Niswiyya Wa Falsafat Cilm
النسوية وفلسفة العلم
Genres
مدخل
النسوية وفلسفة العلم
الهوامش والمراجع
مدخل
النسوية وفلسفة العلم
الهوامش والمراجع
النسوية وفلسفة العلم
النسوية وفلسفة العلم
تأليف
يمنى طريف الخولي
Unknown page
مدخل
في مطالع ثمانينيات القرن العشرين ظهرت الإبستمولوجيا وفلسفة العلم النسوية في الفكر الغربي، وسارت قدما على مدار العقدين الأخيرين منه، حتى أقبل القرن الحادي والعشرون، وقد باتت من ملامح المشهد الفكري كتيار ذي معالم مميزة، يمثل إضافة حقيقية لميدان فلسفة العلوم، ونظريات المعرفة العلمية (الإبستمولوجيا)، والمنهج العلمي (الميثودولوجيا). إن هذا الميدان يشهد قضايا مستجدة، من قبيل قضايا فلسفة البيئة، وأخلاقيات العلم، وقيم الممارسة العلمية، وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، فضلا عن علاقة العلم بالأشكال الثقافية المختلفة، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى، (ويوضع تحت هذه القضية الأخيرة خط) ... وفلسفة العلم النسوية بمنطلقاتها المستجدة ورؤاها المغايرة، وموقفها النقدي الرافض التسليم بالوضع القائم، النازع إلى إلقاء الضوء على مثالبه وتصوراته وحيوداته والهادف إلى تعديله وتطويره ... هي التيار الأكثر توشجا بتلك القضايا والأنضر عطاء لها.
لقد كان العلم الحديث أكثر من سواه تجسيدا للقيم الذكورية، أحادي الجانب باقتصاره عليها واستبعاده لكل ما هو أنثوي، فانطلق بروح الهيمنة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها واستغلالها مما تمخض عن الكارثة البيئية، واستغلال قوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى، وجاءت العولمة لتنذر بعالم يفقد تعدديته وثراءه وخصوبته ... وتأتي فلسفة العلم النسوية لترفض التفسير الذكوري الوحيد المطروح للعلم بنواتجه السلبية، و«تحاول إبراز وتفعيل جوانب ومجالات وقيم مختلفة خاصة بالأنثى، جرى تهميشها وإنكارها والحط من شأنها بحكم السيطرة الذكورية، في حين أنها يجب أن يفسح لها المجال وتقوم بدور أكبر لإحداث توازن منشود في مسار الحضارة والفكر».
1
وكبديل عن الإبستمولوجيا التي تقطع علاقتها بالميتافيزيقا وبالقيم التي تكون علمية على الأصالة، تريد الإبستمولوجيا العلمية النسوية أن تكون تحريرية، تمد علاقة بين المعرفة والوجود والقيمة، بين الإبستمولوجيا والميتافيزيقا؛ لتكشف عن الشكل العادل لوجودنا في العالم،
2
وترى العلم علما بقدر ما هو محمل بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بد أن يكون ديمقراطيا يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر. إنه الانفتاح على الطبيعة والعالم بتصورات أنثوية تداوي أحادية الجانب، لا تنفي الميثودولوجيا العلمية السائدة أو تريد أن تحل محلها، بل فقط أن تتكامل معها من أجل التوازن المنشود؛ فالنسوية ضد الاستقطابية والمركزية. هكذا تحاول الفلسفة النسوية أن تضيف إلى العلم قيما أنكرها، فتجعله أكثر إبداعية وإنتاجا، أكثر دفئا ومواءمة إنسانية، مستجيبا لمتطلبات واقعه الثقافي ودوره الحضاري، وتجعل فلسفة العلم ذاتها تطبيقية مرتبطة بالواقع الحي النابض، بحيث يمكن القول إن فلسفات العلم التقليدية المنحصرة في منطقه ومنهجه جميعها تبلور إيجابيات العلم وتستفيد منها، تأخذ منها العلم، أما الفلسفة النسوية فهي تحاول أن تضيف إلى العلم ما ينقصه ويجعله أفضل.
لقد كان ظهور الإبستمولوجيا وفلسفة العلم النسوية تطورا ملحوظا للفلسفة النسوية عموما التي ظهرت في العقود الأخيرة، وتقوم بشكل أساسي من أجل رفض المركزية الذكورية
Androcentrism
ورفض مطابقة الخبرة الإنسانية بالخبرة الذكورية، واعتبار الرجل الصانع الوحيد للعقل والعلم والفلسفة والتاريخ والحضارة جميعا، وتجد لإبراز الجانب الآخر للوجود البشري وللتجربة الإنسانية الذي طال قمعه وكبته. وفي هذا تعمل الفلسفة النسوية بسائر فروعها على خلخلة التصنيفات القاطعة للبشر إلى ذكورية وأنثوية، بما تنطوي عليه من بنية تراتبية هرمية (هيراركية) سادت لتعني وجود الأعلى والأدنى، المركز والأطراف، السيد والخاضع. امتدت في الحضارة الغربية من الأسرة إلى الدولة إلى الإنسانية جمعاء، فكانت أعلى صورها في الأشكال الاستعمارية والإمبريالية، الظلم الذي سنراه في معالجة أرسطو للنساء والعبيد هو عينه الظلم في معالجة شعوب العالم النامي، إنه تصنيف البشر والكيل بمكيالين. وتعمل الفلسفة النسوية على فضح كل هياكل الهيمنة وأشكال الظلم والقهر والقمع، وتفكيك النماذج والممارسات الاستبدادية، وإعادة الاعتبار للآخر المهمش والمقهور، والعمل على صياغة الهوية وجوهرية الاختلاف، والبحث عن عملية من التطور والارتقاء المتناغم الذي يقلب ما هو مألوف ويؤدي إلى الأكثر توازنا وعدلا، أمعنت الفلسفة النسوية في تحليلاتها النقدية للبنية الذكورية التراتبية، وتوغلت في استجواب قسمتها غير العادلة، وراحت تكسر الصمت وتخترق أجواء المسكوت عنه، حتى قيل إنها تولدت عن عملية إعطاء أسماء لمشكلات لا اسم لها وعنونة مقولات لا عناوين لها.
Unknown page
لئن كان ظهور الفلسفة النسوية إنجازا لافتا للحركة النسوية، فإن امتدادها إلى مجال الإبستمولوجيا وفلسفة العلم ضربة استراتيجية حقا، أحرزت أكثر من سواها أهدافا للحركة وللفكر النسوي، وجعلت الفلسفة النسوية استجابة واعية أكثر عمقا للموقف الحضاري الراهن.
وبهذه النزعة النقدية المتقدة للوضع القائم في الحضارة الغربية ولمنطلقات التنوير والحداثة، تندرج الفلسفة النسوية في إطار ما بعد الحداثة
post-modernism
وما بعد الاستعمارية
post-colonialism
اللذين يستقطبان أقوى التيارات النقدية للحضارة الغربية. سنرى أن هذين المفهومين شهدا أقوى تشغيل وأعمق تآزر وتحاور بينهما في الفلسفة النسوية عموما وفلسفة العلم النسوية خصوصا.
بادئ ذي بدء، لا بد من إلقاء الضوء على النسوية في الفكر الغربي، ما هي؟ كيف بدأت؟ ما أصولها وجذورها؟ كيف اتجهت وسارت؟ كيف نضجت وتطورت وبلغت المرحلة التي تطرح فيها فلسفتها الخاصة، بالمفهوم الأكاديمي لمصطلح الفلسفة، وتتوغل حتى تقتحم ميدان فلسفة العلوم، وهي من أعقد فروع الفلسفة وأصعبها مراسا، وأيضا أكثرها راهنية ومستقبلية، والأقدر على تجسيد وتجريد روح العصر وتطلعاته.
فما هي النسوية أصلا؟
النسوية وفلسفة العلم
(1) ما النسوية؟
Unknown page
النسوية في أصولها حركة سياسية تهدف إلى غايات اجتماعية، تتمثل في حقوق المرأة وإثبات ذاتها ودورها، والفكر النسوي بشكل عام أنساق نظرية من المفاهيم والقضايا والتحليلات تصف وتفسر أوضاع النساء وخبراتهن، وسبل تحسينها وتفعيلها، وكيفية الاستفادة المثلى منها، النسوية إذن ممارسات تطبيقية واقعية ذات أهداف عينية، ولما تنامت مؤخرا، وباتت قادرة على التأطير النظري حتى تبلورت النظرية ونضجت، ظلت الرابطة قوية بين الفكر والواقع. الحركة أو الممارسات تعمل على الساحة لتبديل أوضاع ملموسة وظروف اجتماعية، تتدعم بالنظرية وتستلهم خطاها وتوجهاتها، والنظرية بدورها تتشكل وتتفرع وتتطور بما يبدو عمليا وفعالا أو مطلوبا في الممارسة.
هكذا بدأت النسوية مع القرن التاسع عشر حركة اجتماعية، توالد عنها فكر نسوي، وفي مرحلة لاحقة نشأت عنها منذ سبعينيات القرن العشرين فلسفة نسوية، ظلت بدورها أكثر من أية فلسفة أخرى ارتباطا بالواقعي والعيني والجزئي والعرضي واليومي والمعاش والعادي والشائع، حيث لا نظرية منفصلة عن الممارسة العينية، ولا فعل في الواقع منبت الصلة بالفكر، الخلاصة أن النسوية فكر وواقع متجاوران، حتى يصح القول إن الفلسفة النسوية أتت أخيرا كتركيب جدلي من هذين الجانبين للحركة، اللذين تطورا معا.
في هذا الإطار العريض الشامل تضم النسوية كل جهد عملي أو نظري لاستجواب أو تحدي أو مراجعة أو نقد أو تعديل النظام البطريركي (الأبوي)
patriarchal
السائد طوال تاريخ الحضارة الغربية ... الاستثناءات القليلة للنظام البطريركي إما قبل التاريخ المدون للحضارة الغربية، وإما خارج نطاقها، وفي كل حال نجد الاستثناءات نادرة - أو ببساطة استثناءات - بطول الحضارة الإنسانية وعرضها.
البطريركية هي بنية الحضارة الإنسانية - على اختلاف مراحلها وتطوراتها وشعابها - القائمة على مؤسسات وعلاقات اجتماعية تكون المرأة فيها ذات وضعية أدنى خاضعة لصالح الرجل، ويتبوأ الرجال السيادة والمنزلة الأعلى، حتى يمتلكوا سلطة تشكيل حيوات النساء أنفسهن؛ مما يخضعهن لأشكال من القهر والكبت، تفرض على المرأة حدود وقيود، وتمنع عنها إمكانيات للنماء والعطاء؛ فقط لأنها امرأة، حتى بدت الحياة وكأنها حق للرجل وواجب على المرأة.
لقد اقتضت مصالح السلطة الذكورية حصر المرأة في قيمتها بالنسبة للرجل؛ أي في دورها كأنثى ... كزوجة وكأم، فتبدو الأنوثة حتمية بيولوجية مفروضة على المرأة، تحصرها داخل الأسرة التي يرأسها الرجل، ووفقا لشروط ومتطلبات الرجل، ولأن الأسرة تبدو مؤسسة ضرورية لاستمرارية الحياة، كانت الحتمية البيولوجية وضرورية الأسرة هما الذريعتان اللتان جعلتا وضعية المرأة الأدنى الخاضعة للرجل والمسخرة له هي الأمر الواقع الذي لا واقع سواه، والطبائع الضرورية للأشياء، بدا هذا طبيعيا وأيضا عادلا؛ لأنه مصلحة السلطة الذكورية الأقوى، وقديما ناقش أفلاطون في جمهوريته المقولة التي تفرض نفسها أحيانا، وتنص على أن العدالة هي مصلحة الأقوى.
تؤكد النسوية أن هذا جزئيا في صالح الرجل، لكنه كليا ليس عدلا وليس في صالح المسار الحضاري والإنسانية جمعاء التي هي الرجل والمرأة معا، وليست الرجل فقط أو أساسا كما تزعم القيم الذكورية للبطريركية التي سادت. لقد خسرت البشرية طويلا من هذا الإهدار الجائر لحقوق المرأة ولدورها الحضاري، خصوصا وأنه ارتد في صورة بخس وإهدار والحط من شأن قدرات وملكات وخبرات نفسية وشعورية، فقط لأنها أنثوية أو خاصة بالمرأة، ولئن عملت النسوية في موجتها الأولى في القرن التاسع عشر على نيل حقوق المرأة، فإن النسوية الجديدة تعمل الآن على إبراز وتفعيل مثل هذه الخبرات الأنثوية زاعمة أن هذا قادر على الإسهام في علاج أدواء مزمنة تعاني منها الحضارة المعاصرة وممارساتها العلمية، بسبب من المركزية الذكورية التي سادت وانفرادها بالفعل الحضاري.
هكذا يتضح أن النسوية اتجاه ذو مراحل وطيف عريض ومتغيرات وبدائل شتى، وهي ككل الاتجاهات الفكرية الكبرى، إطار عام يضم فروعا عديدة وروافد شتى، أوجه الاختلاف بينها كثيرة، لكنها تتفق جميعها على مساءلة البطريركية وقيمها بحثا عن حقوق ووجود المرأة، فظهر مصطلح النسوية
Feminism
Unknown page
لأول مرة في الفكر الغربي في نهايات القرن التاسع عشر، بالتحديد العام 1895م، ليبلور مدا في هذا الاتجاه شهده ذلك القرن، بعبارة أخرى: كان الفكر النسوي في الحضارة الغربية وليد القرن التاسع عشر. (2) هل من جذور؟
لئن كان دأب البحث الفلسفي هو تقصي الأصول والإرهاصات للقضية المطروحة، فإننا نجد الأصول بشكل عام تسير في اتجاه ضد النسوية!
أجل، شهدت مراحل سحيقة من التاريخ الأنثروبولوجي العصر الأمومي، حيث كانت المرأة هي مركز المؤسسة الاجتماعية، وتميزت الحضارة الفرعونية بتوازن معجز بين الذكورة والأنوثة، كانت المرأة في مصر القديمة تشارك في النشاط الاقتصادي والمشاغل العامة، وفي الطقوس والشعائر الدينية، بل وفي الحكم. اقتصرت وراثة العرش في عصر ما قبل الأسرات على فرع الأمهات حتى تم الاعتراف بحق النساء في تولي الحكم؛ مما جعل الملكة «مريت نيت» ابنة الملك وادجي رابع ملوك الأسرة الأولى تعتلي العرش كأول امرأة في التاريخ تتولى الحكم، حكمت مصر عشرين عاما (3250-3230ق.م)، ووصل التوازن بين الذكورة والأنوثة في مصر القديمة إلى المستوى الثيولوجي، فكان عدد الأرباب المعبودة مساويا لعدد الربات المعبودات، احتلت ماعت ربة العدالة المنزلة العليا، فضلا عما تجسده الربة إيزيس من قيم الإخلاص والوفاء ولملمة الأشلاء ومحاربة الشر. وصل هذا التوازن إلى مرتبة الخلق والتكوين
1 ... وبالمثل حملت الطاوية في الصين القديمة توازنا بين اليانج والين اللذين يمثلان الذكورة والأنوثة ...
ولكن إذا كنا نبحث عن أصول النسوية كتيار من تيارات الفكر الغربي، وجدنا ميراث الفلسفة الغربية الطويل البادئ من الإغريق، شأنه شأن سائر مكونات الحضارة الغربية، كالشعر والأساطير والأدب والشرائع القانونية والوعظ والخطاب الديني والتربوي ... إلخ؛ يقر بدونية المرأة، وبهذا الوضع المحدد لها على أنه الوضع الطبيعي. حتى العلم التجريبي ذاته حين اشتد ساعده في الحضارة الغربية إبان العصر الحديث، انضم هو الآخر إلى هذه المسيرة الجائرة ليقر بدونية المرأة، خصوصا عن طريق البيولوجيا وعلم النفس،
2
فضلا عن ظهور ما تكرس خصيصا لهذا الغرض، مثل الكرانيولوجي
craniology ؛ أي علم الجمجمة وقياس أحجامها، الذي ساد في أواسط القرن التاسع عشر، حيث أجريت أبحاث على الذكاء والقدرات الذهنية على أساس أن هذا يرتبط ارتباطا مباشرا بحجم المخ! راحوا يقيسون أحجام الأدمغة أو الجماجم. ولما كانت في المعدل العام أصغر حجما لدى النساء، استنتج علماء الكرانيولوجي أن معدل الذكاء أدنى لدى النساء، وأنهن بالتالي أقل قدرة على النظر المجرد. زاد العلماء على هذا أن المبايض تتيبس بفعل التفكير، والمناشط العقلية عبء ثقيل على أجهزة المرأة العصبية الحساسة تقلل معدل خصوبتها وقدرتها على الإنجاب،
3
وهكذا، بفعل العلم الحديث الذي تصدر المسيرة المعرفية بغير منازع انتقل التسليم الضمني بالحتمية البيولوجية إلى تسليم صريح عصري مؤزر.
Unknown page
الخلاصة أننا لن نجد للنسوية إرهاصات متنامية في مراحل الفلسفة الغربية الأسبق، ربما وجدت بعض الأفكار العتيقة المبهمة التي يمكن أن تستفيد منها النسوية، من قبيل نظريات الدورة الكبرى والعود الأبدي التي ظهرت مع الإغريق، وتردد رجع خافت لصداها هنا أو هناك في مسار الفكر الغربي، وهي أفكار يمكن أن ينشأ عنها تصور مغاير للمرأة وعلاقة الذكورة بالأنوثة،
4
وأيضا ربما تساءل فيلسوف أو آخر - خصوصا في عصر الفلسفة الحديثة - عن سبب هذا الوضع المتدني للمرأة، أو أعرب عن تصوره أنها يمكن أن تكون إنسانا كاملا مثل الرجل، هكذا فعل الموسوعيون الفرنسيون دينس ديدرو
D. Diderot (1713-1784)، وأدريان هيلفسيوس
A. C. Helvetius (1722-1771) الذي شكك كتابه «في الإنسان : ملكاته وتربيته» في الحتمية البيولوجية، حين أشار إلى أن سبب خفة النساء وطيشهن هو سوء التربية وليس دونية فطرية فيهن، وهولباخ (1733-1789) الذي رأى وضع النساء لا يعدو أن يكون شكلا آخر من أشكال العبودية التي يجب القضاء عليها في كل صورها. هذا بخلاف وجود كاتبات في مراحل أسبق من التاريخ الغربي، هن شاعرات أو راهبات وواعظات، أشرن إلى تحفظات على وضع المرأة ومشاكل المرأة وخصوصياتها. ومن أهم ما ورد في هذا الصدد كتاب «اقتراح جاد للنساء» (1694م)، تأليف آن ماري ستيل، ومن قبلها قالت نسوية قديمة هي بولين دي لابار
إن كل ما كتبه الرجل عن المرأة مشكوك فيه؛ لأن الرجل هو الخصم والحكم.
5
كل هذه الإشارات العابرة قبل القرن التاسع عشر خافتة وباهتة، ابتلعها تيار الحضارة الغربية السائر بمجامعه نحو تكريس وضع معين للمرأة الاستثناء الوحيد الذي ينبغي أن يستوقفنا هو الفيلسوف الاستثنائي فعلا أفلاطون شيخ الفلسفة المثالية، وليس جزافا قول الفيلسوف والرياضياتي العظيم ألفرد نورث وايتهد
A. N. Whitehead (1861-1947): إن مجمل تاريخ الفلسفة الغربية هوامش على فلسفة أفلاطون.
نقرأ في الكتاب الخامس من الجمهورية منطلقات للنسوية الحديثة، صريحة لا لبس فيها، حتى أكثرها شططا كإلغاء الأسرة. في طبقة الحراس أحل أفلاطون محل الأسرة الترتيبات الكفيلة بإنتاج أفضل سلالة، ثم تتعهد الدولة بتربية الأطفال، دون أن ينتسب ابن إلى أبيه أو زوجة إلى زوجها، وكان أفلاطون أول فيلسوف يرفض الحتمية البيولوجية، متسائلا باستنكار: هل يختلف الصلع عن ذوي الشعر في مهارتهم لصنع الأحذية؟! فلماذا نفترض اختلاف الرجال عن النساء فقط بناء على خصائص جسمانية؟ ألسنا نعهد بالحراسة إلى الكلاب ذكورا وإناثا على السواء، ولا نقصر إناث الكلاب على رعاية الجراء فقط؟! فكانت طبقة الحراس في الجمهورية أول موضع فلسفي تتساوى فيه النساء مع الرجال تماما، وتنفصل فيه المرأة عن وضعها التقليدي. كل فرد يحتل موقعه وفقا لقدراته أو قدراتها، الذكورة أو الأنوثة لا تصنع تمايزا. أكد أفلاطون صراحة على أن «المرأة بطبيعتها قادرة على كل الوظائف، وكذلك الرجال»،
Unknown page
6
فلا تختلف النساء عن الرجال ، بل يختلفن فيما بينهن، يقول: هناك نساء موهوبات في الطب، وغيرهن لم يوهبن منه شيئا، ونساء وهبن القدرة على الموسيقى، وغيرهن لم يوهبنها. - بلا شك. - أليس هناك أيضا نساء وهبن القدرة على الرياضة البدنية والحرب، وغيرهن لا يملن إلى هذه ولا إلى تلك؟ - أعتقد ذلك. - ونساء محبات للحكمة، وغيرهن يبغضنها؟ ونساء يتصفن بالشجاعة وأخريات بالجبن؟ - أجل. - فهناك إذن نساء جديرات بالاشتغال بحراسة الدولة، وأخريات غير جديرات بذلك، إن الصفات السابقة هي التي اخترنا على أساسها حراسنا من الذكور.
7
وعلى هذا سوف يتلقى النساء مع الرجال التعليم والتدريبات نفسها، بدنيا وذهنيا وموسيقيا، ما دامت قد فرضت عليهن المهام نفسها، فيتعودن ركوب الخيل وحمل السلاح.
8
و«على نساء الحراس أن يقفن عاريات ما دمن سيكتسين برداء الفضيلة، وعليهن أن يشاركن الرجال في الحرب، وفي كل الأعمال التي تتعلق بحراسة الدولة، دون أن يقمن بأي عمل آخر.»
9
فقد ألغى أفلاطون الأسرة وألغى الملكية أو نادى بشيوعيتها بين الحراس، لكي يتفرغوا رجالا ونساء لعملهم ولا تشغلهم عنه الشواغل.
ولا تسلم حجة فلسفية من الرد ووجهة النظر الأخرى، وعلى الرغم من هذه النصوص الصريحة القاطعة لا يوجد إجماع على أن أفلاطون من رواد النسوية؛ أي هادف إلى نقد ومراجعة البطريركية. ذهبت سوزان موللر أوكين، وهي نسوية متخصصة بنسويتها في الفلسفة السياسية الغربية إلى أن «إلغاء أفلاطون للأسرة هو الذي جعله يعيد التفكير في موضوع دور المرأة وقدراتها الكامنة، بل قل بدقة أكثر: اضطره أن يفعل ذلك.»
10
Unknown page
وحجتها أن كل هذا قاصر على طبقة الحراس، وأن النساء من الطبقة الدنيا ظللن كما هن، وسوف يحتفظ الزراع والعمال بملكية الأرض والمنزل والمرأة، كما أن المرأة لم تشارك بشخصها أو برأيها في محاورات أفلاطون، وهو في النهاية جرى على نهج الثقافة الذكورية السائدة في عصره واعتبر النساء جزءا من الملكية،
11
وأصبحن مشاعا في اللحظة التي أصبحت فيها الممتلكات الأخرى مشاعا، فضلا عن أن الأسرة عادت في محاورة القوانين، فعادت المرأة إلى التراجع والأدوار الثانوية في الحياة.
12
ويذهب فؤاد زكريا إلى أبعد من ذلك، إلى أن أفلاطون لم يرم إلى تحرير المرأة، بل فقط أراد لها أن تكتسب أوصافا رجولية وتختلط بالرجال كواحد منهم (الحرب، الرياضة، العري)، كما أنه جرد العلاقة الجنسية من أية مشاعر أو أبعاد شخصية، وجعلها مسألة تناسلية فحسب في أوقات تحددها الدولة، وعلى المرأة أن تقبل عن طيب خاطر أن تكون مجرد وسيلة لمكافأة محاربين شجعان بمزيد من الممارسات الجنسية، هذا فضلا عن أن الجمهورية وغيرها من محاورات أفلاطون تحفل بإشارات تنم عن أن الحب الحقيقي عنده هو حب الجنسية المثلية الذي كان شائعا في المجتمع الإغريقي، كنتيجة طبيعية لإفراط هذا المجتمع في الذكورية وفي تحقير المرأة، فلم يكن مسموحا لها بأي عمل أو استقلال اقتصادي، أو اقتراع أو أية مشاركة في الحياة السياسية أو العامة، وكان محجوبا عنها كل فرص التعليم والترقي، ولا تتلقى من التدريبات إلا ما يؤهلها لواجبات خدمة الزوج وتربية الصغار، وينتهي فؤاد زكريا من هذا إلى أن أفلاطون أراد أن يجعل من المرأة رجلا لأنه يكره النساء، ونزوعا منه إلى الجنسية المثلية.
13
والحق أن الحضارة الإغريقية كانت تدفع فعلا إلى كراهية المرأة والجنسية المثلية؛ لأنها - خلافا لسابقتها الفرعونية مثلا - أفرطت في الانحطاط بوضعية المرأة إلى أدنى درجة، وبجذور تعود إلى الأصل الأسطوري. فنجد الربات الإناث في الأساطير الإغريقية ولدن من ربة الأرض، وهي من نسل الليل، فارتبطت المرأة في اللاوعي الإغريقي بالظلام وما يدخل فيه ويخرج منه، والظلام بدوره مرتبط بعالم العماء والشواش والفوضى والشر والموت والجحيم، على الإجمال بالعالم السفلي. هكذا ارتبطت المرأة بالشر وليس بالانحطاط فقط. قال يوربيديس إنها شر مستطير. وقال هسيودوس إنها شر جميل. لنجدها في كل حال شرا. وكان تبرير هذا أن المرأة غير قادرة على التحكم في نفسها واتباع الفضيلة، بل لا بد أن تأتمر في هذا بأمر الرجل
14 ... إلى آخر تلك المعزوفة العتيقة التي تكررت في الحضارة الغربية أكثر مما تكررت في سواها من الحضارات.
لكن مع هذا التصوير الحقير والشيطاني للمرأة الذي ساد الحضارة الغربية يصعب اعتبار المسألة برمتها كراهية من أفلاطون للمرأة ونزوعا للجنسية المثلية. ولئن كانت مساواة المرأة بالرجل قاصرة على طبقة الحراس، فإنها طبقة جرى العرف على أنها أخص خصائص الرجال. ولا شك أن أفلاطون نموذج فريد لتفكير يرى أن البطريركية ليست حتما مقضيا لا بديل له، بل هي نظام يمكن تقويضه إذا اقتضت الأمور، والإطاحة تماما بحجتيه، وهما الحتمية البيولوجية وضرورة الأسرة النووية، وليس فقط مراجعة أو تعديل هاتين الحجتين. وطرح أفلاطون المساواة التامة بين الجنسين في التنشئة والعمل والحياة على السواء. أجل عادت الأسرة في محاورة القوانين، لكن إلغاء الأسرة يظل حتى يوم الناس هذا في القرن الحادي والعشرين شططا غير مقبول من الكثيرين، ومن غالبية المتحمسات للنسوية، ولم تكن أبدا شرطا ملازما لتحرير المرأة. الشرط الملازم هو شيء من العدالة بين طرفيها.
لقد كان أفلاطون فيلسوفا يبحث عن العدالة داخل الفرد وداخل الدولة على السواء. وتحفل محاورة «القوانين» بالإشارات التي تؤكد إلى أي حد كان أفلاطون نصير المرأة، يبحث عن حقوق في الزواج المتكافئ والمهر والتعليم، رافضا الحتمية البيولوجية، قائلا بصراحة: «جنس الأنثى قد ترك لأنواع من الفوضى بسبب الإرغام الخاطئ للمشرع، ومن خلال ذلك الإهمال للجنس سمحتم لأشياء كثيرة أن تبطل وتنتهي، وكان يمكن أن تنظم تنظيما أفضل بكثير مما هي عليه الآن.»
Unknown page
15
وبحث أفلاطون في «القوانين» أيضا عن هذا التنظيم الأمثل بأن تتلقى المرأة التعليم والتدريبات الرياضية والعسكرية، وتضطلع بدورها في وظائف حراسة الدولة، وبحث شروط هذا والسن الملائم له.
كان أفلاطون يبحث دائما عما ينبغي أن يكون، بينما يبحث أرسطو أساسا فيما هو كائن، تقوقعت محاولته في أضابير الفكر الترنسندنتالي. وسادت الحضارة الغربية نظرة أرسطو الدونية للمرأة؛ لأنها تعبر عن الأمر الواقع، وتطرح أصولا فلسفية لسيادة الرجل والمركزية الذكورية في الفلسفة الغربية ومجتمعاتها البطريركية. وبكل قدرات أرسطو المنطقية والمنهجية الهائلة راح يؤكد أن الأنوثة نقص وتشوه، وأن المرأة امرأة لأنها ينقصها ما يجعلها رجلا؛ وبالتالي الرجل هو الأرقى والأكمل، فيجب أن يكون هو الحاكم وهي المحكوم. إنه فارق جوهري في النوع البشري بأسره، كالفارق بين الروح والجسد. هكذا كان المعلم الأول الذي سادت فلسفته ألفين من السنين من أقوى أنصار الحتمية البيولوجية التي تبرر وتفرض الوضعية الدونية للمرأة. (3) بشائر ظهور النسوية
على أية حال، اتفقنا على جدلية الواقع والفكر في النسوية، وأن الفكر النسوي لم يتأت من توالد وتحاور الأفكار والنظريات، بل كاستجابة لواقع، ويحاول بدوره أن يجعل الواقع يستجيب له.
هكذا أتت بشائر الحركة النسوية الحديثة في الفكر الغربي من متغيرات الواقع الأوروبي على مشارف القرن التاسع عشر، من الثورة الصناعية واختراع ماكينات الغزل والنسج التي كانت أول زعزعة للوضع التقليدي للمرأة في الحضارة الغربية، لتظهر المرأة في غير المنزل وملحقاته الريفية، ظهرت في المصنع كقوة عمل منافسة للرجل، تقوم بالعمل نفسه وتتقاضى أجرا أقل. وتفجرت الثورة الفرنسية وشعارها المرفوع «الحرية ... الإخاء ... المساواة»، فماذا عن حرية ومساواة المرأة، لا سيما أن المرأة شاركت بالفعل في هذه الثورة، مثلما شاركت المرأة المصرية في ثورة 1919 كعلامات بارزة في التاريخ النسوي.
هكذا ظهر بإنجلترا في تلك الآونة، في العام 1782 ما يمكن أن نسميه نصا نسويا صريحا وفاتحة الحركة النسوية، إنه كتاب ماري ولستونكرفت
M. Wollestoncraft (1759-1797) «دفاع عن حقوق المرأة». كانت ولستونكرفت متزوجة من فيلسوف إصلاحي هو وليم جودوين، وتوفيت عقب ولادتها المتعسرة لطفلتها ماري (1797-1861) التي تزوجت من الشاعر الكبير شيلي، وكتبت مقدمة وهوامش على مجموعة الأعمال الكاملة لزوجها شيلي. كانت نسوية كأمها وأيضا أديبة، من أهم أعمالها رواية «فرانكشتين» (1818) الشهيرة التي تجعل النسوية المعاصرة تتمسك برابطة خاصة بينها وبين أدب الخيال العلمي. على أن حياة ماري ولستونكرفت العاطفية كانت مضطربة مثيرة للأقاويل؛ لأن زوجها لا يذكرها بخير. وقد اقتصرت في كتابها المذكور على الدفاع عن حق نساء الطبقة البرجوازية الوسطى في تلقي تعليم أكثر عقلانية، ينمي عقلها كإنسان ولا يقتصر على تأهيلها كزوجة، خصوصا وأن حوالي 30٪ منهن ذكيات وغير متزوجات. وأكدت أن المرأة إذا تلقت التعليم نفسه الذي يتلقاه الرجل لكانت مساوية له من جميع الوجوه. أما القول إن المرأة بطبيعتها تفتقر إلى العقل والحكمة والتروي، فزعم لا أساس له من الصحة. وتلك هي الحجة الأساسية التي تتمسك بها النسوية دائما لتقويض الحتمية البيولوجية.
نلاحظ أن كتاب ولستونكرفت كان في الأساس ردا على كتاب «إميل» في التربية لجان جاك روسو
J. J. Rosseau (1712-1779) حيث جعل التربية الخلقية والنفسية والعقلية والجسدية من نصيب الذكر فقط، بينما تتلقى صوفي (الأنثى) تربية مناقضة لهذا، تهدف إلى تحجيمها وقصر وجودها على متعة وخدمة وراحة الرجل، حتى تذهب سوزان موللر أوكين إلى أن روسو يريد من المرأة أن تكون بغيا وراهبة في آن واحد، بغيا لكي تتفنن في إمتاع الرجل، وراهبة لكي يأمن إلى عرضه وانتساب ورثته وأولاده إليه بعد قضاء وطره منها. هكذا أسرف روسو في تقليص وجود المرأة في الجنس والإنجاب، مؤكدا أن خضوعها للرجل ليس نتيجة لعرف، بل هو النظام الطبيعي والضروري للأشياء.
اعترض روسو بشدة على نظرية أرسطو القائلة إن العبودية نظام طبيعي، ثم لم يتردد لحظة واحدة في أن يوافقه في اعتبار عبودية النساء أمرا طبيعيا. انشغل كثيرا باللامساواة بين البشر في كتابه «أصل التفاوت»، باحثا عن المساواة في عالم الذكور فقط، ليبخس بالإناث بعد ذلك إلى منزلة تحت أقدامهم أو أدنى. أقام تمييزا واضحا بين الدولة والأسرة، فاهتم بالعدالة والمساواة في الدولة، ثم العبودية والخضوع في الأسرة، مثله مثل أرسطو ولوك وهيجل ... فلئن كان روسو على شيء من الوضوح والحدة، فإنه يسير في التيار السائد الذي يبدو طبيعيا ويسير فيه رفاق ومعاصرون له وتالون عليه، أمثال مونتسكيو وجمهرة التنويريين، حتى أتى أوجست كونت وأكد أن دونية المرأة هي الوضع الطبيعي لها، ورأى بلزاك أن المرأة لا دور لها في الوجود إلا تحريك قلب الرجل ... إلخ. (4) النسوية الليبرالية
Unknown page
إذا أخذنا في الاعتبار أن آراء جون لوك
J. Lock (1632-1714) بالذات، وهو الأب الروحي لليبرالية - الذي كان يستثمر الجانب الأكبر من نقوده في شركة لتجارة العبيد! - لا تختلف جوهريا عن آراء روسو، حتى أكد أن خضوع النساء لأزواجهن شيء أساسي ومطلق في الطبيعة لا علاقة له بالمتغيرات الاجتماعية، وأن جمهرة من رفاقه شاركوه في هذا، أدركنا أن الليبرالية ليست في حد ذاتها فلسفة نسوية.
ولكن لا مندوحة عن الاعتراف بأن تبلور ونضج وعلو الليبرالية في القرن التاسع عشر عمل على فتح أبواب هذا القرن للحركة النسوية. ومهما ارتفعت راية الانفصال بين الأسرة والدولة، فإن الليبرالية حين قوضت السلطة البطريركية في حكم الدولة ألقت بظلال هذا على الطبيعة البطريركية للمجتمع. هذا فضلا عن دفاع الليبرالية عن الحرية وحق التعليم والتنافس وإطلاق إمكانيات الذات الفردية وتشارك أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات. هكذا باتت الأجواء مواتية أكثر لزعزعة الحتمية البيولوجية المفروضة على المرأة والمناداة بأن وضعها المتدني نتيجة لحرمانها من التعليم والتثقيف وفرص إثبات الذات ونشدان الهوية.
ها هنا أتى فيلسوف الليبرالية بامتياز وفيلسوف العلم والمنهج الاستقرائي الأول في عصره، وهو جون ستيوارت مل
J. S. Mill (1806-1873) ليكون بلا جدال أبرز رائد فلسفي للنسوية في موجتها الأولى المنطلقة آنذاك. أجل كانت ثمة كتابات كثيرة في تلك الآونة تمهد للنسوية وتزكيها، لعل أهمية كتاب وليم طومسون العام 1852 «استئناف نصف الجنس البشري (أي النساء) ضد ادعات النصف الآخر (أي الرجال)»، وفيه يرد طومسون على دعاوى جيمس مل - والد جون ستيوارت مل - المطروحة في كتابه «مقال عن الحكم»، حيث ينكر جيمس مل حاجة النساء والطبقة العاملة إلى حق التصويت الانتخابي؛
16
لأن مصالحهن مدرجة مع مصالح أزواجهن ومصالح الطبقة العاملة مدرجة مع مصالح أصحاب العمل. وكان أسهل رد على هذا أن مصالح العبيد أيضا مدرجة مع مصالح سادتهم. والحق أن جيمس مل وصديقة جيرمي بنتام أستاذ جون ستيوارت مل - وثلاثتهم ليبراليون طبعا ومن أقطاب المذهب النفعي الذي يرى الخير هو تحقيق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس - وأقرانهما النفعيين كانوا يميلون إلى إعطاء المرأة حقوقا، وكانت جريدة «وستمنستر ريفيو» المتحدثة بلسان المذهب النفعي منبرا للدفاع عن الحركة النسوية التي اشتد ساعدها آنذاك. لكن جيمس مل وجيرمي بنتام رأيا أن الأجواء ليست مواتية بعد لمنح المرأة حق التصويت بالذات، فكان رد وليم طومسون المذكور عليهما.
في هذه الحقبة الموارة، في أواسط القرن التاسع عشر، كان أمثال طومسون كثيرين. ولكن منذ أفلاطون لم يتبن أبدا فيلسوف بحجم جون ستيوارت مل قضية المرأة مؤكدا مثله أن الخير واحد للرجل والمرأة على السواء، وبمثل حماسه المتقد في كتابه «استعباد النساء» الذي يمكن اعتباره مانفستو
17
الحركة النسوية والنص النسوي الرائد بكل المعايير وقبل ظهور مصطلح النسوية ذاته. كتب جون ستيوارت مل كتابه «استعباد النساء» العام 1861، ولم ينشره إلا عام 1869، بعد ظهور كتابه الأكبر «في الحرية» بعشر سنوات.
Unknown page
بدا مل نصيرا متحمسا للنسوية منذ مطالع حياته العقلية. كان لا يزال في الثامنة عشر من عمره حين نشر مقالا في جريدة «وستمنستر ريفيو» يهاجم فيه ازدواجية المعايير الخلقية للرجال والنساء. واستهل كتابه «استعباد النساء» بإعلانه أن أولى قناعاته التي ازدادت رسوخا مع الأيام هي أن المبدأ الذي ينظم العلاقات الاجتماعية الكائنة بين الجنسين؛ أي تبعية أحدهما القانونية للآخر، إنما هو مبدأ خاطئ في ذاته، وينبغي أن يحل محله مبدأ المساواة الكاملة التي لا تسمح بسلطة أو سيادة أحد الجانبين على الآخر.
18
ومثلما كانت الفروسية والكرم قيم الحضارة الرومانية القديمة، فإن العدالة والمساواة - فيما يؤكد مل - هي قيم الحضارة الليبرالية الحديثة. وليس من العدالة في شيء حرمان المرأة من العمل والمهن التي تدر ربحا، حتى لو كانت متاحة لأغبى وأحط فرد من جنس الرجال. وأشار إلى أن هذا يعود إلى رغبة الرجال في إخضاع المرأة للزوج والحياة المنزلية، وكراهية بعضهم أن يعيش الواحد منهم مع ند له. كيف نقبل هذا في حين أن الفضيلة الحقيقية لليبرالية هي أن نطلب لأنفسنا ما نطلبه للآخرين، فلماذا لا يفعل الرجال هكذا مع النساء؟!
19
لم يعد الكائن البشري مع الليبرالية يولد مقيدا بأغلال موقعه الاجتماعي، بل يولد حرا، ويستخدم ملكاته والفرص المتاحة لتحقيق المصير الذي يفضله. ومن الممكن منطقيا أن يحاول أي شخص الوصول إلى أي مركز في المجتمع. وفي هذا نجد التحريم الذي تخضع له النساء بمجرد واقعة مولدهن إناثا لا مثيل له في التشريع الحديث.
20
هكذا كان مل الفيلسوف الليبرالي الوحيد الذي شرع في تطبيق مبادئ الليبرالية على النساء،
21
ليطالب بحقوقهن في التعليم والتثقيف الشامل والتصويت والمساواة أمام القانون والتصرف في أموالهن وحق الوصاية على أطفالهن. اعتبر مل سيطرة الرجال وخضوع النساء شكلا من أشكال كثيرة شهدتها البشرية للاستبداد وسيطرة الأقوى الجائرة وسوء استخدام السلطة، شأنه مثلا شأن الملكية المطلقة وسطوة الإقطاعيين على الفلاحين ... إلخ، لكنه يختلف عن الأشكال الأخرى اختلافين، أحدهما من ناحية الخاضع والثاني من ناحية المسيطر. الناحية الأولى في أن الخاضع يقبله طواعية، فالنساء لا يتذمرن منه بل يشتركن فيه برضاهن. أما من ناحية المسيطر الآمر فهو في أنه لا يريد فقط الخدمة والمنفعة والاستغلال المادي والطاعة، بل كذلك المشاعر والعواطف. وبالتالي استخدم الرجال جميع الوسائل لاستعباد عقول النساء أيضا. استخدموا قوة التربية والتنشئة والأخلاقيات بأكملها، حتى يجعلوا الغاية الوحيدة للمرأة هي أن تروق للرجل، ولا يكون لها حياة إلا في العواطف التي يسمح بها لها.
22
Unknown page
وتنشأ المرأة على أن الزوج هو مصيرها الذي تتطلع إليه، وأغلقت في وجهها أية فرصة أخرى للحصول على وضع مشرف في المجتمع عدا الزواج، الذي جعلته أنانية الرجل قانون استبداد. فكانت القوانين القديمة في إنجلترا تسمي الرجل سيد زوجته، وكان يمتلكها فعلا جسدا وروحا ومالا وحطاما، كل ما تملكه ملك لزوجها، ولا تملك شيئا مما يملكه هو. إنها خادمة للزوج لا فكاك لها، أسوأ حالا من العبيد في روما القديمة.
23
العبد عليه واجبات محددة، أما الزوجة فجارية مرتبطة بسيدها طوال الوقت، حتى لو جعل من تعذيبها متعته اليومية.
لا شك أن الأمر الواقع في عمومه ليس بهذه الجهامة، وثمة في العادة عوامل ملطفة وعلاقات حميمة. لكن مل يوضح أنه يصف الوضع القانوني للمرأة الغربية وليس ما تلقاه بالفعل؛ لأن القوانين أحيانا أسوأ من الذين يطبقونها. ولئن كانت النساء في العادة لا يعانين سلطة الطغيان كلها التي يكفلها القانون للرجال، فإن هذا لا يمنع من العمل على استئصال الشر من جذوره . فلم يكن لويس الرابع عشر أسوأ مستبد في التاريخ، ولم يتفرغ للاستمتاع بآلام شعبه أو الحيلولة بينهم وبين أي خير، ومع هذا قامت الثورة الفرنسية.
24
لذا يعمل مل على تفنيد حجج هذا الوضع الظالم للمرأة، وأقواها أنه الأمر الواقع الذي تقدمت البشرية في ظله، يقول مل أنه لا توجد بينة على أن الوضع المناقض للمرأة - أي المساواة - ما كان سيؤدي إلى تقدم أكبر.
ولا يمكن فصل إيمان مل العارم بالنسوية عن علاقته بهارييت تيلور مل (1807-1859) التي تعد من أبرز رائدات التنظير للنسوية الليبرالية والنسوية إجمالا، وقد كتبت في «وستمنستر ريفيو» عن منح النساء حق التصويت. التقت مع مل العام 1830، وكانت متزوجة من رجل أعمال ثري يملك شركة للإتجار في المواد الكيميائية، وأما لحفنة من الأطفال. ومع هذا وقع مل في غرام عجيب لها! وظل ينتظرها عشرين عاما حتى توفي زوجها العام 1849، وتزوجها بعد هذا بثلاث سنوات وهي في الخامسة والأربعين من عمرها العام 1852. في هذا العام نشر كتيب صغير بعنوان
Enfranchisement of Women ؛ أي تحرير النساء ومنحهن حق التصويت، ينادي بتوسيع الخيارات وفرص العمل المتاحة للمرأة، حمل في البداية اسم جون ستيوارت مل، لكن مل فيما بعد أكد أنها هي التي كتبت هذا الكتاب وأنه يحمل آراءهما معا. بعد ست سنوات أسلمت هارييت الروح متأثرة بمرض السل، وكانا في فرنسا، فواراها التراب هناك واشترى منزلا بجوار قبرها. كان دائم التردد عليه، مثلما كان دائم الإشادة بأياديها البيضاء ومناقبها وأفضالها على إنتاجه الفكري. وتفاني مل في نشر أفكار عن تحرير المرأة نسبها إليها. لكن الثابت أن أفكارها أكثر تطرفا من أفكاره. فقد هاجمت هارييت عيوب مؤسسة الزواج التقليدية بحدة وأشارت إلى أن عمل المرأة غير المدفوع الأجر فيها يجعل الرجل يعيش حياته من أجل ذاته، بينما تعيش المرأة حياتها من أجل الرجل، ورأت أن المساواة القانونية التامة بين الرجل والمرأة تجعل مؤسسة الزواج غير ذات جدوى، وتحدثت عن حق المرأة في الطلاق وتحديد النسل، وهذه كلها مسائل تجاوزها مل كي لا تكون أفكاره صادمة وتكون أكثر قبولا في المجتمع الفيكتوري المحافظ.
يمثل الثنائي مل وهارييت تطبيقا جليا للمبادئ الليبرالية على قضية المرأة، مما جعل النسوية الليبرالية تيارا قويا يزعم أنه صلب النسوية وجذعها. ولكن مهما كانت الليبرالية قد هيأت أجواء مواتية للنسوية، ومهما أجاد مل ورفيقته وسواهما استثمار هذه الأجواء نسويا، فإن الليبرالية في حد ذاتها - كما أشرنا - ليست فلسفة نسوية أو مناصرة لقضية المرأة. من الواضح أن بقاء المرأة على ما هي عليه تأكيد وتوطيد لحق الملكية الذي تقدسه الليبرالية، ومن ثم لا تبدو مفارقة في أن التيار المقابل في القرن التاسع عشر؛ أي الاشتراكية والشيوعية والماركسية، خصوصا هذه الأخيرة، يساهم هو الآخر وربما بنصيب أكبر في صياغة الحركة النسوية والفكر النسوي. (5) النسوية الاشتراكية
وكيف لا؟! وقد قامت الاشتراكية من أجل إعادة توزيع الثروة والسلطة في المجتمع، والنضال من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية، ورفع الغبن عن الكادحين والمقهورين، لم يفتها التأكيد على أن قهر المرأة شكل من أشكال البؤس الذي تخلفه الرأسمالية، وأن النسوية الليبرالية لا تعدو أن تكون دعوة طبقية لا تكفل عدالة اجتماعية وأنها صورية جوفاء.
Unknown page
وكانت النسوية الاشتراكية أكثر مرونة وانطلاقا وأعلى صوتا؛ لأن الليبرالية تسلم بأن الأسرة مؤسسة ضرورية، ولا تفكير في قضية المرأة إلا داخل الأسرة، إنها مشكلة «المرأة في الأسرة.» أما التيارات الاشتراكية، وخصوصا الشيوعية، فلا تسلم بهذا دائما. رأى بعضها أن الأسرة مؤسسة يمكن القضاء عليها، فكانت قضيتهم «المرأة والأسرة». هذا فضلا عن أن الاشتراكيين لا يعتبرون ما هو طبيعي مثاليا أو يفرض نفسه، فمهما بدا وضع المرأة التقليدي طبيعيا، فليس من الضروري فرضه ولا بد من تغييره. ومنذ مطالع القرن التاسع عشر دافع رواد الاشتراكية الأوائل في إنجلترا وفرنسا وألمانيا عن الحقوق المتساوية للجنسين، وعن أن الاشتراكية تحرير لكليهما. كان الاشتراكي الفرنسي الرائد شارل فورييه
C. Fourier (1772-1837) الذي نادى بتطبيق الاشتراكية في مجتمعات تعاونية صغيرة تستغنى عن النقود، هو أول من استخدم وضع النساء في المجتمع كمقياس لدرجة تقدمه، وهذا بات شبه معتمد في أيامنا هذه، وأول من قدم وضع المرأة كسبب أساسي للتقدم الاجتماعي، وهذا ما طوره ماركس في مخطوطات عام 1884، حين أعلن أن تقويم مسألة تطور الإنسان ككل يتأتى من تقويم تطور علاقة المرأة بالرجل.
25
ولئن كان ماركس لم يعتبر النسوية في حد ذاتها موضوعا رئيسيا، فإن رفيقه فردريك إنجلز اعتبرها هكذا إلى حد ما، وأخرج في العام نفسه 1884 مؤلفه الثاقب: «أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة»، حيث أوضح أن الوضع الأدنى للمرأة يعود في أصله إلى الملكية التي تبغي الشيوعية القضاء عليها. ويسير في هذا التيار أوجست ببل
A. Bebel (1840-1913)، وهو من أبرز قادة الحزب الشيوعي الديمقراطي الألماني. وبشكل عام يؤكد الاشتراكيون أن الاشتراكية هي التي تعطي المرأة حقوقها وتحمل المساواة الكاملة بين الجنسين، وعمل المفكرون الماركسيون - نذكر منهم على وجه الخصوص الثورية المناضلة روزا لوكسمبورج
R. Luxemburg (1870-1919) على إبراز الماركسية كفلسفة للتحرير، وأن البروليتاريا والنساء كليهما يتحرر بالتطور الاقتصادي الحتمي نحو الشيوعية، وبالمثل تتحرر البشرية بأسرها من نير الاستعمار والإمبريالية التي ربطت تحليلات روزا وسواها - بينهما وبين الرأسمالية. (6) إنها الموجة النسوية الأولى
هكذا كانت النسوية ماثلة في كلا التيارين المتقابلين المشكلين لقطبي الفكر الاجتماعي والسياسي في القرن التاسع عشر، كانعكاس شامل لحركية الواقع في الفكر.
في منتصف هذا القرن كانت الحركة النسوية على أشدها. انعقد في أمريكا العام 1848 مؤتمر سينيكا فولز للمرأة وحضره أربعون رجلا ومائتان وخمسون امرأة، ارتبط بحركة تحرير العبيد والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، ويعد المؤتمر الأول لحقوق المرأة في الولايات المتحدة، وظل يعقد سنويا حتى نشوب الحرب الأهلية العام 1861. كانت معاهدة برلين لإلغاء الرق قد عقدت العام 1855، وفي العام نفسه تأسس الاتحاد النسائي الوطني في أمريكا، وتأسست العام 1869 جمعية المرأة الأمريكية للحقوق السياسية بولاية أوهايو، ثم اندمجت مع الجمعية الوطنية لحقوق المرأة 1890. وفي إنجلترا تشكلت جمعيات كانت لها أحيانا أشكال من السلوك الحاد العنيف في بحثها عن حق المرأة في التصويت والمشاركة في الحياة العامة وفي التعليم والعمل حين يفوتها قطار الزواج.
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت أمريكا فقدت من الرجال في سن الزواج ثلاثة ملايين في الحرب الأهلية، وغاب عن إنجلترا خمسة ملايين في توسعاتها الاستعمارية. تكاثرت جحافل العوانس على جانبي المحيط، فكان هذا دافعا آخر لكي يشتد أوار الحركة النسوية. وفيما بين عامي 1880 و1910 كانت أكثر مراحل الحركة النسوية توهجا، وكان اقتحام النساء لمجال التعليم العالي والبحث العلمي. فقد بات مطلوبا توسيع مجال عمل المرأة فلا يقتصر على ما هو امتداد لوضعها التقليدي كالتمريض والتدريس للأطفال. أنشئت أول كلية للبنات في إنجلترا على الطريق المؤدي إلى كمبردج، وإن كانت جامعة كمبردج لم تمنح الطالبات درجة جامعية مساوية تماما للطلاب إلا في العام 1948.
26
Unknown page
كانت أمريكا بشكل عام أسبق في منح المرأة حق الانتخاب في بعض ولاياتها، وفتح أبواب التعليم العالي أمامها، وأول طبيبة تعمل في إنجلترا حصلت على شهادتها من أمريكا العام 1859.
27
توالت المؤتمرات الدولية واللقاءات والمنشورات النسوية، بجهد متراوح بين مختلف التوجهات السياسية، حتى كانت ذروة من ذراها العام 1910 الذي شهد المؤتمر الدولي لنساء الاشتراكية، عاونت على عقده الاشتراكية المتحمسة والنسوية البارزة كلارا زاتكين
C. Zatkin ، وفيه جرى اعتماد مصطلح النسوية
Feminism ، وتم إعلان الثامن من مارس عيدا عالميا للمرأة، واعتمدته عصبة الأمم إحياء لذكرى الثورة التي قامت بها العاملات في نيويورك عام 1859م، واستشهد فيها بعضهن احتجاجا على بؤس أوضاع العمل وتدني الأجور.
فرضت النسوية وجودها، وكانت شديدة الحضور في المشرق العربي، خصوصا مصر والشام وتونس. في هذا الأوان - النصف الثاني من القرن التاسع عشر - علا وطيس المناقشات الدائرة حول إصلاح حال المرأة. أجل، كانت المرأة العربية تستمتع بحقوق تجاهد من أجلها المرأة الغربية، كالتصرف في أموالها وحقها في أولادها. تفقد المرأة الغربية أية صلة بأولادها إذا أراد الأب هذا، ولا يحدث هذا في الشرق بل تكنى المرأة بابنها. وبينما تئول أموال الزوجة الغربية إلى زوجها، فإن الرجل العربي الكريم المحتد يأبى أن يقرب أموال زوجته أصلا. ولا يمنع هذا أن المرأة العربية تعاني أشكالا خاصة من الغبن الاجتماعي كالطلاق الجزافي وتعدد الزوجات بغير داع. كانت المشكلة الأم تقليص نطاق حياتها وأستار الجهل التي تفرض عليها التبلد والخمول. أثيرت قضية السفور والحجاب التي لم تتفق الأطراف على مفهوم محدد لها. بدأ حق المرأة في التعليم يفرض نفسه على الأوساط الفكرية. منذ العام 1849م ألقى بطرس البستاني خطابه عن «تعليم النساء»، وأخرج الرائد رفاعة الطهطاوي (1801-1873م) كتابه «المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين» (1873م) حيث أشار إلى أن تعليم الفتاة أهم من تعليم الفتى، وافتتح الخديو إسماعيل الذي حكم مصر بين عامي 1863-1879م المدرسة السنية لتعليم بنات العامة، وألف الشيخ حمزة فتح الله كتابه «باكورة الكلام على حقوق النساء في الإسلام» (1889م)
28
نلاحظ أن النسوية في الغرب دائما تلقي باللوم فيما آل إليه وضع المرأة على الأصول التراثية، خصوصا في اليهودية والعهد الجديد، بينما حرصت النسوية في المشرق العربي على استنطاق وتفعيل الحقوق التي منحها الإسلام للمرأة، وإن كان بعض الرواد دائمي الإشادة بما أسفرت عنه الحركة النسوية في الغرب. توالت في مصر والشام وتونس الجهود والجمعيات والمجلات النسائية. وبلغت النسوية ذروتها في كتابي قاسم أمين «تحرير المرأة» (1899م) و«المرأة الجديدة» (1900م) اللذين هما تعبير قوي عن حصائل التطور المتلاحق في التاريخ السيسيولوجي لمصر إبان القرن التاسع عشر ويحملان «صورة ناضجة لمثول عوامل الحداثة في بنية الثقافة المصرية»
29
على العموم سارت الدعوة إلى تعليم البنات قدما، بل وتم افتتاح فرع نسائي في الجامعة المصرية الوليدة 1908م حتى عام 1912م ... وفي 6 مارس 1913م كان اكتشاف رأس نفرتيتي في تل العمارنة ليساهم في إيقاظ وعي المرأة المصرية بذاتها. وحضرت هدى شعراوي ونبوية موسى وسيزا نبراوي مؤتمر المرأة العالمي العام 1922م، وأسسن الاتحاد النسائي المصري الباحث عن تحسين أحوال المرأة والمساواة بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات ...
Unknown page
لقد كانت النسوية في الشرق والغرب تهدف إلى نيل المرأة حقوقا مهدرة، وغايتها النهائية شيء من المساواة بينها وبين الرجل.
ومن ثم دأبت النسوية في موجتها الأولى تلك إلى إلغاء أو تهميش الخصائص المميزة للأنثى، أو الزعم بأنها ثانوية فلا تعوق حصول المرأة على حقوق وواجبات الرجل. الثقافة الذكورية السائدة جعلت الرجل هو المعيار الطبيعي للأشياء والنموذج المطروح للإنسان، ونيل المرأة حقوقا عامة مقترن بمدى اقترابها من هذا النموذج الذكوري وإثبات أنها قادرة وكفء مثل الرجل. كانت علامة نجاح المرأة أن تتخلص من عائق أنوثتها، وتتماهى مع الرجل فيقال إنها كالرجل تماما، تسليما بأن الأنوثة قصور وضعف. أقصى مديح يكال لماري كوري مثلا أنها امرأة بعقل رجل. وما زالت صورة نبوية موسى ماثلة وهي ترتدي سترة الرجل ورابطة عنقه، برغم حرصها على الزي الإسلامي للمرأة!
أهم ما نلاحظه أن الموجة النسوية الأولى لم يكن لها أطر فكرية تتجاوز حجج المطالبة بحقوق النساء ومساواتهن. على العموم أخذت الحرب العالمية الأولى في خنادقها الرجال من أنحاء أوروبا، واضطرت المرأة إلى النزول لمواقع العمل التي خلت منهم وأدته على أكمل وجه، فيما يمكن اعتباره حسما للجدل في الفكر الغربي، وظفرت المرأة بحقوق الانتخاب والمواطنة في إنجلترا ونيوزيلندة وأمريكا والاتحاد السوفيتي ... إلخ، وبدا الطريق ممهدا لكي تناله في البقاع الأخرى. وارتفع حق تعليم المرأة كمثال أعلى في أنحاء شتى من العالم بدرجات متفاوتة. ومع عشرينيات القرن العشرين كانت النسوية قد حققت كثيرا من أهدافها، مثلما شهد العام 1926 الإعلان عن انتهاء العبودية في العالم. ودخلت الحركة النسوية في مرحلة كمون وهدوء نسبي، خصوصا وأن العالم الغربي منشغل آنذاك ببوادر الحرب العالمية الثانية المقبلة، ويواجه الكفاح الباسل ضد الاستعمار الممهد لحركات التحرر القومي في العالم الثالث. (7) الموجة النسوية الثانية
ظلت الحركة النسوية في هدوئها النسبي حتى انفجرت في الستينيات موجتها الثانية بفعل العوامل الموارة آنذاك، فتصف جولييت ميتشيل
J. Mitchall
هذه الموجة الثانية بأنها وليد أيديولوجي لظروف اقتصادية واجتماعية معينة، ظروف تجسدت في زوال الاستعمار ونجاح حركات مناهضة التمييز العنصري واشتداد عود الليبرالية الأمريكية؛ التي تدعو إلى المساواة في الحقوق المدنية وإتاحة الفرص للجميع، وتعالي الأصوات المناهضة لحرب فيتنام، وثورة الطلاب الشهيرة في فرنسا وأنحاء من أوروبا وأمريكا، التي شهدت مظاهرة لحرق الكعوب العالية ومشدات الصدور والثورة ضد مسابقات ملكات الجمال، وسائر ما يقبر المرأة في أنوثتها. وكما هو معروف عد هربرت ماركوز
H. Marcuse (1898-1979) المهاجر إلى أمريكا فيلسوف هذه الثورة، وهو سليل مدرسة فرانكفورت التي أعملت المنهاج الماركسي في نقد حاد للحضارة الغربية ومجتمعاتها الرأسمالية وإبراز عيوبها، وتعد من تمثيلات ما بعد الحداثة.
30
لقد أجادت النسوية الجديدة تمثل وتمثيل لحظتها التاريخية أو موقفها الحضاري، موقف ما بعد الحداثة
post-modernism
Unknown page
31
وما بعد الاستعمارية
post-colonialism ، إنهما يعنيان سقوط مثال الحداثة وهو الرجل الأبيض صانع العلم والحضارة جميعا وبروز «الآخر» - أي النساء والشعوب والثقافات غير الأوروبية - كأطراف ذات أهلية وحق كامل للمشاركة في صنع الحضارة. وترتب على هذا تغيرات جوهرية في الخريطة العامة للميتافيزيقا الغربية والأخلاقية وفلسفة السياسة، بل حتى فلسفة العلم.
32
وليس الأمر - كما تذهب سارة أحمد
33 - أن النسوية انشغلت بأسئلة ما بعد الحداثة، بل إن ما بعد الحداثة هي التي أملت منطلقات النسوية الجديدة. ويتطلب هذا، كما تؤكد سارة، قراءة متأنية لنصوص ما بعد الحداثة بوصفها ذات حدود متعينة ومهمة محددة، وليست مجرد توصيف عام لمرحلة جامعة من مراحل التاريخ. إنها القراءة التي ترتكز على كتاب جان فرانسوا ليوتارد
F. J. Lyotard «الشرط ما بعد الحداثي» (1979م)، وهذا ما سيتضح في الصفحات القادمة.
على أية حال رأينا حتى الآن كيف أن النسوية انطلقت وتشكلت موجتها الأولى - التي اقتصرت على مقتضيات الواقع الاجتماعي - في إطار منطلقات الحداثة من قبيل تحرير الإنسان ورفع الوصاية عنه والمساواة وحقوق المواطنة، على الإجمال كانت أصول النسوية في الحداثة ومثلت موجتها الأولى قيم الحداثة، أما مستقبلها فهو في ما بعد الحداثة، وتمثل موجتها الثانية قيم ما بعد الحداثة. إن ما بعد الحداثة هي فقط التي أتاحت للنسوية في موجتها الثانية أن ترتفع إلى مستوى النظرية والفلسفة الصريحة والسؤال الإبستمولوجي وفلسفة العلم، هذا من حيث أعادت ما بعد الحداثة طرح السؤال الإبستمولوجي.
34
هكذا نستطيع أن نقرأ النسوية بوصفها انفلاقة بين دوافع الحداثة على مستوى الممارسة، ودوافع ما بعد الحداثة على مستوى النظرية،
Unknown page
35
حتى يمكن القول إن التمييز بين الحداثة وما بعد الحداثة في النسوية هو تمييز بين الممارسة والنظرية.
36
وجدير بالذكر أن النسوية بدورها أضافت مسائلها إلى تنظيرات ما بعد الحداثة، ورفعت النقاب عن زيف ما كان شائعا من تصور لحياد الخطاب الفلسفي.
أجل ما بعد الحداثة فتحت الباب أمام النسوية لتعلو في مدارج التنظير. لكن ليس يعني هذا أن النسوية في موجتها الثانية تنفصل تماما عن جزئيات الواقع الحي والممارسات المعيشة. إن النسوية كما اتفقنا هي دائما تحاور دائم بين الفكر والواقع بدرجات متفاوتة. ومثلما أدت الثورة الصناعية وماكينات الغزل والنسج إلى الموجة الأولى منها، أتت الموجة الثانية نتيجة للثورة التكنولوجية في القرن العشرين والتطور الاجتماعي الحاصل فيه. ولئن حررت الآلة العبيد، فإن النساء تحررن في القرن العشرين بفعل انتشار الأجهزة المنزلية والصناعات التحضيرية للمأكولات والملبوسات، التي خففت الأعباء المنزلية. وارتفع المستوى الصحي، فلم تعد المرأة تنجب خمسة عشر طفلا مثلا ليعيش منهم ستة أو سبعة. أصبح من الممكن الاكتفاء بعدد محدود من الأطفال. ومع اختراع وسائل منع الحمل - أخطر ما في الأمر - وتنظيم الأسرة، لا يعود الحمل والولادة والإرضاع يستغرق سنوات العمر الإنجابي الطويل للمرأة كما كان يحدث من قبل. لقد توافرت إمكانية تنظيم الحياة بصورة إيجابية أكثر. بات كل شيء ينادي بمزيد من الفرص والحقوق والواجبات للمرأة خارج إطار دورها كأنثى.
كانت الموجة الثانية خصوصا في أمريكا لها أيضا أهدافها الاجتماعية. ومرة أخرى نلاحظ أن بعض الحقوق التي كانت المرأة الغربية في الستينيات تكافح من أجلها، كانت المرأة آنذاك قد ظفرت بها بالفعل في بعض الأقطار العربية، من قبيل المساواة بين الجنسين في الالتحاق بالجامعات والمساواة في فرص ممارسة العمل المهني والبحث العلمي، والأجر المتساوي للجنسين لقاء العمل نفسه، واضطلاع الحكومة بتوفير حضانات لأطفال العاملات إبان ساعات العمل الرسمية. بحثت أيضا عن تشديد العقوبة على جرائم الاغتصاب والعنف الجسدي ضد المرأة وتحسين الخدمات الصحية النسوية. أصرت هذه الموجة على ضرورة أن يتشارك الرجال والنساء في عبء رعاية الأطفال والأعمال المنزلية، وألا تنفرد المرأة بهذه المسئولية. وبطبيعة حال الحضارة الأمريكية وعلو النزعة الفردية فيها، اقترنت هذه الموجة بارتفاع الدعوى إلى حق المرأة في جسدها وحريتها. (8) النسوية الراديكالية
ظل التياران الليبرالي والاشتراكي ماثلين في القرن العشرين، وتواصل النسوية الليبرالية العمل على تطوير وتعميق أطروحاتها.
37
وما زالت النسوية الاشتراكية بل والماركسية نابضة حية، وفي الولايات المتحدة! حيث كانت نقطة البدء فيها كتاب نانسي هارتسوك (1943م-؟) الشهير «النقود والجنس والقوة: نحو مادة تاريخية نسوية» (1983م). عملت هارتسوك على صياغة الموقف النسوي على أساس مادية تاريخية ملائمة له.
38
Unknown page
وثمة أيضا جوان كيلي
J. Kelly (1928-1982) التي عنيت في نسويتها الماركسية بالتفاعل بين الجنس والطبقة والعرق في خلق التقسيمات الاجتماعية وسيطرة فئة على أخرى. لم تصدر كيلي كتابا في حياتها، فقط سلسلة من الدراسات العميقة والمقالات اللافتة، جمعت بعد وفاتها في كتاب، ويبرز مقالها «هل ثمة نهضة للنساء؟» (1977م)، حيث تنقد النهضة الأوروبية وتوضح أنها غبنت حقوق النساء، وجعلت هذا مفطورا في صلب أصلاب الحضارة الغربية.
على أن هذين التيارين باتا في القرن العشرين خطين في إطار نسوي يموج بتيارات عديدة، ومعلمه اللافت هو الراديكالية. إن نسوية القرن العشرين عموما أرادت أن تكون أعمق في نسويتها من قرينتها في القرن التاسع عشر، أعمق وأشمل من أن تكون ليبرالية أو اشتراكية، أرادت أن تكون نسوية راديكالية أي جذرية، لا ترجع وضع الأنثى إلى أي متغيرات معينة كاستبداد الإقطاع أو الملكية والاستغلال، بل أرجعته فقط أو أساسا إلى أنوثة المرأة. قهر المرأة أكثر قضايا البشرية إلحاحا وأطولها عمرا وأوسعها انتشارا. إنها الأصل الأصيل والنموذج المثالي لكل أشكال القهر التي عرفتها البشرية. تتفق النسوية الراديكالية على هذا، وتختلف في استراتيجيات التخلص منه. أوضح الفروق نجدها في أمريكا بين تياري الراديكالية التحررية والراديكالية الثقافية أو الحضارية.
الراديكالية التحررية تنطلق من دور المرأة في العلاقة الجنسية والإنجاب. تنادي بالقضاء على الأسرة؛ لأنها كانت المؤسسة الكفيلة بقهر المرأة وتقليص دورها. ولا بد من تحطيم قداسة الأسرة بسبب عدم المساواة القائمة فيها. وذهبت جوليت ميشيل إلى أن الأسرة وضعية ثقافية وليست طبيعية، ووظيفة الأيديولوجيا الذكورية السائدة أن تقدمها على أنها طبيعية . ومع هذا ثمة آمال في تعديل هذا الوضع وتطويره، اعتمادا على ميل الإنسان للثقافة أكثر من الطبيعة، وأن الحضارة المعاصرة بعيدة جدا عن الطبيعة، وكلما ازدادت تقدما ازدادت بعدا عن الطبيعة.
39
إن الراديكالية ترتكز على الظروف البيولوجية، ليس عودا إلى الحتمية البيولوجية التي فرضت على المرأة وضعا أدنى، بل إلى أساس بيولوجي يمثل خصوصية للمرأة ويؤكد تمايزها عن الرجل، وربما يجعلها أرقى من الرجل خصوصا في تفردها العظيم بالقدرة على إنجاب الأطفال، فليست المرأة الكائن الأجمل فحسب، بل أيضا الأرقى والأقدر. وإن تطرف فريق من التحرريات في الاتجاه الآخر ورأى الإنجاب لا سواه هو الباب إلى عبودية المرأة، أبرزهن شولاميت فايرستون
S. Firestone (1944م-؟) في كتابها الشهير «جدلية الجنس» (1970م) تطلعت إلى وضع تتحرر فيه المرأة من الحمل والإنجاب عن طريق تقنيات الإنجاب الحديثة. واستعن في هذا بأدب الخيال العلمي، مستلهمات روح رائدته ماري شيلي. وفي السبعينيات علا اسم اثنتين فيه، إحداهما نسوية اشتراكية هي مارج بيرسي
M. Piercy ، والأخرى راديكالية تحررية هي جوانا روس، انطلقتا في خيال تكنولوجي يحرر المرأة من أعباء الحمل والولادة، وكانت أعمال روس تجسد حلما بالانتهاء التام للمجتمع الأبوي. وإذ يرد دور الأدب نذكر أيضا أن التحرريات دافعن عن الأدب الإباحي وإخراجه من دائرة الصراع بين المحافظين والمتحررين والرقابة على المطبوعات، إذ رأوا فيه وسيلة فعالة لكشف العنف ضد المرأة في أوسع صوره.
40
رأت الراديكاليات التحرريات المتطرفات استبدال المركزية الأنثوية بالمركزية الذكورية. ويشتد شططهن في هذا وفي السير بحق المرأة في جسدها إلى آخر المدى، ليتجاوزن حق الإجهاض والحق خارج حدود مؤسسة الأسرة! وعلى أساس من الفردية السائدة في الحضارة الأمريكية، ذهبن إلى أن فهم البنية الشعورية وإشباع الحاجات النفسية هو جوهر كل رخاء على مستوى الفرد ومستوى المجتمع، وبالتالي دافعن عن الحق في ممارسة السحاق. ثم لم يقتصرن على هذا، بل ذهب فريق منهن إلى أن السحاقيات فقط هن النسويات حقا، القادرات فعلا على تحدي الذكورية والإعراض عن عالمها. وشكلن النسوية السحاقية التي تدافع عن الجنسية المثلية والأسرة السحاقية، وبالتالي الأسرة اللواطية، كنموذج للأسرة الجديدة!
Unknown page
41
ولله في خلقه شئون.
أمثال هذه الدعاوى المنفلتة تعبير عن انفلات وجموح الحضارة الأمريكية بأسرها والحضارة الغربية، قبل أن تكون تعبيرا عن انفلات وجموح التيار النسوي فيها. والراديكاليات التحرريات أصحاب دعاوى سحق الأسرة وحق الإجهاض والسحاق وما إليه، وإن كن الأعلى صوتا والأكثر جاذبية لوسائل الإعلام وبالتالي الأكثر شهرة حتى كادت النسوية الراديكالية ترتبط في أذهان العامة بهن، فإنهن لسن غالبية ولا هن الأهم، ولا تحظى دعاويهن بقبول واسع بين النسويات، بل «ظهرت منذ منتصف الثمانينيات (ما بعد النسوية) كرد فعلي عكسي أو رجعي على الإفراط في المطالبة بحقوق للمرأة ظهرت أيضا الموجة الثالثة في التسعينيات»،
42
مما أدى إلى خلافات فكرية حادة وتضارب بين تيارات النسوية الجديدة جعلها لا تمثل وحدة أو موقفا سياسيا.
جمهرة الاتجاهات النسوية والراديكالية الثقافية تتبرأ من الراديكالية التحررية المتطرفة، وتحذر من مغبة دعاويها. ويرين أن الهدف من الإطاحة بالمركزية الذكورية إثبات الأنوثة بجوار الذكورة في البنى الحضارية وليس إحلال المركزية الأنثوية محلها، لنداوي التطرف الخاطئ بالتطرف الخاطئ في الاتجاه الآخر، والإبقاء على أحادية الجانب. ومن الضروري الموازنة بين الجانبين بعد طول انفراد الذكورية، وتطوير المؤسسات التقليدية بما يرفع الغبن عن المرأة. ولا يجدن داعيا البتة لتصعيد عداء وحرب صريحة مع الرجل إلى هذه الدرجة، بل إن هذا ضد المنشود من بنية حضارة أكثر تكاملا وأكثر عدلا. «ما تريده النسوية حقا هو نقد للقطيعة بين الذكورية والأنثوية، إذ لا يستقل أحدهما عن الآخر».
43
ومثلما كان ثمة برجوازيون - على رأسهم فردريك إنجلز - يناصرون الشيوعية، هناك رجال - على رأسهم جون ستيوارت مل - يناصرون النسوية، وظهر في ثمانينيات القرن العشرين مصطلح الرجل الجديد
New Man
الذي يناصر الأيديولوجيا النسوية ويقبل إعادة توزيع الأدوار والقيام ببعض الأعباء المنزلية. ويرمز له برجل مقطوع الرأس مفتول العضلات بالغ الوسامة والرجولة، ويحمل طفلا للدلالة على الاهتمام بتنمية الجانب العاطفي الحنون في شخصية الرجل. عدم المساواة الذي ساد الأسرة في الماضي لا يحول دون العمل على تحقيق أسرة تتسم بالمساواة في المستقبل. مشكلة الأعباء المنزلية لا تحل بسحق الأسرة والإعراض عن الإنجاب، بل فقط بالتعاون في أدائها وإعادة توزيع الأدوار لتحل مسئولية الوالدين محل الأمومة. وفي كل حال المرأة مختلفة عن الرجل ولا ينبغي أن تتشبه به أو تتماهى معه تأكيدا للمركزية الذكورية، كما فعلت النسوية في موجتها الأولى.
Unknown page
المهم حقا في النسوية الجديدة هو التيار الآخر، النسوية الراديكالية الثقافية أو الحضارية التي هي ذات طابع أكاديمي رصين، وفرضت نفسها على برامج الدراسة في جامعات شتى. الراديكالية الثقافية تعني أن النسوية اكتسبت نضجا فكريا، فهدفت إلى رؤية ثقافية حضارية جامعة، إلى البحث عن إطار نظري أعمق وأشمل من مجرد المطالبة بالمساواة مع الرجال وطبقا للنموذج الذكوري السائد للإنسان-الرجل. فلا بد من استجواب تاريخ العقل البشري والسياق الحضاري، لسبر أعماق التهميش الطويل الذي نال المرأة، وإثبات إلى أي حد كان جائرا، فحص أسسه ومنطلقاته تمهيدا لتغيير أطره الأيديولوجية للقضاء عليه واجتثاثه من جذوره. لا بد من إعادة اكتشاف النساء لأنفسهن كنساء، لذاتهن المقموعة، وإثبات جدوى العمل على إظهارها وإيجابياتها وفعالياتها، ثم صياغة نظرية عن هذه الهوية النسوية؛ أي الأنثوية
Feminine or Femininty ، وتحولاتها الممكنة، فكانت الأنثوية مرحلة متطورة من الدعوى النسوية، هي مرحلة اكتشاف الذات. وبدلا من التماهي مع النموذج الذكوري، لا بد من العمل على إبراز الأنثوية كجانب جوهري للموجود البشري، كان قمعه اعتوارا طال السكوت عليه، ونزفا حضاريا لإمكانيات هائلة يمكن أن تكسب الإنسانية شيئا من التوازن.
وقد أمكن تحقيق هذا بفضل التطور المعرفي وتنامي مناهج البحث وجحافل النساء الأكاديميات القادرات على إخراج بحوث معمقة تعزز الأطروحة، فضلا عن الرجال المنتصرين لها.
هكذا تأتي الراديكالية الحقيقية في نسوية القرن العشرين من هذه التنظيرات الكبرى التي يتسع مداها يوما بعد يوم، وتتوغل من فرع معرفي إلى آخر، لتثبت الرؤية النسوية التي جرى تهميشها طويلا، وفعاليتها وجدواها.
تبدأ التنظيرات من الأصول العميقة للحضارة الإنسانية وصولا إلى استشراف مستقبلها. تستفيد من علم الأعراق والأجناس البشرية لإلقاء الضوء على أوضاع شتى للذكورة والأنوثة وعلاقات النسب والقرابة،
44
والدراسات الأنثروبولوجية لمجتمعات بدائية كثيرة الأم فيها هي المركز، وصولا إلى العصر الأمومي السحيق المهدر من تاريخ البشرية؛ وذلك لإثبات أن تفوق الذكر وسيادة الرجل ليست قانونا شاملا للبشرية. وتبع هذا الدراسة النسوية للفولكلور التي تصوب الأنظار على الأنماط الفولكلورية الخاصة بالمرأة في الثقافات الشتى. برز الاهتمام بوضعية المرأة في الحضارات القديمة وعند الفراعنة واليهود القدامى والحضارة الكلاسيكية الإغريقية والرومانية ... وفي البقاع الأخرى من العالم. وتميزت الحركة بالتحليل العابر للثقافات
cross cultural analysis ، من أجل استكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة. قد تستخدم أدوات معرفية مأخوذة من الثقافة الغربية، لكن الثقافات تتحاور بعضها مع بعض، لا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى، فالنسوية قامت أصلا من أجل تقويض كل أشكال التراتب الهرمي (الهيراركية).
وبدأ التاريخ النسوي منذ العام 1960 ليقابل الصورة الأكاديمية النمطية للتاريخ الذكوري التي هي صورة لتاريخ صنعه الرجل وحده، يتجاهل دور المرأة أو يعمل على تهميشه، أي استثناء لهذا يعد حديثا عن شخصية منفردة استثنائية لملكة أو محاربة قامت بدور في السياق الذكوري للتاريخ وليس تأكيدا لوجود المرأة. ولئن كانت المصادر التاريخية القديمة عبر العصور قد كتبها رجال من منظور ذكوري، فإن مناهج القراءة والتأويل والهيرومنيوطيقا المحدثة تمكن من إعادة قراءة الوثائق التاريخية لاستخراج الدور الحقيقي للمرأة. وليس الأمر مواجهة بين الرجال والنساء، بل بحث عن تصور أصح لتاريخ الوضع الإنساني الذي يضم كلا الطرفين، ولا يقتصر على الذكورية فقط.
تسرف النسوية الجديدة في استغلال هيرومنيوطيقية التأويل والتفسير التي تهدف إلى اختراق السطح الخادع لتفصح عن نظرة موحدة قادرة على احتواء الموضوع المعنى بمجامعه، وكشف المستتر والمسكوت عنه؛ وبالتالي يدن بالفضل لجادامر وكتابه الشهير «الحقيقة والمنهج» (1960). التأويل في بعض الأحيان قد يقابله البحث عن أصول الأفكار، عن الجينالوجيا التي دعا إليها نيتشه. النسويات المحدثات يبحثن دائما عن الجينالوجيا والتأويل بغية الطرح المتكامل.
Unknown page