بخلاف ذلك، عانت نخب بريطانيا في العصر الفيكتوري في التعامل مع جوانب أصعب من حياة نيوتن وأعماله؛ لما كان معروفا عنه أيضا أنه خيميائي متفان ومهرطق متطرف. كذلك أظهرت أدلة لا تقبل الجدل أنه انتهج سلوكا ذميما نحو مجموعة من معاصريه. ومنذ ذلك الحين، ظل تفسير شخصيته ومواجهة مشكلة التوفيق بين الجوانب «العقلانية» و«غير العقلانية» من عمله بمنزلة تحد أمام المؤرخين. إضافة إلى ذلك، أن حقيقة أن الكثير من أوراقه البحثية المهمة لم تصبح متاحة للدراسة والفحص الجاد إلا في سبعينيات القرن العشرين تعني أنه لم يكن من الممكن تكوين صورة متوازنة لأعماله إلا في العقود القليلة الماضية.
وعلى الرغم مما كان معروفا منذ زمن؛ أن نيوتن كان لديه هذه الاهتمامات الشاذة فيما يبدو - والتي كان يدرك بلا شك أنها أهم من مساعيه الأكثر «احتراما» - فقد ظلت التراجم الذاتية الحديثة الشهيرة له تظهر تلك العناصر الشاذة وكأنها توصف لأول مرة. غير أن هذه الكتب لم تقدم رؤى جديدة، وكذلك لم تنهل من المواد المذهلة التي أصبحت متاحة عبر الإنترنت في السنوات القليلة الماضية. وتطلق معظم هذه الأعمال أيضا ادعاءات مبالغا فيها عن الروابط والصلات بين الجوانب المتعددة لنشاط نيوتن الفكري. وتهدف هذه المقدمة إلى تدارك هذه المشكلات مع الأخذ في الاعتبار المؤلفات العلمية الحديثة، والنسخ التي أتيحت مؤخرا عبر الإنترنت من المؤلفات والكتابات. والواقع أن نيوتن الذي يبرز من خلال تلك المصادر أغرب بكثير مما كان يبدو في التراجم الحديثة.
الفصل الأول
شخصية قومية
فقد سير إسحاق نيوتن وعيه في وقت متأخر من مساء السبت، وتوفي مباشرة بعد دقات الساعة الواحدة صباحا من يوم الإثنين الموافق العشرين من مارس عام 1727 عن عمر يناهز 84 عاما. كان يحضره لحظة الوفاة طبيبه ريتشارد ميد، الذي أخبر الفيلسوف الفرنسي الكبير فولتير فيما بعد أن نيوتن أخبره وهو على فراش الموت أنه لم يضاجع امرأة قط. وكان يقوم على رعاية نيوتن أيضا في ساعاته الأخيرة ابنة أخته غير الشقيقة كاثرين وزوجها جون كوندويت، الذي كان أشبه بمساعد شخصي لنيوتن في سنواته الأخيرة. وعلى الرغم من انشغاله وكثرة أعبائه، تولى كوندويت وحده تقريبا تنظيم حفل التأبين لهذا الرجل العظيم الذي عرفه عن قرب، ونجح نجاحا بطوليا في الإشراف على جمع كل المعلومات المهمة المتوافرة لدينا تقريبا فيما يتعلق بحياة نيوتن الخاصة. وكان مسئولا عن ترتيبات جنازة نيوتن في كنيسة ويستمنستر آبي في نهاية مارس من عام 1727، واتفق مع ألكسندر بوب لتأليف الكلمة التي نقشت على قبر نيوتن. وفي السنوات اللاحقة، كلف أعظم فناني العصر من البريطانيين والأجانب برسم عدد كبير من اللوحات ونحت التماثيل النصفية لبطله.
حاول كوندويت على مدار عدة سنوات أن يكتب «حياة» نيوتن على وجه الدقة، وإن لم يتمكن مطلقا من إتمام المهمة. كان قد سجل تفاصيل بعض الحوارات التي دارت بينه وبين نيوتن، ولكنه أرسل لعدد من الأشخاص ليرسلوا له ذكرياتهم معه من أجل الحصول على المزيد من التفاصيل عن أعمال نيوتن العلمية. وبعد وفاة نيوتن بأسبوع، كتب كوندويت إلى برنارد دي فونتنيل الفرنسي، السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم الملكية بباريس، عارضا عليه تقديم مادة يستطيع استخدامها في «رثائه» لنيوتن. فرأى كوندويت في ذلك فرصة لتحصين سمعة قريبه في الدولة التي كانت من أكثر الدول معارضة للاعتراف بتفوق نيوتن وتميزه في العلوم والرياضيات. ولم تسلم سمعة نيوتن من النيل منها في فرنسا حتى نهاية ثلاثينيات القرن الثامن عشر، وفي أعقاب وفاته، حرص كوندويت على أن يعي العلماء الفرنسيون وغيرهم من غير البريطانيين على ريادة نيوتن وأسبقيته في ابتكار علم التفاضل والتكامل، وهو شرف ظل معظم العلماء الفرنسيين ينسبونه للعالم الألماني متعدد المعارف جوتفريد لايبنتز. وعلى مدار صيف عام 1727، عكف كوندويت على كتابة «مذكرات» نيوتن، والتي أرسلها إلى فونتنيل في شهر يوليو.
شكل 1-1: تمثال كوندويت النصفي لنيوتن، تنفيذ جيه إم ريسبراك.
1
قدمت «مذكرات» نيوتن بقلم كوندويت سجلا تاريخيا واقعيا - وإن كان يشوبه التملق - لحياة نيوتن الفكرية والأخلاقية، ووصفت فيه حياته الأخلاقية بأنها «نقية وطاهرة فكرا، وقولا، وفعلا». فقد كان متواضعا إلى حد يثير الدهشة، وأظهر قدرا رائعا من الجود والعطاء، إلى جانب شفقة وعطف ووداعة وصلت إلى حد أنه غالبا ما كان يذرف الدموع عند سماع قصة حزينة. وكان عاشقا للحرية، ومحبا لحكم الملك جورج الأول الهانوفري، بيد أنه كان «يمقت ويبغض» الاضطهاد، وكانت الرحمة بالحيوان والإنسان هي «الموضوع الأثير الذي أحب التركيز عليه». وقد أدرج كوندويت بيانا عن تقدم نيوتن المبكر في كامبريدج، وأضاف رواية متحيزة لصراع الأسبقية مع لايبنتز؛ فلم يكن الأمر أن لايبنتز ليس أول من ابتكر علم التفاضل والتكامل فحسب، ولكنه أيضا «لم يستوعبه مطلقا بما يكفي لتطبيقه على نظام الكون، والذي كان الفائدة العظيمة والجليلة التي جناها منه سير إسحاق نيوتن».
ألقي «رثاء» فونتنيل على أعضاء الأكاديمية في نوفمبر عام 1727، وفيه قدم سردا جيدا لتقدم نيوتن العلمي وفي مجال الرياضيات، مقرا بأنه قدم جميع اكتشافاته العظيمة تقريبا في بداية العشرينيات من عمره. واختلف مع الكثير من المعتقدات الموجودة في كتاب «المبادئ الرياضية»، خاصة المعتقد الخاص بمفهوم «الجذب»، إلا أنه أفاض في الحديث عن أهميتها بوجه عام. وعلى الرغم من إدراك فونتنيل أن نيوتن كان يختلف مع الكثير من نظريات عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت، فقد أشار إلى أن كليهما حاول إقامة العلم على أسس رياضية، وأن كليهما كان نابغة في عصره ومنهجه. وسرعان ما ترجم الرثاء إلى الإنجليزية، ليصبح المصدر الغالب لجميع السير الذاتية المكتوبة باللغة الإنجليزية لما يزيد على قرن.
Unknown page