وفي بيت ابن جهم؛ إذ يقول: «من حيث أدري ولا أدري» شيء من هذا التخوف. بيد أن أمره الآن لا يجلب هما، أو يستوجب اهتماما. إنما هناك سؤال لا بد في هذا الموقف منه. ما الذي أكسب بيت ابن جهم الشهرة وضمن له الخلود؟ المكان بين الرصافة والجسر أم عيون المها؟ وهل كانت حسان بغداد يسفرن عند الجسر يا ترى؟ وهل كانت مجازفة ابن جهم شعرية خيالية أم واقعية؟ هذه المسائل جديرة بالنظر، وقد تدعو للمستحب من البحث. وقد تثير الجدل.
ولكن هناك حقيقة لا تقبل الجدل والبحث، وهي أن الصوب الشرقي من بغداد لا يزال يدعى باسمه القديم - الرصافة - المخلد في بيت ابن جهم، كما يدعى الصوب الغربي بالكرخ. إن هاتين الناحيتين قديمتان اسما ورسما. أما النواحي الأخرى فهي حديثة في هندستها وفي أسمائها. •••
كان عدد سكان بغداد في زمن العباسيين يبلغ ألفي ألف نفس؛ أي مليونين. وكانت المدينة مقسمة إلى سبع عشرة ناحية. إنما بغداد اليوم تختلف في تقسيمها، كما تختلف في إدارتها، وعدد سكانها لا يتجاوز الثلاثمائة ألف نفس.
أما المحلات التي أشار إليها ابن جبير وذكر أسماء بعضها، فقد كانت كلها في الصوب الشرقي «مع أن الخراب كان مستوليا عليه.» وكان الصوب الغربي؛ أي الكرخ قد تقدمه في الخراب، فما شاهد ابن جبير فيه غير «الأثر الطامس.»
وقد ذكر شكل المحلات في الرصافة فقال: إن كل محلة منها مدينة مستقلة. يفهم من ذلك، أنه كان بين المحلة والمحلة أرض خالية من السكان، أو أن بعض المحلات كانت مسورة. وقد امتدت الرصافة يومذاك إلى مكان الأعظمية اليوم. وكانت بوابة البصرة مكان باب شرقي أو دونه جنوبا. ومع أن هذه المساحة هي نحو سبعة كيلومترات طولا، ولا أظن أن الرصافة تجاوزت الكيلومترين عرضا، فقد كانت - ولا شك - مزدحمة بالسكان؛ إذ كان عددهم ينيف على المليونين.
والمدينتان - مدينة اليوم ومدينة الأمس - تتشابهان من هذا القبيل. فإذا استثنينا الشارع الجديد، شارع الرشيد، وبعض الأحياء الجديدة، يجوز أن نقول إن كل الجادات و«الدربونات» في الرصافة وفي الكرخ تفتقر إلى النور، والهواء النقي، والنظافة، والتفريج. بيوت متراصة متعرجة، في جادات ضيقة متعوجة، ما رأيت مثلها في المدن العربية الأخرى التي زرتها. وهي تتعجج من القتام والأنام.
إنما أهل بغداد يختلفون في طبائعهم عن أهل الكويت مثلا أو أهل البحرين. والظاهر أنهم لم يتغيروا كثيرا منذ أيام ابن جبير، الذي خصهم بصفحة من كتابه تسود منها وجوه، ولا تضمن للأندلسي الأديب - لو عاد اليوم حيا إلى بغداد - السلامة والأمان. وأقل ما يقال في البغدادي العريق ببغداديته، أن صوته يهز الأرض، ويلقي الرعب في القلوب - أنا بغدادي مو عجمي. فك عينك زين!
والبغدادية العاملة السافرة هي في عنجرتها مثل البغدادي. رأيتها في «دربونة» جالسة على الأرض، وأمامها بعض الخضر تبيعها، ورأيت أحد المارين يتعثر بطرف منديلها المفروش. وسمعتها تصيح به، وتصب عليه جام غضبها، بلغة ممتازة في علم المسبات. كأنها أخذت من إحدى رسائل الخوارزمي إلى بديع الزمان الهمذاني. أين عينك، يا ملعون الوالدين؟ حرمك الله الرجلين! يا ابن الطريق ، يا ابن البطريق، الله يضيق طريقك! لا أظن أن بين نساء العرب من هن أذرب لسانا، وأمضى بيانا من البغدادية. ولا أظن أن ببغداد من يفوقها في بلاغتها الذابحة، إلا أن يكون الشحاذ البغدادي.
سمعت أحد أولئك الشحاذين يردد آيات من الكتاب، وهو جالس على مزبلة في الجادة، ثم يسأل قائلا: أين أهل الصلاح؟ أين الكرام ولد الصباح؟ أين بحر الجود؟ نقطة منه يا معود، نقطة ولا تزود.
وما كان ثمة، في ذاك الصباح، أحد من المعودين، فقد رأيت شحاذا آخر، في جادة أخرى، جالسا عند الحائط، وسمعته، وقد رفع يديه، و«وفك» عينيه، يصيح: اللعنة عليك، يا بغداد، وعلى ذكرك، وعلى أهلك! الدود يأكل عظامك، يا بغداد، وعظام أبنائك! النار والشط والوبا عليك وعلى بنيك، فلا يبقى منك ومنهم غير الرماد والتراب!
Unknown page