وكان يحيى في تلك السن التي يتشكل فيها الإنسان ليصبح رجل الغد.
وأما هالة فلاهية يصغر عندها كل شيء، ليصبح مجرد حدوتة أو أداة تسلية.
لم يكن زكريا يتوقع أن تطول به الحياة حتى يفقد عدلي، وأصبح يخاف على ابنه وابنته أن يتعلقا به ثم يخذلهما ويتركهما؛ فينهار صرح في نفسيهما كبير، كان يريد حياته أن تكون على هامش حياتهما، ولو أنه أراد أن يجتمع بهما لأعجزته نفسه؛ فقد كان موت عدلي بالنسبة إليه في سنه هذه نكبة لم يحتملها.
كان يدري أنه لم يحسن تربيته، وكان يدري أنه لا يصلح لشيء، وكان يدري أنه طعنه أو حاول أن يطعنه بهذه القضية التي رفعها، ولكنه أيضا كان يدري أنه ظل لفترة طويلة من حياته ابنه الوحيد، وأن أهميته قد زادت حين أتى بهالة وحين أتى هو بيحيى، وكان يجعل في حياة عدلي من بعده أداة أمن تصحبه في رحلته إلى الحياة الأخرى، ولكنه مات.
وفي لحظة ينهار هذا الأمن ولا يبقى من عدلي إلا أنه مات، يكفي هذا! وسنة الحياة أن يدفن الابن أباه، وويل للآباء، أو قل إن شئت، ويل للحياة كلها إذا اختلفت هذه السنة، فدفن الأب ابنه!
ينسى زكريا كل شيء إلا أن ابنه مات، فتصبح مسالك الحياة أمام عينه مهوشة شائهة لا معنى لها.
لا يختلف عنده طريق عن طريق، بل إنه حتى لم يعد يريد أن يختار ولا أن يدلي برأي.
هو لا يشارك في السياسة، وهو لا يذهب إلى مكتب المحاماة، وهو لا يجد في مجلس الأصدقاء أنسا أو ترفيها، لم يبق من الأصدقاء إلا من يصغرونه، أما أتراب حياته ورفاق طريقه فقد ماتوا واحدا بعد الآخر، وأقفرت من حوله الحياة التي كانوا يصنعونها معا.
حتى السياسة التي كان من أعلامها اختلفت دروبها، وتغير رجالها فأصبح لا يفهم عنهم ولا يفهمون عنه، وحتى إذا فهموا فإنه لا يريد أن يدلي برأي.
وكيف يدري زكريا باشا أنه إذا أبدى آراءه في تربية ولده وحفيدته يكون قد قال الرأي الصواب؟ ومن يعرف الخطأ في عصر هؤلاء؟ وكيف يستطيع أن يشارك في تربية الأحفاد - فيحيى وإن يكن ابنه خليق أن يكون حفيده - وهو لم يوفق في تربية ابنه حتى يفكر في تربية حفيده.
Unknown page