ـ[قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر]ـ
المؤلف: أبو محمد الطيب بن عبد الله بن أحمد بن علي بامخرمة، الهِجراني الحضرمي الشافعي (٨٧٠ - ٩٤٧ هـ)
عُني به: بو جمعة مكري / خالد زواري
الناشر: دار المنهاج - جدة
الطبعة: الأولى، ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٨ م
عدد الأجزاء: ٦
أعده للشاملة/ محمود الجيزي
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Unknown page
المجلّد الأوّل
[مقدمات]
بين يدي الكتاب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فيقول العلامة ابن خلدون: (اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم؛ حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا) (١).
بين يديك أخي القارئ هذا الكتاب التاريخي، وهو من الذخائر اليمنية، والنفائس الحضرمية، يعرض لأخبار الأدباء والشعراء، والأطباء والزهاد وغيرهم، وكانت نظرة المصنف شاملة؛ فلم يقتصر على تاريخ رجال اليمن وحوادثه، وأئمته وأعلامه، بل عمت تراجم رجاله رقعة العالم الإسلامي الجغرافية من أقصى بلاد ما وراء النهر شرقا إلى المغرب وأقصى بلاد الأندلس غربا.
وتزداد أهمية هذا السفر: أنه سجل قلمه أخبارا عن حضرموت وما والاها إلى تعز المحروسة، وأماطت ريشة الإمام بامخرمة عن أعلام في هذا الجزء الكبير من اليمن العزيز، وتحدث عنهم بطريقة العلماء الأماجد، فأبان عن شخصياتهم ومذاهبهم وأحوالهم دون تحيز أو ملق أو نزق، وهذه هي طريقة الأئمة المخلصين، كما أن مصادره التي اعتمد عليها وفيرة، ومنها ما لم تمتد إليه يد الباحثين؛ لندرته أو فنائه؛ بحيث صار في حكم المعدوم، فليس لنا طريق توصل إلى معلومات في تلك الموضوعات إلا كتابه هذا.
ومما زاد الكتاب أهمية: ما تميز به من منهج علمي وحياد إزاء الفرق والمذاهب المتعددة الذين عرض مناهجهم في «قلادته»، فجمال الدين من الأعلام المتمكنين، والعلماء البارزين، وهو من أسرة عريقة في العلم والشرف، وقد تقلد القضاء بعد طول تمنع، فكان يقال له: قاضي الدولة الطاهرية-كوالده-وكان مفتيها بعدن.
_________
(١) تاريخ ابن خلدون (١/ ١٣).
1 / 7
والذي يعنينا في هذه الأحرف: أن المؤلف استقى مادة كتابه-ولا سيما تراجم أهل اليمن خاصة-من مصادر متنوعة وثيقة، حبرتها أنامل يمنية؛ ك «كتاب السلوك» للجندي، و«طراز أعلام الزمن» للخزرجي، و«تحفة الزمن» للأهدل، و«الجوهر الشفاف» للخطيب، و«البرقة المشيقة» لعلي بن أبي بكر، و«طبقات الخواص» لشهاب الدين الشّرجي الزبيدي، و«تاريخ ابن حسان»، وهو مصدر نفيس، ولكنه في عداد الكتب المفقودة التي لم تعرف إلا بالنقل من نصوصها في هذه «القلادة».
وخلاصة القول: إن هذا الكتاب الموسوم ب «قلادة النحر» تميز بالخصائص التالية:
١ - تميز بتنوع التراجم؛ فهو لم يعن بتراجم طبقة معينة، ولم يقتصر على زمن دون آخر، ولم ينتق تراجم قطر خاص، فقد حلت «قلادته» جيد التاريخ، وأشرقت في نحر الأعيان؛ من محدثين وفقهاء، وخلفاء ووزراء، وشعراء وأدباء، وملوك وسلاطين، وقواد وفاتحين، وقضاة ونحاة، وزهاد وعباد، اغترف من بحر الحقائق دون مواربة، ونطق قلمه بالصدق دون تلعثم، وكشف عن محيا الحقيقة، فتجلت في أبهى حللها، وقيد في «قلادته» من الفوائد النفيسة ما يزري باللؤلؤ المنظوم؛ لأن تفنن فكره وتنوع معارفه كان لهما أثر خلاب؛ إذ سكب من تلك المعارف في طروسه، فبهر أولي الألباب؛ لما ضمه فيها من نفائس مستجادات، وتحليلات واستنتاجات.
٢ - إن الترتيب الزمني اعتمد فيه على السنين؛ فافتتح كتابه من فاتحة التاريخ الهجري سنة (١ هـ) إلى عصر المؤلف سنة (٩٢٧ هـ)، وهو إذ قسمه إلى وحدات مئوية .. فإنه جزء الوحدة إلى خمسة أقسام، كل قسم يضم طبقات عشرين سنة، والعشرون ذاتها جعلها شطرين: الأول خصصه للتراجم مرتبة على الوفيات، والثاني في الحوادث ورتبها على السنين، وهذه الطريقة التي سلكها في الترتيب من أوليات «القلادة»؛ إذ هو ابتكار غير مسبوق، ونظام لم ينسج على منواله السابقون.
وهو في خضم نقش التراجم لم يميز تراجم اليمنيين عمن سواهم من الأقطار الأخرى، بل كانت التراجم خليطا من هؤلاء وأولئك، فالكل على بساط التاريخ سواسية، فلا تحيز ولا عاطفة ميالة، وكأن يراعة الشيخ تقول: (وكل إناء بالذي فيه ينضح).
٣ - وكما كان للمؤلف مصادر يستقي منها تراجمه لأهل اليمن .. كذلك كانت له مصادر وثيقة متنوعة اعتمد عليها للتراجم العامة، ومن أبرزها: كتب مؤرخ الإسلام الذهبي،
1 / 8
وبخاصة كتاب «العبر»، و«وفيات الأعيان» لابن خلكان، و«تهذيب الأسماء واللغات» للنووي، و«العقد الثمين» للفاسي، وغيرها من كتب التاريخ.
وهو في كل تراجمه يعمد إلى الاقتصاد في العرض، والتثبت في النقل، وطرح السفاسف، وتقييد ما هو خلاصة، والإعراض عن المهاترات التي لا ثمرة لها، وهكذا كانت «قلادته» مضيئة في نحر العلا، سامية على أترابها، عفيفة في عرضها.
٤ - ورغم أن نسخة المؤلف كانت مسودة لم تبيض؛ إذ عاجلته المنية قبل تبييضها .. إلا أنها كتب لها الذيوع والانتشار في العالمين العربي والأوروبي، وتلقفتها الأيدي، واستفاد منها الباحثون.
وحين عزمت دار المنهاج إبرازها إلى عالم الطباعة .. كانت البواعث على هذا عديدة، ومن أهمها: حسن وضعها، ونفاسة محتواها، واستئثارها بتراجم علماء يمنيين كانوا قبل في عداد المغمورين، إضافة إلى توافر كثير من مصادر الكتاب، وقد اعتمدنا في إخراج الكتاب على خمس نسخ خطية، لكل نسخة رمزها الخاص، ومنها نسخة (م) رمز المتحف البريطاني.
ثم إن لجنة التحقيق لم تكتف بمقابلة الكتاب على المخطوطات الخمس، بل دعمت ذلك بالنظر في مصادر التراجم؛ وصولا إلى اليقين، واستظهارا من باب الزيادة في التثبت، الأمر الذي جعل نص الكتاب غاية في الإحكام والإتقان.
وها هي دار المنهاج تزف «قلادة النحر» مجلوة إلى طلبة العلم الأكارم؛ نشرا للمعرفة، وتنفيذا للعهد الذي قطعته على نفسها في إخراج كل سفر نافع، يشع بضياء التحقيق، ويزهو بالحلل الفنية، والإخراج المتقن، فلله الحمد والمنة.
النّاشر
1 / 9
ترجمة المؤلّف (١)
(٨٧٠ - ٩٤٧ هـ)
اسمه ونسبه:
هو العلامة المؤرخ الفقيه جمال الدين أبو محمد الطيب (٢) بن عبد الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم بامخرمة السّيباني الحميري الهجراني الحضرمي العدني الشافعي.
نشأته وأسرته:
أصله من بلدة الهجرين، ارتحل أبوه الفقيه عبد الله من حضرموت إلى عدن طلبا للعلم، وظل يتردد فيما بينهما، إلا أن أكثر إقامته كانت بمدينة عدن حيث كان مولد مؤرخنا فيها لما كان أبوه متوليا وظيفة الإفتاء بها، ولد ليلة الأحد ثاني عشر شهر ربيع الثاني سنة (٨٧٠ هـ).
نشأ الشيخ الطيب بن عبد الله في عدن، وتلقى العلم فيها على والده وغيره من علماء عدن وقضاتها الذين سنذكر بعضهم عند الحديث عن شيوخه.
وأخواله العلماء الفضلاء آل باشكيل؛ حيث تزوج والده ابنة شيخه القاضي محمد بن مسعود باشكيل.
-والده: أبو الطيب عبد الله بن أحمد الشهير بامخرمة.
ولد ببلد الهجرين سنة (٨٣٣ هـ) كما وجد بخطه، وربّي يتيما في حجر أمه، فكفله خاله أبو بكر باقضام، وكان ذكيّا من صباه.
حج من بلده ماشيا مع آل باعصيّة طريق السراة سنة (٨٥٣ هـ) وأسقط فرضه، فلما رجع
_________
(١) انظر ترجمته في «النور السافر» (ص ٣٠٣)، و«تاريخ الشحر» (ص ٢٧٧)، و«شذرات الذهب» (١٠/ ٣٨٢)، و«السنا الباهر بتكميل النور السافر» (ص ٤٦١، خ)، و«هدية العارفين» (٥/ ٤٣٣)، و«الأعلام» للزركلي (٤/ ٩٤)، و«معجم المؤلفين» (٢/ ١٨)، و«الروض الأغن» (٢/ ٦٥)، و«مصادر الفكر الإسلامي في اليمن» (ص ٦١، ٥٠٢).
(٢) ذكر بعض المعاصرين أن اسمه: (عبد الله الطيب)، ولعل الصواب ما أثبت، والله أعلم.
1 / 11