Qaysar Asfar
القيصر الأصفر: ومسرحيات أخرى شرقية
Genres
4
ثم قرأته بعد ذلك في عدة ترجمات كانت أهمها وأدقها هي ترجمة الأستاذ و. ج. لامبرت في كتابه عن «أدب الحكمة البابلية».
5
ومن المعروف أنه وجد مع آلاف الألواح الطينية الأخرى في مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال (حكم بين سنتي 668 و627ق.م.) وإنه قد دون على أرجح الآراء خلال الألف الأولى قبل الميلاد وفي العصر الكاسي أو الكاشي الذي استمر قرابة أربعة قرون (من حوالي 1795 إلى حوالي 1162ق.م.) وكان على وجه الإجمال عصر انحطاط سياسي واقتصادي في ظل حكام أجانب لا حظ لهم من مجد حمورابي (من 1792 إلى 1720ق.م.) الذي بلغت الحضارة البابلية في عهده ذروة عظمتها وقوتها.
كان أول ما جذبني إلى هذا النص هو الحس الدرامي الذي أجرى به الكاتب أو الشاعر المجهول حواره الذكي الساخر بين السيد البابلي الملول وعبده الصابر الذي تصورت أن الابتسامة لم تفارق شفتيه، ولا شك أن الحوار يمكن أن يوحي بالتشاؤم القاتم والعدمية المطلقة، وربما أشار من بعيد إلى خلفية حضارية أصبح فيها الكل باطلا، وتساوى الفعل وعدم الفعل، وفقد كل شيء قيمته مع انهيار القيم جميعا. ومع ذلك فقد ثرت بطبعي على هذا التفسير المتشائم، وعبرت في ختام المسرحية التي استندت فيها إلى ذلك الحوار عن استحالة الحياة بغير أمل ولا عمل. ولم يمنع هذا من استغلال النص إلى آخر مدى، على الرغم من التصرف في ترتيب أجزائه واللجوء إلى الحق المشروع لأي كاتب في تشكيل مادته بما لا يخرج بها عن هدفها وهيكلها الأصلي.
والمسرحية الأخيرة وهي «رؤيا ننجال» ليست مسرحية بالمعنى التقليدي ولا غير التقليدي. ولا يرجع هذا لكونها «مناجاة» (مونولوج) تدور في صدر ملكة «أور» التي تجتر رؤيا كابوسية أرقت نومها وملأت نفسها رعبا من مصير مدينتها السومرية التي دمرت بالفعل على يد قبائل «الجوتيين» من البدو الغزاة، وإنما يرجع قبل كل شيء إلى أنها ضراعة أو ترتيلة طويلة لمجمع الآلهة السومريين وإلههم الأكبر «إنليل» تنتهي بانتفاضة الشعب المطحون والملكة المترددة المذعورة، وعزمها على إنقاذ «أور» من السقوط؛ صحيح أننا نلتقي خلالها بألوان من الحوار ومشاهد تصور خراب المدينة على يد الشطار والانتهازيين والمتسلطين القدامى في أرض سومر، ولكنها تظل في النهاية ضراعة ومناجاة وترتيلة تردد لحن البكاء على تلك المدينة الماضية الحاضرة، وهو لحن يختتم بالثورة على الفساد والمفسدين فيما يشبه انتفاضة الأطفال الأبرياء والعزل المحاصرين اليوم في فلسطين، بعد أن فاض بهم اليأس من كل شيء، وأوشك بعضهم على انتظار برابرة العصر كما فعلت ننجال وبعض سكان أور في لحظة من لحظات الضعف التي لم تلبث أن تحولت إلى زلزلة وإعصار وطوفان.
ولا بد من القول باختصار إن أدب رثاء المدن المنكوبة قد عرف في حضارة وادي الرافدين، وسجل الشعراء والكتاب والمفكرون السومريون بكاءهم على المدن المدمرة مثل «أور» «ونيبور» (نفر)، وأكد (أجادة) في أوقات المحن والهزائم والخراب. وأقدم نموذج له وجد مدونا على لوح طيني من مدينة «لجش» ويصف دمارها الفظيع على يد عدوتها القاسية مدينة (أوما) التي طالما اشتبك الصراع بينهما على الحدود.
6
وقد التزمت بالنصوص السومرية التي اطلعت عليها في مصادر عديدة سبق أن ذكرت بعضها ولم أجد داعيا للخوض في تفصيلات تاريخية وأثرية يمكن أن يرجع إليها القارئ بنفسه؛ ولذلك أكتفي في هذا التمهيد بالإشارة إلى استفادتي في هذه الترتيلة المسرحية من نصوص أخرى مشهورة في الأدبين السومري والبابلي تؤكد كلها أن مشكلة الشرقي كانت ولم تزل هي مشكلة العدل، وذلك مثل النص المعروف باسم أيوب البابلي «لدلول بيل نيميقي أو سأمجد رب الحكمة» ونص الحوار بين المعذب والصديق (وقد نقلتها للعربية ودرستها في كتاب آخر أرجو أن يرى النور عن قريب)، وذلك بجانب الاستفادة غير المباشرة من قصيدة الشاعر السكندري اليوناني الأصل قسطنطينوس كفافيس (1863-1933م) في انتظار البرابرة.
7 •••
Unknown page