والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ، بل قدم عقلنة واضحة للتفاوت الطبقي كما في قوله تعالى:
ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (النحل: 75)، ناهيك عن إعادة سر التفاوت الطبقي إلى التقدير الإلهي في قوله:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم (الأنعام: 165).
لكن كان واضحا أن الأمر بهذا المعنى لم يصل إلى أذهان الأرستقراطيين المكيين في ظل دعوة الإسلام الأولى للمستضعفين، فكانت فتنتهم بحديث الغرانيق، لكن توتر بعض المسلمين نتيجة ما ألقى الشيطان، وتضعضع أحوالهم المعنوية، كان لا بد أن تتبعه العودة السريعة بإيضاح دور الشيطان فيما حدث. والذي كان أيضا اختبارا للمسلمين المستضعفين لإظهار مقدار الطاعة، ومدى مسارعتهم إليها مسارعة إسماعيل إلى الذبح طاعة للأمر الإلهي، وعليه فقد جاء النسخ لما ألقى الشيطان في الوحي، عملا إجرائيا كانت أطرافه الاعتبارية القبلية في جانب والوحدة المرتقبة في جانب آخر، وأطرافه الشخوصية هي أهل مكة في جانب، والنبي
صلى الله عليه وسلم
في جانب، بينما كانت أدوات هذا الجدل هي الشفعاء، والشيطان، وكلمات الله التي تمثلت في وحي لا كالإلهام، ولا كالخاطر، ولا كالهاجس، لكنه الوحي الصادق الذي أدى دورا غني الدلالة، ويشير بدون إبهام إلى صدوره عن فاعل واع مريد. كان الوحي هنا فعلا شعوريا يتسم بالإدراك والوعي التامين لما يحدث، ولشكل الاستجابة المطلوبة بحسب شروط الواقع وضروراته. كان وعيا بطبيعة المرحلة الآنية آنذاك ، وبطبيعة المرحلة المقبلة وما سيلحقها من تحولات. لكن يثور هنا السؤال: كيف يتحول الوحي ويتبدل؟ وهل يمس ذلك قدسية كلمة الله الثابتة؟ وهذا ما دعا بعد ذلك إلى نشوء مبحث هام وكبير من مباحث علوم القرآن، هو «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم»، وهو الظاهرة التي لحظها القرشيون حتى قالوا: «ألا ترون إلى محمد، يأتي أصحابه بأمر ثم ينهاهم ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا يرجع عنه غدا؟» وهي ذات المقالة التي قالها اليهود اليثاربة بعد الهجرة، عندما تحول النبي
صلى الله عليه وسلم
بالمسلمين في الصلاة - عن بيت المقدس - إلى كعبة مكة.
10
كان ذلك التحول والتبدل مدعاة لرد الآيات الكريمة:
Unknown page