وإذا تزوجنا لم نزدد إلا ضغطا فيقوى الرجل ويستبد، تكتم حرية الزوجة إلى درجة تميت نفسها وتعدمها الإحساس والحياة، أرأيت أطغى من ذلك الرجل الذي يمنع زوجه من رؤية أمها وأهلها لغير جناية حدثت منهم؟ أرأيت أطغى من ذلك الذي يمنع الزائرات من دخول بيته، ويحجب امرأته عنهن خوفا من أن يفسدنها عليه أو يعلمنها شيئا جديدا يأباه جموده واعتسافه؟ يتحكم فيها وفي صحتها وفي مالها وفي وقتها وفي حريتها وفي كل شيء ويأبى عليها أن تسأله سؤالا بسيطا عن شغله، بحجة أنها لا تفهمه! أو عن نفقاته معتذرا بأنه لا مدخل لها في شؤونه! وهل يحتقر الرجل المرأة أكثر من أن يجلس لطعامه وحده ولا يدعوها لمشاركته فيه، فإذا فرغ منه تأخذ لقمة من هنا وأخرى من هناك كما يفعل الخدم؟ تظل واقفة، وإذا غاب ليلا يتحتم عليها السهر إلى أن يحضر، ثم إذا مرضت يأنف أن يناولها جرعة من الدواء، ويستنكف البقاء معها قليلا فيترك لها المنزل بما فيه، وليس أصعب على المريض من أن يرى نفسه مهملا متروكا.
يظهر احتقار الرجل للمرأة جليا في أفعاله وتصرفاته، إذا حزن يوما لا يكاشفها بما يؤلمه، وإذا نوى الشروع في عمل يعدها غريبة عنه فلا يخبرها، يخرج من البيت ولا يعود إليه إلا لأمر ضروري، فمؤانسته وأسراره نهب للخلان، أما زوجه فلا يعدها إلا طاهية أو خادمة، وأظن أن الرجل لولا بقية حياة فيه لما هوى منزله، ولولا أن أكله في الفنادق يكلفه كثيرا لما ذاق طعام بيته.
أي ازدراء للمرأة وعبث بحقوقها أشد من أن تخرج كلمة من فم الزوج ساعة غضبه فتفرق بينهما وتشتت ملتئمهما؟! وأي أمل لها في مستقبل مظلم لا تدري متى ينهار بنيانه؟! إن الدين لم يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق هكذا من غير شرط كما يفعل الآن رجالنا، وإنما جعل لهما شروطا وقيودا لو اتبعت لما أن منها النساء البائسات.
زار أغلب رجالنا أوروبا والبلاد المتمدينة، ورأوا بأعينهم كيف يحترم الرجل الأوروبي امرأته، حتى إنها مقدمة عليه في كل مجتمع، فعادوا ينادون بوجوب تعليم المرأة، ويصرحون في كلامهم بأنهم من أنصارها وأنها واجبة الاحترام، ولكن لا يلبث كلامهم أن يذهب مع الهواء، إلا أنهم إذا اجتمعوا بسائحة إفرنكية أو امرأة غربية تلطفوا لها كثيرا، فساعدوها في النزول من عربتها، وأمسكوا لها حقيبتها، ورفعوا الطرابيش إجلالا لها، في حين أن أحدهم يستنكف أن يركب مع امرأته في عربة واحدة، وإذا سافرت أو انتقلت إلى محل آخر تركها ونفسها، كأنه لم يكن هو صاحب الأفكار الحديثة القائل بمساعدة المرأة، وإذا ازدحمت الطرقات في مولد أو موكب مثلا رأيت الرجال يدوسون النساء ويضربونهن بالمناكب كأنه زحام الحشر، فهل هذا مبلغ احترام النساء عندنا؟!
أي سبة للمرأة العفيفة أنكى أو أشد إيلاما من أن يحوطها زوجها بالرقباء والحشم كلما انتقلت خطوة، كأنها غير أمينة على نفسها، أو كأن العفة ملاكها الرهبة لا الرغبة؟!
وهل يزدري الرجل عواطف المرأة بأكثر من أن يجالس خليلته أمامها، كأن شعورها ميت، ويريدها أن لا تغضب، فهل قد فؤادها من حجر صلد؟!
لا أنكر أن لنا عيوبا يجب إصلاحها، وأن بعضنا لا يستحق كثير احترام، ولكن أيؤخذ البريء بذنب المجرم؟ وهل يصح تطبيق القانون إلا على من ثبت إدانته؟ وفي اعتقادي أن الرجل لو خفف قليلا من كبريائه، وعلم أن امرأته مساوية له في جميع الحقوق المشتركة، وعاملها معاملة الند للند، أو على الأقل معاملة الوصي لليتيم لا معاملة السيد للعبد، لما رأى منها هذا العناد الذي يشكوه، ولأطاعته حبا فيه لا خوفا منه، ولا يجهل أن الاستبداد يأتي بعكس المراد.
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فكيف ورجالنا على هذا الاستبداد يأملون صلاح الأمة وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور؟! أما والله لو أرانا رجالنا عناية واحتراما لكنا لهم كما يحبون، فما نحن إلا مرآة تنعكس علينا صورهم، ولنا قلوب تشعر كما يشعرون، فإن أرادوا إصلاحنا فليصلحوا من أنفسهم وإلا فلينظروا ماذا هم فاعلون. (12) احترام الآراء وآداب الانتقاد
اللسان والقلم رسولا القلب إلى الناس، أو هما جدولان صافيان تنعكس عليهما صورة النفس وما حواليها من الصفات، وإن شئت فقل: هما سلك الكهرباء بين ذهن المرء ومن يخاطبهم أو يكتب لهم، تنقل عنه رسالة أخلاقه حرفا حرفا بغير زيادة ولا نقصان، والفضائل والرذائل كامنة في الأشخاص، لا يوري زنادها إلا الأقوال والأفعال بالمتكلم والكاتب تظهر أخلاقهما جليا فيما يقولانه أو يخطانه وإن حاولا إخفاءها؛ لأن الطبع غالب، والتطبع سمل بال قليل الستر، إن دارى شيئا تظهر منه أشياء، والفكرة - وإن جانبتها - لا تزال تحوم حولك وترفرف إلى أن تجد لها مقرا تستقر فيه من الجولان والاضطراب.
فإذا قرأت كتابة شخص لم تلحظه عيناك أمكنك بالتفرس فيها أن تحكم على أخلاقه بالإجمال، فالمتكلف تعرف من كتابته بأنه لا يزال ينتقي الألفاظ الوحشية، ويتقعر في أسلوب إنشائه؛ ليدل على علمه وبراعته. والرجل البسيط يتجنب الألفاظ ومعقد التراكيب، من غير تبذل ولا ركاكة في عبارته، كذلك من كرمت نفسه ترى أثر ذلك الكرم فائضا على كلماته وفي ثنايا سطوره، واللئيم بالمثل تكاد تلمس لؤمه وضعة نفسه وأنت تقرأ أماليه على القرطاس، وأظهر صفات الكاتب على الورق الحكمة والحلم والحسد والجهل؛ لأن الغرائز كلها حسنة أو قبيحة هادئة لا يستفزها الشيء القليل، ولا يهيج لاعجها إلا إذا هيجت كالرائحة لا يبعثها إلا الهواء، أو كتراب الأرض لا يثور إلا مع الرياح، أما الحسد والجهل فهما أبدا جائشان، يغلي صدر حاملهما ويكاد ينبثق من تلقاء نفسه من شدة الفوران كالبركان المضطرم يقذف الحمم لحر ما احتواه جوفه من النيران.
Unknown page