وقد قسمتم الرهن على أنفسكم فيما بينكم، وأصبح البيت من نصيبك بموافقة جميع الدائنين. هذا لا شك فيه. - وهذه هي أوراق الدين والحيازة يا راشد باشا.
وفي حركة ثابتة واثقة مزق فهمي الأوراق، ثم أعاد تمزيقها. - فهمي، ماذا فعلت؟ أنت بهذا تضيع حقك في الدين. - وما عشرون ألفا عندك؟ ادفعها حين تشاء أو لا تدفعها إذا شئت، إنما أنا لا أخرج راشد باشا وأسرته ووالدته من البيت الذي عاشوا فيه عمرهم كله. - فهمي، أهذا معقول؟ - هذا هو المعقول، فلنختلف، أحاربك وتحاربني، ولكن راشد أدهم لا يخرج من بيته أبدا. - فهمي، هل هناك كلام يوفيك حقك؟ - حاولت أن تكون السيارة ضمن ديني فلم أستطع. - لا يهم، لا يهم شيء. أنت كما أنت الآن أمامي أعز من كل المال الذي فقدت. - أنا لن أبقى لأسمع هذا الكلام. السلام عليكم. - والقهوة؟ - ستصبح شربات حين أرى الوقت مناسبا. •••
إن للسماء طرقا عجيبة، قد أتصور أن يفعل أي دائن ما فعل فهمي عبد الحميد إلا فهمي عبد الحميد، لو أن الإنسان عرف السبل التي تستعملها السماء لأصبح إلها، ولكن السماء تحب أن تذكره دائما أنه إنسان لا يزيد، وهناك من فوق سبع سموات رحمة ترسل حنانها وشعاعها بالطريق الذي تراه مناسبا أو طبيعيا، لا الطريق الذي يتصوره مجرد الإنسان. وهيهات لمجرد الإنسان أن يفهم.
كيف يمكن لفهمي عبد الحميد أن يكون ذلك الملاك، وهو هو نفسه الذي ارتكب من الأعمال ما يعف الشيطان عن ارتكابه؟
كيف يستطيع الملاك والشيطان أن يعيشا معا في كيان واحد، والذي يسمو إلى ما تصنعه الملائكة هو نفسه الذي يتردى إلى ما لا تهوي إليه الشياطين؟ ألهمها فجورها وتقواها.
فالذي يصنع الخير هو خير من الملائكة، لأنه يصنع الخير باختياره لا بالطبيعة المواتية التي لا تعرف الملائكة غيرها، والذي يتردى إلى فجورها يهوي إلى حضيض أسفل من حضيض الشياطين، لأنه هو نفسه كان يستطيع أن يختار الطريق الآخر الذي لا يستطيع أن يختاره الشيطان. وألهمها فجورها وتقواها. قد يغلب الفجور مرة وقد تغلب التقوى مرة، ويصبح الإنسان تركيبا عجيبا لا هو شر كله ولا هو خير كله، وإنما يتمازجان فيه في غير تنافر، ويصبح كل من العنصرين مادة في كيان الإنسان؛ ليظل إلى الأبد ذلك اللغز الذي حارت فيه مراحل البشرية على مر التاريخ. •••
قالت خديجة: أبيع مجوهراتي. - هي في البنك باسمي وأغلب الظن أنها حجز عليها هي أيضا. - أكلم أبي. - إياك! - إنه أبي. - اسمعي، هذه المشكلة ملكي أنا، وأنا الذي صنعتها، وأنا الذي يجب أن أتولاها وحدي. - لتكن أنت من صنعتها، ولكن أنت رب بيتي، مسئوليتي عنك قدر مسئوليتك عني. - لو كان لك مال مستقل لكان الذي تقولينه طبيعيا. - ولكن أبي مسئول عني. - سقطت عنه هذه المسئولية منذ تزوجتك. - العلاقات الإنسانية ليست عقودا تسجل في المحكمة، يغضب أبي أشد الغضب إذا لم أقل له. - غضبه سيكون أكبر إذا قلت له. - منك؟ - من نفسه. - من نفسه؟ - إنه لا يستطيع أن يصنع شيئا؛ دخل أبيك يكاد لا يكفيه. - ما هذا الذي تقول؟ - حقيقة أنا أعرفها قبل أن أتزوجك، وتأخرت أنت في معرفتها. - ولكن لا بد أنه سيعرف كل شيء عن حكايتنا. - أنت طيبة يا خديجة. هل تظنين أن أحدا في مصر سيجهل ما حصل لي؟ - فهو الذي سيكلمني. - ربما. - إذن فسيغضب لأنني لم أكلمه. - أعلم ذلك. - ماذا أقول له؟ - قولي إنك عرضت علي مساعدته، فرفضت ذلك رفضا قاطعا. - ولكنه سيكلمك. - لا تخافي، فإن كنت فقدت مالي فإني لم أفقد لباقتي. •••
وقالت أمه وهي في فراش مرضها: راشد لا تخف. - أنا غير خائف. - مصاريف بيتك علي. - وأنت ما ذنبك؟ - كنت أستطيع أن أعطيك أرضي فتبيعها، ولكني أخاف أن تأكلها ديونك، سأبقي أرضي لأصرف منها على البيت. - هانم أفندي، لا أدري ماذا أقول لك. - لا تقل شيئا، لن أعيش طويلا والأفدنة القليلة التي ورثتها عن أبيك ستئول إليك، ولكني أريد أن أعيش كما تعودت أن أعيش؛ لا أسأل أحدا شيئا. - سيكون لك هذا على كل حال. - إنك طول حياتك تنفق علي وعلى ملبسي، وكنت أنفق أنا إيرادي على من يستحقون الصدقة. وعندي بعد ذلك بقية، وإيراد الأرض سيكفي مصاريف البيت؛ فلا تحمل هما من هذه الناحية ودبر أنت حالك في غير هذا. •••
وقال عثمان باشا فكري: لقد أكرمت خديجة منذ تزوجتها، وأصبح بينكما الآن أسامة، وهو حفيدي، وأنا مسئول عنه وعن ابنتي وسمى، وتصرفاتك الكريمة مع ابنتي تتيح لي أن أكون مسئولا عنك أنت أيضا، فدعني أقدم مساعدتي. - أنا دائما أعتبرك أخي الأكبر إن لم أعتبرك والدي، وأنت في مكانة عندي، ولكني أحب أن أقوم بنفسي بهذا العبء. - أساعدك في أيامه الأولى. - وأصبح أمام زوجتي شخصا ضعيفا لا يستطيع أن يواجه الأحداث؟ - لقد عشت عمرك غنيا. - فدعني أجرب أن أكون فقيرا. - أمرك. •••
وقال أسامة: بابا، ماذا حصل؟ - ماذا حصل؟ - في البيت حاجة غريبة. - مثل ماذا؟ - لا أعرف! - هل نقص شيء؟ - السيارة. - وأنت ما لك بالسيارة؟ - أنا فقط لا أراها. - أصبحت قديمة. - اشتريت سيارة جديدة؟ - ليس الآن. هل هذا هو كل التغيير؟ - طبعا لا. - وماذا أيضا؟ - لا أعرف، ستي ليست كما تعودت أن أراها. - مريضة. - إنها مريضة من زمان ، ولكنها ليست هي! - وماذا أيضا؟ - وكفاية. - وماما؟ - لا، ماما لم تتغير. - وأنا؟ - أنت؟! أنت؟! لا أعرف. - والخدم؟ - لا أعرف .. يمكن .. ربما .. نعم. افتكرت، كانوا دائما يهزرون معي. الآن دائما التكشيرة على وشهم. - كل هذا رأيته؟ - لا أعرف. تعرف يا بابا ساعات أحس بأشياء ولا أعرف كيف أقولها. - مثل ماذا؟ - لو كنت أعرف كنت قلت. لا أعرف. فيه شيء، ولكن ما هو؟ لا أعرف. - ستعرف يا أسامة، سيأتي يوم وتعرف. •••
Unknown page