229

وراح الشيخ يقطع الفناء متوكئا على عصاه، متنحنحا - من آن لآخر - لينبه من في طريقه إلى حضوره. وأجاب ياسين: إنه يستطيع أن يصعد إلى قمة مئذنة، (ثم مجيبا خليل شوكت الذي تساءل عن عمر الرجل بعينيه وأصابعه) بين الثمانين والتسعين. ولكن لا تسل عن صحته.

وتساءل كمال: ألم يتزوج في حياته الطويلة؟

فقال ياسين: يقال: إنه كان زوجا وأبا، ولكن زوجه وأبناءه انتقلوا إلى رحمة الله.

وهتفت عائشة مرة أخرى، ولم تكن برحت موقفها من النافذة: انظروا! هذا خواجا! من يكون يا ترى؟

كان يقطع الفناء ملقيا على ما حوله نظرة مترددة متسائلة، واضعا على رأسه قبعة مستديرة من الخوص لاح تحت حافتها أنف مجدور مقوس وشارب منفوش، فقال إبراهيم: لعله صائغ من تجار الصاغة.

فتمتم ياسين في حيرة: ولكنه يوناني السحنة، أين يا ترى رأيت هذا الوجه؟

وجاء شاب ضرير ذو نظارة سوداء، يجره من يده رجل من أهل البلد ملثما بكوفية، رافلا في معطف أسود طويل يبرز من تحت طرفه جلباب مقلم، فعرفهما ياسين - من أول نظرة - وهو من الدهش في نهاية. أما الشاب الضرير فكان عبده عازف القانون بتخت زبيدة، وأما الآخر فصاحب قهوة مشهورة بوجه البركة يدعى الهمايوني، فتوة وبلطجي وبرمجي ... إلخ، وسمع خليل وهو يقول: الضرير قانونجي العالمة زبيدة.

فتساءل ياسين متصنعا الدهش: وكيف عرف بابا؟

فابتسم إبراهيم شوكت وهو يقول: والدك من السميعة القدامى، ولا غرابة في أن يعرفه جميع أهل الفن.

وابتسمت عائشة دون أن تدير رأسها المتجه إلى الطريق لتداري ابتسامتها، ياسين وكمال رأيا ابتسامة إبراهيم وفطنا إلى ما وراءها. وأخيرا جاءت سويدان جارية آل شوكت تتعثر في خطوات الكبر، فتمتم خليل وهو يشير إليها «رسول أمنا للسؤال عن السيد!» وكانت حرم المرحوم شوكت قد زارت السيد مرة، ولكنها لم تستطع أن تعيد الكرة لما اعتراها في الأيام الأخيرة من آلام روماتزمية تحالفت مع الكبر عليها. وما لبثت خديجة أن عادت من المطبخ وهي تقول مبدية التشكي مضمرة المباهاة: يلزمنا قهوجي ليقدم القهوة بنفسه!

Unknown page