1
فقال الفارس: «إن الأمير يتغنى بمدح إبليس!» فاحتار بين أن يتركه ويبتعد عنه أو يدعوه إلى المبارزة ويغادره طعاما لوحش الفلا. وبينما هو يزن الأمرين في باله إذا شبح طويل القامة نحيف الجسم مرتد بجلود الحملان، يثب من صخر إلى صخر كأنه خيال من الأخيلة أو مارد من مردة الجان. فقال: «ما هذا إلا إبليس اللعين، بعينه قد سمع مدح رفيقي له في أشعاره فأقبل علينا.» فثارت فيه الحمية الاسكتسية واستل سيفه وعزم أن يوقع بالاثنين معا. وللحال وقف الشبح أمام جواد الأمير وقبض على نضوه ودفعه دفعة تزحزح الجبال فسقط الجواد على الأرض، ووثب الأمير عن ظهره قبل أن يسقط فلم ينله مكروه، ثم إن الشبح ترك الجواد وقبض على الأمير كأنه يريد خنقه، فناداه الأمير باسمه وقال له: «تنح أيها المجنون من طريقي وإلا قبضت روحك بهذا الخنجر.» ثم التفت إلى الفارس وقال له: «هو ذا الناسك الذي أنت تطلبه.»
فنظر الفارس إلى الشبح ثم قال للأمير: «أما يكفي أنك تثير علينا أبالسة الجحيم حتى تهزأ بي أيضا؟» فقال الأمير: «أتشك في صدق قولي؟ سله يخبرك.»
فقال الشيخ: «نعم، أنا الناسك المقيم بعين جدي. أنا نصير الحق وعدو البطل. أنا سيف النقمة على أعداء الله.» قال ذلك وأخرج من تحت ثوبه نبوتا كبيرا، وجعل يضرب الصخور به فيفتتها تفتيتا. فالتفت الأمير إلى الفارس وقال له: «هاك الولي الذي تطلبه.» فقال الفارس: «ما هذا إلا مجنون!» قال الأمير: «أولا تعلم أنه إذا اختل عقل الإنسان صار من أولياء الله؟» وحينئذ سمعا الناسك يترنم ويقول:
أنا الحبيس وعين الجدي لي وطن
والليث والنمر في غاري مبيتهما
ثم جعل يثب أمامهما كالظبي. فاحتار الفارس في أمره وظن نفسه في أرض مسحورة. فقال له الأمير: «إنه يدعونا لنبيت عنده، فأنا الليث لأن معنى اسمي ليث الجبل، وأنت النمر لأن النمر شعارك.» فتبعاه في ذلك الشعب، وكان قد سبقهما إلى غاره وأضاء لهما مشعلا ليهتديا بنوره إليه، فبلغا الغار بعد مشقة شديدة وربطا فرسيهما عند بابه، ثم دخلاه فوجداه غرفتين كبيرتين منحوتتين في الصخر، وفيه مائدة معدة لهما. فترحب الناسك بهما، وكان قد غير أطواره وثاب إلى السكينة والوقار كأنه ملك من أجلاء الملوك منقطع إلى الزهد والعبادة. فجلسا حول المائدة وأكلا، والناسك واقف في خدمتهما لا ينطق بكلمة، ولما فرغا من الطعام قدم للأمير جاما من الحلوى وللفارس كأسا من الخمر وقال لهما: «كلا واشربا يا ولدي من عطايا الله واشكراه في قلبيكما.» ولما قال ذلك خرج إلى الغرفة الخارجية من الغار، فلحظ الفارس أن الأمير من معارفه فجعل يستخبره عن شأنه، ولم يكد يصدق أن هذا هو ثيودرك الشهير ناسك عين جدي الذي يكاتب البابوات والمجامع ببلاغة تفوق الوصف، وينهض همة ملوك أوروبا للزحف على الأرض المقدسة.
وكان الفارس مرسلا إلى هذا الناسك بمهمة سياسية، فرأى من أطواره ما جعله يتردد عن تبليغه الأمر الذي جاء لأجله. وجملة ما أخبره به الأمير عنه أنه كان من الأبطال العظام الذين جاءوا بيت المقدس للإقامة فيه، ثم انفرد بنفسه إلى هذا المكان وعاش عيشة الزهد والتقشف، وأن جميع الأهالي من مسلمين ونصارى يكرمونه ويجلونه وأنه يظهر تارة بمظاهر الجنون وطورا بمظاهر العقل والحكمة فيقصده الأمراء والعظماء ليرتشدوا بإرشاده. وإن السلطان صلاح الدين أصدر أمرا يمنع كل الناس من التعدي عليه. فلم ينجل الأمر للفارس وقال في نفسه: «قد يكون جنون هذا الناسك تظاهرا منه لكي يقي نفسه من العدوان وقد يكون حقيقة، فالأجدر بي أن لا أكاشفه بشيء حتى أكون على يقين منه.» وزاد ارتيابه فيه أنه رأى الأمير عارفا من أمره أكثر مما أظهر، وسمع الناسك يدعوه باسم آخر غير الاسم الذي سمى نفسه به. وفيما هو يتأمل في ذلك دخل الناسك وقال: «سبحان من جعل لكم الليل لتسكنوا فيه!» فأجاباه: «سبحانه على كل حال!» ثم أشار إلى فراشين بسطهما لهما فخلعا أسلحتهما وصلى كل منهما إلى قبلته وانطرح في فراشه وأخذتهما سنة النوم.
الفصل الرابع
وفيما كان الفارس مستغرقا في نومه شعر بثقل على صدره كأن عدوا قويا يشد خناقه، ففتح عينيه فوجد الناسك جالسا أمامه وقد وضع يده على صدره. فخاطبه الناسك باللغة الإفرنسية وقال له: «لي كلام أقوله لك ولا أريد أن يستمعه صاحبك، فقم والبس رداءك واتبعني.» فقام وأخذ سيفه، فقال له الناسك: «لا حاجة بنا إليه لأننا ماضون إلى حيث لا ينفعنا إلا الأسلحة الروحية.» فترك السيف ووضع خنجره في منطقته، وسار وراء الناسك وهو يظن أنه يرى رؤيا حتى بلغا مدخل الغار، فقال له الناسك: «بم أتيتني من ملك إنكلترا؟» فقال الفارس: «لم أره لأنه مريض، ولكن مجمع الملوك أرسلني إليك.» ففتح الناسك بابا في جدار الكهف وقال: «اعصب عيني بهذا المنديل واتبعني في هذا الطريق.»
Unknown page