203

فهبت جالسة في الفراش وهي تقول بجفاء وحذر: بشرط أن أراك في النور.

تساءل في إنكار: لمه؟ - حتى أطمئن إلى صحتك.

وتجرد للاختبار الصحي في منظر بدا له آية في الهزل، ثم ساد ظلام دامس.

وعندما عاد إلى الطريق كان يحمل بين جنبيه قلبا فاترا مليئا بالحزن، وخيل إليه أنه وسائر البشر يعانون تدهورا مؤلما، وأن الخلاص منه بعيد. ورأى إسماعيل مقبلا نحوه راضيا ساخرا متعبا وهو يتساءل: كيف حال الفلسفة؟

فتأبط ذراعه وسار به يسأله بدوره جادا: هل النساء جميعا متشابهات؟

فألقى عليه الشاب نظرة متسائلة، فأفصح له كمال عن شكوكه ومخاوفه في عبارة موجزة، فقال إسماعيل باسما: على العموم الأصل واحد وإن اختلفت الأعراض، إنك مضحك لدرجة تستحق الرثاء، هل أستنتج من حالك أنك لن تعود إلى هنا مرة أخرى؟ - بل سأعود أكثر مما تظن، دعنا نشرب كأسا أخرى.

ثم وكأنه يحدث نفسه: الجمال ... الجمال! ... ما هو الجمال؟

تاقت نفسه في هذه اللحظة إلى التطهر والانعزال والتأمل، وحن إلى ذكرى الحياة التي عاشها معذبا في ظل المعبودة، ثم بدا وكأنه آمن بقسوة الحقيقة إلى الأبد. أيجعل من الإعراض عن الحقيقة مذهبه؟ سار متفكرا في طريق الحانة يكاد لا يلقي بالا إلى ثرثرة إسماعيل. إذا كانت الحقيقة قاسية فالكذب دميم، ليست الحقيقة قاسية، ولكن الانفلات من الجهل مؤلم كالولادة، اجر وراء الحقيقة حتى تنقطع منك الأنفاس، ارض بالألم حتى تخلق نفسك من جديد، هذه المعاني تحتاج إلى عمر لاستيعابها، عمر من التعب تتخلله سويعات من الخمر.

36

أما هذا المساء ، فقد جاء كمال الدرب وحده، جاء ثملا يترنم بصوت هامس، غير هياب وهو يشق بين تيار البشر الصاخب سبيلا. ووجد باب وردة خاليا، ولكنه لم يتردد كما فعل أول عهده بالدرب، وإنما قصد البيت ودخل دون استئذان، فارتقى السلم حتى انتهى إلى الدهليز، وهناك مد بصره إلى الباب المغلق الذي بدا ضوء في ثقب مفتاحه، ثم مال إلى حجرة انتظار ألفاها لحسن الحظ خالية، وجلس على مقعد خشبي مادا ساقيه في ارتياح. وبعد مرور دقائق سمع صرير الباب وهو يفتح فتوثب للقيام، وغادر الرجل الآخر الحجرة كما نمت عليه أقدامه متجها نحو السلم، فتريث لحظات، ثم نهض وذهب إلى الدهليز، فرأى وردة خلال باب حجرتها المفتوح وهي تعيد ترتيب الفراش، فلما لمحته ابتسمت، وهتفت به أن يعود إلى مجلسه دقيقة واحدة، فعاد من حيث أتى وهو يبتسم في ثقة، ثقة الزبون الذي جاز فترة الحضانة. ولم تكد تمر دقيقة على جلوسه حتى ترامى إليه وقع أقدام صاعدة فاستقبلها بضيق؛ لأنه يكره البقاء مع غيره من المنتظرين، غير أن القادم اتجه نحو حجرة وردة، وما لبث كمال أن سمع المرأة وهي تخاطب القادم قائلة برقة: عندي زبون فاذهب إلى الحجرة وانتظر.

Unknown page