تساءل إبراهيم ضاحكا وهو لا يخفي سروره بدعاء حماته: شبابه؟
فقال خليل شوكت يجيبه، وإن وجه الخطاب لأمينة: إن التاسعة والأربعين في آل شوكت تعد من مراحل الشباب.
فعادت أمينة تقول في إشفاق: يا بني لا تتكلم هكذا، ودعونا من هذه السيرة.
ابتسمت خديجة لما بدا من أمها من إشفاق كانت هي على علم وإيمان بأسبابه وبواعثه؛ ذلك أن الإشادة بالصحة جهرا في البيت القديم - صراحة - مكروهة، لتجاهلها «العين» وشرها، وهي نفسها - خديجة - لم تكن لتعالن بقوة صحة زوجها لو لم تكن قضت السنوات الست الأخيرة من حياتها بين آل شوكت، حيث لا تحظى عقائد كثيرة - كالحسد مثلا - بإيمان عميق، وحيث يخوضون في أمور شتى بلا خوف - كسير الجن والموت والمرض - يحول الإشفاق والحذر دون الخوض فيها في البيت القديم. إلى هذا كله، كانت العلاقة بين الزوجين أوثق مما تبدو في الظاهر، فلم يكن ثمة ما يتهددها من قول أو فعل. كانا زوجين موفقين، يشعر كلاهما في أعماقه بأنه لا غنى له عن الآخر رغم شتى المآخذ، وقد كان مرض إبراهيم يوما فرصة غريبة جلت مكنون ما يعمر صدر خديجة من محبة ووفاء. أجل، لم يكن النقار ليسكت بينهما، على الأقل من ناحيتها هي، فلم تكن أمه هدفها الوحيد، ورغم سياسة الرجل وبروده لم يعيها أن تكتشف فيه موضعا كل يوم لانتقاد، مثل: كثرة نومه، قبوعه في البيت بلا عمل، تكبره على مجرد فكرة أن يكون له عمل في الحياة، ثرثرته التي لا تنتهي. تجاهله لما ينشب بينها وبين أمه من نزاع وملاحاة، حتى مرت أيام وأيام - على حد تعبير عائشة - لم يكن لها من حديث إلا شكه ولسعه - ولكن رغم هذا كله - أو بفضل هذا، من يدري؟ فالنقار نفسه يقوم أحيانا بوظيفة الشطة في تهييج شهوة الطعام - ظلت عواطفهما قوية ثابتة لا تتأثر بما يكدر الظاهر، كأنها التيارات المائية العميقة التي لا يتحول مجراها بفورات السطح وتشنجاته. إلى ذلك لم يسع الرجل إلا أن يقدر نشاطها حق قدره، بعد أن لمس آثاره في رونق مسكنه، ولذة مطعمه، وأناقة ملبسه، وهندمة ابنيه ... فكان يقول لها مداعبا: «الحق أنك لقية يا غجرية!» رغم رأي أمه في هذا النشاط الذي لم تتردد عن الجهر به في أوقات الخصام وما أكثرها، فتقول لخديجة ساخرة: «هذه فضيلة الخدم لا الهوانم!» فتبادرها خديجة قائلة: «أنتم أناس لا عمل لكم إلا الأكل والشرب، سيد البيت الحقيقي من يخدمه.» فتقول العجوز مواصلة تهكمها: «لقنوك هذا الكلام في بيتك كي يخفوا عنك أنك لم تكوني تصلحين في نظرهم إلا للخدمة!» فتصيح خديجة: «أنا أعلم بسبب حنقك علي، أعلم به منذ لم أجعل لك وزنا في بيتي!» فتصرخ العجوز: «يا ربي اشهد، السيد أحمد عبد الجواد رجل طيب، ولكنه أنجب شيطانة، أنا أستحق ضرب الشبشب جزاء اختياري لك!» فتمضي خديجة وهي تغمغم، حتى لا تتبين المرأة كلامها: «أنت تستحقين ضرب الشبشب ... لا أجادلك في هذا.»
نظر ياسين إلى عائشة، وقال وهو يبتسم في خبث: ما أسعدك بنفسك بنفسك يا عائشة، علاقاتك حسنة مع جميع الأحزاب.
فأدركت خديجة ما وراء كلامه من التعريض بها، وقالت له وهي تهز كتفيها متظاهرة بالاستهانة: وقاع يسعى بوقيعة بين أختين. - أنا؟ حسبي الله، فهو المطلع على حسن نيتي.
وهي تهز رأسها كالآسفة: لم تكن يوما ذا نية حسنة. - وقال خليل شوكت، معلقا على كلام ياسين: نحن نعيش في سلام، وشعارنا: «عش ودع غيرك يعيش».
فضحكت خديجة حتى بدت أسنانها اللامعة الدقيقة، وقالت بلهجة لم تخل من تهكم: بيت سي خليل بيت أفراح، لا يزال هو يلعب بأوتار العود والهانم تسمع أو تستعرض نفسها في المرآة، أو تحادث هذه أو تلك من صويحباتها من النافذة أو المشربية، ونعيمة وعثمان ومحمد يلعبون بالمقاعد والوسائد، حتى إن عبد المنعم وأحمد إذا ضاقا برقابتي فرا إلى شقة خالتهما فانضما إلى فرقة التخريب.
تساءلت عائشة باسمة: أهذا كل ما ترين في بيتنا السعيد؟
قالت خديجة بنفس اللهجة: أوتغنين ونعيمة ترقص.
Unknown page