فاستصرخها قائلا يكاد يجن من العذاب: لا تغضبي ... أرجوك ... تعالي ... تعالي إلى صدري ... ولكنها تخلصت من ذراعيه بقوة جنونية لا تدري كيف أتتها، وصاحت بعزم وقسوة : مكانك ... إياك أن تلمسني ... إياك أن تعترض سبيلي ...
واتجهت نحو الباب، فتنحى لها، وتبعها مطرقا، صامتا، مثقلا بشعور الخزي والخجل، وسارا صامتين يقطعان الطريق الذي جاءا منه صديقين سعيدين، وقد اكتسى وجهها الجميل بلون الغضب القاني، وارتفع رأسها كبرياء وصلفا، ولم يدر كيف يصلح من خطئه. وكلما طال الصمت يئس وغلب على أمره، حتى تساءل نادما: أما كان ينبغي أن يمد حبل الصبر؟ وقال لنفسه متأسفا: الظاهر أن فتاة مثل تحية لا تؤخذ كما تؤخذ جامعة الأعقاب ... لعله لم يوفها حقها من اللباقة والغزل، ولو أنه اصطنع معها التريث والأناة لربما فاز بها. تبا للشهوة الجامحة، لقد ضيعت عليه فرصة سانحة، وبلغا السيارة، وقالت تحية بلهجة آمرة دون أن تنظر إليه: مكانك.
وصعدت إلى السيارة، وأغلقت الباب، وأمرت السائق بالمسير، وأتبعها عينيه حتى هبطت تحت مستوى البصر، وغابت عن ناظريه تاركة إياه وحيدا عند سفح الهرم، ولبث هنيهة مكانه - كما أمرته - واجما، ثم هز منكبيه، وأخذت روح الاستهانة تعاوده حتى أوشك أن يضحك من نفسه، ونظر إلى الهرم طويلا، ثم غمغم ساخرا: «إن أربعين قرنا تنظر إلى مأساتي من فوق هذا الهرم!» ثم غلبته موجة غضب مفاجئة، فاحمر وجهه الشاحب، واضطربت أرنبة أنفه، فود لو يستطيع أن يقذف القاهرة بأحجار الأهرام الهائلة، وتحركت قدماه وما يزال يأكله الغضب. علام الحزن؟ ... ما هي إلا أنثى! ... ولن تزيد على فتاته - جامعة الأعقاب - شيئا! ... أجل، بيد أنه أضاع فرصة، وخسر تحية وأباها إلى الأبد! وتذكر لحظة، ثم غمغم وهو يهز كتفيه استهانة: طظ.
18
وجاءت فترة استقرار نسبيا ...
تناسى محجوب إخفاقه وتوثب للعمل، فقابل رئيس تحرير «النجمة»، وكلفه الرجل بترجمة بعض المختارات نظير خمسين قرشا في الشهر، فصار دخله مائة وخمسين قرشا، واستطاع أن يتقي به ويلات الموت جوعا، وأن يجعل الحياة محتملة على أية حال. وانبرى للعمل يواصله ليلا ونهارا، ما بين دراسته الجامعية وعمله الصحفي البسيط. وخلت حياته من الفراغ، فنذر تفكيره في نفسه، واجتراره الهموم، ومضت أيام كاملة لا يكور فيها قبضته غضبا أو يهتف ساخطا ساخرا قائلا: طظ. أجل، كانت توجد أويقات غيظ ما منها بد، إذا تهيأ لتناول طعامه الحقير مثلا، أو رأى علي طه بجسمه الرياضي وابتسامته السعيدة، أو ذكر طرقه الأبواب التماسا لبضعة قروش، ولكن فيما عدا ذلك سارت الحياة سيرا هونا محتملا.
وولى مارس بجوه اللطيف، ورياحه الطيبة، وسمائه الآخذة في خلع أردية الشتاء لاستقبال حرارة الربيع وشذاه، وتبعه على الأثر أبريل بشمسه المزهوة، شأن كل حديث نعمة، ورياحه المغبرة، وجوه الأصفر الكدر. وجاءه في أول مايو كتاب والده الشهري المعهود، قال له فيه إنه أرسل إليه آخر جنيه يستطيع الاستغناء عنه، ودعا له بالتوفيق والنجاح، ثم قال له إنه سينتظر من الآن فصاعدا معونته التي بات في أشد الحاجة إليها، وبشره بأنه سيستطيع إن شاء الله أن يتحرك قريبا، وربما أمكنه المشي متوكئا. لم يكن في الرسالة شيء لم يسبق الاتفاق عليه، بيد أنه لم يستطع مدافعة الغيظ الذي هاجمه، وعاودته ذكريات الليالي السود، ليالي الجوع والهذيان، وعاد يقول عن والديه لو كانا لكنت، ولو كانا لكنت ...
ثم كان الامتحان في أول مايو، وظهرت النتيجة قبل الثلث الأخير منه، ونجح الصحاب الأربعة الذين تزاملوا أربعة أعوام كاملة. ولم يكن الامتحان - بالنسبة لمحجوب - مجرد امتحان مدرسي، كانت في الواقع الفرصة الوحيدة والأخيرة كي يجني ثمار كفاح خمسة عشر عاما، فسر سرورا مضاعفا، وتنهد ارتياحا من الأعماق، ولكن سرور الطالب المتخرج بالنجاح سرور قصير المدى، بل هو سرور لا يجاوز ليلة ظهور النتيجة، فإذا أدركه الصباح غشيه بهموم من نوع جديد، هموم شاب يطرح عنه رداء التلمذة ليلقى منفردا - خصوصا إذا كان حاله كحال محجوب - ذلك الجبار المقنع المشتمل على جميع فرص السعادة وجميع عثرات الشقاء الذي يسمونه المستقبل، ومضى الصحاب يجتمعون كل مساء تقريبا بنادي الجامعة، وكانت تترامى إليهم أخبار الزملاء ذوي الحسب والنسب، ممن تفتح لهم أبواب الحكومة بقدرة قادر، وتناولوا مستقبلهم بالكلام والنقد، متفائلين أو متشائمين، واعتاد أحمد بدير أن يقول باطمئنان: «لن يتغير مجرى حياتي؛ فلن أبحث عن مهنة جديدة، بالأمس كنت طالبا وصحافيا، فالآن أتفرغ لعملي في الصحافة.» ولم يكن مأمون رضوان يدري إن كان يبعث إلى فرنسا أم يبقى في مصر، ولكن هدفه بقي واحدا في الحالتين، وهو الإسلام. وقد تساءل مرة قائلا: «ألا يمكن أن نبدأ كفاحنا الحقيقي في جمعية الشبان المسلمين؛ فنظهر الإسلام من غبار الوثنيات، ونرد إليه روحه الفتية، وننشر منها دعوة لا تلبث أن تشمل الشرق العربي جميعا ثم بلاد المسلمين؟!» أما علي طه فلم يكن ذا هدف واضح، ولكن اختلطت عليه الوسائل، كان مهيأ للاشتغال بالسياسة، ولكن السياسة كما يعرفها هو لا كما يعرفها الناس، ولو وجد حزبا ذا مبادئ اجتماعية لاشترك فيه بلا تردد، ولكن أين هذا الحزب؟ فهل ينتظر حتى تنشأ الأحزاب الاجتماعية ثم يشترك فيها، أم يأخذ هو في الدعوة إليها منذ الآن؟ لا شك أن الانتظار أسهل، وأحكم؛ إذ ما جدوى الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي في بلد لا يشغله شاغل عن الدستور والمعاهدة؟ ولعله من الخير أن ينتظر قليلا ليستكمل عدته من العلم والمعرفة وغير ذلك؛ فلم ينط أمله في الوظيفة، ولا كان يرفضها لو أتيحت له.
محجوب عبد الدائم وحده أدركه الجزع؛ الإسلام، السياسة، الإصلاح الاجتماعي، كل أولئك مسائل لا يكترث لها، أما شغله الشاغل فهو اتقاء الموت جوعا، أو هو وظيفة توفر له الرغيف! وإذا أخفق في الحصول على وظيفة فالجوع لن يتهدده وحده هذه المرة، ولكن يتهدد والديه معه، وهو لا يشفق عليهما بقدر ما يشفق من مضايقتهما له، فما العمل؟ ... كان في الحقيقة بلا معين، والحكومة لا يدخلها أحد بلا معين، وتفكر طويلا، ولكنه لم يفعل شيئا إلا أن كتب لوالده كتابا قال فيه إنه بصدد البحث عن وظيفة، وإنه يرجو أن يتمكن قريبا من تأدية واجبه نحو أسرته، وشرح له الصعاب التي تعترضه. وفي ذلك الوقت رشح أستاذ الفلسفة الفرنسي مأمون رضوان لبعثة السوربون، ووصى بتعيين علي طه في المكتبة ليتهيأ له جو حسن لتحضير رسالته. سمع محجوب بهذه الأنباء، وقارن بين حظه وحظ زميليه. غدا ينتقل مأمون ربيب أحقر قرية في الغربية إلى باريس ... وغدا يطمئن علي إلى كرسيه في المكتبة فيحضر الماجستير ويعقد على إحسان! ... مرحى ... مرحى ... وماذا هو فاعل؟ هل تعود أيام فبراير السود؟ وذهب لمقابلة علي طه في المكتبة وقد مر على تعيينه أسبوع، وكان يتوقع أن يجده فرحا مسرورا، وقابله الشاب بابتسامته المعهودة، فلم يقرأ في وجهه ذلك السرور الذي توقعه، بل خال أنه يرى مكانه فتورا لم يتعوده صاحبه، وعجب لذلك أيما عجب، وغمضت عليه أسبابه، حتى حسب أن الشاب يداري فرحه بهذا المظهر الفاتر. وتجاذبا الحديث طويلا، وأعرب له عن نيته في عدم الاستمرار في الوظيفة، قال: هذه فترة انتظار وتفكير ريثما أجد سبيلا للاشتغال بالحياة العامة ... وربما اخترت الصحافة في الوقت المناسب ...
وذكر محجوب عمله في النجمة وما يدر عليه من رزق واسع! فجرت على شفتيه ابتسامة ساخرة، وعاد علي طه يقول: إني أتهيأ لكتابة موضوع عن توزيع الثروة في مصر.
Unknown page