فهز كمال منكبيه استهانة، وقال بإصرار: إن حياة تكرس للفكر لهي أجل حياة.
هز فؤاد رأسه كالموافق دون أن ينبس، وظل لائذا بالصمت حتى سأله كمال: ما الذي دعاك إلى اختيار الحقوق؟
ففكر قليلا ثم أجابه: لم أكن مثلك واقعا في غرام الفكر، فكان علي أن أختار دراسة عالية على ضوء المستقبل وحده، فاخترت الحقوق.
أليس هذا هو صوت العقل؟ بلى إنه هو، شد ما يثير حنقه وتمرده، أليس من الظلم أن يمضي العطلة الطويلة وهو حبيس هذا الحي، ولا رفيق له إلا هذا «العاقل»؟ ثمة حياة أخرى تعارض حياة الحي العتيق معرضة الضد للضد، وثمة رفاق آخرون يخالفون فؤاد مخالفة النقيض للنقيض، إلى تلك الحياة وإلى أولئك الرفاق تهفو نفسه، إلى العباسية، إلى الطراز الطريف من الشباب، وقبل كل شيء إلى الأناقة الرفيعة والنغمة الباريسية والحلم البديع ... إلى معبودته، آه ... إن نفسه تنازعه إلى البيت، إلى حجرته كي يخلو إلى نفسه فيدعو كراسته، يراجع تاريخا، أو يستعيد ذكرى، أو يسجل نفثة، ألم يئن له أن يقوض هذا المجلس ويذهب؟ - قابلت أناسا فسألوني عنك!
تساءل كمال وهو ينزع نفسه بمشقة من تيار الوجد: من؟
فؤاد ضاحكا: قمر ونرجس.
قمر ونرجس ابنتا أبو سريع صاحب المقلى، قبو قرمز، الأزقة المظلمة بعد الغروب، العبث المشوب بالسذاجة الدنسة أو الدنس الساذج، المراهقة المحمومة ألا يذكر هذا كله؟ ما لشفتيه تتقلصان تقززا؟ ذلك تاريخ قديم نسبيا، قبل حلول الروح القدس، لا يذكره إلا ويثور قلبه سخطا وألما وخجلا كما ينبغي لقلب أترع بشراب الحب الطهور: كيف قابلتهما؟ - في زحمة مولد الحسين، فسرت إلى جانبهما دون تردد أو ارتباك كأننا أسرة واحدة جاءت لتطوف بالمولد. - يا لك من جريء! - أحيانا، سلمت فسلمتا، وتحادثنا مليا، ثم سألتني قمر عنك.
تورد وجهه قليلا وهو يسأل: ثم؟ - اتفقنا مبدئيا على أن أخبرك، ثم نتقابل جميعا.
هز كمال رأسه في نفور، ثم قال باقتضاب: كلا!
فقال فؤاد في دهش: كلا؟ ظننتك ترحب بلقاء تحت القبو أو في فناء البيت المهجور. نضج جسماهما، وعما قليل تصيران امرأتين بكل معنى الكلمة، وعلى فكرة كانت قمر مرتدية الملاءة اللف ولكنها كانت سافرة فقلت لها ضاحكا: لو لبست البرقع ما تجرأت على محادثتك.
Unknown page