Nihayat Aqdam
نهاية الإقدام في علم الكلام
Genres
قالت الأشعرية العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من هيئة وجودها أو سمعها من مبتدأها إلى منتهاها على وفق ثبوتها وتارة حديثا مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير وجودهم ومشاهدتهم ثم يعبر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة وتارة نطقا عقليا إما يجزم القول أن الحق والصدق كذا وإما بترديد الفكر أنه هل يجوز أن يكون الشيء كذا أو يستحيل أو يجب إلى غير ذلك من الأفكار حتى أن كل صانع يحدث مع نفسه أولا بالغرض الذي توجهت إليه صنعته ثم تنطق نفسه في حال الفعل محادثة مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة وباهت العقل وأنكر الأوائل التي في ذهن الإنسان وسبيله سبيل السوفسطائية كيف وإنكاره ذلك مما لم يدر في قلبه ولا جال في ذهنه ثم لم يعبر عنه بالإنكار ولا أشار إليه بالإقرار فوجد أن المعنى معلوم بالضرورة وإنما الشك في أنه هو العلم بنفسه أو الإرادة والتقدير والتفكير والتصوير والتدبير والتمييز بينه وبين العلم هين إذ العلم تبين محض تابع للمعلوم على ما هو به وليس فيه إخبار ولا اقتضاء وطلب ولا استفهام ولا دعاء ولا نداء وعي أقسام معلومة وقضايا معقولة وراء التبيين والتمييز بينه وبين الإرادة أسهل وأهون فإن الإرادة قصد إلى تخصيص الفعل ببعض الجائزات ولا قصد في هذه القضايا ولا تخصيص وأما التقدير والتفكير والتدبير فكل ذلك عبارات عن حديث النفس وهو الذي يعنى به من النطق النفساني ومن العجب أن الإنسان يجوز أن يخلو ذهنه عن كل معنى ولا يجد نفسه قط خاليا عن حديث النفس حتى في النوم فإنه في الحقيقة يرى في منامه أشياء وتحدث نفسه بالأشياء ولربما يطاوعه لسانه وهو في منامه حتى يتكلم وينطق متابعة لنفسه فيما يحدث وينطق.
ومن مذاهب المعتزلة أن المفكر قبل ورود السمع يجد من نفسه خاطرين أحدهما يدعوه إلى معرفة الصانع وشكر المنعم وسلوك سبيل المحاسن والخيرات والثاني يدعوه إلى خلاف ذلك ثم يختار ما فيه النجاة ويجتنب عما فيه الهلاك وذلك الخاطران الداعيان المحدثان المخبران عن كلام النفس وحديثها فكيف يسوغ لهم إنكار ذلك وأيضا فإن الإنسان في مراتب نظره واستدلاله يضع قولا ويرفع قولا ويقسم كليا ويبطل أحد القسمين فيتعين له الثاني فتقسيمه هو بعينه حديث النفس وتعيينه أحد القسمين هو بعينه حكم العقل وربما أخذ القلم وكتب مجلدة من حديث فكره وشحن ديوانا من حديث نفسه ولسانه ساكت لا ينطق.
وصدق من قال:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فالعبارة والإشارة والكتابة دلالة بقرائنها تدل على أن لها مدلولا خاصا متميزا عن العلم والإرادة ولكل عبارة خاصة مدلول خاص متميز عن سائر المدلولات وهذا أوضح ما تقرر فإن دلالات العبارات على النطق دلالة المواضعة والتوقيف ويختلف بالأمم والأمصار ودلالة الأحكام على العلم دلالة العقل فلا يختلف ذلك بالأمم والأمصار ومدلول العبارات مع اختلافها مدلول واحد فإن المعنى الذي يفهم من قولك الله هو بعينه المعنى الذي يفهم من خذ أي وتنكري وسرنا وند إلى غير ذلك من الألفاظ فعلم من ذلك أن الكلام الذي في نفس الإنسان قول محقق ونطق موجود هو أخص وصف لنفس الإنسان حتى تميز به عن سائر الحيوانات ومن أنكره فقد خرج عن حد الإنسانية ودخل في حريم البهيمة وكفر أخص نعم الله تعالى على نوع الإنسان.
Page 112