قاعدة في الصبر لشيخ الإسلام ابن تيمية أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم
المتوفى سنة (٧٢٨هـ)
تحقيق
أد. محمد بن خليفة التميمي
الأستاذ في كلية الدعوة في الجامعة
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران ١٠٢] .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء ١] .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب ٧٠-٧١] .
أما بعد، فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد، فإن الصبر من أعظم خصال الخير التي حث الله عليها في كتابه العظيم، وأمر بها رسوله الكريم ﷺ في سنته المطهرة، وقد وردت مادة (صبر) في القرآن الكريم في مائة وأربعة مواضع، على تنوع في مواردها وأسباب ذكرها.
فقد أمر الله نبيه بخلق الصبر فقال: ﵁ ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ [النحل ١٢٧] وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف ٣٥] .
وأمر الله به المؤمنين، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا﴾
1 / 73
[آل عمران ٢٠٠] .
وأثنى على أهله، فقال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة ١٧٧] .
وأخبر بمحبته للصابرين، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران ١٤٦]، ومعيته لهم، فقال تعالى: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال ٤٦] .
وأخبر أن الصبر خير لأصحابه، فقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل ١٢٦] .
ووعدهم أن يجزيهم أعلى وأوفى وأحسن مما عملوه، فقال تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل ٩٦] وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر ١٠] . وبشرهم فقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة ١٥٥] وأخبر أن جزاءهم الجنة فقال تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ [الإنسان ١٢] .
وقد قرن الله الصبر بالقيم العليا في الإسلام، فقرنه باليقين، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة ٢٤]، وقرنه بالتوكل، قال تعالى: ﴿َنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [العنكبوت ٥٨، ٥٩]، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة﴾ [البقرة ١٥٣]، وقرنه بالتقوى في عدة آيات منها: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [آل عمران ١٨٦]، وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران ١٢٠]، وقوله تعالى في سورة يوسف: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف ٩٠] .
وقرن الله ﵎ الصبر بالعمل، فقال: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود ١١]، وقرنه بالجهاد، في قوله
1 / 74
تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل ١١٠]، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين﴾ [محمد ٣١]، وقرنه بالاستغفار: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالأِبْكَارِ﴾، وقرنه بالتسبيح، في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الطور ٤٨] وفي قوله تعالى في سورة طه: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ [طه ١٣٠]، وقرن الصبر في القرآن الكريم بالحق، في قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر ١-٣]، وقرنه بالرحمة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ [البلد ١٧]، وقرنه بالشكر في عدة آيات، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم ٥] .
وحديث القرآن عن الصبر متنوع وممتع مما يدل على أهميته ومكانته العظيمة، وكذا الشأن في السنة النبوية، فقد حث النبي ﷺ أمته على هذا الخلق الكريم، وكانت سيرته ﷺ أنموذجًا يحتذى في التخلق بخلق الصبر بشتى أنواعه وأعلى درجاته، ومن قرأ في سيرته العملية وسنته القولية سيجد أن للصبر شأنًا عظيمًا.
ولقد وقفت على مؤلف لطيف لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى - في موضوع الصبر بعنوان (قاعدة في الصبر) حوى - على لطافته وصغر حجمه - فوائد غزيرة وتأصيلات مفيدة وبخاصة في جانب الصبر على أذى الغير، صاغها المؤلف ﵀ بأسلوب مميز فريد، جلى فيه مميزات هذا النوع من الصبر وبين فوائده، وما إن انتهيت من مطالعته وقراءته، حتى عقدت العزم على تحقيقه وإخراجه بغية الانتفاع به في خاصة نفسي، وتسهيل
1 / 75
انتفاع عامة المسلمين بما حواه من فوائد وفرائد، وقد قدمت لهذا المؤلف بمقدمة في التعريف بهذه الرسالة، ووصف نسخها الخطية، والعمل الذي قمت به، وذلك على النحو التالي:
القسم الأول: في التعريف بالرسالة ووصف نسخه الخطية وعملي فيها.
أ- التعريف بالرسالة.
أولًا: اسم الرسالة.
ثانيًا: توثيق نسبة الرسالة إلى المؤلف.
ثالثًا: موضوع الرسالة.
ب- وصف النسخ الخطية.
ج- عملي في الرسالة.
القسم الثاني: تحقيق النص.
وإذ أقدم هذه الرسالة لأرجو الله أن ينفع بها من اطلع عليها، وأن يجعل عملي عملًا صالحًا لوجهه خالصًا، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
1 / 76
القسم الأول
التعريف بالرسالة ووصف النسخ الخطية وعملي فيها
أولًا: التعريف بالرسالة.
أ- اسم الرسالة: اسم الرسالة كما هو مسجل في الصفحة الأولى من النسختين الخطيتين هو: (قاعدة في الصبر) .
ولكن جاء في رسالة (أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية) تأليف: محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيق المغربي (ت ٧٤) وكذا في العقود الدرية لابن عبد الهادي تسميتها بـ: (قاعدة في الصبر والشكر. نحو ستين ورقة) ١.
وهذا الكلام يدل على أن الرسالة التي بين أيدينا هي جزء من مؤلف أكبر يشمل موضوعي الصبر والشكر، ويؤكد ذلك مقدمة الرسالة ونهايتها حيث ذكر المصنف الشكر فقال في المقدمة: "وإذا اعتبر العبد الدين كله رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر" وقال في نهاية الرسالة: "والأصل الثاني الشكر وهو العمل بطاعة الله تعالى".
ولكن لم أقف على تكملة هذه الرسالة.
ب- توثيق نسبة الرسالة إلى المؤلف:
يدل على صحة نسبة الرسالة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أمور منها:
١- ما جاء على طرة الرسالة من قول الناسخ: (قاعدة في الصبر للشيخ تقي الدين ابن تيمية ﵀ .
٢- ما جاء في رسالة (أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية) تأليف:
_________
١ انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص ٢٣) ط دار عالم الفوائد. وانظر: العقود الدرية (ص ٣٩) .
1 / 77