Qaysar Asfar
القيصر الأصفر: ومسرحيات أخرى شرقية
Genres
العجوز :
خيل إلي أن الدولة كلها في انتظاري، رحت أنظر في وجوه الوزراء والأمراء، والقواد والأعيان، والمؤرخين والعلماء؛ بحثا عمن يكون هو القيصر. ولما لاحظ الجميع قلقي شدني أحدهم إلى السور، وأشار إلى رجل ضامر كالجرادة، يجلس في برج عال ويتطلع إلى الأفق كأنه ينتظر المجهول القادم من بعيد. همس في أذني شيخ كبير استطاع أن يحتفظ بوجه طفل غرير: ها هو ذا ينتظر، والدولة كلها تنتظر معه. سألت: وماذا ينتظر؟ قال وهو يبتسم في حزن: ينتظر الحكيم الذي يأتي ومعه الإنقاذ. هتفت: الإنقاذ؟ من أي شيء؟ رفع الشيخ حاجبيه دهشة وقال: من أي شيء؟! ألم تسمع بما حدث في مملكة «تسي»؟! ألم يرو لك أحد عن مصيبتها؟! قلت: المصائب في ممالك الصين تزاحم الغرائب، ربما لا تكون مصيبتكم أعظم من غيرها، هز رأسه مرات ومرات ومط شفتيه وشد التجاعيد البارزة على جبينه قبل أن يقول: لا، لا، ليس لها نظير! لا يمكن أن يكون لها نظير في ممالك الصين ولا غير الصين. قلت: تكلم يا سيدي. وستعرف مني أنها ليست أعجب المصائب! وحاولت أن أبتسم فردعتني السحب التي تلبدت في عينيه وعلى وجهه. قال وهو ينظر إلى بعض وجوه الدولة الذين تجمعوا حولنا وأحسست من ملامحهم أنهم يستجيرون بي، دون أن يكتموا يأسهم الدفين: هل تعلم أن سكان «تسي» بدءوا يتركونها ويهاجرون منها؟ هل تصدق أن مدينة كاملة قد خلت ذات صباح من سكانها، ولم يبق فيها حتى الشرطة والموظفون. لم يتخلف فيها حتى القطط والكلاب؟ ابتسمت وقلت: بالطبع؛ ما دامت تستطيع أن تعيش بعيدا عن البشر . ولكن لماذا حدث هذا؟ رفع رأسه في حزن إلى أعلى، وهمس في أذني: اسأل هذا الواقف هناك! قلت: إنه مشغول عنا بسؤال الكواكب والنجوم. دمدم الشيخ قائلا: وهذا قبل أن تغرب الشمس، فما بالك بسهرنا حوله كل ليلة؟ سألت: وماذا يريد؟ قال رجل نحيل مد رأسه بيننا وبدا على عينيه التعب من النظر في الكتب والأوراق: هل يعرف أحد ماذا يريد؟ لقد أمرنا أن نكون معه في استقباله. سألت: من تقصد أيها العالم الجليل؟ ضحك ضحكة خافتة كأنه يشهق وقال: لو كنت أستحق هذا الوصف لقلت لعله ينتظر من ينقذه بعد أن تأكد من غرقنا وغرقه. ابتسمت وأنا أمر بعيني على وجوههم الحزينة وشفاهم المذمومة التي توشك أن تطلق استغاثة: إذن فهو يحتاج إلى بحارة وملاحين! قال الشيخ: بل يحتاج إلى أمثالك أنت! سألت متعجبا: أمثالي أنا؟ قال: نعم نعم. من الحكماء المتجلين. ضحكت مستنكرا: ومن أدراكم أنني كذلك؟ هل خلا بلاطه من الحكماء؟ قال الشيخ كأنه يستخرج صوته من جب عميق: لا لم يخل أبدا من الحكماء، ولكنه لم يستمع لنصحهم يوما. بل تفنن في عقابهم والتشهير بهم. ومنذ أن جاء إلينا ذلك الناسك الشاب وهو نادم على ما فعل معه. سألت: ناسك شاب؟ ونادم على ما فعله معه؟ قال رجل رزين قصير القامة ظل حتى ذلك الحين صامتا: رئيس الوزراء يقصد ما فعله مع الجميع. لقد حكم عليه ببتر أصابع قدميه وحرق وجهه. ثم اختلى به بعد ذلك طويلا قبل أن يتحول. سألت: يتحول إلى ماذا؟ قال الرجل: ربما إلى حكيم أو ناسك مثله. لا ندري تماما؛ فهو منذ أن رحل ذلك الناسك الشاب لا يكف عن السؤال: متى يعود؟ متى أراه؟ من يجيب على السؤال الذي يعذبني؟ سألت باهتمام: وما هو السؤال الذي يعذبه؟ قال الرجل بعد أن أطرق برأسه طويلا: السؤال الذي يعذب كل القياصرة الصفر: كيف أحكم المملكة؟ كيف أحكم المملكة؟ ولذلك فهو منذ أن ذهب الناسك الشاب ينتظره وينتظر الجواب. قلت ضاحكا: الانتظار وحده لا يكفي. قال الشيخ صاحب الوجه المستدير: إنك لا تدري كم تحول، لقد خلع التاج والرداء الأصفر وهام على وجهه دون طعام أو شراب. تنقل بين البلاد وعبر الصحاري والأنهار والوديان، وتسلق الجبال في الصيف والشتاء. سألت: بحثا عن ذلك الناسك أم عن الجواب؟ قال الرجل في حزن: لم نعد قادرين على الرد على هذا السؤال؛ لأننا نسأل أنفسنا أيضا باستمرار. ويمكنك أن تتصور كيف ساءت الأحوال في البلاد. وكيف عجزنا عن تهدئته وإقناعه بالاستقرار على عرشه والاهتمام بأمر مملكته وشعبه. قلت: ألم يفعل ذلك دائما؟ قال الرجل: وكانت النتيجة كما ترى. الشعب يترك بيته وحقله وعمله ويهاجر. قلت: لم أسمع أن هذا قد حدث في مملكة أخرى. ولكنه كذلك لا يفاجئني، ألم يتبع نظام الطاعة والعقاب؟ ألم يكثر من القوانين والأوامر والتعليمات؟ ألم يتسلط على العالم والمخلوقات ويصم أذنيه عن نصائح الحكماء؟ إن هذا كله لا يفاجئني؛ لقد عرفته ورأيته في كل الممالك التي زرتها. ولولا عناية السماء لرأيتموني مبتور الأصابع أو مقطوع الساقين والذراعين، أو محترق الوجه أو لم تروني على الإطلاق؛ هذه هي النتيجة الطبيعية أيها الوزراء والعلماء والوجهاء؛ ولذلك ترونني على الطريق الذي لا يرجع من يسير عليه. قال الرجل في غير حماس: مرارة صوتك تكشف عن حكمتك المرة. هل معنى هذا أنك لن تبقى معنا؟ قلت: ولم أفكر في ذلك يا سيدي، لقد مررت ببلدكم وسأخرج منها كما دخلتها. قال الشيخ: ونحن لا نستطيع أن نمنعك، لقد داعبنا الأمل مما قاله الرسل الذين التقوا بك وسألوك. قاطعته قائلا: نعم. لقد قطع طريقي بعض الفرسان وسألوني عن ذلك الناسك الشاب. قلت لهم: أي ناسك أيها الفرسان؟ لقد علمت في حياتي الطويلة عشرات النساك.
الرجل :
وتركت المملكة كما دخلتها؟
العجوز :
ولماذا أبقى وأنا لست الناسك الذي يبحثون عنه؟
الرجل :
ألم تسأل نفسك إن كان قد مر عليك يوما؟
العجوز :
سألتها يا ولدي. ولكن عشرات النساك قد مروا علي. بعضهم لبث معي سنوات، وبعضهم أشهرا معدودات. ومنهم من لم يتحملني ولا تحمل حكمتي ساعات فأدار ظهره ولم يعد إلى اليوم!
Unknown page