على أن ما بين ذراعيها وقيصر، من فجاج الأرض، ليس مما يتعذر اجتيازه؛ وما الذي يحول دون ذهابها إليه، إذا كان قيصر ما يزال لها وفيا محبا ، وإذا كان ما ينفك يحس فراغا عظيما في جو حياته، بقدر ما بينها وبينه من نزوح الدار وبعد المزار؛ على ما كان يبثها في كتبه من نجوى؟
أما رغبتها في أن تحكم الصلة التي تربطها بقيصر، وأن تزيد أواصرها قوة، فقد كان يشوبها شعور بالخوف من رومية! نعم من رومية: عدوتها التقليدية، تلك المدينة الفتية، التي لولاها لتربعت الإسكندرية على هام الأمم، ولأصبحت سيدة الأرض كلها، بل لأضحت الدرة الصماء في تاج الدنيا، نعم رومية، عدوتها التقليدية؛ تلك التي لن تغمض عنها عين كليوبطرا، أو تفغر فاها الواسع العميق، لتبتلع الوادي الأقدس، وتضمه إلى ما ابتلعت من رحاب الشرق الفسيح، ولكنها برغم هذا كله، كتبت إلى قيصر تستوحيه رأيه في زيارة رومية. •••
بعد أن غاب عنها قيصر حولا كاملا، تلقت منه رسائل يجدد لها فيها عهد الحب والوفاء، أما إذا كان قد فتن بعض الشيء «بأنونيا» ملكة «نوميديا»؛ فإنما هي فتنة عابرة، كسحابة الصيف، أو هو اتخذها ألهوة يروح بها عن نفسه، بعض ما كان يشعر به من حز الذكريات القديمة.
أيجوز لرجل مثل «قيصر»، أثقلته المسئوليات، وأنقضت ظهره الواجبات، أن يدلف مع الحب إلى تلك الأغوار التي تصرفه عن أمور رومية، وفي يدها الدنيا بأسرها؟
سواء أجاز هذا أم لم يجز، فالواقع أن «قيصر» كان دائم التفكير في ليالي قصر «البروخيوم» مأخوذا بدوافع لم يكن له في صدهن عن خياله من حول ولا طول، كان يحلم بالإسكندرية، وبالساعات التي قضاها في حضن النيل الهادئ، وقد همدت ثورات نفسه، ونعست أعصابه المضطربة، فأغفت عيناه الوقادتان، وفيهما مرأى النهر الأقدس، يوحي إليه بالأحلام الشهية. •••
لقد تردد قيصر شيئا قليلا، قبل أن يبيح للملكة زيارة رومية، أما أن تزور ملكة مصر، عاصمة العالم الروماني، فذلك أمر جسيم، ليس لقيصر أن يقضي فيه بحكم ظهر الغيب، ومن غير أناة، وطول تفكير، ولقد رأى بثاقب بصيرته أن السبيل ينبغي أن تمهد، قبل أن تطأ قدما كليوبطرا عاصمة الدنيا، أما أكبر العقبات التي كانت تقوم في وجه قيصر، فعلمه بكراهية الرومان الرسيسة، لكل من يحمل من فوق رأسه تاجا، وربما لا نخطئ إذا تصورنا أن أهل رومية، كانوا يرون في هبوط أصحاب التيجان أرضها عامل هدام يضرب في أصول الحريات الرومانية، اللهم إلا أن يهبطوها أسارى مقرنين في الأصفاد، أضف إلى ذلك أن كليوبطرا كانت ترمق في رومية بأعين تفيض بالارتياب والحقد والغضب.
كان الرومان يعرفون فيها الطمع الأشعبي، غير ناسين ما بسطت على قيصر من سلطان، وما سلطت عليه من سحر، وما كان «قيصر» لينسى أن أهل رومية كانوا قد جنحوا إلى الارتياب في أمره، والتشكك في نياته، أما وقد استطاع أن يحول ريبهم إلى ثقة بعد انتصاراته في آسيا وإفريقية، وإخماده الثورات التي هددت أم الدنيا، فإن هذه الريبة لا بد من أن توجه إلى كليوبطرا، مجددة بالذكريات التي ثبتت في عقليتهم من التجاريب الأولى.
إن المرأة التي استطاعت أن تحبس قيصر عن العودة إلى وطنه طوال تلك الفترة، وصرفته عن التفكير في أولئك الذين لهم فيه الحق الأول، لا بد من أن تكون الطبيعة قد هيأتها بقوى تمكنها من محو العرف الإنساني، لتستن للإنسانية عرفا يرضيها.
وبعد، أمن الحكمة أن يحمل «قيصر» فاتنته الملكية إلى مثل هذا الجو، وأن ينزلها مثل هذا المنزل، وأن يقذف بها في مثل هذا الأتون المستعر من الفكرات والخيالات والأوهام؟
لقد سأل قيصر نفسه: «أيقوى على أن يضع كليوبطرا موضعا تقابل فيه بهتاف العداء؟» «أيستطيع أن يغمض عينه عن أعدائه الذين سوف يستغلون الموقف قائلين: لو لم تأت كليوبطرا لذهب قيصر إليها، نابذا رومية ومن فيها؟»
Unknown page