فسأله كمال باهتمام متزايد: أليست هي امرأة ككل النساء؟ - كلا، إنها امرأة بلا قلب، الهوى عندها سلعة.
فعاد كمال يسأل وعيناه تلمعان بالأمل: ماذا ترى من اختلاف بين امرأة وأخرى؟
هز ياسين رأسه في زهو إدلالا بالمكانة التي وضعته فيها أسئلة كمال، ثم أجاب بلهجة خبير: درجة المرأة تتقرر في كادر النساء تبعا لمزاياها الأخلاقية والعاطفية بصرف النظر عن أسرتها ومركزها، فزنوبة مثلا أفضل عندي من زينب؛ لأنها أعمق عاطفة وأشد إخلاصا وحرصا على الحياة الزوجية، ولكنك في النهاية تجدهن شيئا واحدا، عاشر الملكة بلقيس نفسها فلا محيص من أن تجدها آخر الأمر منظرا معادا، ونغمة مكررة.
خبا اللمعان في عيني كمال، ترى هل أمست عايدة منظرا معادا ونغمة مكررة؟ ما أبعد هذا التصور عن التصديق! ولكن ما أنت إلا صريع الواقع، وحتى الشماتة بها تكبر عليك وتعز، وإنه لمما يبعث على الجنون أن يعلم المعبود الذي تذهب النفس حسرة عليه أنه كان في وسع الأيام أن تجعل منه منظرا معادا ونغمة مكررة، بل أي الحالين أحب إليك إن استطعت جوابا؟ غير أني أتحسر أحيانا على الملل من شدة الشوق كما يتحسر ياسين على الشوق من شدة الملل، وارفع رأسك أخيرا إلى رب السماوات وسله عن حل سعيد: ألم تحب أبدا؟ - إذن ما هذا الذي أنا غارق فيه؟ - أعني حبا حقيقيا لا هذه الشهوة العابرة؟
أفرغ كأسه الثالثة، ومسح على فمه بظاهر كفه، ثم فتل شاربه وقال: لا تؤاخذني، الحب يتركز عندي في بعض مواضع كالفم واليد ... إلخ، إلخ.
ياسين جميل، ما كانت لتسخر من رأسه أو أنفه، ولكنه بما قال يبدو حقيقا بالرثاء، كأن الإنسان لا يكون إنسانا إلا أن يحب، ولكن ما جدوى ذلك، وما جنيت من الحب إلا الألم؟ واستطرد ياسين قائلا، وهو يحثه بالإشارة على الفراغ من كأسه: لا تصدق ما يقال عن الحب في الروايات، الحب عاطفة أيام أو أسابيع مع حسن الظن.
كفرت بالخلود ولكن هل نسيان الحب ممكن؟ لم أعد كما كنت، إني أتسلل من جحيم العذاب فتشغلني الحياة حينا حتى أرجع إليه، وكان الموت قبلتي، واليوم ثمة حياة ولو بلا أمل، العجب أنك تثور على فكرة النسيان كلما خطرت، كأنما تعاني تبكيت الضمير، أو لعلك تخاف أن يتكشف أجل ما قدست عن وهم، أو أنك تأبى على يد العدم أن تعبث بالحياة الرائعة التي بدونها تغدو ومن لم يولد سواء، لكن ألا تذكر لم بسطت الراحتين داعيا الله أن ينتشلك من العذاب، وأن يلهمك النسيان؟! - ولكن الحب الحقيقي موجود، نقرأ حوادثه في الصحف لا في الروايات.
ابتسم ياسين ابتسامة ساخرة، ثم قال: بالرغم من أنني مبتلى بحب النسوان، فإنني لا أعترف بهذا الحب، إن المآسي التي تقرأ أخبارها تتحدث في الواقع عن شبان غير مجربين، أسمعت عن مجنون ليلى؟ لعل له نظائر في هذه الحكايات، ولكن المجنون لم يتزوج من ليلى؟ دلني على شخص واحد جن بحب زوجته! وا أسفاه! إن الأزواج عقلاء جدا، عقلاء ولو كرهوا، أما الزوجة فيبدأ بالزواج جنونها؛ لأنها لا تقتنع بأقل من أن تزدرد زوجها، ويخيل إلي أن المجانين يصيرون عشاقا لأنهم مجانين، لا أن العشاق يصيرون مجانين لأنهم عشاق، تراهم يتحدثون عن المرأة كأنما يتحدثون عن ملاك، والمرأة ليست إلا امرأة، طعام لذيذ سرعان ما تشبع منه، دعهم يشاركونها الفراش ليطلعوا على منظرها عند الاستيقاظ، وليشموا رائحة عرقها، وسائر الروائح التي قد تصدر عنها، وليحدثوني بعد ذلك عن الملاك. فتنة المرأة ما هي إلا طلاء أو أداة إغراء حتى تقع في الشرك، وعند ذاك يبدو لك المخلوق الآدمي على حقيقته ؛ لذلك فالأبناء ومؤخر الصداق والنفقة الشرعية هي سر قوة الزواج لا الجمال أو الفتنة.
ما كان أجدره أن يغير رأيه لو رأى عايدة، غير أنه ينبغي أن تفكر من جديد في أمر الحب. كنت تراه وحيا ملائكيا، ولكن لم يعد للملائكة وجود فابحث في ذات الإنسان، واسلكه ضمن الحقائق الفلسفية والعلمية التي تتشوف إلى اقتحامها، بذلك تقف على سر مأساتك وتكشف النقاب عن سر عايدة المكنون، لن تجدها ملاكا، ولكن باب السحر سيفتح لك مصراعيه، أما الوحم والحبل والمنظر المعاد وسائر الروائح فما أتعسني!
قال كمال بأسى لم يفطن إليه أخوه: الإنسان مخلوق قذر، ألم يكن من الممكن أن يخلق خيرا وأنظف مما كان؟
Unknown page