ويمكن تقييم النزعة الفنية لدى نيوتن في تلك الفترة من خلال سلسلة من الملاحظات عن كتاب بت، وضعت داخل مفكرة كان قد اشتراها في عام 1659. تشهد هذه الملاحظات على اهتمام نيوتن بالجوانب العملية للرسم، وكذلك اهتمامه بإنتاج مجموعة كبيرة من الأحبار والطلاءات الملونة، سواء من الحيوانات، أو النباتات، والمعادن، أو من خلال مزج ألوان موجودة مسبقا. وبعد مرور ما يزيد عن عقد، ساهم آخر هذه الموضوعات في شهرته. ثمة إرشادات أخرى تتعلق بكيفية صنع طعم صيد السمك، وطرق مختلفة، ليست جميعها بالغة التعقيد، لصيد الطيور بإدخالها في حالة سكر. احتوى كتاب بت أيضا على وصفات لمراهم ودهانات عامة، دون نيوتن عددا منها. وبالفعل، من بين الأشياء القليلة التي تذكرها جون ويكينز فيما بعد - وهو رفيق غرفته لمدة عشرين عاما في كامبريدج - أن نيوتن كان غالبا ما يأخذ وصفة دوائية بشعة كان يصنعها بنفسه («بلسم لوكاتيلو») كواق من الأمراض. وقد جاءت بعض هذه الملاحظات من كتاب «السحر الرياضي» لجون ويلكنز، وهو عمل شهير قدم معلومات مشابهة لمعلومات بت، فيما كانت فقرات أخرى في المفكرة تتعلق بالطرق المختلفة لإحداث حركة مستديمة، وهو موضوع حاز اهتماما بالغا في العقود اللاحقة.
لم يقدم هذا الانغماس في عوالم براعته العملية نذرا لمستقبله العظيم فحسب، ولكنه قاد إليه مباشرة. وبالفعل، قدم ستوكلي وصفا رائعا لكيفية ارتباط ميول نيوتن المبكرة التي استحوذت عليه بانتصاراته اللاحقة. فقد أشار إلى أن براعة نيوتن المبكرة في استخدام الأدوات الميكانيكية، إلى جانب خبرته في الرسم والتصميم، كان لهما نفع بالغ لمهارته التجريبية «وأعدت له أساسا متينا لتطبيق ملكاته العقلية القوية عليه». كان نيوتن يملك كل السمات ليصبح فيلسوفا طبيعيا عظيما على نحو فريد، مثل «البصيرة النافذة»، و«الثبات الذي لا يقهر، والمثابرة في إيجاد حلوله»، و«قوة عقلية ضخمة في توسيع نطاق حججه [و] سلسلة استنتاجاته»، و«مهارة فذة في الجبر وما شابهه من طرق التنويت». ومثل جميع الأطفال، كان يميل للتقليد، ولكنه في رأي ستوكلي «ولد فيلسوفا في واقع الأمر. وكان للتعلم والمصادفة والكد دورهم في توضيح بعض الحقائق البسيطة والعامة أمام عينيه الثاقبتين»، وقد عمد تدريجيا إلى توسيع نطاق هذه الحقائق «حتى كشف عن اقتصاد الكون الأكبر».
طفل ورع
قدر ما كان مستغرقا في ابتكار آلاته، كان الصبي الريفي الموهوب يعاني تعاسة شديدة في شبابه. ففي أواخر مايو من عام 1662، وضع قائمة بأسلوب الاختزال بكل الخطايا التي ارتكبها في العقد السابق من حياته، وظل لفترة قصيرة يدون كل الأخطاء التي ارتكبها أثناء دراسته بكامبريدج. لقد كان مصطلح «متزمت» مصطلحا خاطئا تماما كوصف لعقيدة نيوتن الدينية، ولكن القيم الأخلاقية البروتستانتية المتطرفة المرتبطة بهذا المصطلح تصف على نحو دقيق الشخص الذي تبدى لنا بين فقرات المذكرات. فالكثير من هذه الخطايا غطت أنشطة كان يؤديها في يوم السبت («يوم الراحة») الذي يفترض فيه بالمسيحيين الأتقياء الورعين أن يلزموا الراحة. وفي الكثير من أيام الأحد خلال فترة خمسينيات القرن السابع عشر، كان نيوتن يقرأ كتابا تافها، ويأكل تفاحة في الكنيسة، ويصنع ريشة، وساعة، ومصيدة فئران، وبعض الحبال، وفي المساء يصنع الفطائر. وقد اعترف بأنه كان يثرثر ب «لغو فارغ» في يوم الرب، ومن ثم فلا غرابة في أنه أيضا كان يسمع العديد من العظات ويحفظها بلا اكتراث، فيما دون أيضا أنه قد فاته تماما الذهاب إلى الكنيسة في إحدى المناسبات. وفي بعض الأحيان، كان يكرس نفسه للتعلم وكسب المال أكثر من تكريسها لله، مفضلا «الأمور الدنيوية»، والحق أن الكثير من خطاياه تدل على فشله في العيش كإنسان ورع: «لم أكن أعيش وفقا لعقيدتي»، و«كنت أهمل الصلاة»، وهو ما جعله يصبح بعيدا عن الله، وفشل في حبه لذاته وفي «الاشتياق» لطقوس الرب.
كانت هناك أيضا بعض الوقائع المعتادة لأي مراهق في قريته. فكان يضع دبوسا في قبعة صبي آخر لكي «يوخزه»، وكان يرفض المجيء للمنزل حين تطلب منه والدته ذلك، وكذب على والدته وجدته بشأن امتلاكه لقوس ونشاب. وفي أوقات أخرى، كان «يتشاجر» مع الخدم. كذلك كانت جرائم الطعام بارزة: فكان يسرق ثمار الكرز من إدوارد ستورر، ابن زوجة كلارك، وكان يختلس ثمار البرقوق والسكر من صندوق طعام والدته. بل إنه اعترف بأنه كان يفرط في الطعام أثناء مرضه، وبالفعل كان أول ما كتبه في القائمة القصيرة للخطايا التي ارتكبها حين كان طالبا في كامبريدج تدور حول هذا الخطأ. ثمة تعليقات أخرى في القائمة الأولى تصف عناصر أكثر قتامة من نفسيته. فقد لكم إحدى شقيقاته، وضرب «كثيرين»، وأوسع آرثر ستورر - شقيق إدوارد - ضربا. والمعنى الدقيق لعبارة «لدي أفكار وكلمات وأفعال وأحلام قذرة» في قائمة نيوتن غير واضح، وكذلك الحال فيما يتعلق بأسفه لاستخدامه «وسائل غير مشروعة» لإخراج نفسه من حالة «الكرب والحزن» التي يمر بها. وهناك أيضا اشمئزاز حقيقي يظهر من خلال تذكره «لتمني الموت لنفسه وتمنيه للبعض»، ولعل أكثر هذه الذكريات بشاعة تلك الذكرى البعيدة حين هدد بحرق زوج والدته ووالدته ومنزلهما. كذلك جمع نيوتن قائمة بالكلمات الشائعة الواردة في كتاب فرانسيس جريجوري «إعادة ترتيب المسميات القصيرة» الصادر عام 1651 مرتبة أبجديا. فأضاف لمصطلحات مثل «أب»، و«زوجة»، و«أرملة» كلمات مثل «فاسق»، و«عاهرة» لم يكن لها وجود في كتاب جريجوري، وهي تعبيرات ربما تشير لرأيه في والدته وزوجها.
أعلن غضب نيوتن عن نفسه في مناح أخرى من حياته. فوفقا لكوندويت، الذي عرف نيوتن عن قرب، كان الاستياء والرغبة في المنافسة هما القوتان اللتان دفعتا نيوتن للتفوق على الجميع في بداية مشواره الأكاديمي. وغالبا ما كان نيوتن يروي له قصة عن أيامه الأولى في المدرسة الثانوية حين كان قابعا في مؤخرة الفصل، وهي قصة ربما ترتبط ب «اعترافه» بضرب آرثر ستورر. ففي أحد الأيام، تلقى ركلة في معدته وهو في طريقه إلى المدرسة، وبعد انتهاء الدروس اشتبك في فناء الكنيسة مع الشخص الذي اعتدى عليه. وعلى الرغم من أن نيوتن «لم يكن في قوة خصمه، فقد كان لديه روح وعزم أكثر منه بكثير لدرجة أنه ظل يوسعه ضربا إلى أن أعلن أنه لن يشتبك معه أكثر من ذلك». وفيما بعد، حثه ابن ناظر المدرسة على أن يدفع وجه خصمه للارتطام بجانب الكنيسة. بعد ذلك، كافح نيوتن من أجل التفوق على خصمه في التعلم، ولم يتوقف حتى تفوق عليه في الترتيب الدراسي، وبعناد لم يتوقف صعد ليصبح الأول على المدرسة.
كان لأنشطته الخارجة عن المنهج الدراسي تأثير عكسي على أدائه الدراسي، إلا أن قدرته كانت هائلة حتى إنه استطاع استئناف نشاطه الأكاديمي وتفوق على أقرانه كلما شاء. وقد أشار ستوكلي إلى أن «بعض الصبية الكسالى أحيانا ما كانوا يسبقونه شكليا، لكن هذا دائما ما كان يدفعه لمضاعفة جهوده ليتخطاهم». ويبدو أن ناظر المدرسة جون ستوكس، قد اكتشف موهبة نيوتن في مرحلة مبكرة، لكنه لم يستطع إبعاد الصبي عن مطارقه وأزاميله. غير أنه في النصف الثاني من عام 1659، قررت والدته إخراجه من المدرسة لإدارة ممتلكات الأسرة. وعلى الرغم من أنه قد وضع تحت رعاية موظف موثوق فيه، فإن هوسه ببناء السواقي وغير ذلك من النماذج، وقدرته على الغرق في بحور كتبه، جعلا من نيوتن شخصا غير مناسب تماما لهذه المهمة. فقد شردت الأغنام والماشية الذي كان من المفترض أن يعتني بها إلى الحقول المجاورة، وتوضح الوثائق أنه قد غرم لذلك في أكتوبر من العام نفسه. وكان بالكاد يتذكر تناول الطعام، وبحسب ستوكلي، كانت «الفلسفة تشغل كل أفكاره».
وعند هذه المرحلة، تبدأ القصص الخاصة بتطور نيوتن في تصويره كدارس روحاني زاهد، وليس صانعا موهوبا. وفيما بعد، أشارت أدلة مختلفة إلى أنه قد أصبح معروفا بسلوكه الساذج أو «عديم الحس» حين التحق بجامعة كامبريدج. ولكونه مديرا ميئوسا منه لشئون عائلته، كان يرشو الخادم للتصرف نيابة عنه، ووجد ملاذا علميا في العلية حيث كان يقيم بينما كان في المدرسة، ليغرق وسط كومة من المجلدات الطبية والعلمية التي تركت هناك. وفي مناسبات أخرى، كان يضطجع فحسب أسفل سياج من الشجيرات أو أسفل شجرة ويقرأ كتابا. وذات مرة، أفلت حصان نيوتن من لجامه، وسار لأميال دون وعي فيما كان مستغرقا في كتاب يقرؤه. وكانت والدته «في غاية الانزعاج من ولعه المبالغ فيه بالقراءة»، فيما كان العاملون يصفونه بأنه «صبي سخيف لن يصلح لأي شيء».
جاء طوق النجاة ممثلا في ستوكس، الذي أخبر حنا أن موهبة نيوتن الهائلة يجب ألا تدفن في «عمل ريفي بسيط». فقد رأى «المقدرة غير العادية للصبي، وأعجب بابتكاراته المدهشة، وبراعة يده، وكذلك ذكائه الرائع الذي فاق سنوات عمره القليلة»، وأخبر والدته أنه «سيصبح إنسانا فذا ورائعا للغاية». وعرض ستوكس أن يتركه يقيم بالمدرسة مجانا، وهو ما قد يعتبر عاملا أساسيا في موافقة حنا على السماح لابنها بالعودة إلى المدرسة الثانوية للاستعداد للالتحاق بالجامعة، ليعود إلى هناك في خريف عام 1660، ويتلقى دروسا إضافية في اللغة اللاتينية واليونانية. وفي يومه الأخير بالمدرسة ألقى ستوكس خطابا مؤثرا في وداعه زعم أنه أدمع عيون بقية المدرسة. وقد أشار ستوكلي إلى أن أيا من مثل هذه العواطف لم يراود العاملين الذين أعلنوا صراحة أنه «لا يليق لأي شيء سوى الجامعة».
ترينيتي
Unknown page