هذا الكهل المهدم هو «أسعد»، الذي تزوج من الفتاة الغنية بالإسكندرية، بعد قصته مع زهرة، وقد سلك بعد زواجه من تلك الغنية مسلك المترفين، فكان يبعثر أموالها، ويحسب أن هذه الأموال لا نهاية لها. ورزق منها بنين وبنات كانت تربيتهم تستنفد مالا غير قليل. مع ذلك ظل أبوهم على إسرافه وبعثرته. ونبهته زوجته إلى ذلك غير مرة، فلم يرعو. ثم اختلفا، وانتهى خلافهما بالطلاق. وأخذت عليه زوجته أحكاما بنفقة لأولاده منها، وحبس مرة لعدم تنفيذها. ثم إنه دار يلتمس عملا يعوله ويعول أبناءه، فذهب إلى مدير الشركة السينمائية لهذا الغرض. وأنس في المدير الشاب شفقة عليه، فمر عليه في الموعد الذي ضربه له، فلما رآه الشاب قال له: لقد عرضت أمرك على إدارة الشركة بالقاهرة، واستطعت أن أستخلص لك وظيفة تنال منها 15 جنيها في الشهر!
وحدد له العمل الذي يقوم به، فشكره «أسعد» على صنيعه، وهو لا يعلم من هو، لأنه لم يره قبل ذلك قط.
وبعد شهر، جاء الشاب المدير إلى الإسكندرية، ومعه والدته، ونزل وإياها استراحة الشركة. وأراد «أسعد» أن يقابله لبعض عمله، فقيل له: إنه في الاستراحة. وأبلغ المدير، فأمر بأن يصعد «أسعد» إليه، فلما دخل الاستراحة تراجع مبهوتا مبهور الأنفاس، إذ رأى مع الشاب سيدة تتحدث إليه، ورأى الشاب يخاطب زهرة خطاب الابن إلى والدته، واستدار الشاب إلى «أسعد» وقال له: انتظرني هنا حتى أعود، ولن أغيب أكثر من دقائق، ثم أراك وأنظر ما جئت فيه!
فلما هبط الشاب الدرج، وغاب عن نظر أسعد وزهرة، ألقى أسعد بنفسه أمامها وقال: الحمد لله الذي لم يحوجني إلى غير ولدك! وأرجو منك أن توصيه بي خيرا، ولا أحسبك تأبين علي هذه الكرامة، جزاء ما كان بيننا من مودة!
ونظرت إليه زهرة في كبرياء وقالت: سأفعل! وحسبي جزاء لك عن سوء ماضيك، أنك أصبحت اليوم في خدمة ولدي، بعد أن أبيت صدر شبابك أن أكون أنا في خدمتك. لقد أردت يومئذ أن تحطم كبريائي، فحطم الله كبرياءك، وهذا عدل جزاك الله به، وهو أعدل الحاكمين!
وطأطأ أسعد رأسه في صغار وهوان وقال: فاغفري لي يا زهرة ما كان من خستي ونذالتي، فأنا أشد ما أكون اليوم حاجة إلى عفوك ومغفرتك!
وتابعت زهرة نظرتها المتعالية وقالت: إن الله هو الذي يغفر، أما الناس فلا يغفرون. وهو يغفر للتائب الصادق الندم، وأحسبه غفر لي ما دام قد رزقني هؤلاء البنين، لكنني ما أزال أشعر بالذلة كلما ذكرت أنني وقعت فريسة لخستك، فكأن الضمير لا يغفر، كما أن الناس لا يغفرون! فتستطيع أنت أن تكفر عن ماضي آثامك بالتوبة والندم لعل الله يرحمك.
وخفض الرجل رأسه، ودخلت هي مخدعها، وأقبل المدير الشاب يسأل أسعد ما يريد.
الأسرة الثانية
توفي في الخمسين من سنه، وهو في ذروة مجده، فقد كان عالما فاضلا وكاتبا بارعا، وأستاذا يحيطه تلاميذه ومريدوه وزملاؤه بكل تجلة واحترام، ويعجب به قراؤه غاية الإعجاب. وقد انتخب عميدا لكلية الآداب غير مرة. لذلك كان الذين شيعوا جثمانه لا يحصون عددا، وكان ما كتبته الصحف في رثائه فخرا باقيا لذرية أنجبها.
Unknown page