ولم يخرجني أبي من بيته، ولم يمنع زوجتي من التردد عليه، ولم ينقطع عن التردد علينا، لكنه أبى أن تقيم معه في بيته، ورتب لنا مبلغا شهريا نعيش منه عيشا متواضعا.
وصرفتني عبادة زوجتي عن كل شيء سواها، صرفتني عن أصدقائي، وعن أهلي، فلم يبق أمام ناظري غير هذه المرأة التي صورها بارئها تصويرا فنيا يرضي ذوق كل مثال، بل يرضي خياله، ورأيت أن المبلغ الذي فرضه والدي لا يكفل الحياة التي أطمع فيها، فرحت أبحث عن عمل، ووفقت في بحثي، وبذلت في هذا العمل جهدي وانقطعت بذلك عن الجامعة غير آسف عليها.
ورزقنا ابنة، ثم رزقنا بعد عامين ابنة أخرى، وقد ضاعف مولد الطفلتين تعلقي بأمهما، فلم تنل عاطفة الأبوة من عبادتي إياها، وكيف تنال منها وصاحبتها قد سكنت قلبي فلم تترك فيه مكانا لغيرها؟
وكم تمنيت لو أنها أنجبت أطفالا آخرين، يزيدونني غراما بها وسعادة بهم. لكنني رأيتها تخالفني عن هذا الرأي كلما حدثتها فيه، وتذكر ما عانت في الحمل والوضع والرضاعة، من مشقة تريد أن تستريح منها في إجازة طويلة. وانقضى على مولد الطفلة الثانية سنوات ثلاث بدأت زوجتي تشعر بعدها بشيء من الاستقلال، وبدأت تحس بالحاجة إلى المتاع بالحياة، متاعا ذاتيا، لا تشغله الأمومة، وإن لم يصرفها ذلك عن العناية بالمنزل وبنفسها.
وشعرت أنا بأن ذلك من حقها، وأن امرأة جميلة جمالها، لا يجوز أن تحبس حياتها على أن تحمل وتلد وترضع، لذلك لم أر بأسا بأن تدعو بعض أصدقائها لزيارتها بالمنزل، ما دام حضورهم يدخل المسرة إلى نفسها، ولم أر بأسا بأن تخرج معي ومع واحد أو أكثر من هؤلاء الأصدقاء إلى مقهى من المقاهي، فإذا أغدقت على صديق من وقتها ولطفها وعطفها ما شاءت أن تغدقه لم يثر ذلك غيرتي؛ لأن عبادتي إياها كانت تجعلني أتمنى متاعها ورضاها. ولم يزعجني أن يكون بين هؤلاء الأصدقاء الذين يتمتعون بعطفها من ينتمون إلى الطبقة التي كانت تنتمي إليها يوم عرفتها. فقد كنت أنظر إلى كل ما تصنعه بعين الرضا؛ لأنها هي التي تصنعه، ولأنه يرضيها، ويبعث الهناء والغبطة إلى نفسها. ولست أبالغ حين أقول: إنني كنت أرى منها ما لا يطيق رجل أن يراه من زوجه، وكنت أرى ذلك في المنزل وخارج المنزل، فلا يغير ذلك من حبي لها، وعبادتي إياها؛ لأنها كانت كل حياتي، ولأنني كنت أشعر في أعماق نفسي بأن الحياة تكون جحيما إذا لم تكن هي راضية عني، أما وسعادتي متعلقة برضاها فيجب أن أكون سعيدا بكل ما ترضى هي عنه.
ورأيتها يوما تطرز صديرية أعجبني لون صوفها، فجلست إلى جانبها وقلت لها في حنان: كم أنا شاكر لعنايتك، منتظر بفارغ الصبر، أن ألبس هذه الصديرية من صنع يديك الجميلتين ...
عند ذلك تململت في ضجر، وقالت: إنما أتسلى بتطريزها، وهي على كل حال ليست لك، وأرجو ألا تنسى أننا متزوجان الآن منذ خمس عشرة سنة، وأنت تتعبني بمبالغتك في إظهار محبتك لي. وقد كبرت بنتانا، وليس من حسن التربية أن تريا منك ما لا تمتنع عن إظهاره أمامهما. ولم أعد أنا أطيق هذا الحب الجارف، الذي تحاول به أن تقنعني بأنك ما تزال اليوم كما كنت من قبل أن نتزوج.
قالت هذا الكلام وقد تخلصت بعنف من ذراعي، ومن قبلاتي!
لم تزعجني هذه الحركة من زوجتي، ولم تغير رأيي فيما كان يلمح به بعض أصحابي عن علاقتها بأصدقائها. فقد اعتقدت أنها حركة عصبية طارئة، لا تلبث أن تزول، وبقيت لذلك على عبادتها، التي أملاها ما سمته هي ... الحب الجارف!
لم أر بعد هذا اليوم تلك الصديرية التي كانت تطرزها، وخيل إلي أنها أهملتها، وأنها تلتمس التسلية في شيء آخر.
Unknown page