وما هي اليوم؟ إذا كان الثناء على الإنكليز في هذا الشرق يستوجب الشجاعة، فإني مجمع الآن ما عندي منها وبادئ باسم الله. يقول الوطني العربي: إن الإنكليز شيدوا هذا البناء - هو مخفر وحصن ونزل ومركز لاسلكي - لحماية طائرات الإنكليز، لمصلحة الإنكليز، لراحة الإنكليز لا غير. فيا أخي العربي الوطني، إنك لتغيظ، وإنك لتستنفد صبر الصابرين. فإن كانت العاطفة الوطنية شريفة، فذلك الشرف يزول إذا كانت العاطفة عمياء. وإن كان العداء للمستعمرين حقا وعدلا، فإنهما يفسدان، إذا لم يكن لذلك العداء فكر وحكمة ووجدان. وإذا كانت المقاومة للحكم الأجنبي واجبة - وهي كذلك - فإنها تفقد القوة والروعة والتأثير إذا ظهرت في مظهر التحامل والحماقة.
إن الرطبة اليوم مرفق عراقي في إدارة وزارة الأشغال والمواصلات العراقية. وهو كنزل يستوجب التحسين. فالأثاث رث على جدته، والمرافق وسخة، والطعام معظمه مما يجيء بالعلب مما وراء البحار، والخدمة عراقية، والأسعار إنكليزية. قد يكون ذلك كله من سوء الإدارة - الحكومة تؤجر النزل - وقد يكون من نقص في الميزانية. فالركاب الوطنيون قلما يبيتون أو يأكلون في النزل، والأوروبيون قليلون. على أن النظافة مع ذلك ممكنة، وهي لا تستوجب غير إرادة المدير وحزمه، فيقوم الخدم بأعمالهم ويحسنونها.
أما من الوجهة الفنية، فإن المكان يشهد على علم من تولوا البناء، وعلى عزمهم ونشاطهم. وفي الشرق الشمالي من هذه البادية مدينة من الحجر ضخمة متهدمة، بنيت عهد الدولة البرثية، في الحروب بين البرثيين والرومان. إنها مدينة الخضر، وهي أفخر وأعظم حتى في خرائبها من الرطبة. ولكننا لا نحتاج اليوم إلى أسباب الدفاع القديمة - أسوار ضمن أسوار تحيط بها الخنادق، وبروج فوق بروج تحميها الحصون - لا شيء من هذا في الرطبة.
ولكن فيها كل أسباب الدفاع الحديثة. فإذا جاء العدو من الجو، يصعب عليه هدم هذا الحصن المنخفض الوديع؛ لأن سطحه المزدوج المصفح يرد القنابل خائبة خاسرة. وإذا جاء العدو من البادية فالجدران الخارجية السميكة، الخالية من النوافذ، لا يخرقها رصاص البنادق، وقلما يصل إليها رصاص المدافع. هو ذا علم اليوم وهو ذا عمله. فهل يصغران يا ترى بالمقارنة بينهما وبين العلم والعمل في الماضي؟ من الجهة الشكلية، نعم. أما من الجهة العملية، فلا، تلك هي الحقيقة. فمثلما جلب الرومان إلى قلب البادية الحجارة الضخمة، والعمد الكبيرة، كذلك جلب الإنكليز قطع الفولاذ، وجسور الحديد، وأدوات العلم والدفاع. فمن وراء السور على السطح تنطق المدافع الرشاشة، ومن غرفة اللاسلكي يبرق نداء الاستغاثة إلى بغداد والقاهرة أو إلى لندن.
تلك هي الرطبة. قد كانت أمس بئرا مختبئة في بطن الأرض، يتقاتل ويتذابح حولها البدو، وهي اليوم السقاية الكريمة - ولا دلو ولا حبل - والملجأ الأمين، للبدو وللطيارين، وللسائقين والمسافرين، من الإنكليز كانوا أو من العرب، أو من النوبيين. تلك هي الرطبة. قد كانت أمس الهول المجسم، الهول العاري الأعمى الأصم، فلا يرى غير الدلو، ولا يلين لغير الحبال، وهي اليوم ذات عين تبصر، وصوت ينطق، وعقل يفكر، وقلب يعطف ويحنو. فهي تسمع صوت الإعصار يزمجر وراء الآفاق المشرقة، وترسل أصواتها المنذرة إلى ما دون الآفاق. هي تهدي الطيارين فلا يضلون، وتحذرهم من العواصف فتقيهم أخطارها. وهي للمسافرين نعيم ساعة على الأقل، وللواردين المستقين عون على الدوام.
وإن في الرطبة ما يسلي ويطرب حتى أخي العربي الوطني. عندما دخلنا ردهة الاستراحة، الساعة العاشرة من الليل، كان الوقت بلندن وقت الشاي؛ أي الساعة الخامسة بعد الظهر، وهي ساعة الإذاعة اللاسلكية. وكانت في الردهة آلة الراديو مفتوحة ترحب بنا بقطعة من «عائدة» لفردي، كانت تعزف في تلك الفينة بلندن، يعزفها جوق كبير على معازفه الخمسين. ورأينا بعض المسافرين يطالعون الجرائد، وبعضهم يشربون الويسكي أو الشاي، وهم يستمعون إلى لندن تغني! لندن في الرطبة، وكانت الرطبة بالأمس ثقبة في ظهر الشول. •••
شئت أن نبيت في الرطبة، وشاء الرفيقان أن نصل إلى بغداد صباحا، فقلت: ضعيفان يغلبان قويا، فكيف بقويين. في الساعة الحادية عشرة إذن نهضنا للإسراء.
وأين السيد يحيى؟ نعم ، إن سائق السيارة وصاحبها لسيد من السادة ، سيد كبير من بغداد، عريض المنكبين، عريض الصوت والدعوى، يعنجر ويزنجر، ويلف حول لبادة رأسه خمسة أذرع من الكشمير الهندي. ما كان في تلك الساعة على مرأى أو مسمع منا! فراح الشيخ قسطنطين ينشده ويناديه. ولقسطنطين صوت يعلو صوت السيد ويجعله بالمقارنة أنثويا. سمعته وهو واقف في بوابة الحصن يرسل ذاك الصوت في الليل - يسخر الليل - ليحمله إلى السائق السيد حيث كان، ويبرزه للوجود. يا سيد يحيى! يا سيد يحيى!
وكان لا يزال نور السراج يبصر في المقهى خارج الحصن، وكان أحد الحراس عند البوابة، فقال لقسطنطين: «خفف عنك، وامش إلى حيث النور، فتسمع السيد يغط قبل أن تصل إلى المقهى.»
بعد دقائق رأينا السيد يجر نفسه وراء قسطنطين، وهو يلف أذرع الكشمير على رأسه وحول أذنيه، ثم لبس معطفه المبطن بصوف الغنم. ولا عجب. إن برد البادية في الليل لأشد من برد الجبال، والرطبة لا تفرق كثيرا عن دمشق في علوها - 650 مترا - عن سطح البحر.
Unknown page