وكل مراء في الأرض فإنما هو من نتاج الفضول، ومن حصل كلامه وميزه، وحاسب نفسه، وخاف الإثم والذم، أشفق من الغرارة، وسوء العادة، وخاف ثمرة العجب، وهجنة القبج، وما في حب السمعة من الفتنة، وما في الرياء من مجانبة الإخلاص.
قال: وكانوا يأمرون بالتبين والتثبت، وبالتحرز من زلل الكلام، ومن زلل الرأي، ومن الرأي الدبري، والرأي الدبري هو الذي يعرض من الصواب بعد مضي الرأي الأول وفوت استدراكه، وكانوا يأمرون بالتحلم والتعلم، وبالتقدم في ذلك أشد التقدم، قال: وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيهما طبيعة، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويشاكلانك في بعض المشاكلة، ولا تهمل طبيعتك، فيستولي الإهمال على قوة القريحة، ويستبد بها سوء العادة، وإن كنت ذا بيان، وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوة المنة يوم الحفل، فلا تقصر في التماس أعلاها سورة، وأرفعها في البيان منزلة، ولا يقطعنك تهيب الجهلاء، وتخويف الجبناء، ولا تصرفنك الروايات المعدولة عن وجوهها، والأحاديث المتناولة على أقبح مخارجها، فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتنسب إلى هذا الأدب، فقرضت قصيدة، أو حبرت خطبة، أو ألفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، ويدعوك عجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل، أو أشعار، أو خطب، فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه فانتحله، وإن كان ذلك في ابتداء أمرك، أو في أول تكلفك، فلم تر طالبا ولا مستحسنا، فلعله أن يكون ما دام ريضا أن يحل عندهم محل المتروك، فإن عاودت أمثال ذلك مرارا فوجدت الأسماع عنه منصرفة والقلوب لاهية، فخذ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه أو زهدهم فيه، قال: وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب، وليس له طبيعة في الكلام، ويكون له طبيعة في التجارة، وليس له طبيعة في الفلاحة، ويكون له طبيعة في الحداء، أو في التعبيرات في القراءة بالألحان، وليس له طبيعة في الغناء، وإن كانت هذه الأنواع كلها ترجع إلى تأليف اللحون، ويكون له طبيعة في الناي، وليس له طبيعة في السرناي، ويكون له طبيعة في قصبة الراعي، ولا يكون له طبيعة في القصبتين المضمومتين، ويكون له طبع في صناعة اللحون، ولا يكون له طبع في غيرها، ويكون له طبع في تأليف الرسائل والخطب والأسجاع، ولا يكون له طبع في قرض بيت الشعر، ومثل هذا كثير جدا.
وقال: ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء، والعلماء البلغاء، وقد أصاب القوم في عامة ما وصفوا، إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني، وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم، ومن الألفاظ الشريفة الكريمة من المعاني، كما أن النادرة الباردة جدا قد تكون أطيب من النادرة الحارة جدا، وإنما الكرب الذي يختم على القلوب، ويأخذ بالأنفاس النادرة الفاترة التي هي لا حارة ولا هي باردة، وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جدا والبارد جدا، وكان محمد بن عباد بن كاسب يقول: والله لفلان أثقل من مغن وسط، وأبغض من ظريف وسط. قلنا: وهذا يشبه ما قاله لابرويير في كتابه الأخلاق: من الأشياء ما لا يطاق فيه التوسط: الشعر والموسيقى والتصوير والخطاب العام.
قال إسحاق بن حسان بن فوهة: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد؛ سئل: ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في أمور كثيرة، منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها، والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة، فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، كأنه يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح، وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة المذاهب، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت، قال: فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف، قال: إذا أعطيت لكل مقام حقه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو، فإنه لا يرضيهما شيء. وأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا ينال. (9) خطباء الجاهلية والإسلام
قال الجاحظ: في الخطباء من يكون شاعرا ويكون إذا تحدث أو وصف أو احتج بليغا مفوها بينا، وربما كان خطيبا فقط وشاعرا فقط، وبين اللسان فقط، ومن الشعراء الخطباء الأنبياء الحكماء قس بن ساعدة الأيادي، والخطباء كثير والشعراء أكثر منهم، ومن يجمع الخطابة والشعر قليل، ومنهم عمرو بن الأهتم المنقري وهو المكحل، ومن الخطباء الشعراء البعيث المجاشعي، واسمه خداش بن بشر بن لبيد، ومن الخطباء الشعراء الكميت بن زيد الأسدي، وكنيته أبو المستهل، ومن الخطباء الشعراء الطرماح بن حكيم الطائي، وكنيته أبو نفر، ومنهم عمران بن حطان، وكنيته أبو شهاب رئيس القعدة من الصفرية، وصاحب فتياهم ومقرعهم عند اختلافهم، ومنهم دغفل بن حنظلة النسابة الخطيب العلامة، ومنهم القعقاع بن شور، ومنهم نصر بن سيار أحد بني ليث بن بكر صاحب خراسان، ومنهم زيد بن جندب الأيادي، وعجلان بن سحبان الباهلي، وهو سحبان وائل وخطيب العرب.
ومن الشعراء العلماء أعشى همذان، ومن الشعراء الخطباء عمران بن عصام العرني، ومن خطباء الأمصار وشعرائهم والمولدين منهم بشار الأعمى، وهو بشار بن برد وكنيته أبو معاذ، ومن الخطباء الشعراء، ومن يؤلف الكلام الجليل ويصنع المناقلات الحسان، ويؤلف الشعر والقصائد الشريفة مع بيان عجيب، ورواية كثيرة، وحسن دل وإشارة عيسى بن يزيد بن دأب أحد بني ليث بن بكر، وكنيته أبو الوليد، ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمرو العتابي، وكنيته أبو عمرو، وممن جمع الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار، والكتب الكبار المجلدة، والسير الحسان المولدة، والأخبار المدونة سهل بن هارون بن راهييوني الكاتب، صاحب كتاب ثعلة وعفرة في معارضة كتاب كليلة ودمنة، وكتاب الإخوان، وكتاب المسائل، وكتاب المخزومي، والهذلية وغير ذلك من الكتب، ومن الخطباء الشعراء علي بن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة.
ذكر الجاحظ ثمامة بن أشرس فقال: ما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي، بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه، وكان لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك، قال بعض الكتاب: معاني ثمامة الظاهرة في ألفاظه الواضحة في مخارج كلامه، كما وصف الخريمي شعر نفسه في مديح أبي دلف حيث يقول:
له كلم فيك معقولة
إزاء القلوب كركب وقوف
كان الفضل بن عيسى الرقاشي من أخطب الناس، وكان متكلما، وكان قاصا مجيدا، وكان يجلس إليه عمرو بن عبيد، وهشام بن حسان، وأبان بن أبي عياش، وكثير من الفقهاء وهو رئيس الفضيلية وإليه ينسبون: وكان يزيد بن أبان عم الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي من أصحاب أنس، والحسن كان يتكلم في مجلس الحسن، وكان زاهدا عابدا وعالما فاضلا، وكان خطيبا، وكان قاصا مجيدا، قال أبو عبيدة: وكان أبوهم خطيبا وكذلك جدهم، وكانوا خطباء الأكاسرة فلما سبوا وولد لهم الأولاد في بلاد الإسلام وفي جزيرة العرب، نزعهم ذلك العرق، فقاموا في أهل هذه اللغة كمقامهم في أهل تلك اللغة، وفيهم شعر وخطب، وما زالوا كذلك حتى أصهر الغرباء إليهم ففسد ذلك العرق ودخله الخور، ومن الخطباء زيد بن علي بن الحسين، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وكان شاعرا بينا، وخطيبا لسنا. ومن أهل الدهاء والنكراء، ومن أهل اللسن واللقن، والجواب العجيب، والكلام الصحيح، والأمثال السائرة، والمخارج العجيبة هند بنت الحسن وهي الزرقاء، وجمعة بنت حابس.
Unknown page