وبقيت سهير مكانها وكأنها تعرف أن وصفي بخير، وكأن الأمر لا يعنيها، فهي مطرقة تشتعل نفسها بنيران من الغيظ والألم والحسرة والكبر ذل من بعد كبر، والكرامة أهينت من بعد كرامة.
واستطردت أم وديدة: خطب يا ستي الكبيرة، خطب هند بنت إسماعيل باشا مصطفى.
وتمالكت الست الكبيرة نفسها في كبر وهي تقول: وما له؟
وحاولت سميحة أن تقلدها وهي تقول: آه، وما له؟
وقامت سهير إلى حجرتها في هدوء وبطء وفي وجوم، فكأنما وجهها قد من صخر فهو قاتم لا يبين عما يسده في نفسها من ثورات، حتى إذا خلت بحجرتها أقفلت الباب وأحكمت رتاجه، ثم ارتمت على السرير، شعلة لا تريد أن تخفف وقودها بماء، وإن كان هذا الماء دمعا، لا، وإن كان هذا الماء دما، إنها تريد شعلة نفسها أن تظل مشتعلة تحرق وتحرق، وإن يكن الوقود نفسها، وإن يكن الوقود حياتها، ارتمت على السرير وألقت بوجهها إلى الجدار الصلب، لا تذرف دمعة، ولا تفكر في شيء غير أمس عند القارب، وغير الأمسيات التي سبقت الأمس هناك، حيث قتلت كرامتها، وأهدرت كبرها، ولم تنل حبا لقاء كرامة، ولا وفاء لقاء كبر، فلتلتهب نيران الشعلة، ولتكن نفسها الوقود، وما النفس بلا كرامة، وبلا كبر، وبلا حب، وبلا وفاء.
لقد أدركت أن الذي قضى على مستقبلها هو لقاؤها بوصفي، مهما يكن لقاء بريئا، لقد كانت تعرف وصفي رجلا متشبثا بالتقاليد، يقدسها ويدافع عنها، ألم تكن تقرأ له مقالاته التي يعارض بها من يطالبون برفع الحجاب، أما كان هذا رادعا لها أن تلتقي به، ولكن هي أم وديدة أوحت إليها أن لقاء سيتم بينها وبين من تحب. وهيأت لها أنه أمر ميسور، فانصاعت في سذاجة الهوى، وفي رعونة الشباب الأولى.
صامتة سهير لا تبكي ولكن تشتعل وتحترق بلا نور من الشعلة، ولا بصيص من ضياء يبعثه الحريق، حريق أسود داكن كآمالها، كمستقبلها، كماضيها، كحياتها جميعا.
وطرق الباب فقامت إليه لم تسأل الطارق من هو وما يريد، وانفرج الباب عن سميحة التي دخلت صامتة وأقفلت الباب من خلفها، وسارت مع أختها إلى السرير، وعادت سهير إلى استلقائها، وجلست سميحة بجانبها: لا عليك يا ...
ولم تكمل سميحة الجملة، فقد كانت تدرك أن آمال سهير معلقة بوصفي، وقد كانت العائلة جميعها تذكي هذه الآمال بما تطلقه من شائعات وأقاويل، كانت تدرك ذلك، ولكنها كانت تجهل مواعيد أم وديدة ولقاء الأمسيات، لم تكمل سميحة الجملة، فقد وجدتها سخيفة لا تفيد شيئا، ولم تجد شيئا تفوته غير دمعات فاضت صامتة أول الأمر، ثم انفجرت عن بكاء ونشيج، راحت سميحة تكتمه بالوسادة، وقد ألقت وجهها إليها، وسهير صامتة لا تتكلم، وكأنما هي وحدها في الغرفة بلا بكاء جازع حزين قد ألقيت أختها في غمرته، وطرق الباب مرة أخرى وانفتح عن أم وديدة تقول: ستي سهير.
ولم تزد سهير على أن تقول: مع السلامة يا أم وديدة.
Unknown page