بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَصلَاته وَسَلَامه على خير خلقه أَجْمَعِينَ مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين وَخَاتم النَّبِيين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وقائد الغر المحجلين وعَلى آله وَأَصْحَابه أَعْلَام الْهدى وأئمة الدّين وعَلى سَائِر عباد الله الصَّالِحين صَلَاة وَسلَامًا دائمين متصلين إِلَى يَوْم جمع الْأَوَّلين [والآخرين وَبعد فَهَذِهِ أبحاث ظَهرت للخاطر الفاتر على مَوَاضِع من كتاب الفصوص قصدت بهَا نصْرَة الشَّرِيعَة وَأَهْلهَا وبينت ضلال فرقة الوجودية وجهلها وسميتها نعْمَة الذريعة فِي نصْرَة الشَّرِيعَة وَالله المطلع على النيات وَمَا تشْتَمل عَلَيْهِ الطويات وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل
قَالَ فِي الديباجة أما بعد فَإِنِّي رَأَيْت رَسُول الله ﷺ فِي مبشرة أريتها فِي الْعشْر الآخر من محرم سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة بمحروسة دمشق وَبِيَدِهِ ﷺ كتاب فَقَالَ لي خُذْهُ هَذَا كتاب فصوص الحكم خُذْهُ واخرج بِهِ إِلَى النَّاس يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَقلت السّمع وَالطَّاعَة لله وَلِرَسُولِهِ ولأولي الْأَمر منا كَمَا أمرنَا إِلَى آخر مَا ذكر
1 / 31
أَقُول هَذِه الرُّؤْيَا لَا يكَاد يُمكن صِحَّتهَا عَن النَّبِي ﷺ فَإِن الْكتاب الْمَذْكُور مُشْتَمل على أَشْيَاء مناقضة للشرائع مِنْهَا قَاعِدَة أَن الْعَالم هُوَ صور الْحق سُبْحَانَهُ وَأَن من عبد شَيْئا فَإِنَّمَا عبد الله تَعَالَى وَمِنْهَا ذمّ أهل الشَّرْع ومدح الْكفَّار وتمهيد أعذارهم وَمِنْهَا الْقدح فِي بعض الْأَنْبِيَاء كَقَوْلِه فِي الْكَلِمَة النوحية الدعْوَة إِلَى الله تَعَالَى مكر بالمدعو أَدْعُو إِلَى الله فَهَذَا عين الْمَكْر فَمَا عبد غير الله تَعَالَى فِي كل معبود وَفِي الْكَلِمَة الإدريسية فَهُوَ عين مَا ظهر وَعين مَا بطن فِي حَال ظُهُوره وَمَا ثمَّ من يرَاهُ غَيره وَمَا ثمَّ من يبطن عَنهُ فَهُوَ ظَاهر لنَفسِهِ بَاطِن عَنهُ وَهُوَ الْمُسَمّى أَبَا سعيد الخراز وَغير ذَلِك من أَسمَاء المحدثات وَفِي الْكَلِمَة الإسماعلية وَمَا لوعيد الْحق عين تعاين وَفِي الْكَلِمَة الإسحاقية اعْلَم أيدنا الله تَعَالَى وَإِيَّاك أَن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل قَالَ لِابْنِهِ إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك والمنام حَضْرَة الخيال فَلم يعبرها
وَكَانَ كَبْش ظهر فِي صُورَة ابْن إِبْرَاهِيم فِي الْمَنَام فَصدق إِبْرَاهِيم الرُّؤْيَا فَفَدَاهُ ربه من وهم إِبْرَاهِيم بِالذبْحِ الْعَظِيم الَّذِي هُوَ تَعْبِير رُؤْيَاهُ عِنْد الله تَعَالَى وَهُوَ لَا يشْعر لِأَنَّهُ يعلم أَن موطن الخيال يطْلب التَّعْبِير فَغَفَلَ فَمَا وفى الموطن حَقه
وَفِي الْكَلِمَة الهودية أَنه تَعَالَى عين الْأَشْيَاء والأشياء محدودة وَإِن اخْتلفت حُدُودهَا فَهُوَ مَحْدُود بِحَدّ كل مَحْدُود فَمَا يحد شَيْء إِلَّا وَهُوَ حد الْحق
فَهُوَ الساري فِي مُسَمّى الْمَخْلُوقَات والمبدعات
1 / 32
فالعالم صورته وَهُوَ روح الْعَالم الْمُدبر لَهُ فَهُوَ الْإِنْسَان الْكَبِير
فإياك أَن تتقيد بِعقد وتكفر بِمَا سواهُ فيفوتك خير كثير بل يفوتك الْعلم بِالْأَمر على مَا هُوَ عَلَيْهِ فَكُن فِي نَفسك هيولى لصور المعتقدات كلهَا
وَفِي الْكَلِمَة الشعيبية فَلهَذَا قَالَ ﴿لمن كَانَ لَهُ قلب﴾ فَعلم تقلب الْحق فِي الصُّور بتقلبه فِي الأشكال فَمن نَفسه عرف نَفسه وَلَيْسَت نَفسه بِغَيْر لهوية الْحق
وَلَا شَيْء من الْكَوْن مِمَّا هُوَ كَائِن وَيكون بِغَيْر لهوية الْحق بل هُوَ عين الهوية وَفِي الهارونية وَكَانَ مُوسَى أعلم بِالْأَمر من هَارُون لِأَنَّهُ علم مَا عَبده أَصْحَاب الْعجل
لعلمه بِأَن الله تَعَالَى قد قضى أَن لَا يعبد إِلَّا إِيَّاه
وَمَا حكم الله تَعَالَى بِشَيْء إِلَّا وَقع فَكَانَ عتب مُوسَى أَخَاهُ هَارُون لما وَقع الْأَمر فِي إِنْكَاره وَعدم اتساعه فَإِن الْعَارِف من يرى الْحق فِي كل شَيْء بل يرَاهُ عين كل شَيْء
إِلَى غير ذَلِك من الكفريات والهذيانات الَّتِي أودعها فِي الْكتاب الْمَذْكُور
فَكيف يجوز إسنادها إِلَى النَّبِي ﷺ بل ذَلِك من أبطل الْمحَال أما على مَا هُوَ الْمَفْهُوم من التراكيب الوضعية فَظَاهر
وَكَذَا إِن فرض فرضا أَن المُرَاد غير مَا يفهم من ظَاهر تركيبه إِذْ من الْمحَال أَن يَأْمر النَّبِي ﷺ بعد مضى سِتّمائَة سنة من زمن تَقْرِير شَرِيعَته الَّتِي مهدها هُوَ وَأَصْحَابه بِكَلَام ظَاهرهَا إِبْطَالهَا ومخالفتها وباطنه موافقتها وتحقيقها سِيمَا عِنْد فَسَاد الزَّمَان وَظُهُور الاعتقادات الْفَاسِدَة
1 / 33
والبدع وَغَلَبَة الشَّهَوَات والمعاصي على مَا لَا يخفى وَالله ﷾ هُوَ الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
قَالَ فِي الْكَلِمَة الشيثية وَلَيْسَ هَذَا الْعلم إِلَّا لخاتم الرُّسُل وَخَاتم الْأَوْلِيَاء وَمَا يرَاهُ أحد من الْأَنْبِيَاء وَالرسل إِلَّا من مشكاة الرَّسُول الْخَاتم وَلَا يرَاهُ أحد من الْأَوْلِيَاء إِلَّا من مشكاة الْوَلِيّ الْخَاتم حَتَّى أَن الرُّسُل لَا يرونه مَتى رَأَوْهُ إِلَّا من مشكاة خَاتم الْأَوْلِيَاء فَإِن الرسَالَة والنبوة أَعنِي نبوة التشريع ورسالته ينقطعان وَالْولَايَة لَا تَنْقَطِع أبدا
فالمرسلون من كَونهم أَوْلِيَاء لَا يرَوْنَ مَا ذَكرْنَاهُ إِلَّا من مشكاة خَاتم الْأَوْلِيَاء
فَكيف من دونهم من الْأَوْلِيَاء
أَقُول انْظُر إِلَى هَذَا التصلف والتمدح فَإِنَّهُ يزْعم أَنه هُوَ خَاتم الْأَوْلِيَاء كَمَا قَالَ فِي أول الْبَاب الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ من الفتوحات أَنا ختم الْولَايَة دون شكّ لَو رئي الْهَاشِمِي مَعَ الْمَسِيح وَذكر فِي مَوضِع آخر من الفتوحات على مَا نَقله شَارِحه القيصري أَنه رأى حَائِطا من ذهب وَفِضة وكمل إِلَّا مَوضِع لبنتين
1 / 34
إِحْدَاهمَا من ذهب وَالْأُخْرَى من فضَّة فانطبع مَوضِع تِلْكَ اللبنتين وَأَنه قَالَ وَأَنا لَا أَشك أَنِّي أَنا الرَّائِي وَأَنِّي أَنا المنطبع موضعهما وَبِي كمل الْحَائِط
ثمَّ عبرت الرُّؤْيَا بختام الْولَايَة
وَذكر الْمَنَام للمشائخ الَّذين كنت فِي عصرهم وَمَا قلت من الرَّائِي فعبروا بِمَا عبرت بِهِ
ثمَّ إِنَّه مَعَ هَذَا نفى هَذَا الْعلم الَّذِي مدحه عَن غَيره وَعَن غير خَاتم الْأَنْبِيَاء ففضل نَفسه على من سوى الْخَاتم من الْأَنْبِيَاء جَمِيعًا بطرِيق الِاسْتِقْلَال
وَادّعى أَنهم إِذا رَأَوْهُ فَإِنَّمَا يرونه من مشكاة خَاتم الْأَنْبِيَاء من حَيْثُ النُّبُوَّة
وَمن مشكاة الْأَوْلِيَاء من حَيْثُ الْولَايَة ثمَّ فضل نَفسه على خَاتم الْأَنْبِيَاء أَيْضا بِأَن عمم جَمِيع الرُّسُل أَنهم لَا يرونه من حَيْثُ ولايتهم إِلَّا من مشكاته وَخَاتم الْأَنْبِيَاء دَاخل فِي هَذَا الْعُمُوم ثمَّ صرح بذلك حَيْثُ قَالَ وَإِن كَانَ خَاتم الْأَوْلِيَاء فِي الحكم تَابعا لما جَاءَ بِهِ خَاتم الرُّسُل من التشريع فَذَلِك لَا يقْدَح فِي مقَامه وَلَا يُنَاقض مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ من وَجه يكون أنزل كَمَا أَنه من وَجه يكون أَعلَى
وَقد ظهر فِي ظَاهر شرعنا مَا يُؤَيّد مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي فضل عمر فِي أُسَارَى بدر بالحكم فيهم وَفِي تأبير النّخل فَمَا يلْزم الْكَامِل
1 / 35
أَن يكون لَهُ التَّقَدُّم فِي كل شَيْء وَفِي كل مرتبَة وَإِنَّمَا نظر الرِّجَال إِلَى التَّقَدُّم فِي رتب الْعلم بِاللَّه هُنَا مطلبهم
وَأما حوادث الأكوان فَلَا تعلق لخواطرهم بهَا
فتحقق مَا ذَكرْنَاهُ
أَقُول انْظُر إِلَى دَعْوَاهُ أَنه أَعلَى من خَاتم الرُّسُل من وَجه وَانْظُر إِلَى استدلاله وتناقضه فِيهِ حَيْثُ اسْتدلَّ بِقصَّة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي أُسَارَى بدر وبقصة تأبير النّخل على ادعائه أَن الْأَدْنَى يكون أَعلَى من وَجه ثمَّ نَاقض نَفسه وَهُوَ لَا يشْعر بقوله وَإِنَّمَا نظر الرِّجَال الخ
وَهل أُمُور الْحَرْب الَّتِي تضمنتها قصَّة عمر وتأبير النّخل إِلَّا من حوادث الأكوان الَّتِي لَا تعلق لنظر الرِّجَال بهَا وَأي تعلق لهاتين الْقصَّتَيْنِ بِالْعلمِ بِاللَّه تَعَالَى ثمَّ لَا يتم أَن الْعلم الَّذِي ذكره ومدحه هُوَ الْعلم بِاللَّه الْمُقْتَضِي للأفضلية بل هُوَ علم حوادث الأكوان أَيْضا فَإِن الْعلم بِأَن الْمنح والهبات والعطايا الذاتية لَا تكون إِلَّا عَن مَحل ذاتي وَأَن ذَلِك التجلي لَا يكون إِلَّا بِصُورَة استعداد المتجلى لَهُ إِنَّمَا يرجع إِلَى معرفَة حقائق المكونات ووقوعها على الْوَجْه الَّذِي وجدت عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِك من الْعلم بِاللَّه تَعَالَى فِي شَيْء إِنَّمَا الْعلم بِاللَّه تَعَالَى مَا يقتضى خَشيته كَمَا قَالَ ﷾ ﴿إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء﴾
وَذَلِكَ هُوَ الْعلم بعظمته وجلاله وكبريائه وَسَائِر صِفَاته المفضي إِلَى امْتِثَال أوامره ونواهيه واقتفاء مَا يقرب إِلَيْهِ
1 / 36
فَهَذَا هُوَ الْعلم الْمُقْتَضِي للأفضلية فَإِن الْأَفْضَلِيَّة إِنَّمَا هِيَ بِكَثْرَة الثَّوَاب وَزِيَادَة الدَّرَجَات فِي الْقرب إِلَى الله تَعَالَى لَا معرفَة حقائق الْأَشْيَاء كَمَا ذهبت إِلَيْهِ الفلاسفة وَهَذِه الطَّائِفَة فَإِن الله تَعَالَى قد نفى الْعلم عَن مثل هَؤُلَاءِ فَقَالَ ﷾ ﴿وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون﴾
وَأي فَضِيلَة فِي معرفَة أَن الله تَعَالَى هُوَ الظَّاهِر فِي صور الْأَشْيَاء وَهِي الظَّاهِرَة فِيهِ فَهُوَ مرْآة لَهُ إِلَى آخر مَا ذكره هَذَا الشَّخْص فِي مثل هَذَا الْموضع وَكَيف ينْسب ويسند مثل هَذِه الخرافات إِلَى النَّبِي ﷺ وَمَا هِيَ إِلَّا تَضْييع أَوْقَات فِي غير طائل
وَالله ﷾ هُوَ الْهَادِي المضل وَإِلَيْهِ يرجع الْأَمر كُله
ثمَّ قَالَ عقيب هَذَا وَلما مثل النَّبِي ﷺ النُّبُوَّة بِالْحَائِطِ من اللَّبن وَقد كمل سوى مَوضِع لبنة فَكَانَ ﷺ تِلْكَ اللبنة غير أَنه ﷺ لَا يَرَاهَا إِلَّا كَمَا قَالَ لبنة وَاحِدَة
وَأما خَاتم الْأَوْلِيَاء فَلَا بُد لَهُ من هَذِه الرُّؤْيَا فَيرى مَا مثله بِهِ رَسُول الله ﷺ وَيرى فِي الْحَائِط مَوضِع لبنتين
واللبنتين من ذهب وَفِضة
فَيرى اللبنتين اللَّتَيْنِ ينقص الْحَائِط عَنْهُمَا وتكمل بهما لبنة فضَّة ولبنة ذهب
فَلَا بُد أَن يرى نَفسه تنطبع فِي مَوضِع تينك اللبنتين
فَيكون خَاتم الْأَوْلِيَاء تينك اللبنتين فيكمل الْحَائِط إِلَى آخر مَا ذكره
أَقُول هَذَا الْكَلَام فِيهِ اخْتِلَاف من وُجُوه مِنْهَا أَن الممثل على مَا ذكر هُوَ النُّبُوَّة فَأَي دخل لغير النَّبِي فِيهِ حَتَّى يكون مَوضِع لبنتين أَو لبنة
1 / 37
وَمِنْهَا أَنا لَو سلمنَا دخل الْولَايَة فِي ذَلِك لاقتضى أَن يكون مَوضِع كل نَبِي لبنتان فضية وذهبية وَيرى خَاتم الْأَوْلِيَاء النُّقْصَان مَوضِع لبنة لَا الْعَكْس
وَمِنْهَا قَوْله يرى نَفسه تنطبع مَوضِع تينك اللبنتين يَقْتَضِي أَن يكون للولاية وَحدهَا مَوضِع لبنتين فَيكون للنَّبِي مَوضِع أَربع لبنات فَانْظُر إِلَى هَذَا الاختلال والتناقض الَّذِي يَدعِي فِيهِ الْكَشْف والكشف الصَّحِيح لَا يحْتَمل التَّنَاقُض بِوَجْه مَا وَمِنْهَا أَنه فضل مقَام الْولَايَة المجددة عَن النُّبُوَّة على مقَام النُّبُوَّة وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ من الْمَعْدن الَّذِي يَأْخُذ مِنْهُ الْملك الموحي إِلَى الرَّسُول فَيُقَال لَهُ لَا نسلم أَن الْأَخْذ من الْمَعْدن مُخْتَصّ بِالْولَايَةِ الْمُجَرَّدَة بل هُوَ فِي الْولَايَة المقترنة بِالنُّبُوَّةِ أتم
فالرسول لَا شكّ أَنه يَأْخُذ من الْمَعْدن من حَيْثُ ولَايَته وَمن الْملك من حَيْثُ رسَالَته
فَهُوَ أفضل من الْوَلِيّ غير النَّبِي بِلَا شكّ
فَكيف جعل الْوَلِيّ الْمُجَرّد مَوضِع لبنتين إِحْدَاهمَا ذهب وَلم يَجْعَل النَّبِي كَذَلِك وَالْأَمر يَقْتَضِي الْعَكْس على تَقْدِير تَسْلِيمه إِلَّا أننا نرَاك جاهدا كل الْجهد فِي مدح نَفسك وتفضيلها فَلَمَّا لم يمكنك ادِّعَاء النُّبُوَّة عدلت إِلَى ادِّعَاء رُتْبَة تفضل فِيهَا نَفسك من وَجه على جَمِيع الْأَنْبِيَاء حَتَّى على سيد الْأَوَّلين والآخرين وَلنْ تعدو قدرك وَلنْ تتجاوز طورك عِنْد من فهم تلبيسك من عباد الله الْمُؤمنِينَ
وَمن هَذَا الْقَبِيل مَا قَالَ بعد ذَلِك وَهَذَا الْعلم كَانَ علم شِيث
1 / 38
﵇ وروحه هُوَ الممد لكل من يتَكَلَّم فِي مثل هَذَا من الْأَرْوَاح بل من روحه تكون الْمَادَّة لجَمِيع الْأَرْوَاح وَإِن كَانَ لَا يعقل ذَلِك من نَفسه فِي زمَان تركيب جسده العنصري إِلَى آخر مَا ذكر
أَقُول هَذَا مَعَ كَونه كذبا وخيالا لَا حَقِيقَة لَهُ فِيهِ تورية وإيهام أَنه يُرِيد بالختم ختم النُّبُوَّة
وَلَكِن ظَاهر دينه من مدح نَفسه وتفضيلها أَن مُرَاده ختم الْولَايَة يَعْنِي نَفسه
فَتَأمل وأنصف وَاعْلَم أَن دَعْوَاهُ ختمية الْولَايَة لما أخذت بخناق الحمقى من أَتْبَاعه الَّذين ألقوا إِلَيْهِ قياد التَّصْدِيق والإذعان لدعاويه لم يبْق لَهُم مجَال وَلَا طَرِيق لادعاء الْولَايَة إِلَّا أَن خصصوا دَعْوَاهُ بِالْولَايَةِ المحمدية فَقَالُوا هُوَ ختم الْولَايَة المحمدية دون غَيرهَا من الموسوية والعيسوية وَنَحْوهمَا وَأَنت ترى أَن كَلَامه وَاقع على الْحَائِط الْمَذْكُور فِي الحَدِيث الَّذِي ذكره النَّبِي ﷺ وَآله وَسلم وَهُوَ حَائِط النُّبُوَّة
وَمَفْهُومه أَن كل نَبِي بِمَنْزِلَة لبنة حَتَّى كَانَ ﷺ مَوضِع اللبنة الْأَخِيرَة الَّتِي كَانَ الْحَائِط نَاقِصا مِنْهَا
وَأَن هَذَا الشَّخْص ادّعى مَا ذكره وَأَنه انطبع مَوضِع اللبنتين وَلم يبْق فِي الْحَائِط مَوضِع
وَلم يذكر هُوَ وَلَا غَيره أَن ثمَّ حيطانا أُخْرَى فذممهم بَاطِلَة بعد مَا أقرُّوا لَهُ بِصِحَّة دَعْوَاهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخ شرف الدّين ابْن الْمقري فِي قصيدته
1 / 39
(فَلَا يدعوا من صدقوه ولَايَة ... وَقد ختمت فليؤخذوا بالأقادر)
وَأما من لم يصدقهُ وَعلم أَن دَعْوَاهُ كذب وخيال فَلم تلْزمهُ هَذِه الْعهْدَة
وَقد وجد بعده أَوْلِيَاء لَا يُحصونَ كَثْرَة
وَقَالَ الشَّيْخ زين الدّين الخوافي فِي وَصيته وَالَّذِي يَدعِي أَنِّي خَاتم الْولَايَة فَهُوَ دائر حوالي عَالم الشطح فخاتم النُّبُوَّة هُوَ مُحَمَّد رَسُول الله ﷺ وَخَاتم الْولَايَة هُوَ مُحَمَّد الْمهْدي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
ثمَّ قَالَ بعيد ذَلِك فَمَا فِي أحد من الله شَيْء وَمَا فِي أحد من سوى نَفسه شَيْء الخ
أَقُول هَذَا الْمَعْنى يكرره كثيرا
وَهُوَ قَاعِدَة من قَوَاعِده وقواعد طائفته
وَهُوَ يؤل إِلَى الشّرك مَعَ ادعائهم التَّوْحِيد ويناقض قَوْله تَعَالَى ﴿قل كل من عِنْد الله﴾ وَنَحْوهَا من الْآيَات وَالْأَحَادِيث
وَمِنْه مَا قَالَ بعد هَذَا فَمن عرف استعداده عرف قبُوله
وَمَا كل من
1 / 40
عرف قبُوله عرف استعداده إِلَّا بعد الْقبُول
وَإِن كَانَ يعرفهُ مُجملا إِلَّا أَن بعض أهل النّظر من أَصْحَاب الْعُقُول الضعيفة يرَوْنَ أَن الله تَعَالَى لما ثَبت عِنْدهم أَنه فعال لما يَشَاء جوزوا على الله تَعَالَى مَا يُنَاقض الْحِكْمَة وَمَا هُوَ الْأَمر عَلَيْهِ فِي نَفسه إِلَى آخر مَا قَالَ
أَقُول هَذَا طعن فِي أهل السّنة وافتراء عَلَيْهِم أَنهم جوزوا على الله تَعَالَى سُبْحَانَهُ فعل مَا يُنَاقض الْحِكْمَة لقَولهم بِأَن الله تَعَالَى فعال لما يَشَاء وَأَنه مخترع الْأَشْيَاء كَمَا أَرَادَ لما أَرَادَ وَلَيْسَ للأشياء دخل وَلَا اقْتِضَاء لما وجدت عَلَيْهِ من الْأَحْوَال الْمُخْتَلفَة والمتفقة
بل ذَلِك بمحض إِرَادَته ﷾ وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُم لَا يلْزمهُم من ذَلِك تَجْوِيز فعل مَا يُنَاقض الْحِكْمَة عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بل هم الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ ﷾ حَكِيم
وَأَن أَفعاله جَمِيعًا على مُقْتَضى الْحِكْمَة وَإِن لم تدركها عقولنا فِي بعض الْأَشْيَاء وهم الموحدون الْقَائِلُونَ لَا تَأْثِير فِي الْحَقِيقَة لغير فعل الله ﷾ فِي شَيْء من الموجودات
على أَن الإستعداد ومعرفته لَا يُنَافِي الْإِسْنَاد إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَإِن الاستعداد أَيْضا بخلقه تَعَالَى
وَقد صرح بِهِ هُوَ نَفسه فِي الْكَلِمَة العزيرية حَيْثُ قَالَ إِن الله تَعَالَى أعْطى كل شَيْء خلقه وَلم يعطك هَذَا الاستعداد الْخَاص فَمَا هُوَ خلقك وَلَو كَانَ خلقك لأعطاكه الْحق الَّذِي أخبر أَنه أعْطى كل شَيْء خلقه قَالَ فِي الْكَلِمَة النوحية اعْلَم أَن التَّنْزِيه عِنْد أهل الْحَقَائِق فِي الجناب الإلهي عين
1 / 41
التَّحْدِيد وَالتَّقْيِيد
فالمنزه إِمَّا جَاهِل وَإِمَّا صَاحب سوء أدب
وَلَكِن إِذا أطلقاه وَقَالا بِهِ فالقائل بالشرائع الْمُؤمن إِذا نزه ووقف عِنْد التَّنْزِيه وَلم ير غير ذَلِك فقد أَسَاءَ الْأَدَب وأكذب الْحق وَالرسل صلوَات الله تَعَالَى عَلَيْهِم وَهُوَ لَا يشْعر ويتخيل أَنه فِي الْحَاصِل وَهُوَ فِي الْغَايَة
وَهُوَ كمن آمن بِبَعْض وَكفر بِبَعْض إِلَى آخر مَا ذكر
أَقُول الله تَعَالَى أعلم بِالَّذِي أَسَاءَ الْأَدَب فِي حَقه وَكذبه وَكذب رَسُوله وشرائعه
وَمن يتشبث بالمتشابه الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ ﴿فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ﴾ وَقَالَ النَّبِي ﷺ لعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (فَإِذا رَأَيْت الَّذين يتبعُون مَا تشابه مِنْهُ فَأُولَئِك الَّذين سمى الله فاحذروهم)
ثمَّ نقُول لهَذَا الملبس الضال إِنَّك تعلم أَن الْكَلَام لَهُ حَقِيقَة ومجاز وصريح وكناية وَأَن حمل الْكَلَام على الْمجَاز أَو الْكِنَايَة عِنْد نصب الْقَرَائِن الحالية أَو القالية أَو الْعَقْلِيَّة لَيْسَ بإكذاب وَلَا إساءة أدب
فَمن أَيْن حكمت على الْمُؤمن بذلك عِنْد ذَلِك بادعائك أَن الْعَالم بِصُورَة الْحق وهويته فَالله تَعَالَى يقابلك بِمَا ابتدعت أَنْت وطائفتك إِنَّه عَزِيز ذُو انتقام
ثمَّ قَالَ وَلذَلِك ربط النَّبِي ﷺ معرفَة الْحق بِمَعْرِفَة النَّفس
1 / 42
فَقَالَ من عرف نَفسه فقد عرف ربه
أَقُول هَذَا كذب وإلحاد فِي معنى الحَدِيث فِي تَقْدِير صِحَّته
وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَن من عرف نَفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم
وَمن عرفهَا بالفناء عرفه بِالْبَقَاءِ
وَمن عرفهَا بِالْعَجزِ عرفه بِالْقُدْرَةِ
إِلَى آخر مَا تتصف النَّفس مِمَّا هُوَ محَال فِي جَانب الْحق
وَقيل إِنَّه تَعْلِيق محَال بمحال فَإِن معرفَة هوية النَّفس وحقيقتها محَال
وَكَذَلِكَ معرفَة هويته تَعَالَى
على أَن أَئِمَّة الحَدِيث لم يثبتوه حَدِيثا
وَإِنَّمَا يحْكى عَن ابْن معَاذ الرَّازِيّ
ثمَّ قَالَ ﴿سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق﴾ وَهُوَ مَا خرج عَنْك وَفِي أنفسهم وَهُوَ عَيْنك
﴿حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم﴾ أَي للناظرين ﴿أَنه الْحق﴾ من حَيْثُ أَنَّك صورته وَهُوَ روحك
فَأَنت لَهُ كالصورة الجسمية لَك
وَهُوَ لَك كالروح الْمُدبر لصورة جسمك أَقُول هَذَا إلحاد من جملَة الإلحادات فِي آيَات الله تَعَالَى
وَسَيَأْتِي كثير مثل هَذَا الْإِلْحَاد
وَقد قَالَ تَعَالَى ﴿إِن الَّذين يلحدون فِي آيَاتنَا لَا يخفون علينا أَفَمَن يلقى فِي النَّار خير أم من يَأْتِي آمنا يَوْم الْقِيَامَة﴾ وَمَعَ هَذَا يسند مثل
1 / 43
هَذَا إِلَى أَمر رَسُول الله ﷺ وإذنه فِي ذَلِك
ثمَّ قَالَ قَالَ الله تَعَالَى ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء﴾
فنزه ﴿وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾ فَشبه قَالَ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء﴾ فَشبه وثنى ﴿وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾ فنزه وأفرد
أَقُول هَذَا بِنَاء مِنْهُ على أَن اللَّام فِي السَّمِيع الْبَصِير للْجِنْس بِمُقْتَضى قَاعِدَته الخبيثة
وَإِنَّمَا هِيَ عِنْد أهل الْحق لكَمَال الْحَقِيقَة فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْكَامِل فِي أَوْصَافه الَّتِي وصف بهَا نَفسه مِمَّا يُوصف بهَا غَيره فَهِيَ فِي غَيره كلا شَيْء بنسبتها إِلَيْهِ
كَمَا أَن وجودهم كلا شَيْء بِالنِّسْبَةِ إِلَى وجوده حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ ﴿كل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه﴾
وَمرَاده بالتنزيه والتشبيه فِي كَلَامه الأول من حَيْثُ الْمَعْنى
وَفِي كَلَامه الثَّانِي من حَيْثُ اللَّفْظ حَيْثُ أثبت الْمثل فِي كمثله وأفرد بِإِدْخَال الْحصْر الْمُسْتَفَاد من اللَّام فِي السَّمِيع الْبَصِير وَهُوَ من الْإِلْحَاد
وَسَيَأْتِي لرده تَحْقِيق إِن شَاءَ الله تَعَالَى
ثمَّ قَالَ لَو أَن نوحًا جمع لِقَوْمِهِ بَين الدعوتين لأجابوه إِلَى آخر مَا قَالَ
أَقُول كَأَن نوحًا ﵇ كَانَ جَاهِلا بطرِيق الدعْوَة إِلَى الله تَعَالَى وعلمتها أَنْت أَيهَا الضال المضل وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته
فَالله تَعَالَى يجازيك على مَا قدحت فِي أنبيائه وَرُسُله الرَّاجِع إِلَى الْقدح فِيهِ بِمُقْتَضى الْآيَة الْمَذْكُورَة
1 / 44
ثمَّ قَالَ فَعلم الْعلمَاء بِاللَّه مَا أَشَارَ إِلَيْهِ نوح فِي حق قومه من الثَّنَاء عَلَيْهِم بِلِسَان الذَّم وَعلم أَنهم إِنَّمَا لم يجيبوا دَعوته لما فِيهَا من الْفرْقَان وَالْأَمر قُرْآن لَا فرقان إِلَخ
أَقُول انْظُر كَيفَ يمهد أعذار الْكفَّار ويمدحهم وَالله سُبْحَانَهُ قد مَلأ كتبه بذمهم ويسند ذَلِك إِلَى رَسُول الله ﷺ
ثمَّ قَالَ وَلِهَذَا مَا اخْتصَّ بِالْقُرْآنِ إِلَّا مُحَمَّد ﷺ وَهَذِه الْأمة الَّتِي هِيَ خير أمة أخرجت للنَّاس ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء﴾
فَجمع الْأَمر فِي أَمر وَاحِد
فَلَو أَن نوحًا ﵇ يَأْتِي بِمثل هَذِه الْآيَة لفظا لأجابوه إِلَخ
فلأي شَيْء مَا أجابوا مُحَمَّدًا ﷺ وَقد أَتَى بهَا لفظا فَعلم أَن شرطيته هَذِه كذب وَالْحق شَرْطِيَّة الله تَعَالَى
قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَلَكِن أَكْثَرهم يجهلون﴾
قَالَ ثمَّ قَالَ عَن نَفسه أَنه دعاهم ليغفر لَهُم لَا ليكشف لَهُم وفهموا ذَلِك مِنْهُ ﷺ
لذَلِك جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم واستغشوا ثِيَابهمْ وَهَذِه كلهَا صُورَة السّتْر الَّتِي
1 / 45
دعاهم إِلَيْهَا فَأَجَابُوا دَعوته بِالْفِعْلِ لَا بلبيك
أَقُول أنظر إِلَى هَذَا الْإِلْحَاد الَّذِي هُوَ من هذيانات المجانين فَإِن الْمَغْفِرَة فِي الْآيَة إِنَّمَا هِيَ للذنوب كَمَا تقدم قبلهَا من قَوْله ﴿ليغفر لكم من ذنوبكم﴾ لَا لأجسادهم الَّتِي ستروها بثيابهم وَلَا للمعنى الَّذِي أَرَادَهُ هَذَا الضال بِنَاء على قَاعِدَته الخبيثة أَنه دعاهم ليستر عَنْهُم كَونهم صُورَة الْحق لَا لينكشف لَهُم ذَلِك على أَنه يُنَاقض مَا قَالَ بعد ذَلِك فَقَالَ نوح ﵇ فِي حكمته لِقَوْمِهِ ﴿يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا﴾ وَهِي المعارف الْعَقْلِيَّة فِي الْمعَانِي وَالنَّظَر الإعتباري ﴿ويمددكم بأموال﴾
أَي بِمَا يمِيل بكم إِلَيْهِ فَإِذا مَال بكم إِلَيْهِ رَأَيْتُمْ صورتكم فِيهِ إِلَى أخر مَا هذى
أَقُول هَذَا من جملَة الْإِلْحَاد الَّذِي هُوَ كهذيان المجانين وَإِلَّا فَأَيْنَ الْأَمْوَال من الْميل فَإِن الأول واوي وَالثَّانِي يائي وَغير ذَلِك أظهر فِي الهذيان
وَكَأن الْقُرْآن نزل على اصطلاحاتهم الخبيثة وَلم ينزل على الموضوعات الْعَرَبيَّة الَّتِي يفهمها الْقَوْم الْمَبْعُوث إِلَيْهِم وَقَالَ وَالْأَمر مَوْقُوف إِلَخ يُقَال لَهُ فلأي شَيْء تتكلف هَذِه التكلفات الْبَارِدَة وتضيع زَمَانك بهَا فِي غير فَائِدَة
وَقَوله وَفِي نوح ﴿أَلا تَتَّخِذُوا من دوني وَكيلا﴾ خطأ
1 / 46
إِنَّمَا الْخطاب فِيهِ لبني إِسْرَائِيل لَا لقوم نوح)
ثمَّ قَالَ ﴿ومكروا مكرا كبارًا﴾
لِأَن الدعْوَة إِلَى الله تَعَالَى مكر بالمدعو لِأَنَّهُ مَا عدم من الْبِدَايَة فيدعى إِلَى الْغَايَة أدعوا إِلَى الله تَعَالَى فَهَذَا عين الْمَكْر ﴿على بَصِيرَة﴾ فنبه أَن الْأَمر لَهُ كُله فَأَجَابُوهُ مكرا كَمَا دعاهم
أَقُول انْظُر إِلَى هَذَا الْكفْر مَا أقبحه وَانْظُر إِلَى هَذَا الإجتراء مَا أخبثه وَهل هَذَا إِلَّا قصد إبِْطَال الشَّرَائِع وَانْظُر إِلَى هَذَا الهذيان فِي قَوْله لِأَنَّهُ مَا عدم من الْبِدَايَة فيدعى إِلَى الْغَايَة والدعوة إِنَّمَا هِيَ إِلَى عبَادَة الله تَعَالَى وتوحيده وَالْخُرُوج من الْكفْر والمعاصي لَا إِلَى ذَاته ﷾ حَتَّى يَتَأَتَّى على مذْهبه الْخَبيث أَن الْحق عين الْأَشْيَاء القَوْل بِأَنَّهُ مَا عدم من الْبِدَايَة إِلَخ
وَمثل هَذِه الْمقَالة فِي الضلال مَا ذكر النفري فِي موقف مَا يَبْدُو
حَيْثُ قَالَ فَرَأَيْت مَا ينزل إِلَى الأَرْض مكرا وَمَا يصعد مِنْهَا شركا قَالَ شَارِحه الْعَفِيف التلمساني فِي شَرحه من مَا
1 / 47
ينزل من السَّمَاء من الأصوار يَقْتَضِي الغيرية وَهِي مكر وَمَا يصعد هُوَ الْعَمَل بِمُقْتَضى ذَلِك الْمعِين وَهُوَ شرك لرؤية الْعَامِل أَنه صَاحب الْقُدْرَة فِي الْعَمَل وَأَنه هُوَ الْعَامِل حَقِيقَة وَهَذَا شرك
وَهَذَا الشّرك إِنَّمَا هُوَ مِمَّا ينزل لاقْتِضَائه الثنوية بقول قَالَ لكم انْتهى
فأجبته بِقَوْلِي إِن قَوْلكُم مكر وشرك شرك مِنْكُم على مُقْتَضى زعمكم حَيْثُ يلْزم مِنْهُ إِثْبَات ماكر وممكور بِهِ ومكر ومشرك ومشرك بِهِ وشرك بل جَمِيع قَوْلكُم قَالَ لي من هَذَا الْقَبِيل
فَأنْتم فِي الثنوية وتذمونها وَفِي الْحجاب وتذمونه
وقولكم لرؤية الْعَامِل إِلَخ
بَاطِل إِذْ لَيْسَ كل عَامل يرى أَنه هُوَ صَاحب الْقُدْرَة وَإِنَّمَا ذَلِك فِي بعض أهل الْبدع كالمعتزلة فالتعميم خطأ وافتراء
ثمَّ قَالَ فَقَالُوا فِي مَكْرهمْ (لَا تذرن ءالهتكم وَلَا تذرن ودا وَلَا سواعا وَلَا يَغُوث ويعوق ونسرا) فَإِنَّهُم إِذا تركوهم جهلوا من الْحق على قدر مَا تركُوا من هَؤُلَاءِ فَإِن للحق فِي كل معبود وَجها يعرفهُ من عرفه ويجهله من جَهله فِي المحمدين ﴿وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه﴾ أَي حكم
1 / 48
أَقُول هَذَا بِنَاء مِنْهُ على قَاعِدَته الخبيثة أَن الْعَالم صور الْحق وَهُوَ على تَقْدِير تَسْلِيمه أَيْضا خطأ فَاحش بَيَانه على ذَلِك التَّقْدِير أَن الْحق ﷾ أَمر أَن يعبد من حَيْثُ اطلاقه لتشتمل الْعِبَادَة جَمِيع الصُّور
وَنهى أَن يعبد مُقَيّدا بِبَعْض الصُّور لِأَن فِيهَا ترك مَا سوى ذَلِك الْبَعْض مِمَّا لَا يتناهى كَثْرَة
فَظهر أَن فَوت الْخَيْر الْكثير إِنَّمَا هُوَ فِي التقيد لَا فِي الْإِطْلَاق وَالله تَعَالَى هُوَ الْحَكِيم الْخَبِير فِيمَا أَمر وَنهى على لِسَان أنبيائه
ونوح وَغَيره من الرُّسُل ﵈ إِنَّمَا نهوا عَن عبَادَة الصُّور والأشخاص وَأمرُوا بِعبَادة الْحق من حَيْثُ هُوَ الْحق ﴿وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد﴾
وَقَوله أَي حكم إِن أَرَادَ الحكم بِمَعْنى الْأَمر فَمُسلم لَكِن لَا يُنَاسب مُرَاده مَا قبله وَمَا بعده وَإِن أَرَادَ الْقطع والجزم وَأَن لَا يَقع غَيره بِقَرِينَة مَا قبله وَمَا بعده فَهُوَ كذب إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لما صَحَّ قَوْله تَعَالَى ﴿أَمر أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه﴾ بل قضى بِمَعْنى أَمر لِئَلَّا يتناقض الْإِتْيَان
ثمَّ قَالَ فَمَا عبد غير الله فِي كل معبود أَقُول لَو كَانَ كَذَلِك لما نهى عَن عبَادَة غير الله تَعَالَى وَلما صدق قَوْله ﴿وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد﴾ فَتَأمل وَالله تَعَالَى الْهَادِي
وَمَا بعد ذَلِك ظَاهر على قَاعِدَته الخبيثة
1 / 49
وَقَوله ﴿وَبشر المخبتين﴾ الَّذين خبت نَار طبيعتهم إِلَخ خطأ لِأَن المخبتين من الإخبات لامه تَاء لَا من الخبو الَّذِي لامه وَاو كَمَا حرفه وبدله
ثمَّ قَالَ ﴿وَلَا تزد الظَّالِمين﴾ لأَنْفُسِهِمْ المصطفين الَّذين أورثوا الْكتاب أول الثَّلَاثَة فقدمه على المقتصد وَالسَّابِق إِلَى آخر مَا ألحد
أَقُول هَذَا من جملَة الْإِلْحَاد فِي آيَات الله تَعَالَى فَإِن المُرَاد بالظالمين فِي سُورَة نوح ﵇ غير المُرَاد بالظالم فِي سُورَة فاطر فَإِن الأول الْكَافِر وَالثَّانِي العَاصِي وتقديمه على المقتصد وَالسَّابِق لَيْسَ لتقدمه فِي الرُّتْبَة بل لمعنيين آخَرين لم يدركهما هَذَا الملحد أَو أدْرك وَلَكِن لبس كَمَا هِيَ عَادَته أَحدهمَا أَن لَا ييأس العَاصِي من الرَّحْمَة وَالْكَرم
وَالثَّانِي إبعاده عَن الْوَعْد ليخاف أَن يكون الضَّمِير فِيهِ مُخْتَصًّا بِالَّذِي يَلِيهِ وَهُوَ السَّابِق ﴿وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور﴾
وَقَوله صَاحب الطَّرِيق المستطيل مائل خَارج إِلَخ
كذب بل صَاحب الطَّرِيق المستطيل هُوَ المتوجه إِلَى مَا أَمر يه
وَصَاحب الْحَرَكَة الدورية سَعْيه غير موصل إِلَى مَقْصُود حائر كالحمار يدود بالرحى وَمَا بعد هَذَا أظهر من أَن يُنَبه عَلَيْهِ
بل يُقَال لَهُ جعلك الله تَعَالَى فِي تِلْكَ النَّار الَّتِي مدحتها ومدحت داخليها إِن لم يكن تَابَ قبل مَوته
1 / 50