الأرض وسط أعواد الذرة تغني سمانة أيضا، وخطر لأنا أنه كان من الواجب أن تتمدد على الحصير الموجود إلى جوارها، ولكنها لم تجرؤ على أن تتحرك، وبقيت ممدة فوق الأرض العادية.
ودنت من وجهها ضفدعة مبللة الظهر وهي تقفز، ثم وقفت وحدقت في أنا فاغرة فاها، وعيناها جاحظتان، وحلقها المبرقش بالبياض ينبض.
وتقززت أنا وودت لو طردتها، ولكن الآلام ترهقها الآن، ولا تسكت عنها، فانطوت على نفسها وهي تئن، واشتدت قبضة يدها على عجلة العربة، وارتعدت ركبتاها فجأة، وأحست كأن ساقيها تنزعان من الفخذين.
وتلا تلك الهزة إحساس بالانتعاش، وغمرت النشوة قلبها وأشاعت البريق في عينيها المليئتين بالدموع، وتخلت عن عجلة العربة ومسحت التراب الذي كان لا يزال عالقا براحة يدها اليسرى.
وعندما نهضت على ركبتيها كانت عيناها مضطربتين محاطتين بهالات سوداء، وبيديها المرتعدتين الهزيلتين انحنت؛ لتأخذ الطفل الذي كان يرفس بساقيه في القش.
وكانت شذرات من القش والتراب قد لصقت بلحم الطفل الأحمر، فنهضت الأم ورفعت الطفل إلى السماء وهزته عدة مرات، فانطلقت منه صيحة، وفي لهفة أدنت أنا الطفل من ثديها وقبلت رأسه.
وانتزعت القش ومسحت التراب عن الطفل، وخلعت مريلتها وطوتها وجعلت منها لفة للطفل، ثم وضعته بسرعة في العربة التي مدت فوقها الحصيرة لتظللها.
ثم أصلحت ملابسها واتجهت نحو زوجها؛ لتواصل العمل إلى جواره وكأن شيئا لم يحدث.
كان بيتر ماجون يسبح في العرق، وكأنه خارج من الاستحمام في النهر، ومن خلفه عشرات من حزم القمح ملقاة على غير نظام، وقد أصبح الجو خانقا، واتخذت الأرض لونا بنفسجيا، وكأن حريقا قد شب في سهل براجان.
واقتربت أنا من بيتر، ولكنه ظل منهمكا في عمله، وظلت واقفة منتصبة، والمنجل في يدها تنتظر أن يتكلم، وماجون يستمر في الحصد متحمسا بلا هوادة، وبضربة قوية يقصف أعواد القمح المنحنية على شبا منجله.
وقالت له أنا: «بيتر أنصت إلي ... بيتر ... لقد وضعت.»
ودون أن ينهض أدار ماجون عينيه نحوها.
وتكلمت المرأة بصوت خافت، وهي تحس بطعم الرماد بين شفتيها: «نعم يا بيتر ... لقد وضعت.»
وسقط المنجل من يدي بيتر ونهض. - وما حيلتنا في ذلك؟ لقد حدث لي ذلك مرة أخرى في الخريف في يوم ضباب.
وأرد بيتر أن يقول شيئا وأن يقسم بأغلظ الإيمان، ولكنه استسلم بسرعة واسترد منجله، وبينما كان يحصد حزما جديدة من القمح سأل: «أهو غلام؟» - نعم غلام.
فطالت عنقه أكثر من ذي قبل فهي أشبه بعنق النعامة.
وانشق فمه عن ضحكة عريضة صامتة، ثم قال: «ولماذا عدت إذن؟» - لقد انتهى الأمر الآن، وأحس أني خفيفة.
وها هي تحصد من جديد، ولكن متخلفة بكثير عن بيتر الذي يسرع وكأن الذئاب تطارده، والسنابل تحك ذقنه المبللة بالعرق، وتعلق بها بعض أعواد القش.
وأخذت ريح خفيفة حارة تهب من ناحية الشرق وتحمل في دوامات المسك والأزهار البرية، ويختلس بيتر نظرة إلى أنا كلما وضع حزمة على الأرض، إنها بغير مريلة، وجونلتها منحرفة عن وضعها، وبصعوبة تستطيع أن تضم السنابل في يدها، ومنجلها يهتز، وهي الآن توحي إليه بالحزن المثير، فهي لم تكد تضع طفلهما الثامن، ومع ذلك ها هي تعود إليه لتعمل!
وفجأة انتصبت أنا زائغة العينين والمنجل في يدها وقالت: «أحس بالألم من جديد يا بيتر، سأذهب.» - اذهبي ولا تعودي ثانية إلى هنا، ابقي إلى جوار الطفل واحرسيه من أن يتسلق عليه النمل وهو نائم وغطه جيدا.
ومرة ثانية أصبح بيتر وحده، بينما اتجهت أنا ناصلة الشفتين بأسرع ما يمكن نحو حافة الحقل حيث تقع العربة وبها الطفل، ولكنها لم تكد تصل حتى أخذت نفس الآلام وبصورة أكثر عنفا تمزق أحشاءها وأخذها الخوف، وتمددت إلى جوار العجلة، واقترب منها طفل حاملا زجاجة بين ذراعيه لكي يطلب إليها بلا ريب ماء، ولكنه لم يكد يراها بهذا الوضع حتى ولى جاريا وهو يتعثر.
ودخل ثور ليزاندرو لوكيا إلى أرض بيتر ونطح بقرنه رحى القمح، وقالت أنا: «ألا ليت بيتر يعود ليراه.»
وقلص الألم جسمها، وتعلقت من جديد بعجلة العربة وأطلقت أنة، ثم شعرت براحة نهائية لا حد لها، وسمعت صرخة قصيرة فنهضت واقفة مبتسمة واستخلصت من بين القش الطفل الثاني، وفي جو يونيو المحترق أخذت وأوأة الطفلين تتردد في الحقول، وأنا تصغي إلى تنفس الطفل الثاني الذي لم ينتظم بعد.
وحومت فراشتان حولها فضمت في خوف الطفل إلى صدرها وهي تلوح لتطردهما، ولف خبر وضع أنا زوجة بيتر مانجون لغلامين الحقل بسرعة، فانبثقت تلقائيا قابلات عديدات فيما يشبه المعجزة، وأخذن يغسلن الطفلين بالماء الممتوح من البئر وينتزعن خيط قطن أحمر من ملابسهن؛ ليقمن بواجب ربط الحبل السري.
وقطع بيتر عمله؛ ليأتي إلى جوار زوجته، وأدهشه التجمع الذي تكون حولها حتى أخذه قلق غامض، فاستند إلى نير العربة وترك نظراته تطفو فوق الحقول وكأنه غريب عما يجري حوله، وغير بعيد كانت خيوله المربوطة في أوتاد تلف دوائر وهي تضرب بألسنتها القش المسحوق تحت حوافرها، وتنفخ في ضجة فتثير من حولها سحبا من التراب.
وقال أنتوني لانجو - وهو يتكئ بمرفقيه فوق العربة: «إن الإنسان يستطيع أن يعد ضلوع خيلك يا بترو، فإذا لم ينزل المطر فسوف تموت جوعا.»
واقترب بيتر وهو يقول: «إنها لم تعد حياة، عندي سبعة أطفال وبالاثنين الجديدين يصلون إلى تسعة، وبإضافة شخصينا يصبح المجموع أحد عشر فما تحتاج إلى الطعام، ولنفترض أن الاثنين الصغيرين لا يحتاجان بعد إلى كثير من الطعام، ولكن يبقى التسعة الآخرون، وأنا لا أملك غير هذه القطعة الصغيرة من الأرض، ولم أدفع بعد ضريبة العشر ولا بدل المرعى.»
أسرع إلى الدفع وإلا جاءوك يوما فأخذوا جميع حاجياتك، وأنت تعلم ما حدث للآخرين الذين أخذوا منهم الأغطية نفسها. - وماذا أفعل؟ ... من السهل أن تقول: أسرع. - بع شيئا. - أنا أبيع؟ ... وهل لدي شيء أبيعه؟
وفجأة تغطت السماء بسحب رمادية، آتية من المستنقعات ومن حواف سهل برجان، وكانوا قد رأوا مثلها من قبل أكثر سوادا، ولكن أقل ارتفاعا تهبط على الدانوب.
وفقدت الشمس بريقها بعد أن حجبت السحب جزءا منها.
وظلت الحرارة خانقة ثقيلة على امتداد الحقول.
ومع ذلك أخذت تسري - في هبات - تيارات من النسيم المنعش.
وزمجر الرعد وتدلت السحب إلى أسفل، ولكن الأرض ظلت حارقة تحت صفحة الأقدام.
وقال أنطوني: سأذهب، فلربما أمطرت.
وأصبحت أنا الآن وحدها في العربة وطفلاها بين ذراعيها، وجلست على سرير من الحزم الذي أعدته الفلاحات لكي يخفف من اهتزاز العربة التي جلست فوقها على مستوى أعلى من الحاجز، وفي هذا الوضع كانت تشبه العذراء المقدسة.
وأخذ الرعد يقصف بسرعة متزايدة، وقطرات المطر الأولى تسقط كبيرة ثقيلة، وفك بيتر رباط الخيل وشدها إلى العربة بسرعة ووضع ملابسه في العربة، وألقى نظرة أخيرة؛ ليتأكد من أنه لم ينس شيئا. - أنت مستريحة عندك يا أنا؟ - نعم، لكن لا تسرع.
وأخذت الخيل تمشي وحدها، واطمأن بيتر إلى أنها قد أحست قدوم العاصفة؛ ولذلك أسرعت.
وكان المطر أكثر كثافة ناحية القرية، فهو يهطل مثيرا التراب، ويمتد فوق السهل بسرعة وكأنه ستارة من اللؤلؤ، والخيل تصهل وتنصب آذانها، وبيتر يبسط الحصير وكأنه خيمة فوق أنا وطفليها.
وبعد أن كان المطر غير ملموس وكأنه زفرات الريح لهبوطه رذاذا، أخذ يهطل في بخات قوية قصيرة، أشعثا هائجا فوق برجان، واحتمى بيتر أيضا تحت الحصير، ولكن ساقاه ظلتا عاريتين، وصنعت أنا لطفليها من جسمها واقيا آخر بأن انحنت فوقهما وهي تضعهما فوق ركبتيها وتحتضنهما بين ذراعيها، وعند كل هزة من العربة تصيح: «هدئ يا بيتر، هدئ»، وترفع - في رفق - الطفلين وتنظر إليهما في قلق.
وأخذت الخيل تتقدم في ركض عنيف، والمطر يثير فوق الطريق رائحة الأرض المبللة.
وأخذ الماء يسيل في الأخاديد التي تحفرها العجلات ليصب في الحفر، والأعشاب والحسك والأزهار - وقد غسلت ونضرت - نهضت على حافة الطريق، بل والقش الذاوي نفسه رفع - بعد جفاف - أشواكه كالفرشاة.
ويخترق المطر الحصير فيبلل الشوفان والقش، وتنطوي أنا في نصفين فوق طفليها، ومن وقت إلى آخر تدني شفتيها من أنفهما؛ لتتأكد من أنهما لا يزالان حيين، وتشعر بنسمات دافئة من الهواء تداعب شفتيها: إنهما يتنفسان!
وخرج بيتر من تحت الوقاء مفضلا أن يجابه المطر، وألقى نظرة على أنا؛ فرأى عينيها مبللتين بالدموع، وقد ألصق المطر منديلها برأسها وتقلص وجهها وشحب.
وأحس ماجون هو أيضا بشيء رطب دافئ يبلل عينيه، ولكنه لم يعرف هو نفسه ما إذا كان يبكي أو أن المطر قد أخذ ينزلق فوق وجهه.
وعلى جانبي الطريق كانت الحقول المنتعشة السوداء تلوح وكأنها تجري تحت المطر الهادر المزبد، وكم لاحت له خيوله هزيلة تحت الطاقم الثقيل الذي يضرب جنوبها المبللة، ومع ذلك أخذت تعدو ومانجون يضرب كفليها بمقبض سوطه، وكل ضربة تتبعها قفزة مفاجئة من العربة، وأخذه القلق فاستدار برأسه ناحية أنا لكي يتأكد أنها لا تشكو من شيء، ولكن أنا لم تعد تتلفظ بشيء منذ وقت طويل.
وسقطت الصاعقة عن بعد ممزقة قبة السماء من ناحية الشرق.
وتحت سهام وابل المطر لاحت القرية ميتة، وأزت عجلات العربة المبللة وهي تستدير فجأة؛ لتعبر البوابة وتقف في الفناء.
وقفز ماجون إلى الأرض، وأمام المنزل خرج الأطفال ووقفوا صفا وهم يعلمون أن أمهم تحت الغطاء، ولكنهم لا يفهمون لماذا تأخرت في النزول، وانطلق بيتر نحو أقصى الفناء وصاح: إيه ... يا أب فاسيل ... يا ابنة العم ماريا ... احضروا بسرعة، ساعداني على إنزال أنا من العربة، فقد وضعت في الحقول.» وأسرع الجيران عراة الأقدام وهم يحمون رأسهم بقماش الجولات، واقتربت بنتا أنا الكبيرتان، وبكتا دون أن تعلما ماذا حدث، وقفز بيتر من جديد داخل العربة، وسحب الطفلين الواحد بعد الآخر من تحت الحصير وأعطاهما لابنة العم ماريا التي احتضنتهما فوق صدرها، وغطتهما بطرف شالها، وأسرعت بهما إلى البيت، وأنا بحكم بقائها طوال الوقت منحنية فوق طفليها قد تخشبت وكأنها قد انكسرت إلى نصفين.
ويستطيع الإنسان أن يسمعها إلى جوار الطفلين في السرير القائم عند النافذة.
والأطفال السبعة يبكون خائفين ولا يجرءون على دخول المنزل، وقد بقي بعضهم في الشرفة، والبعض الآخر في الردهة، وهم في قذارة ممزقو الثياب.
ويتركهم بيتر يجأرون دون أن يلقي إليهم بالا، ومن وقت إلى آخر تتراءى أمامه صورة ملحة، صورة وجبة كل يوم لتسعة أفواه جائعة دائما ويجب مع ذلك إطعامها، وعما قريب ستصبح أحد عشر فما.
نعم كل المطر قد نزل، ولكن قطعة أرضه الصغيرة لن تزداد خصبا، وأما من يملكون مائة هكتار يفلحونها بواسطة خدامهم فالأمر مختلف.
وخرج تحت المطر وهو يلعن؛ لكي يفك خيوله التي تركها تمرح في الفناء.
وأخذت بطة ضالة تصيح في يأس، وبيتر يحس بوخز في ساقه المجروحة.
ووصل جاراه فاسيل وماريا إلى عتبة البيت مغطيين رأسيهما بالقماش. - لا تقلق يا ماجون ... إنهما غلامان، مبروك.
وأراد بيتر أن يرد وأن يشكرهما، ولكنهما لم يعطياه الوقت، فقد وصلا إلى الشارع، وهدأ المطر فلم تعد تسقط غير قطرات نادرة من الماء، وأوراق الطلح تهتز فتقلق راحة العصافير في أوكارها.
واصطف أطفال ماجون من جديد أمام الباب، ووضعت أنا رأسها في النافذة وهي صفراء كالشمع، وظل بيتر وحده في الفناء وقدماه الكبيرتان العاريتان مغروستان في طين أمطار يونيو، وليست لديه أية رغبة في الدخول، وصهل أحد خيوله، وأحس بأن صيحة الحيوان الجائع تتخذ شكلا وإطارا؛ لتبقى معلقة على طلح الطريق تحت بصر أطفاله.
وخرج ماجون من الفناء؛ ليذهب إلى بيت أنطواني لونجو متشوقا إلى أن يعرف عند من ذهب صيارفة الخزانة في ذلك اليوم، وهل وقعوا الحجز على حاجيات أحد؟
ولم يقل شيئا لأنا ولا لأطفاله، وعبرت أصوات الصهيل السور من جديد قادمة من الفناء، وتقدم بيتر مبهوتا إلى وسط الطريق وأصوات الصهيل تتبعه، ويراها معلقة على أشجار الطلح وهي تلح عليه، ولكنه يحاول أن يفهم قائلا: «هل حدث أن رأى إنسان صيحات معلقة بأغصان الأشجار؟»
وهبط المساء - في هدوء - بخطى ناعمة، وصفت السماء، والشمس الغاربة ترسم أزهارا بنفسجية فوق زجاج نوافذ المنازل الريفية.
زهاريا ستانكو (1902)
زهاريا ستانكو الصحفي المكافح والشاعر الموهوب (قصائد بسيطة) فيما بين الحربين اكتسب شهرة دولية؛ بفضل روايته «حفاة الأقدام» سنة 1948 التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة من لغات العالم، وستانكو بارع في بعث التاريخ الذي عاشه طفلا وشابا، واتخذ منه مادة لهذه القصة، فهي اعترافات حياته الخاصة، وفي نفس الوقت لوحة اجتماعية وسياسية للحياة الريفية والحضرية منذ أربعين عاما، وواقعة القصة ترتبط عنده بلغة تصويرية تعطي صفحاته طابع الشعر المنثور.
ولنذكر له أيضا قصته الكبيرة «أزهار الأرض» وروايته «الكلاب» التي خصصها لكفاح الفلاحين سنة 1907، وحديثا أعطانا عضو الأكاديمية زهاريا ستانكو الحلقة الملحمية «الجذور مرة» التي ترسم لوحة ضافية للمجتمع الروماني البرجوازي والكفاح الشيوعي قبيل الحرب العالمية الثانية. (1) زهرة الليلا «الرواية رجل من سكان المدن أبيض الشعر مجعد الوجه يأتي بعد سنوات طويلة من الغيبة ليحضر أعياد رأس السنة في القرية مسقط رأسه، حيث كان كل شيء قد تغير منذ وقت طويل، فلا يلتقي بأحد ولا يعرفه أحد.
ومنع ذلك يلتقي عند البئر ذي الدلو بامرأة ذابلة عجفاء مشغولة بملء جرادلها، منها فيلمونا التي أحبها عندما كانت أشجار الليلا مزهرة، وكانت تغطي رأسها بمنديل من الموسلين، وبعد أن تبادل معها بضع كلمات ذهب إلى أخته؛ حيث أخذ يصك الأقداح مع أفراد الأسرة المجتمعين لهذه المناسبة.
وفي المساء يخرج مع كوكلتز - أحد أبناء أخته - ويتسلق التل؛ ليرى الأطفال وهم يجوبون القرية وفقا للتقاليد حاملين نجوما كبيرة من الورق ومرددين أغاني عيد الميلاد.» •••
استندت على عصاي، وتسلقت لاهثا مزلقان السكة الحديدية، ثم سفح التل، واستندت على عصاي أيضا مبهور النفس لأنزل على السفح الآخر.
وقال لي كوكلتز: إنك مثقل الخطى كثور أضناه النير. - إنك على حق، فأنا مبهور النفس لكثرة ما قاسيت في حياتي تحت أنواع مختلفة من النير. - أما أنا فخفيف كالعصفور، ومهما عدوت لا أحس بالتعب. - وأنا أيضا لم أكن أحس بالتعب عندما كنت في سنك. - وهل كان ذلك منذ وقت طويل؟ - نعم ... إلى حد ما. - وعندما أصل إلى الشيخوخة مثلك، هل ستكون لا زلت موجودا في العالم؟ - لا يا كوكلتز، لن أكون في هذا العالم. - وتنهد الغلام، وبعد لحظة تمتم قائلا: «أنا آسف.» - علام تأسف؟ - لست أدري ولا أستطيع أن أفسر لك، ولكنني أحس بالندم. - أما أنا فلا، ولست نادما على شيء، وأعتقد أنني قد عشت ما فيه الكفاية. - وأمام باب العربات ودعني أنا وأختي جميع أقاربي وهم يتمنون لنا ليلة سعيدة. - سنراه غدا؟
وأجابتهم أختي: «ليس غدا، فأنتم ترون أنه متعب، وغدا يجب أن نتركه يستريح.» - فليكن.
وذهب كل إلى سبيله وتركني كوكلتز أيضا، وهو يسير بخطى ثابتة، وقلنسوة الفراء منزلقة على قفاه وتحت ذراعه هراوة في مشية متكبرة كأنه سيد العالم، ولربما كان.
وفوق القرية وفي أعماق السماء لمعت النجوم.
وقالت لي أختي: «كل لقمة ونم؛ فالرحلة قد أتعبتك.» - الرحلة؟ ... الرحلة فقط؟ ...
وفوق الشرفة بالقرب من الباب رأينا امرأة مستندة إلى الحائط ساكنة حتى ليحسبها الإنسان متحجزة، وهي تنتظرنا.
فسألت أختي: «أنت فيليمونا»؟ - نعم أنا ... أتيت لأجل ... - من الأفضل أن تمري غدا أو على الأصح بعد غد، لا غدا، فأخي ...
وقلت لأختي: اتركيها ما دامت قد جاءت ... اتركيها تدخل؛ فالنوم سيهرب مني على أية حال حتى الصباح، وهو يفعل ذلك منذ سنوات.
وقالت فيليمونا: «لا بد أنهم قد سحروا لك حتى لا تجد راحة.» - هذا ممكن. - على أية حال لست أنا - أؤكد لك - التي سحرت لك.
ووضعت عصاي في ركن، وخلعت غطاء رأسي ومعطفي، وجلست على حافة السرير، والحجرة دافئة مضاءة، وجلست فيليمونا فوق مقعد، وهي تلبس في قدميها حذاء حربيا باليا، وترتدي ثوبا أسود، وتغطي رأسها وكتفيها بشال أسود أيضا، وأخذت أختي تنظر إليها شزرا، ولولا خوفها من أن تغضبني لطلبت إليها أن تذهب، وقال لي فيليمونا: «لو أنه كان فيما مضى في البيت نور لاستطعت أن تقرأ طوال الليل، كما كنت تفعل في الليالي المقمرة.» - هذا حق، لقد كنت أقرأ في ضوء القمر، وكانت عيناي قويتين عندئذ. - والآن لم تعودا قويتين؟ - لا، لم تعد لي عيناي قويتان، وأضطر أحيانا إلى استخدام النظارة.
ومر قطار فهز البيت هزا عنيفا، وارتجفت ألواح الزجاج بعض الوقت، وقالت أختي: «سأذهب لإعداد الطعام، وسيعود زوجي من العمل بين لحظة وأخرى.»
وبقيت وحدي مع فيليمونا، وبصري يجذبه الحذاء الذي تلبسه. - أنت تنظر إلى حذائي؟ إنني ألبسه أثناء الشتاء، وقد كان حذاء ابني الأصغر، ابني فلوريكيل، ولست أنا التي دفنت الولدين الآخرين، فأحدهما مات في مكان ما بروسيا، وسقط الآخر في المجر، وأما فلوريكيل فقد حملوا إلي جذعه فقط، أو على الأصح لم يحملوه، بل طلبوا مني الذهاب إلى تورنو، حيث توجد المستشفى، وهناك رأيته وأخذته، وقد ذهبت لإحضاره في عربتنا التي تجرها الثيران، وملأت العربة بالشوفان وسرت في الطريق، وعند المستشفى حللت الثيران من العربة ودخلت، وكان هناك فناء كبير في المستشفى، وفي ذلك الفناء مقاعد تحت أشجار الطلح، وعلى هذه المقاعد جنود في النقاهة خرجوا إلى الشمس كالحشرات. - عمن تبحثين أيتها الأم الصغيرة؟ - عن ابني الأصغر العسكري. - ما اسمه أيتها الأم؟ - فوريكل لازو. - آه ... لازو؟ ... اذهبي إلى الصالة الكبيرة. - وأي طريق أسلك إليها؟ - انظري أيتها الأم الصغيرة، سأصحبك إليها. «وعندئذ ترك هذا الجندي مقعده واصطحبني متعثرا إلى الصالة الكبرى.» - ادخلي هنا وستجدينه بسرعة.
لقد وجدته شاحبا كالشمع ممدا على الفراش: - هل أنت في حالة طيبة يا بني؟ - طيبة يا ماما.
كان هناك تحت غطاء، وها هو طبيب صغير يصل. - أنت أم لازو؟ - نعم، أنا أمه. - تستطيعين أخذه إلى المنزل ... هل لديك عربة صغيرة أم كبيرة؟ - كبيرة. - حسن جدا ... اذهبي إذن وشدي الثيران إلى العربة وانتظري إلى جوارها ، فسوف نحمله إليك حالا.
وضعت الثيران تحت النير، ووصل ممرض بعد قليل حاملا فلوريكل على ظهره، ومن خلفه رجل آخر يحمل لفافة بها ملابسه، وسأل غلامي: «لقد وضعت أيضا حذائي في اللفة يا أوبريا؟» - لقد وضعته، وكان من الممكن أن تتركه لي فلن تحتاج بعد ذلك إلى حذاء. - أريد أن أتركه لأمي فستلبسه بدلا من أن تسير حافية القدمين في الطين.
وحملت الحذاء إلى بيتنا، وفي المستشفى كانوا قد أعطوه قبقابا من الخشب كان يضغط بيديه عليه ويزحف، أو يقفز كالجرادة، وكنت سعيدة لأن أجده إلى جواري، ولو أنه مبتور الساقين، يا إلهي! يا للإنسان مع ذلك! لقد كان كسيحا، ولكن الشباب هو الشباب، وها هو يصاحب أرملة نييلو زوجة ابني. - إنها خطيئة يا فلوريكيل، إنها زوجة أخيك ولها منه أطفال ثلاثة. - ليست هناك خطيئة ما دام أخي قد مات، ولم يعد في الأمر ما يزعجه. - إن في هذا ما سوف يضحك القرية كلها يا صغيري فلوريكيل.
يضحكها؟! الأجدر بالقرية أن تبكي! - وماذا كنت أستطيع أن أفعل؟ لقد تحملت العار مغلوبة على أمري، وبعد ذلك أخذ يعتاد الذهاب إلى الحانة ويستولي على جميع النقود التي يجدها في المنزل، ويتسكع في الحانة ويشرب الكثير، وعندئذ يأخذ في التشاجر مع الناس، بل ومع رجال البوليس أنفسهم ويقول لهم: «أيها الكتاكيت! إنكم شبان فلماذا لا تذهبون إلى الجبهة؛ لتحطموا أنتم أيضا بمدافع الروس؟»
وذات مساء لم يعد إلى المنزل، وانتظرته وبحثت عنه في كل مكان، وقبيل الصبح وجدته وسط الأدغال على حافة الماء، ورأسه محطمة بضربة قالب من الطوب، وزوجة ابني أرملة نييلو تركت القرية، وقد قيل لي: إنها عملت خادمة في بيت كبير ببوخارست، وتركت أطفالها على كاهلي، وكان لا بد لي من أن أعنى بهم، ولم يكن الأمر سهلا، وأثناء ذلك عاد سامينتزا أخو زوجي، وهو رجل أسمر أزرق العينين قصير الشارب ضخم اليدين والأصابع، وقلت له: «أهلا وسهلا يا أخي.» - أنا سعيد بأن أجدكم جميعا في صحة طيبة.
وعندئذ سمعت أختي وهي تسألني: «أوما تحضر لتناول الطعام؟» - لست جوعانا، وأنا لا زلت أتحدث قليلا مع فيليمونا. - تتحدث مع فيلمونا وتدخن ... وطبعا لا يمكن أن تحس بالجوع. - حقا أنا أدخن، ولم أستطع التخلص من هذه العادة.
وأنظر إلى فيليمونا، وفيليمونا تنظر إلي، وقد أصبحت يداها خشنتين وغطتهما التجاعيد، وجبهتها أيضا مجعدة وخداها غائرين، وشفتاها وإن ظلتا ممتلئتين إلا أن الريح قد أضفت عليها صبغة بنفسجية.
وقالت: «الجو دافئ جدا.»
وخلعت الشال الذي يغطي رأسها ووضعته إلى جوارها على ظهر مقعد، ولم تحتفظ إلا بمنديلها الأسود.
وأجبت: «هذا حق، الجو حار.» - وقد ملأت الحجرة بالدخان ... - هل تذكر أنك أتيت إلى المنزل لمدة أسبوع بعد الحرب؟ - نعم أذكر.
وقالت فيليمونا: «كان ذلك في الربيع.» - في الربيع فعلا! - وكانت أشجار الليلا قد أزهرت. - نعم يخيل إلي أن الليلا كانت مزهرة يا فيلي. - وبعد رحيلك لم تكتب لي قط. - لم أكتب لك ... هذا حق ... لم أكتب لك قط. - ولا بضع كلمات. - ولا بضع كلمات يا فيلي ... - وسقطت مريضة ... آه ... لا ... لا تظن ... لا تظن أن ذلك حدث لأنك لم تكتب، وقد فهمت جيدا أنك في تلك المدينة المحمومة لم تجد وقتا لتكتب لي. - هذا حق ... لم أجد وقتا يا فيلي ... - ولم أدر أنا نفسي ماذا حدث لي، فقد كنت كأنني في عالم آخر، وظننت أني سأجن، هل تتذكر بوندار؟ - أي بوندار؟ - بوندار صول البوليس. - الأسمر الطويل؟ - نعم هو، كان قد انتهى لتوه من الخدمة العسكرية وأخذ يستعد للعودة إلى بيته في قرية من ضواحي بيتستي، وقد وعدني بالزواج وطلب أن أرحل معه، وعندئذ رحلت معه، كنت لم أعد أحب البقاء هنا، قد سئمت حقولنا، وسئمت التل، بل وسئمت منزلنا أيضا، وحزمت أمتعتي ووضعتها كلها في جواري، وذلك مساء رحلت معه في القطار، وبعد منتصف الليل بقليل وصلنا إلى بيتستي.
وهنا قال لي: «هيا لننزل، وسنقضي بقية الليل في فندق.» - ولكنك ستحترمني؟ - بكل تأكيد، وغدا سنصل إلى منزلي وهناك سنتزوج. - وقادني إلى الفندق في مكان ما إلى جوار المحطة، وكان كوخا تفوح منه رائحة البؤس، ويا لهول ما رأيت فيه! وما قاسيته في تلك الليلة ... يا إلهي ... يا ليتني مت! - لسوء الحظ يا فيلي إن الإنسان لا يموت عندما يرغب، وإنما يموت كل منا حين يحين حينه. - هناك من يموتون عندما يريدون؛ فيضعون نهاية لأيامهم ... وليس هذا صعبا، أوما ترى ذلك؟! حبل في العنق وانتهى الأمر، ولقد فكرت في ذلك أيضا ولكنني خفت، ثم إنه أمر غير مناسب أن يجدك الأغراب معلقا في مسمار ولسانك مدلى!
وأجبتها: نعم، أنت على حق يا فيلي، إنه أمر غير مناسب. - الموت يجيء دائما في النهاية. - نعم يا فيلي، يجيء إلينا جميعا.
وكانت تزن - في دقة - كلا من عباراتي، والحزن ينضح على وجهها، وسمعتها تتمتم: «قل لي لماذا أنت منهار هكذا؟! كنت قد ظننت أنك قد أصبحت الآن شخصية كبيرة، فما الذي ينقصك؟»
وأشعلت سيجارة جديدة رغم كل ما كنت قد أشعلته حتى الآن، وأخذت أمتص - في عمق - الدخان الدافئ المر، وضحكت ... ضحكت بكل قوتي، ونهضت أجوب الحجرة ويداي خلف ظهري، وإذا بأختي تدخل حاملة صينية. - أنا سعيدة لأني أسمعك تضحك، والله وحده يعلم ماذا يمكن أن تكون هذه المجنونة فيليمونا قد قصته عليك من خزعبلات!
وأخذت فيليمونا تضحك بدورها وتقول: «لقد أعدت على سمعه النكات التي يحكونها عندنا من فم إلى أذن.»
وقالت أختي: «إنني أدرك ماذا يمكن أن تكون.»
ثم تضيف قائلة: «ها هو شيء تأكله وزجاجة نبيذ لكي تعطى شيئا من النشاط، وإذا لم تكن ذاكرتي قد خانتني فإنكما كنتما حبيبين في الماضي.»
وقالت فيليمونا: «أبدا هذه أقاويل.»
وذهبت أختي؛ فزوجها الحداد ينتظرها في الغرفة الأخرى، وأكلنا قليلا من اللحم المشوي ومن الخبز المنزلي الجيد، كما شربنا قليلا من النبيذ، ومسحت فيليمونا فمها بظهر يدها وهي تقول: «هل تعلم أن هذه هي أول مرة نتناول فيها الطعام معا؟» - لم أكن قد فكرت في ذلك، ولكن نعم، أنت على حق يا فيلي.
وملأت كأس فيليمونا كما ملأت كأسي - أيضا - وقلت: «في صحتك يا فيلي.» - في صحتك!
ولاحظت أنني قد أفرغت كأسي حتى قاعها ورأيتني أقول: «كأس آخر يا فيلي.»
واهتزت جدران الغرفة لحظة، وأيقونة القديس بطرس تنظر بعينيها الجاحظتين، والعذراء ماريا تنظر إلي أيضا بعينيها الواسعتين هي والطفل الذي تمسكه بين ذراعيها. - سألتني يا فيلي عما إذا كان ينقصني شيء، ألا فاعلمي أنه لا ينقصني شيء، ولست في حاجة إلى شيء، وأنا سعيد ... سعيد ...
وهدأت فيليمونا من نبرتي بقولها: «لا يلوح عليك ذلك، ولا يمكن أن يحس الإنسان منك ذلك.»
فأجبتها: «ربما لا يحسه أحد، ولكن صدقيني فأنا سعيد ... سعيد.» - وهناك في الفندق طلب بوندار مشهيات ونبيذا وتناولت الخبز معه، وشربت أنا أيضا، وأنت تعرف كم كنت ساذجة في ذلك الوقت. - نعم، أعرف يا فيلي. - وعندما سكر أساء إلي، وفي صباح اليوم الثاني استيقظت لأجد نفسي وحيدة إذ كان قد رحل، وحملت متاعي وذهبت إلى البواب لأسأله: أوما رأيت زوجي الذي أتيت معه في الليل؟ - نعم رأيته يا صغيرتي، فلقد دفع ثم سافر على بركة الله. - والآن ما مصيري أنا؟ - من أين أنت يا صغيرتي؟ - أنا من ... وأخذت أبكي.
وقال لي البواب: «لا تبكي، فلا فائدة من الدموع.» - وماذا أفعل الآن؟ وما مصيري؟ - لست أولى من حدث لهن ذلك، وستفعلين ما فعلته الأخريات، ويجب أن أتحدث عنك مع صاحب الفندق، مع السيد فوتاكي، وها هو قادم.
رجل أصلع ذو كرش، رأيته وهو ينزل على الدرج، وشارب كثيف يغطي فمه. - من هذه الصغيرة؟ - ليست شيئا ممتازا يا سيد فوتاكي، واحدة من الأوباش أحضرتها الليلة ونسيتها هنا، وظننت أنه من الممكن أن نحتفظ بها عندنا.
ووزنني السيد فوتاكي بنظرته ومط بوزه، وقال: «نعم نعم، إنها ملفوفة نضرة ومهندمة قليلا ويمكن أن تعجب.»
وعدت إلى البكاء، ووجه فوتاكي إلى البواب أمره قائلا: «استدع المساعدة.»
كانت مدام كلارا امرأة ضامرة ذات أنف طويل حاد.
وسألها السيد فوتاكي: «هل تستحق هذه أن نحتفظ بها؟» - رائعة يا سيد فوتاكي، ولكن في رأيي إنها تحتاج إلى بعض الوقت لتكوينها، وأنا أظن أنها لا تعرف شيئا كثيرا، وأنت تعرف أن الزبائن يدققون ... والسيد جورجيل والسيد كوستاكي، فضلا عن الحافر القديم حكمدار البوليس ...
وقلت: «باستطاعتي أن أغسل السلالم وأنظف الحجرات وأكنس الفناء.»
فرد السيد فوتاكي: «ليس هنا فناء.» - آه يا إلهي! لماذا أقص عليك كل هذا؟
الجدران لم تعد تهتز من حولنا ولا القديس بطرس تحملق عيناه نحونا، ولا العذراء مريم أو طفلها الرابي الذي تحمله بين ذراعيها. - وبعد ذلك بشهر استطعت أن أهرب وتناولت شجاعتي بين يدي وعدت إلى المنزل.
وقالت لي أمي: «أنت عاهرة، وقد أطلقت ألسنة الناس فينا، ثم من الذي سيتزوجك الآن؟» - رجل مسيحي.
وكان هناك هذا الرجل، فبعد بضعة أسابيع طلب يدي أونو لازو أبله القرية، وتزوجته.
وعندما قادني إلى بيته، قال لي: «أنت لست عذراء.» - لا لم أعد عذراء. - لماذا لم تعودي عذراء؟ - أنت تعرف جيدا حكاية بوندار. - بوندار وحده؟
ولم أرد عليه بشيء؛ فانهال علي ضربا بلكماته وسحق عظامي، وقضيت خمس سنوات معه، نعم خمس سنوات، وخلال هذه السنوات الخمس استسلمت له ثلاث مرات، ووضعت ثلاثة غلمان، وقد اختار الله إلى جواره أونو لازو، وبعد ذلك ...
وصمتت ونظرت إلي من جديد بعينيها السوداوين الكبيرتين الجافتين الغائرتين في محجريهما، وأخذت قطعة من الشواء قضمتها، كما قضمت قطعة من الخبز، وقالت: «إنه جيد هذا الشواء، والخبز كذلك جيد، وأختك تجيد صنعه.»
وأجبت: «نعم جيد، ولا بد أن القمح قد أجيد طحنه والفرن أجيد قدحه.»
وقالت فيليمونا: «نعم، لكي يجود مذاق الخبز يجب أن يعد له كل شيء بعناية، ولكن أنت قل لي: ماذا فعلت طوال هذا الوقت؟» - لقد تصرفت ... تصرفت بمهارة، أولا تعلمين ذلك؟ - نعم، أعلم ... أعلم، فكل شيء يعرف في النهاية. - ولكنك لم تنظري إلي. - نعم، نظرت ولا أفعل شيئا غير ذلك، وأرى أنك تتوكأ على عصا. - نعم، أتوكأ أحيانا عندما أكون متعبا. - وبخطى خفيفة عادت أختي مرة أخرى. - لقد حملت لكما زجاجة أخرى من النبيذ، وأنا أرى أنكما تريدان مواصلة الحديث بينكما.
فقلت: «نعم، لا يزال لدينا ما نقوله.» - إذن أترككما، فسامنتزا يريد أن ننام. - مساء الخير. - وأخذنا نشرب كأسا بعد آخر، وفيليمونا تقول: «في صحتك! ... في صحتك! ...»
ونهضت لكي أضرب كأسي بكأسها قائلا: «في صحتك يا فيلي وحظا سعيدا.» - آه حظي! هل تعلم أني لا أتمنى مثله حتى بالنسبة لأعدائي!
ومر قطار آخر بالمنزل؛ فاهتزت النوافذ مرة أخرى. - منتصف الليل يا فيلي.
وردت فيليمونا: «منتصف الليل!»
ونظرت إلى الساعة. - أتذكر أننا مكثنا مرة أخرى نتحدث حتى منتصف الليل نحن الاثنان ... حدث ذلك مرة واحدة.
هذا حق يا فيلي ... مرة واحدة. - أنا ذاهبة، وربما تريد أن تنام. - سأصحبك يا فيلي. - لماذا ... أنا أعرف الطريق، ومع ذلك إذا أردت ... وأخذت شالها وغطت رأسها وحبكته على أكتافها.
وأخذت أقفز إلى جوار فيليمونا متوكئا على عصاي عبر حارات القرية، والسماء داكنة وبعيدة دائما، والنجوم جميعا لا تزال تلمع، وحدست فيليمونا ما يدور بخاطري. - حقا إن السماء فوق رءوسنا تشبه ما كانت عليه، وكذلك النجوم، هل تسمعني؟ وتحت أقدامنا لا تزال نفس الأرض. - السماء لا تشيخ يا فيلي. - والأرض لا تشيخ أيضا.
ومررنا إلى جوار عمارة كبيرة حديثة البناء وضوء القمر يسقط على زجاج النوافذ ويضيئها، فأسأل: لمن هذه العمارة يا فيلي فلست أعرفها؟ - إنها ليست عمارة بل مدرسة، ولا تستطيع أن تعرفها؛ لأنها لم تبن إلا في العام الماضي.
ووصلنا إلى أرض كبيرة مكشوفة وفي وسطها بيت مدبب السقف أعرفه. - إن تراكالي يسكن هنا. - تراكالي! أولم تنسه؟ - لا. - إن المنزل يسكنه الآن رجل يدعى لانجودي ستانيكوتز، وقد تزوج بنت تراكالي الصغرى. - وتراكالي؟ - تراكالي؟ ... إنه هناك تحت التل إلى جوار الكنيسة القديمة.
وأيقظ مرورنا كلبا قفز على السياج ونبح ودار حولنا مهددا.
وقالت فيليمونا: «هل لك أن تذهب يا متوحش؟»
وعرف المتوحش صوتها؛ فهدأ وعاد لينام.
وقالت لي: «ها نحن قد وصلنا.» - وصلنا إلى الباب؟ - نعم، نفس الباب!
وظهر القمر وارتفع إلى كبد السماء، وهب الهواء رماديا أزرق في لون الدخان ، ورأسي تحترق وأضغط على صدغي بقبضتي بكل ما أستطيع من قوة وأقول: «يلوح لي يا فيلي أن شجرة الليلا قد أزهرت.»
وأجابتني: «نعم أزهرت ... نعم أزهرت منذ مساء أمس، أزهرت ولكنك لم تدرك ذلك إلا الآن!» - الآن فقط يا فيلي؟
وأخذتها بين ذراعي والتصق جسمها بجسمي ورفعت وجهها، وفي نهم عميق عضضت شفتيها المليئتين الجافتين المرتين.
واهتزت السماء واهتزت النجوم واهتز المقر والأرض أيضا.
وانتزعت فيليمونا نفسها من أحضاني وأنا أسمع صوتها وهي تقول لي متمتمة: «يا لك من غبي! وماذا يجدي هذا الآن؟» - لا شيء يا فيلي، هذا لا يجدي شيئا.
وانفتح الباب وأغلق.
وأخذت أتسكع عبر طرقات القرية والكلاب لا تعرفني، فبعضها ينبح لمروري، والبعض الآخر ينقض ليعضني.
وعندئذ أقف لأدافع عن نفسي بضربات العصا.
Unknown page