Nidāʾ al-ḥaqīqa: maʿa thalātha nuṣūṣ ʿan al-ḥaqīqa li-Haydaghir
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Genres
175
الذي يحقق انتصاراته في عالم الآلة والصناعة والتقنية والمجتمع الإنساني الذي انعكست عليه آثاره.
هذه هي الصورة التي انتهت إليها الفلسفة وكانت بذورها كامنة في الفكر الغربي وطموحه إلى المدنية العالمية.
هل ذابت الفلسفة في هذه النزعة العلمية السائدة؟ هل انتقلت إلى العلوم المتخصصة وتبددت كل إمكانياتها أو وصلت، كما قلنا، إلى غايتها الأخيرة؟ ألا تنطوي الفلسفة على إمكانية خافية عليها هي نفسها؟ هل يمكن أن تكون هذه النهاية بداية فكر جديد، وتتحقق خرافة العنقاء التي بعثت من الرماد؟ ألم يبق أمام الفلسفة إلا أن تنوح كما ناحت «هيكوبا» زوجة الملك برياموس ملك طرواده على أبنائها الذين ذبحوا أمام عينيها - كما قال كانط في مقدمة كتابه نقد العقل الخالص - أم تجتر أحزانها كاليمامة الوحيدة في عشها بعد أن هجرتها أفراخها وتنكرت لها؟
لا يمكن بطبيعة الحال أن نزيح الفلسفة ونتخلص منها كأنها عبء ثقيل قديم أو جثة عزيز لا تدري كيف نتخلص منها، بل لا بد من التفكير فيها وفي تفتحها عبر التاريخ، على نحو ما فعل هيدجر طوال حياته، لم يكن هم هذا التفكير أن يبحث في تاريخ الفلسفة أو يبعث بعض حقائقها الماضية، بل كان في صميمه «تذكيرا» بما نسيته ولم تفكر فيه، أي بمعنى الوجود نفسه، كما كان «دعوة» إلى إمكانية لم تتبين معالمها ولم يتأكد بعد موعد تحققها، صحيح أن المدنية العالمية - التي بدأت في عصرنا الحاضر مسيرتها التقنية والعلمية الخطيرة - قد امتصت الفلسفة وأذابتها فيها، ولكننا نستطيع أن نقول أيضا إن هذه المدنية العالمية ستتجاوز في يوم من الأيام طابعها التقني والعلمي والصناعي، وستكتشف أنه ليس هو المقياس الوحيد ولا «السكن» الوحيد في هذا العالم.
ما هي قضية هذا الفكر، ما هو موضوعه؟
إن هيدجر يتناول محاولتين من أهم المحاولات في العصر الحديث للإجابة عن هذا السؤال، وهما اللتان قام بهما هيجل وهسرل، وقد تبين له من التحليل أنهما لم يختلفا على موضوع الفكر، فقد اتفقا على أنه هو الذاتية، وإنما اختلفا على المنهج، فالجدل التأملي مثلا عند هيجل يوضح لنا كيف يظهر موضوع الفلسفة من ذاتها ويصبح حاضرا واعيا بذاته، والظهور يفترض النور الذي يتجلى فيه كل ما يظهر، والنور بدوره يفترض المكان المفتوح أو الانفتاح، والفكر التأملي لا يستغني عن هذا الانفتاح الذي ييسر له النفاذ إلى الموضوع الذي يفكر فيه.
لقد رأينا في الفصول السابقة أن الانفتاح هو الإنارة (راجع ما قلناه عن ماهية الحقيقة، وحقيقة الفن، وحقيقة الإنسان)، وكلمة الإنارة في الألمانية والفرنسية
176
تدل في الأصل على تخلية مكان بين الأشجار المتكاثفة في الغابة، ولو نقلناها إلى موضوعنا نقلا مجازيا لأمكننا القول إن النور لا يوجد الانفتاح بل هو شرط سابق عليه، حتى تظهر الأشياء فيه ويتفاعل المضيء والمظلم، والظاهر والخفي، فالإنارة انفتاح لكل ما يكون، وكل ما يفتقد الكينونة،
Unknown page