حربان عالميتان من عشرته الثانية إلى عشرته الرابعة، واقتحام للفضاء، وفتح للقمقم عن مارد الطبيعة الأكبر، وهو القمقم الذي يحتويه أصغر ما فيها من ذرات لا تدركها الأبصار.
هل تعجل الإنسانية إلى النصر على الطبيعة، أو تعجل إلى الدمار على يدي الإنسان بما كشفه من أسرارها؟ وهل اقترب الإنسان حقا من الحرب التي تختم الحروب، فلا حرب بعدها ولا محاربون، أم هو يقترب شيئا فشيئا من يوم النصر على الطبيعة، وعلى ما في طبيعته هو من بوائق الشر والدمار؟
وذهبت السكرة وجاءت الفكرة؛ ذهبت نشوة الفتح والانتصار على المارد المكنون في ذرات المادة، وانجلت المفاجأة عن حساب طويل لهذا الفتح المبين، بل حساب عسير.
ماذا في وسع العلم أن يهب لنا من علانيته وسره؟ ماذا عنده من الوعد، وماذا عنده من الوفاء؟ وماذا فيه من الخير المأمول؟ بل ماذا في الخير المأمول من محذور يتستر وراءه النفع المنظور؟
إن غلبة الإنسان على الطبيعة سوف تؤتيه الغلبة على السقم والوباء، وسوف يزداد الناس ببركة العلم، فماذا عند العلم لهؤلاء الناس من الأزواد، ومن الشواغل والأعمال؟ أعنده الكفاية لهم من القوت والمأوى، أم هو مرسلهم إلى عالم يتغالبون عليه، ثم يلتمسون الغلب بذلك السلاح الجديد؛ ذلك السلاح المبيد؟
وعاد الباحثون إلى نذير «مالثوس» يدرسونه وينقدونه، وينقصون منه أو يزيدون عليه، فوضح لهم أن نذير الأمس قد أصاب في كل شيء، إلا فيما اعتمد عليه من معلومات وأسانيد، ولم يخطئ حين أنذر بالخطر من زيادة الأحياء على الكفاية في الأرض من الطعام، ولعله قد ذكر بعض المخاوف، ونسي بعضها الذي توارى عنه، فلم يبلغ في زمنه مبلغ الخطر الملموس، وهو زيادة الآلات والأدوات على ما يلزمها من غذائها المدخر في الأرض، وهو مناجم الوقود.
ولجأ الباحثون إلى نبوءاتهم يستخبرونها عن الغد المخبوء قبل نهاية القرن العشرين، ولكنها نبوءات تتسم بطابع القرن، وصبغة العلم والصناعة، كأنها نبوءة المتحدث عن سيار في السماء أو في الأرض، يعرف مداره، ويعرف كم يدور.
نبوءات أقرب إلى التقديرات والإحصاءات، ليست من نبوءات الطوبى، ولا من نبوءات الأحلام، ولا من نبوءات العصور الذهبية، ولكنها أشبه بأرصاد الفلك، لو لم يكن فيها شيء من الغيب المجهول قد يخطئ فيه الحساب.
ماذا عند هذا العصر - عصر الصناعة - من وعود؟ وماذا من هذه الوعود حقيق أن يتبعه الوفاء؟ وماذا يحول دون وفائه بوعوده مما يقع في الحساب، ومما يقع وراء كل حساب؟
هذه هي الأسئلة التي تدور على جوابها فصول هذا الكتاب، ونرجو أن نوفق للإجابة عنها غاية ما تلهمنا ظواهر الأمور، وغاية ما نهتدي إليه بهداية تلك الظواهر، وهداية الأمل المصدوق.
Unknown page