بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله وصلواته على خير خلقه أجمعين وآله وصحبه الطاهرين. وبعد فهذا علقته انتخابا من كتاب الشهاب القبس من المقتبس تأليف الشيخ الحافظ أبي عُبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني ﵀ في أخباره النحاة والقراء والرواة. انتخبه الشيخ الامام نجم الدين بشير بن أبي بكر حامد بن سليمان الجعفري التبريزي المجاور بمكة حرسها الله تعالى وقال: الباعث عليه أمران أولها استفادتي منه ساعة بعد ساعة وثانيهما إفادة أهليه بغرائبه والنوادر التي فيه، فقد سمعت مشيختنا يقولون: لا يوجد من هذا الكتاب نسخة سوى الأصل الذي هو بخط المصنف، وهو ثمانية عشر مجلدا في وقف الوزير نظام الملك في مدرسته بمدينتة السلام حماها الله تعالى، وقال: وقد حذفت الأسانيد والطرق وما لا يتعلق ولم أخل ترجمة منه غير أني أذكر أحاسن ما ذكر، وبالله التوفقيق والعصمة في حُسن الاختار.
في الحث على تعلم العلم وتقويم اللسان
قال ﵇: أعربوا القارآن والتسوا غرائبه. وقال عُمر الخطاب ﵁: تعلموا العربية فإنها تُنبت العقل وتزيد في المروة. وقال علي ﵇: عليكم السلام: عليكم بالعربية والشعر فإنها يحلان عُقدتين من اللسان العُجبمة والدكنة. وقالت عائشة ﵂: تعلموا الشعر فإنه يُعرب ألسنتكم.
وقال عبد الملك بن مروان: اللحن في الرجل السري كاجدري في الوجه الحسن.
وقال لبنيه: اطلبواالعلم فإن استغنيتم كان لكم جمالا وإن افتقرتم كان لكم مالا. وقال أبو الحراج العقيلي: تعلموا العلم فإنكم إن كنتم ملكوكا فقتم، وإن كنتم أوساطًا سُدتم، وإن أعوزتم عشتم. وكان عُمر بن عبد العزيز يُؤدب أولاده ورعيته على اللحن.
وكتب كاتب لأبي موسى إلى عمر ﵄: من أبو موسى. فكتب عمر أن اضربه سوطا واعزله عن عَمَلك! قال رجل للحسن: يا أبو سعيد! فقال له: كسب الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا ابا سعيد! ثم قال: تعلموا الفقه للاديان والطب للابدان والنحو للسان. وقال الضحاك بن رمل: شهدت سليمان بن عبد الملك يعرض الخيل بدابق، فقام إله رجل وقال: أصلح لله الأمير! إن أبينا هلك فوثب أخانا وأخذ مالنا. فقال سليمان: فلا رحم الله! قال سليمان: دعوه! فلو كان تارك اللحن ترك االساعة.
ودخل على عبد العزيز بن مروان رجل يشكو صهرًا فقال: إن خَتَني فَعَلَ كذا وكذا. فقال له عبد العزيز: ومن خَتَنَك؟ قال: الختان الذي يختن الناس. فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك! بم أجابني؟! فقال أيها الامير، إنك لحنت! وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقوا: من خَنَتُك؟ فاشتغل عبد العزيز حنى صار من أفصح الناس، وكان يُعطي على العربية ويحرم على اللحن. كان الرجلُ يأتيه، فيقول له: ممن أنت؟ فيقول: من بني فلان. فيقول لكاتبه: أعطيه مائتي دينار! ودخل عليه رجل من عبد الدار فقال له: ممن أنت؟ فقال: من بنو عبد الدار. فقال هل: تجدها في جائزتك! فأمر له بمائة درهم.
ودخل أبو عمرو بن العلآء دار القُطن، فرأى على أعدال التجار مكتوبًا: لأبو فلان. فقال: ياعجبًا أيَلْحَنون ويَرْبَحون؟! وقال الحجاج ليحيى بن يعمر: أسمِعتني ألحن؟ قال: الأمير أفصح الناس! ثم اعاد عليه، فقال: نعم، حرفا واحدا! قال: أين؟ قال: في القرآن قال: ذلك اشنع! فما هو؟ قال: قرأت (قُلْ إِنْ كَانَ أَبَاؤُكُمْ وأَبناؤُكًمْ) إلى قوله (أَحب إِلَيْكُم) قرأت: احب، بالرفع كأنه لما طال الكلام نسيت ما ابتدأت به. فقال له الحجاج: لاجرم، لا تسمع ذلك مني أبدا! وألحقه بخراسان، وكان بها يزيد بن المُهلب فاستكتبه، فكتب: عن يزيد بن المهلب إلى الحجاج، إنا لقينا العدو، ففعلنا واضطررناهم إلى عُرعرة الجبل. فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولذا الكلام؟ فقيل له: إن ابن يَعمر هناط. قال: ذاك إذا!.
ابتدآءُ امر النَحْو ومن تكلم فيه
1 / 1
كان علي بن أبي طالب ﵁ قد رسم لأبي الأسود الدُؤلي حروفًا يعلمها الناس لما فسدت ألسنُتهم، فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضنا به بعد علي ﵁. فلما كان زياد وجه إليه أن اعملشيئًا تكون فيه إماما وينتفع به الناسُ، فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس! فدافع بذلك حتى مر يوما بكلاء البصرة، وإذا قارى يقرأ (أَنَّ ألله بَرِيء مِنَ المشرِكِينَ وَرَسُوِله) وفي آخرين، حتى سمع رجلا قال: سقطت عصاتي. فقال: لا يحل لي بهد هذا أن أترك الناس. فجاء إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير، فلبغ لي كاتبًا حصيفا ذكيا يعقل ما أقول. فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يَرضه، فأتي بآخر من ثقيف، فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمي بحرف فانقط نقطة على ألاه، إذا ضَممتُ فمي فانقُط نُقطة بين يدي الحرف، وإذا كسرت فاضجَعلِ النُقطة تحت الحرف، فإذا أتبعتُ ذلك عُنَّةً، فاجعل النقطة نقطتين. ففعل. فهذا نقطُ أبي الأسود، وعمل الرفع والنصب والجر. واختلف الناي إليه يتعلمون العربية.
وكان ابرع أصحابه واحفظهم عنه عنبسة، فلما مات وكان ألقنهم عنه ميمُون الأقْرَنُ أخذ الناس عنه، فلما مات وكن اكثر الناس أخذا عنه عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي مولى الحضارمة أخذوا عنه، وهو أول من بعج النحو ومد القياس والعلل. وكان معه أبو عمرو العلآء. قال سماك بن حرب: لا أظنُ فيهم أحدا أتم فهما ولا أحسن عقلا من أبي إسحاق؛ فنجم من اصحابه عيسى بن عمر الثقفي، ونجم من أصحاب عيسى الخليل بن أحمد الفراهيدي. قال شعبة: ولا أظن أنه كان فيهم مثله ولا أكمل منه. وأخذ عن الخليل عمر بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب وهو سيبويه؛ وأخذ عن سيبويه أبو الحسن الأخفش أبو عثمان المازني، ولا أعلم أن أحد ضبط عنه ظبطه. فأما خلف الأحمر فأخد النحو عن عيسى بن عُمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو.
وجمع بلال بن أبي بردة بين ابن أبي إسحاق وابي عمرو بالبصرة، وهو يومئذ والٍ عليها، ولاه خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك. قال يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز يومئذ، فنظرت فيه بعد ذلك وبالغتُ فيه. وأخذ يونس حبيب عن أبي عمرو، وكان مع ابن أبي إسحاق وأبي عمرو مَسْلَمَةُ بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري وهو مسلمة النحو، كان ابن أبي إسحاق خاله؛ وكان معهم حماد بن الزبرقان، وكان يونس يُفضله في النحو. ومدح الفرزدق يزيد بن عبد الملك بأبيات فيها:
مُسْتَقْبِلِينِ شمال الشامِ تَضِربُنا ... بحاصب كنديف القطن منْثُور
على عَمائمِنا يُلقَى وأَرْحُلنا ... على زَواحِف تُرْجَى مُخُّها رير
قال ابن أبي إسحاق: أخطأت، أنما هي ريرُ، وكذلك قياس النحو في هذا الوضع. قال يونس: والذي قال جائز حسنٌ. فلما ألُّحو على الفرزدق قال: " زواحف نُزجيها محاسير ". قال التوزي: يقال: رير ورار وهو المخ الرقيق، وكيح الجبل أسفله، وقيدٌ رُمح وقاد رمُح.
من اخبار العلماء والنحاة والرواة من اهل البصرة
١ - من أخبار أبي الأسْوَد
هو أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس - ويقال حُلَيس - بن نُفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
قال يونس: الدُول في بني حنيفة ساكنة الواو، والديل في عبد القيس ساكنة الياء، والدُؤل مهموز في بني كنانة رهط أبي الأسود. وقال عيسى بن عمر: الدُئلي بكسر الهمز والقياسُ الفتح. - أدرك أبو الأسود حياة رسول الله ﷺ، قال: وُلدتُ عام الفتح. وهاجر الى البصرة على عهد عمر بن الخطاب، واستعمله عليٌّ على البصرة خلافة لعبد الله بن العباس، وكان شيعةً له، وهو شاعر مجيد مكثر، وعنه أخذ يحيى بن يعمر.
1 / 2
قال أبو الأسود: دخلت يومًا على علي بن أبي طالب، فرأيته مطرقًا يُفكر، فقلت: مالي أراك ياأمير المؤمنين مفكرًا؟ فقال: قد سمعت من بعض مَنْ معي لحنًا، وقد هممت أن أصنع كتابًا أجمع فيه كلام العرب. فقلتُ: إن فعلت ذلك أحييت قومًا وأبقيت العربية في الناس. فألقى إليَّ صحيفة فيها الكلامُ كلُّه: اسم وفعل وحرف، فالاسم مادلَّ على المسمى، والفعل مادلَّ على الحركة، والحرف ماجاء لمعنى ليس باسم ولافعلٍ. فاستأذنته في أن أضع في نحو ماصنع شيئًا أعرضه عليه، فأذن لي؛ فألفت كلامًا وأتيته به، فزاد فيه ونقص، وكان هذا اصل النحو.
قال ابن الأعرابي: الفصحاء في الإسلام أربعة: أبان بن عثمان والحسن بن يسار البصري وأبو الأسود الدُؤْلي وقبيصة بن جابر الأسدي. - وكتب عمر بن الخطاب ﵁ إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة: أما بعد، فتفقهوا في الدين، وتفهموا العربية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب، وعلموا أولادكم العوم الدرية، وألقوا الرُكب، وأنزوا على الخيل نزوا! - الرُكب جمع ركاب - وقيل: إن أبا الأسود أتى ابن عباس فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع لهم شيئًا يقيمون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو، أما إنه حق، وأستعين بسورة يوسف ﵇. - وقال الشعبي: قاتل الله أبا الأسود! ماكان أعف أطرافه وأحضر جوابه! كان استعمل عليّ أبا الأسود على البصرة وزيادًا على الديوان والخراج، فبلغ أن زيادًا يطعن عليه عند علي، فقال:
رأيت زيادًا ينتحيني بشره ... وأعرضُ عنه بادٍ مقاتله
وكلٌّ امرئٍ، والله بالناس عالمٌ ... له عادةٌ قامت عليه شمائله
تعوَّدها فيما مضى من شبابه ... كذلك يدعو كُلَّ أمرٍ أوائله
ويُعجبه صّفحي له وتحملي ... وذو الجهل يجزي الفحش من لايعادله
ولما هلك عليّ ﵇ قال أبو الأسود:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ... فلا قرَّت عيون الشامتينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا ... بخير الناس طُرًا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... وخيَّسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمئينا
إذا استقبلت وجه أبي حُسين ... رأيت البدر راق الناظرينا
لقد علمت معد حيث كانت ... بأنك خيرها حسبًا ودينا
ولما حمل عبيد الله بن زياد ولد الحسين بن علي ﵁ وحرمه إلى يزيد بن معاوية شيَّعهم جمعٌ من أهل الكوفة، فلما بلغوا النجف وقفوا لتوديعهم، فأنشأت أم كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب:
ماذا تقولون، إنْ قال النبي لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بأهل بيتي وأنصاري ومحرمتي ... منهم أسارى وقتلى ضُرجوا بدمِ
ماكان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
والشعر لأبي الأسود. - قال: (رَبَّنا ظَلْمنا أنْفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) . وقال أبو الأسود:
أترجو أمَّةٌ قتلت حُسينًا ... شفاعة جده يوم الحساب
وأرسل معاوية إلى زياد رسولًا فهما في أمر أراده فقال: سترى عنده أبا الأسود الدؤلي شيخًا عليه عمامة سوداء، يجلس عن يمينه، لايتقدمه عنده أحدٌ في الكلام، فقل له: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خبرني عن قولك:
يقول الأرذلون بنو قُشير: ... طوال الدهر لاتنسى عليا
أحِبُّ محمدًا حُبًا شديدًا ... وعبَّاسًا وحمزة والوصيا
أُحبهم لحُب الله حتى ... أجيءَ إذا بُعثت على هويّا
هوىً أعطيته منذ استدارت ... رحى الإسلام لم يعدل سويا
وما أنسى الذي لاقى حسينُ ... ولاحسن بأهونهم عليا
بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا
فن يك حبهم رشدنا ... ولست بمخطيءٍ إن كان غيا
1 / 3
أشككت في حبهم أرُشد هو أم غيٌّ؟ فلما حضر عند زياد قال لأبي الأسود ذلك، فقال أبو الأسود: قل له: ماكنت أحب إلا تعلم أني متحقق متيقن في حبهم أنه رشد، فإن الله ﷿ قال: (وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضلال مبين)، أفيرى الله ﷿ شك في ضلالتهم ولكنه حققه بهذا عليم؟! ولما وقعت الفتنة بالبصرة في أيام ابن الزبير مر أبو الأسود على مجلس بني قشير فقال: يابني قشير، على ماذا اجتمع رأيكم في هذه الفتنة؟ قالوا: ولم تسألنا؟ قال: لأخالفه، فإن الله لايجمعكم على هدى! - وأنشد عمر في هذا المعنى:
إذا اشتبه الأمران يومًا وأشكلا ... عليَّ ولم أعرف صوابًا ولم أدر
سألت أبا بكر خليلي محمدًا ... فقلت له: ماتستحب من الأمر
فإن قال قولًا قلت خلافه ... لأن خلاف الحق قول أبي بكر
وقال زياد لأبي الأسود: كيف حبك لعلي؟ قال؛ حبي يزداد له شدة كما يزداد بغضك له شدة، ويزداد لمعاوية حبا، وأيم الله إني لأريد بما أنا فيه الآخرة وما عند الله، وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفها، وذلك زائل بعد قليل! فقال له زياد: إنك شيخ قد خزفت، ولولا أني أتقدم إليك لأنكرتني. فقال أبو الأسود:
غضب الأمير بأن صدقت وربما ... غضب الأمير على البري المسلم
ودخل أبو الأسود على معاوية، فقال له: أصبحت جميلًا ياأبا الأسود، فلو علقت تميمة تدفع عنك العين! فقال أبو الأسود وعرف أنه يهزأ به:
أفنى الشباب الذي فارقت بهجته ... كر الجديدين من آت ومنطلق
لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئًا أخاف عليه لذعة الحدق
قد كنت أرتاع للبيضاء أنظرها ... في شعر رأسي وقد أيقنت بالبلق
والآن حين خضبت الرأس فاقني ... ما كنت التذ من عيشي ومن خلقي
وقال زياد لأبي الأسود: لولا أنك قد كبرت لاستعنا بك في بعض أمورنا. فقال: إن كنت تريدني للصراع فليس عندي، وإن كنت تريد رأيي وعقلي فهو أوفر مما كان. وأنشأ يقول:
زعم الأمير بأن كبرت وربما ... نال المكارم من يدبُّ على العصا
أأبا المغيرة رُبَّ أمر مبهمٍ ... فرَّجته بالمكر مني والدَّها
مر عبيد الله بن زياد على أبي الأسود وعليه ثياب رثة يكثر لبسها، فقال: إلا تستبدل بجبتك هذه؟ فقال: رب مملولٍ لايستطاع فراقه! فأرسل إليه عبيد الله ثمانين ثوبا - وقيل: مائة -، فقال أبو الأسود:
كساك ولم تستكسه فاشكرن له ... أخُ لك يعطيك الجميل وناصر
وإن أحق الناس إن كنت شاكرًا ... بشكرك من أعطاك والوجه وافر
وقال أبو الأسود لابنه: يابني، إذا كنت في قوم فحدثهم على قدر سنك، وسائلهم على قدر محلك، ولاترتفع عن الواجب فتستثقل، ولا تنحط عنه فتحتقر! وإذا أوسع الله عليك فابسط، وإذا أمسك عليك فأمسك، ولاتجاود الله ﷿، فالله أجود منك! - وزوّج ابنتيه فقال لإحداهما: يابنية، أكرمي أنف زوجك وعينيه وأذنيه! يريد: لايشم منك إلا طيبا ولايرى إلا جميلا ولايسمع إلا حسنا. وقال للأخرى: يابنية، أمسكي عليك الفضلين! يريد: فضل النكاح وفضل الكلام. - وقال لأولاده: أحسنت إليكم كبارًا وصغارًا وقبل أن تولدوا! قالوا: أحسنت إلينا صغارا وكبارا، فكيف قبل أن نولد؟ قال: طلبت لكم النسيب كيلا تعيروا.
وقيل له: من أكرم الناس عيشا؟ قال: من حسن عيش غيره في خيره. فمن أسوأ الناس عيشا؟ قال: من لايعيش في عيشه أحد. - وقال: البلاغة سلاطة اللسان. وقيل: مارضيته الخاصة وفهمته العامة. وقال: ليس شيءٌ أعز من العلم، وذاك لأن الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك. وقال:
العلم زين وتشريف لصاحبه ... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لاخير فيمن له أصل بلا أدب ... حتى يكون على ما زانه حدبا
كم من حسيب أخيٍ عيٍ وطمطمة ... فدم لدى القوم معروق إذا انتسبا
في بيت مكرمة أباؤه نجب ... كانوا رؤوسًا فأمسى بعدهم ذنبا
وخامل مقرف الأباء ذي أدب ... نال المعالي بالآداب والرتبا
1 / 4
أضحى عزيزًا عظيم الشأن مشتهرًا ... في خده صعر قد ضل محتجبا
العلم كنز وذخر لانفاد له ... نعم القرين إذا ما صاحب صحبا
قد يجمع المرء مالًا ثم يسلبه ... عما قليل فيلقى الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبدا ... ولا يحاذر منه الفوت والسلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه ... لاتعدلن به درّا ولاذهبا
وقال:
وإذا وعدت الوعد كنت كغارم ... دينًا أقرّ به وأحضر كاتبا
حتى أنفذه كما وجهته ... وكفى عليَّ له بنفسي طالبا
وإذا منعت منعت منعًا بيتنا ... وأرحت من طول العناء الراغبا
لاأشتري الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال:
إذا لم يكن للمرء عقل فإنه ... وإن كان ذا مال على الناس هين
وإن كان ذا عقل أجل لعقله ... وأفضل عقل عقل من يتدين
وقال:
وعدد من الرحمان فضلا ونعمة ... عليك إذا ماجاء للخير طالب
وأن أمرا لايرتجى الخير عنده ... يكن هينًا ثقلًا على من يصاحب
أرى دولًا هذا الزمان بأهله ... وبينهم فيه تكون النوائب
فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالبًا ... فإنك لاتدري متى أنت راغب
وإن قلت في شيء نعم فأتمه ... فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل: لا، واسترح وأرح بها ... لكيلا يقول الناس: إنك كاذب
إذا كنت تبغي شيمة غير شيمة ... جبلت عليها لم تطعك الضرائب
تخلق أحيانا إذا ما أردتها ... وخلقك من دون التخلق غالب
وقال:
إا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... ففاض ففي صدري لسري متسع
إذا فات شيء فاصطبر لذهابه ... ولاتتبعن الشيء إن فاتك الجزع
ففي اليأس عما فات عزٌ وراحة ... وفيه الغنى والفقر ياضافي الطمع
إذا صاحبا وصل بحبل تجاذبا ... فمل قواه أوهن الحبل فانقطع
ولاتحفرن بئرًا تريد أخا بها ... فإنك فيها أنت من دونه تقع
وكلُّ امرئ يبغي على الناس ظالمًا ... تصبه على رغم عواقب ما صنع
وذكرت العمائم عنده، فقال: العمامة خير ملبوس: جنة في الحروب وواقية في الأحداث، مسكنة من الحر ومدفئة من البرد، وقار في الندي وزيادة في القامة، وهي تعد من تيجان العرب.
وقال لابن قيس الرقيات:
وما خصلة قد تذل الرجال ... بأسوأ وأخزى من المسأله
فإن مت ضرًا فلا تسألن ... أخا الجهل من ماله خردله
فترجع من عنده نادمًا ... وتقطع من كفك الأنمله
وإن هو أعطاك مجهوده ... فليس بأعطى من المكحله
وقال:
وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجئك بملئها يومًا ويوما ... تجئ بحماة وقليل ماء
ولاتقعد على كسل التمني ... تحيل على المقادر في القضاء
فإن مقادر الرحمان تجري ... بأرزاق العباد من السماء
مقدرة بقبض أو ببسط ... وعجز المرء من سبب البلاء
وبعض الرزق في دعة وخفض ... وبعض الرزق يكسب بالعناء
بينا أبو الأسود يومًا في طريق إذ لقيته امرأة لها رواء، فقالت: يا أبا الأسود، هل لك فيّ؟ قال: ومن أنت؟ قالت: فلانة ابنة فلان. فعرفها فتزوجها؛ فلما مضت عليه أيام استكتمها سرا، فأفشته، فنهاها، ثم عادت لمثل مانهاها، فقال لها: أصنعي طعاما وابعثي إلي إخوتك حتى يأتوك! فلما جاؤوا وأكلوا وقف أبو الأسود عليهم وقال:
أرأيت امرأ كنت لم أبله ... أتاني فقال: اتخذني خليلا
فخاللته ثم صافيته ... فلم أستفد منه يومًا فتيلا
فعاتبته ثم ناقرته ... عتابًا رفيقًا وقولًا جميلا
فألفيته حين خاللته ... خؤون الأمانة خبا بخيلا
1 / 5