نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي ﷺ لابن عباس
3 / 89
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رب يسر يا كريم
الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله عَلَى محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
خرج الإمام أحمد (١) من حديث حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [﵁] (٢).
قَالَ: "كُنْتُ رَدِيفَ (النَّبِيِّ) (*) ﷺ فَقَالَ: يَا غُلامُ -أَوْ يَا غُلَيِّمُ- أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ [عَلَيْكَ] (**) لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا".
هكذا ساقه من طريق حنش مع إسنادين آخرين منقطعين، وفي السياق أنَّه لا يحفظ حديث بعضهم من بعض.
_________
(١) (١/ ٢٩٣).
(٢) ما بين المعقوفتين من المطبوعة.
(*) رسول الله "نسخة".
(**) ما بين المعقوفتين من المطبوعة بتحقيق النجار، وفي المسند: "لم يكتبه الله عليك".
3 / 91
وخرّجه أيضًا (١) من طريق حنش وحده مختصرًا، ولفظه:
"يَا غُلامُ، إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، فَقَدْ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجُفَّتِ الكُتُبِ، فَلَوْ جَاءَتِ الأُمَّةُ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ لَكَ لَمَا اسْتَطَاعَتْ، وَلَوْ أَرَادَتْ أنْ تَضُرَّكَ بِشَيءٍ لَمْ يَكْتُبُهُ اللهُ لَكَ لَمَا اسْتَطَاعَتْ عَلَيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا".
هكذا ساقه من طريق [حنش] (٢)، وخرّجه الترمذي (٣) بنحو هذا السياق المختصر ولفظه:
«إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ».
وقال: حديث حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو عبد الله بن منده: لهذا الحديث طرق عن ابن عباس وهذا أصحها. قال: وهذا إسناد مشهور ورواته ثقات.
قلت: قد رُوي هذا الحديث عن ابن عباس من رواية جماعة؛ عنه فمنهم: علي ابنه، وعطاء، وعكرمة. ومن رواية عمر (٤) مولى غفرة، وعبد الملك بن
_________
(١) (١/ ٣٠٧).
(٢) ما بين المعقوفتين سقط من الناسخ والسياق يقتضيه، وانظر بداية العزو.
(٣) برقم (٢٥١٦).
(٤) أخرجها العقيلي (٣/ ١٧٨)، والطبراني (١١/ ١١٥٦٠) ونقل العقيلي قول ابن يونس قلت لعمر مولى غفرة: سمعت من ابن عباس؟ قال: أدركت زمانه.
قال العقيلي: وهذا المتن يروى عن ابن عباس وغيره عن النبي ﷺ بأسانيد لينة.
3 / 92
عمير (١)، وابن أبي مليكة عن ابن عباس (٢). وقيل أنهما لم يسمعا منه، وفي أسانيدها جميعها مقال، وفي ألفاظها بعض الزيادة والنقص.
ورُوي عن النبي ﷺ أنَّه وصى بذلك ابن عباس من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري (٣)، وسهل بن سعد، وغيرهم من الصحابة، وفي أسانيدها أيضًا مقال.
وذكر العقيلي (٤) أن أسانيد الحديث كلها لينة، وبعضها أصلح من بعض.
قلت: وأجود أسانيده من رواية حنش عن ابن عباس التي ذكرناها، وهو إسناد حسن لا بأس به.
وقد استوفينا ذكر طرق الحديث مع الكلام عليها في كتاب "شرح الترمذي".
ومقصودنا ها هنا الكلام عَلَى معنى الحديث وشرح ألفاظه، فإنَّه تضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها، حتى قال الإمام أبو الفرج [ابن الجوزي] (*) في كتابه "صيد الخاطر": تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش. ثم قال: واأسفًا من الجهل بهذا الحديث، وقلة الفهم لمعناه.
...
_________
(١) أخرجه الحاكم (٣/ ٥٤١).
(٢) أخرجه العقيلي (٣/ ٣٩٧ - ٣٩٨) وقال: الأسانيد في هذا لينة.
(٣) أخرجه ابن عدي في الكامل (٧/ ٢٢٧) في ترجمة يحيى بن ميمون بن عطاء أبي أيوب التمار، والخطيب في تاريخ بغداد (١٤/ ١٢٤) ونقل ابن عدي عن عمرو بن علي الفلاس أنَّه قال عن يحيى بن ميمون: كنت عنده وكان كذابًا يحدث عن علي بن زيد بأحاديث موضوعة ... ومنها حديث أبي نضرة عن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال لابن عباس: ..... الحديث.
(*) ما بين المعقوفتين من المطبوعة.
(٤) في "الضعفاء الكبير" (٣/ ٥٤).
3 / 93
فقوله ﷺ: "احفظ الله يحفظك"
يعني: احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا تتجاوز ولا تتعدى ما أمر به إِلَى ما نهى عنه.
فدخل في ذلك فعل الواجبات جميعًا وترك المحرمًات كلها، كما في حديث أبي ثعلبة المرفوع:
«إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوها، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا» (١).
_________
(١) أخرجه الطبراني في الكبير (٢٢/ ٥٨٩)، والدارقطني في سننه (٤/ ١٨٤) من طريق داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني.
وأخرجه الييهقي في "السنن الكبير" (١٠/ ١٢) موقوفًا عَلَى أبي ثعلبة الخشني من نفس الطريق المرفوع.
قال البيهقي: هذا موقوف، وأنبأنيه شيخنا أبو عبد الله الحافظ في "المستدرك" فيما لم يقرأ عليه إجازة حدثني علي بن عيسى ثنا محمد بن عمرو الحرشي ثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند ... فذكر نفس الإسناد.
وسئل الدارقطني في العلل (٦/ ٣٢٤) برقم (١١٧٠) عن هذا الحديث فَقَالَ: يرويه مكحول واختلف عنه، فرواه داود بن أبي هند عن مكحول، واختلف عنه، فرواه إسحاق الأزرق عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبى ثعلبة مرفوعًا.
وتابعه محمد بن فضيل عن داود.
ورواه حفص بن غياث ويزيد بن هارون عن داود فوقفاه.
وقال قحذم: سمعت مكحولا يقول: لم يتجاوز به.
والأشبه بالصواب مرفوعًا وهو أشهر.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (١/ ٢٤٠): وله علتان: إحداهما أن مكحولًا لم يصح له السماع عن أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم وغيرهم.=
3 / 94
وذلك كله يدخل في حفظ حدود الله، كما ذكره الله في قوله: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ...﴾ [التوبة: ١١٢].
وقال تعالى: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: ٣٢، ٣٣].
وفسر الحفيظ ها هنا بالحافظ لأوامر الله، وفسر بالحافظ لذنوبه حتى يرجع منها، وكلاهما يدخل في الآية.
ومن حفظ وصية الله لعباده وامتثلها فهو داخل أيضًا، والكل يرجع إِلَى معنى واحد.
وقد ورد في بعض ألفاظ حديث يوم المزيد في الجنة:
"إن الله تعالى يقول لأهل الجنة، إذا استدعاهم إِلَى زيارته وكشف لهم الحجب: مرْحَبًا بعبادي الَّذين حفظوا وصيتي، وراعوا عهدي، وخافوني بِالْغَيْبِ، وَكَانُوا مني على كل حَال مشفقين" (١).
_________
=والثانية: أنَّه اختلف في رفعه ووقفه عَلَى أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني: الأشبه بالصواب المرفوع، قال: وهو أشهر" اهـ.
قلت: وله شاهد من حديث أبي الدرداء مرفوعًا أخرجه ابن عدي في الكامل (١/ ٤٠٤)، والطبراني في الصغير (٢/ ١٢٢ - ١٢٣).
قال الطبراني: لم يروه عن قرة إلا أصرم بن حوشب.
وقال ابن عدي بعد أن نقل قول يحيى بن سعيد القطان في أصرم بن حوشب: أنَّه كذاب خبيث، وقول البخاري: متروك الحديث.
قال ابن عدي: وهذه الأحاديث بواطيل عن قرة بن خالد كلها، لا يحدث بها عنه غير أصرم هذا.
(١) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في صفة الجنة (٥٣)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (٤١١) وعزاه لهما المنذري في الترغيب والترهيب (٤/ ٣٠٧) فَقَالَ: رواه ابن أبي الدُّنْيَا وأبو نعيم هكذا معضلا، ورفعه منكر، والله أعلم. وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (٢/ ٥٢٠): وهذا مرسل ضعيف غريب، وأحسن أحواله أن يكون من كلام بعض السَّلف فوهم بعض رواته، فجعله مرفوعًا وليس كذلك، والله أعلم.
3 / 95
فأمره ﷺ لابن عباس بحفظ الله يدخل فيه هذا كله.
ومن أعظم ما يجب حفظه من المأمورات الصلوات الخمس، قال تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: ٢٣٨] وقال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المعارج: ٣٤].
وقال النبي ﷺ:
"من حافظ عليها كان له عند الله عهدًا أن يدخله الجنة ... " (١) الحديث.
وفي حديث آخر:
" «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (٢). الحديث.
وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة، وقال النبي ﷺ: "لا يحافظ عَلَى الوضوء إلا مؤمن" (٣).
فإن العبد تنتقض طهارته ولا يعلم بذلك إلا الله، فالمحافظة عَلَى الوضوء للصلاة دليل عَلَى ثبوت الإيمان في القلب.
ومما أمر الله بحفظه الأيمان لمَّا ذكر كفارة اليمين قال: ﴿ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] فإن الأيمان كثيرًا ما تقع من الناس وموجباتها مختلفة، فتارة يجب بها كفارة يمين وتارة يجب بها كفارة مغلظة، وتارة يلزم بها المحلوف عليه من طلاق ونحوه. فمن حفظ أيمانه دل عَلَى دخول الإيمان في قلبه.
وكان السَّلف كثيرًا يحافظون عَلَى الأيمان، فمنهم من كان لا يحلف بالله ألبتة، ومنهم من كان يتورع حتى يكفر عما شك في الحنث فيه. ووصى الإمام
_________
(١) أخرجه مالك في الموطأ (١/ ١٢٣) (١٤)، وأحمد (٥/ ٣١٩).
(٢) أخرجه أحمد (٢/ ١٦٩)، والطبراني في "الأوسط" (١٧٦٧).
(٣) أخرجه أحمد (٥/ ٢٨٠)، والدارمي (١/ ١٦٨) والطبراني في الكبير (٢/ ١٤٤٤).
3 / 96
أحمد ﵀ عند موته أن تخرج عنه كفارة يمين. وقال: أظن أني حنثت في يمين حلفتها.
وقد رُوي عن أيوب ﵇ أنَّه كان إذا مر باثنين يحلفان بالله ذهب فكفر عنهما بيمين، لئلا يأثمان وهما لا يشعران.
ولهذا لما حلف عَلَى ضرب امرأته مائة جلدة، أفتاه الله بالرخصة لحفظه لأيمانه وأيمان غيره.
وقد اختلف العُلَمَاء، هل تتعدى الرخصة لحلفه أم لا؟
وقال يزيد بن أبي حبيب: بلغني أن من حملة العرش من يسيل من عينيه أمثال الأنهار من البكاء، فإذا رفع رأسه قال: سبحانك، ما (تخشى) (*) حق خشيتك؟ فيقول الله تعالى: لكن الذين يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذلك.
وقد ورد التشديد العظيم في الحلف الكاذب، ولا يصدر كثرة الحلف بالله والحلف به كاذبًا من الجهل بالله وقلة هيبته في الصدور.
ومما يلزم المؤمن حفظه رأسه وبطنه، كما في حديث ابن مسعود المرفوع: "الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَيَحْفَظِ البَطْنَ وَمَا حَوَى" خرجه الإمام أحمد (١) والترمذي (٢).
وحفظ الرأس وما وعى، يدخل فيه السمع والبصر واللسان من المحرمات.
وحفظ البطن وما حوى: يتضمن حفظ القلب عن الإصرار عَلَى محرم.
وقد جُمع -ذلك كله في قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٦].
ويدخل في حفظ البطن وما حوى: حفظه من إدخال الحرام. إِلَيْهِ من
_________
(*) نخشى: "نسخة".
(١) (١/ ٣٨٧).
(٢) برقم (٢٤٥٨) وقال: هذا حديث إِنَّمَا نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد.
3 / 97
المأكولات والمشروبات.
ومما يجب حفظه من المنهيات: حفظ اللسان والفرج. وفي حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ:
"من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة" خرجه الحاكم (١).
وخرّجه البخاري (٢) من حديث سهل بن سعد عن النبي ﷺ ولفظه: "من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه، أضمن له الجنة".
وفي مسند الإمام أحمد (٣) عن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال: "من حفظ ما بين فقميه (٤) وفرجه دخل الجنة".
وقد أمر الله بحفظ الفروح خاصة ومدح الحافظين لها، قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ...﴾ [النور: ٣٠].
وقال تعالى: ﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾ [الأحزاب: ٣٥].
وقال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ...﴾ [المؤمنون: ٥، ٦].
وقد رُوي عن أبي إدريس الخولاني أن أول ما وصى الله آدم عند إهباطه إِلَى الأرض بحفظ فرجه، أن لا يضعه إلا في حلال.
...
_________
(١) في "المستدرك" (٤/ ٣٥٧).
(٢) برقم (٦٤٧٤).
(٣) (٤/ ٣٩٨).
(٤) الفُقْم: بالضم والفتح، اللَّحِي، يريد من حفظ لسانه وفرجه. النهاية مادة "فقم".
3 / 98
قوله: "يحفظك"
يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه، حفظه، فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠].
وقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢].
وقال: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد: ٧].
وحفظ الله -تعالى- لعبده وماله.
وفي حديث ابن عمر قال: لم يكن رسول الله ﷺ يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي».
خرجه الإمام أحمد (١) وأبو داود (٢) والنسائي (٣) وابن ماجه (٤).
وهذا الدعاء منتزع من قوله ﷿: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ الآية [الرعد: ١١].
قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه (٥).
_________
(١) (٢/ ٢٥).
(٢) (٥٠٧٤).
(٣) (٨/ ٢٨٢).
(٤) برقم (٣٨٧١).
(٥) أخرج ابن جرير في تفسيره (١٣/ ١١٧) شطره الأول.
3 / 99
وقال علي ﵁: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يُقَدَّرْ، فإذا جاء القَدَرُ خليا بينه وبينه، وإن الأجل جنة حصينة (١).
وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك، إلا شيئًا قد أذن الله فيه فيصيبه.
ومن حفظ الله للعبد: أن يحفظه في صحة بدنه وقوته وعقله وماله.
قال بعض السَّلف: العالم لا يحزن، وقال بعضهم: من جمع القرآن متع بعقله.
وتأول ذلك بعضهم عَلَى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: ٥] وهو أرذل العمر ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [التين: ٦].
وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهر ممتع بعقله وقوته، فوثب يومًا من سفينة كان فيها إِلَى الأرض وثبة شديدة. فعوتب عَلَى ذلك، فَقَالَ: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
وعكس هذا أن الجنيد رأى شيخًا يسأل الناس، فَقَالَ: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده، كما قيل في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: ٨٢]: إنهما حفظا بصلاح أبيهما.
وقال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فما يزالون في حفظ من الله وستره.
وقال ابن المسيب لابنه: يا بني (لأزيدن) (*) في صلاتي من أجلك، رجاء
_________
(١) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (٣/ ٣٤ - طبعة دار صادر)، والطبري في تفسيره (١٣/ ١١٩).
(*) في "المطبوع": إني لأزيد.
3 / 100
أن أحفظ فيك. وتلا هذه الآية: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: ٨٢].
وقال عمر بن عبد العزيز: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه.
وقال يحيى بن إسماعيل بن سلمة بن كُهيل: كان لي أخت أسنَّ مني فاختلطت وذهب عقلها وتوحشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحنا، فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، فبينما أنا نائم ذات ليلة إذا باب يدق نصف الليل، فقلت: من هذا؟ قالت: كجه، فقلت: أختي؟! قالت: أختك، ففتحت الباب فدخلت ولا عهد لها بالبيت أكثر من عشر سنين.
فقالت: أتيت الليلة في منامي فقيل لي: إن الله قد حفظ أباك إسماعيل لسلمة جدك، وحفظك لأبيك إسماعيل؛ فإن شئت دعوت الله فذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة؛ فإن أبا بكر وعمر قد شفعا فيك إِلَى الله ﷿ بحب أبيك وجدك إياهما، فقلت: فإذا كان لابد من اختيار أحدهما فالصبر عَلَى ما أنا فيه والجنة، وإن الله ﷿ لواسع بخلقه لا يتعاظمه شيء، إن شاء أن يجمعهما لي فعل.
قالت: فقيل لي: فإن الله قد جمعهما لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر ﵄، قومي فانزلي، فأذهب الله تعالى ما كان بها.
ومتى كان العبد مشتغلًا بطاعة الله فإن الله ﷿ يحفظه في تلك الحال، كما في مسند الإمام أحمد (١) عن حميد بن هلال عن رجل قال:
"أتيت النبي ﷺ فإذا هو يريني بيتًا فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِيهِ فَخَرَجَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَنْزًا وَصِيصِيَتَهَا (٢)، كَانَتْ تَنْسِجُ بِهَا قَالَ: فَفَقَدَتْ عَنْزًا، مِنْ غَنَمِهَا وَصِيصِيَتَهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ قَدْ ضَمِنْتَ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ فَقَدْتُ عَنْزًا مِنْ غَنَمِي
_________
(١) (٥/ ٦٧). قال الهيثمي في المجمع (٥/ ٢٧٧): ورجاله رجال الصحيح.
(٢) الصِّيصيَّة: هي الصِّنارة التي يغزل بها وينسج.
3 / 101
وَصِيصِيَتِي، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ عَنْزِي وَصِيصِيَتِي. قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا رَبِّهَا ﵎، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا وَصِيصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا، وَهَاتِيكَ [فَأْتِهَا]. قَالَ: قُلْتُ: بَلْ أُصَدِّقُكَ".
وكان شيبان الراعي يرعى غنمًا في البرية، فإذا جاءت الجمعة خط عليها خطًّا وذهب إِلَى الجمعة ثم يرجع وهي كلما تركها.
وكان بعض السَّلف في يده الميزان يزن بها دراهم، فسمع الأذان فنهض ونفضها عَلَى الأرض وذهب إِلَى الصلاة، فلما عاد جمعها فلم يذهب منها شيء.
ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه: أن يحفظه من شر كل من يريده بأذى من الجن والإنس.
كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢] قالت عائشة ﵂: يكفيه غم الدُّنْيَا وهمها.
وقال الربيع بن خثيم. يجعل له مخرجًا من كل ما ضاق عَلَى الناس.
وكتبت عائشة إِلَى معاوية: إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئًا (١).
وكتب بعض الخلفاء إِلَى الحكم بن عمرو الغفاري كتابًا يأمره فيه بأمر يخالف كتاب الله، فكتب إِلَيْهِ الحكم: إني نظرت في كتاب الله فوجدته قَبلَ كتاب أمير المؤمنين، وإن السماوات والأرض لو كانتا رتقًا عَلَى امرئ فاتقى الله ﷿، جعل الله له مخرجًا، والسلام.
قال بعضهم شعرًا:
بتقوى الإلهِ نجا من نجَا. . . وفازَ وصارَ إلى مَا رَجَا
ومن يتقِّ اللَّهِ يجعلْ له. . . كما قالَ من أمره مَخْرَجَا
_________
(١) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٧/ ٢٤٤) برقم (٣٥٧١٧)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (٨٨٥).
3 / 102
ويرزقه من حيث لا يحتسب. .. وإن ضاق أمرًا به فرجًا
كتب بعض السَّلف إِلَى أخيه:
أما بعد: فإنه من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله الغني عنه.
ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه: أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى وساعية في مصالحه، كما جرى لسفينة (١) مولى النبي ﷺ حيث كسر به المركب وخرج إِلَى جزيرة فرأى السبع، فَقَالَ له: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى النبي ﷺ فجعل يمشي حوله ويدله عَلَى الطريق حتى أوقفه عليها، ثم جعل يُهَمْهِمُ كأنه يودعه وانصرف عنه.
وكان أبو إبراهيم السائح قد مرض في برية بقرب دير، فَقَالَ: لو كنت عند باب الدير لنزل الرهبان فعالجوني، فجاء السبع فاحتمله عَلَى ظهره حتى وضعه عَلَى باب الدير فرآه الرهبان فأسلموا وكانوا أربعمائة.
وكان إبراهيم بن أدهم نائمًا في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى استيقظ.
فمن حفظ الله حفظه من الحيوانات المؤذية بالطبع، وجعل تلك الحيوانات حافظة له.
ومن ضيع الله ضيعه الله بين خلقه، حتى يدخل عليه الضرر بشيء ممن كان يرجو أن ينفعه، ويصير أخص أهله به وأرفقهم به يؤذيه.
كما قال بعضهم: إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق خادمي وحماري. يعني: أن خادمه يسوء خلقه عليه ولا يطيعه، وحماره يستعصي عليه فلا يواتيه لركربه. فالخير كله مجموع في طاعة الله والإقبال عليه، والشر كله مجموع في معصيته والإعراض عنه.
_________
(١) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: (١/ ٣٦٩).
3 / 103
قال بعض العارفين: من فارق سُدَّة سيده لم يجد لقدميه قرارًا أبدًا.
وقال بعضهم شعرًا:
والله ما جئتكم زائرًا ... إلا وجدت الأرض تطوى لي
ولا ثنيت العزم عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي
بالله فاعفوا واصفحوا واجبروا ... كسري فحالي بكم حالي
النوع الثاني من الحفظ: وهو أشرفها وأفضلها، حفظ الله تعالى لعبده في دينه، فيحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته من الشبهات المردية والبدع المضلة، والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه عَلَى الإسلام.
قال الحكم بن أبان عن أبي مكي: إذا حضر الرجل الموت يقال للملك: شم رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن. قال: شم قلبه. قال: أجد في قلبه الصيام، قال: شم قدميه. قال: أجد في قدميه القيام. قال: حفظ نفسه فحفظه الله ﷿. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا.
وقد ثبت في "الصحيحين" (١) في حديث البراء بن عازب أن النبي ﷺ علَّمه أن يقول عند منامه:
"اللهم إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".
وفي حديث عمر عن النَّبِيَّ ﷺ "أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَائِمًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَاعِدًا، وَاحْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ رَاقِدًا، فَلاَ تُطِعْ فِيَّ
_________
(١) هذا الحديث ليس في الصحيحين من حديث البراء بهذا اللفظ، وإنَّما هو من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (٦٣٣٠)، ومسلم (٢٧١٤). وأما حديث البراء فبلفظ: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع عَلَى شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت وجهي إليك ... الحديث. أخرجه البخاري (٦٣١١)، ومسلم (٢٧٠).
3 / 104
عدوًا ولا حاسدًا، خرجه ابن حبان في "صحيحه" (١).
وكان النبي ﷺ إذا وَدَّعَ من يريد السفر يقول له.
"أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك" (٢).
وفي رواية، وكان يقول:
"إن الله إذا استودع شيئًا حفظه" خرجه النسائي (٣) وغيره (٤).
وخرج الطبراني (٥) حديثًا مرفوعًا:
"إن العبد إذا صلّى الصلاة عَلَى وجهها صعدت إِلَى الله ولها برهان كبرهان الشمس وتقول لصاحبها: حفظك الله كما حفظتني، وإذا ضيَّعها لفت كما يلف الثوبُ الخَلِقُ ثم يضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني".
وكان عمر ﵁ يقول في خطبته: اللهم اعصمنا بحفظك وثبتنا عَلَى
_________
(١) برقم (٢٢٣٠). وفي إسناده انقطاع بين هاشم بن عبد الله بن الزبير وعمر.
(٢) أخرجه أحمد (٢/ ٧)، والترمذي (٣٤٤٢، ٣٤٤٣)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (٥٢٤)، وابن خزيمة في "صحيحه" (٢٥٣١)، والحاكم (١/ ٦١٠، ٢/ ١٠٦) من حديث ابن عمر.
قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وقال في الموضع الثاني: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث سالم.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال في الموضع الثاني: وله شاهد عن أنس بن مالك وعبد الله بن يزيد الأنصاري، ثم ساق الحديثين بإسناده إليهما.
(٣) في عمل اليوم والليلة (٥٠٩).
(٤) وأخرجه ابن حبان (٢٣٧٦ - موارد)، والبيهقي في "السنن الكبير" (٩/ ١٧٣).
(٥) في الأوسط (٣٠٩٥) عن أنس بنحوه، وفي مسند الشاميين (٤٢٧) عن عبادة بن الصامت بنحوه.
قال الهيثمي في المجمع (١/ ٣٠٢) عن حديث أنس: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عباد بن كثير وقد أجمعوا عَلَى ضعفه.
وقال (٢/ ١٢٢) عن حديث عبادة: رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه، وفيه الأحوص بن حكيم وثقه ابن المديني والعجلي، وضعفه جماعة، وبقية رجاله موثقون.
3 / 105
أمرك.
ودعا رجل لبعض السَّلف بأن يحفظه الله فَقَالَ: يا أخي، لا تسأل عن حفظه، ولكن قل يحفظ الإيمان. يعني: أن المهم هو الدعاء بحفظ الدين، فإن الحفظ الدنيوي قد يشترك فيه البر والفاجر، فالله يحفظ عَلَى المؤمن دينه ويحول بينه وبين ما يفسده عليه بأسباب قد لا يشعر العبد ببعضها وقد يكون يكرهه.
وهذا كما حفظ يوسف ﵇ قال: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: ٢٤] فمن أخلص لله خلصه الله من السوء والفحشاء وعصمه منها من حيث لا يشعر، وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة.
كما رأى معروف الكرخي شبابًا يتهافتون في الخروج إِلَى القتال في فتنة، فَقَالَ: اللهم احفظهم، فقِيلَ لَهُ: تدعو لهؤلاء؟ فَقَالَ: إن حفظهم لم يخرجوا إِلَى القتال.
وسمع عمر ﵁ رجلًا يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فَحُلْ بيني وبين معاصيك. فأعجب ذلك عمر ودعا له بخير (١).
ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤]، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إِلَى النار (٢).
حج بعضُ المتقدمين فبات بمكة مع قوم فهمَّ بمعصية، فسمع هاتفًا يهتف يقول: ويلك، ألم تحج؟ فعصمه الله مما هم به.
_________
(١) أخرجه أحمد في "الزهد" ص ١٤٢ - الريان.
(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٩/ ١٤٣) بإسناد مسلسل بالضعفاء، وسبق أن نقلت كلام الشيخ شاكر ﵀ في التعليق عَلَى إسناد العوفيين هذا في تخريجي لـ "اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل" للتميمي ص ٤٣ - ٤٥ طبعة دار بلنسية بالرياض فانظره فإنَّه نفيس.
3 / 106
وخرج بعضهم مع رفقة إِلَى معصية، فلما همَّ بمواقعتها هتف به هاتف: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: ٣٨] فتركها.
ودخل رجل غيضة ذات شجر فَقَالَ: لو خلوت ها هنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع صوتًا ملأ ما بين حافتي الغيضة: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤].
وهمَّ رجل بمعصية فخرج إليها فمرَّ في طريقه بقاصٍّ يقص عَلَى الناس، فوقف عَلَى حلقته فسمعه يقول: أيها الهامُّ بالمعصية، أما علمت أن خالق الهمة مطلع عَلَى همَّتك؟ فوقع مغشيًا عليه فما أفاق إلا من توبة.
كان بعض الملوك الصالحين قد تعلق قلبه بمملوك له جميل فخشي عَلَى نفسه؛ فقام ليلة واستغاث الله، فمرض المملوك من ليلته ومات بعد ثلاث.
ومنهم من عُصِمَ بموعظة جرت عَلَى لسان من أراد منه الموافقة عَلَى المعصية، كما جرى لأحد الثلاثة الذين دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة، فإنَّه لما جلس من تلك المرأة مجلس الرجل من امرأته، قالت له: يا عبد الله. اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها (١).
وكذلك الكفل من بني إسرائيل، كان لا يتورع عن معصية، فأعجبته امرأة فأعطاها ستين دينارًا، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت، فَقَالَ: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن عمل ما عملته قط، وإنَّما حملني عليه الحاجة.
فَقَالَ: تخافين الله ولا أخافه! ثم قام عنها ووهب لها الدنانير وقال: والله لا يعصي الله الكفلُ أبدًا. ومات من ليلته فأصجع مكتوبًا عَلَى بابه، قد غفر الله للكفل.
خرج الإمام أحمد (٢) والترمذي (٣) حديثه هذا من حديث ابن عمر مرفوعًا.
_________
(١) أخرجه البخاري (٢٢٧٢)، ومسلم (٢٧٤٣).
(٢) (٢/ ٢٣).
(٣) برقم (٢٤٩٦) وقال: "هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش=
3 / 107
وراود رجل امرأة عن نفسها وأمرها بغلق الأبواب ففعلت، وقالت له: قد بقي باب واحد، قال: وأي باب هو؟ قالت: الباب الَّذِي بيننا وبين الله ﷿ فلم (يعرض) (*) لها.
وراود رجل أعرابية، قال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت: فأين مكوكبها؟!
وهذا كله من ألطاف الله وحيلولته بين العبد ومعصيته.
قال الحسن -وذكر أهل المعاصي-: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.
وقال بشر: ما أصر عَلَى معصية الله كريم، ولا آثر الدُّنْيَا عَلَى الآخرة حكيم.
ومن أنواع حفظ الله لعبده في دينه: أن العبد قد يسعى في سبب من أسباب الدُّنْيَا، إما الولايات أو التجارات أو غير ذلك، فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم له من الخيرة في ذلك وهو لا يشعر مع كراهته لذلك.
قال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجاوة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسَّرته له أدخلته النار.
فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير، يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله ﷿.
_________
= نحو هذا ورفعوه، وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعوه، وروى أبو بكر بن عياش هذا الحديث عن الأعمش فأخطأ فيه، وقال عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد ابن جبير عن ابن عمرو، وهو غير محفوظ، وعبد الله بن عبد الله الرازي هو كوفي .. " الخ. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (١/ ٢٢٦): رواه الترمذي من حديث الأعمش به وقال: حسن، وذكر أن بعضهم رواه فوقفه عَلَى ابن عمر، فهو حديث غريب جدًا، وفي إسناده نظر، فإن سعدًا هذا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد، ووثقه ابن حبان، ولم يرو عنه سوى عبد الله الرازي هذا فالله أعلم.
(*) يتعرض: "نسخة".
3 / 108
وأعجب من هذا أن العبد قد يطلب بابًا من أبواب الطاعات، ولا يكون فيه خيرة، فيحول الله بينه وبينه صيانة له وهو لا يشعر.
وخرج الطبراني (١) وغيره (٢) حديث أنس مرفوعًا. "يقول الله ﷿ إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَإِنْ بَسَطْتُ عَلَيْهِ أَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ
_________
(١) كما في جامع العلوم والحكم للمصنف (١/ ٣٥٩ - دار المعرفة) قال ابن رجب خرجه الطبراني وغيره من حديث الحسن بن يحيى الخشني عن هشام الكناني عن أنس عن النبي ﷺ عن جبريل عن ربه تعالى قال: "من أهان لي وليًّا.- فذكره.
قال ابن رجب: والخشني وصدقة ضعيفان، وهشام لا يعرف، وسئل ابن معين عن هشام هذا من هو؟ قال لا أحد، يعني لا يعتبر به، وقد خرج البزار بعض الحديث من طريق صدقة بن عبد الكريم الجزري عن أنس. اهـ.
قال العلامة الألباني ﵀ في الصحيحة (٤/ ١٨٨ - ١٨٩): وأما حديث أنس فلم يعزه الهيثمي إلا للطبراني في "الأوسط" مختصرًا جدًا بلفظ "من أهان لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة" وقال وفيه عمر بن سعيد أبو حفص الدمشقي وهو ضعيف.
وقال الألباني: وقد وجدته من طريق أخرى بأتم منه يرويه الحسن بن يحيى قال حدثنا صدقة بن عبد الله عن هشام الكناني عن أنس به نحو حديث الترجمة، وزاد "وإن من عبادي المومنين" الخ.
قال الألباني: أخرجه محمد بن سليمان الربعي في "جزء من حديثه" (ق٢١٦/ ٢)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص ١٢١).
قلت: وإسناده ضعيف، مسلسل بالعلل.
الأولى: هشام الكناني لم أعرفه ....
الثانية: صدقة بن عبد الله -وهو أبو معاوية السمين- ضعيف.
الثالثة: الحسن بن يحيى -وهو الخشني- وهو صدوق كثير الغلط كما في "التقريب". اهـ.
(٢) وأخرجه ابن أبي الدنيا في "الأولياء" (١)، وأبو نعيم في الحلية (٨/ ٣١٨ - ٣١٩) ولفظه: "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت في شيء أنا فاعله ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه، وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العِلْم فأكفه عنه ... الحديث.
قال أبو نعيم: غريب من حديث أنس لم يروه عنه بهذا السياق إلا هشام الكناني وعنه صدقة بن عبد الله أبو معاوية الدمشقي، تفرد به الحسن بن يحيى الحسني.
3 / 109