والقول نفسه ينطبق على «الذات» الإنسانية؛ فانظر إلى باطن نفسك تجد ما تلاحظه هناك حالات نفسية متلاحقة واحدة بعد أخرى، ولن تلاحظ بينها حالة يمكن أن تطلق عليها اسم «ذات» أو «عقل» أو «وعي» أو «روح» أو أي اسم آخر من هذه الأسماء التي نطلقها لنعني بها «جوهرا» أو «عنصرا» خفيا نفرض وجوده ليمسك هذه الحالات النفسية في «شخص» واحد أو «ذات» واحدة لها استمرار ودوام، فحالاتنا النفسية متتابعة لكنها منفرطة منفصلة كحبات العقد التي لا يمسكها خيط واحد، لكن الإنسان يميل إلى أن يجعل من نفسه «شخصا» واحدا امتد خلال الطفولة والشباب والكهولة، نعم إن مختلف الحالات تتعاوره وتطرأ عليه من صحة ومرض ووقوف ومشي وقعود وأكل وهضم وصحو ونعاس ... إلخ إلخ، لكنه يريد لنفسه أن يكون «ذاتا» واحدة مستمرة هي التي تطرأ عليها هذه الأحوال، أما هي فثابتة، وثباتها هذا هو الذي يخلع على الفرد ذاتيته، لكننا لو أخذنا بمبدأ هيوم في اكتساب المعرفة؛ ألفينا هذه «الذات» الثابتة وهما لا ضرورة لافتراضه؛ لأنه ليس مما تأثرت به الحواس.
الفصل الخامس
مصدر المعرفة عند العقليين
يقول أنصار المذهب العقلي ردا على ما يزعمه التجريبيون من أن المعرفة مصدرها الحواس: إن الحواس كثيرا ما تخدع، فكم مرة ترى العين ما يظنه الرائي رجلا وهو ليس برجل، وكم مرة رأى المسافر عبر الصحراء ما ظنه ماء وهو سراب؟ فإن كانت الحواس مصدر معارفنا، فهذه المعارف إذن يحتمل فيها الخطأ لاحتمال أن تكون الحواس قد نقلتها على صورة مالت بصاحبها نحو الخطأ في الحكم. هذا إلى أن المعرفة الآتية عن طريق الحواس تفقد الشرطين الأساسيين اللذين يجعلان المعرفة معرفة بمعنى الكلمة الصحيح، وهما الضرورة وصدق التعميم.
أما عن «الضرورة» فنقول إنه ليس بين المعلومات الآتية إلينا عن طريق الحواس ما يتحتم أن يكون على الصورة التي أتى بها ولا أن يكون على غيرها، فها أنا ذا أرى المصباح على المنضدة، فماذا كان يمنع أن يكون على أرض الغرفة أو على أحد المقاعد؟ فوجوده على المنضدة لا «ضرورة» فيه، إنما هكذا حدث، وكان يمكن أن يحدث شيء آخر. وكذلك تدلني الحواس على أن الماء يغلي إذا بلغت حرارته 100 درجة مئوية وكان على مستوى سطح البحر، لكن ماذا كان يمنع أن تكون طبيعة الماء غير ذلك بحيث يغلي إذا بلغت حرارته أقل من مائة أو أكثر من مائة؟ لم يكن يمنع ذلك ضرورة عقلية، وإنما جعلناها حقيقة؛ لأننا هكذا وجدناها فسجلنا ما وجدناه، ولو وجدنا غير ذلك لكان هو القانون الطبيعي الذي نسجله، لكن قارن ذلك بقولنا: «إذا كانت «أ» أكبر من «ب» و«ب» أكبر من «ج» كانت «أ» أكبر من «ج».» فليست هي بالحقيقة التي نقول عنها إنها هكذا حدثت، وكان يمكن لها أن تحدث على صورة أخرى؛ لأن صدقها «ضروري» لا يتوقف على تجاربنا الحسية، بل على عكس ذلك هي التي تهدينا في تجاربنا الحسية. هذه الحقيقة وأمثالها صادرة عن العقل لا عن الحواس، وما يصدر عن العقل صدقه ضروري محتوم، وأما ما يصدر عن الحواس فصدقه يدل عليه الإحصاء والمشاهدة؛ ولذلك فصدقه مرهون بالمشاهدة والإحصاء، وهذه قد تتغير نتائجها فيتغير صدق ما يترتب عليها. يدلك على ذلك أنك قد تراجع مشاهداتك وإحصاءاتك لتستوثق من دقة نتائجك، كأنما تقول لنفسك إن المشاهدات والإحصاءات قد تأتي بأي شيء، وما علي إلا تسجيل ما تأتي به، لكنك لا تراجع شيئا لتستوثق من صدق العبارة القائلة: (إذا كانت «أ» أكبر من «ب» و«ب» أكبر من «ج» كانت «أ» أكبر من «ج»)؛ لأنها من نوع الحقائق التي لا تخطئ مرة وتصيب مرة، بل هي صادقة دائما؛ أي صادقة بالضرورة.
وأما الصفة الثانية التي تنقص المعرفة الحسية والتي هي شرط للمعرفة بمعناها الصحيح (في رأي العقليين) فهي إمكان تعميم الحكم على أفراد النوع كله تعميما لا نشك في صدقه؛ فافرض مثلا أنك قد حللت ذرة من ذرات الماء فوجدتها مركبة من جزأين من الأيدروجين وجزء من الأوكسجين، وأردت أن تعمم هذا الحكم على كل ذرة ماء أينما كانت، فلن تستطيع ذلك وأنت معتمد على الحواس وحدها؛ لأنك في هذه الحالة إنما تحكم على ذرات مائية لم تشهدها عيناك، فأنت إذن بهذا الحكم العام تجاوز مصدر الحس. ولو وجدت في نفسك ما يبرر أن تطلق الحكم على ذرات الماء كلها، ما وقع في خبرتك الحسية منها وما لم يقع، فلن يكون هذا المبرر معتمدا على الحواس، بل لا بد أن يكون هنالك عامل آخر إلى جانب الحواس هو الذي يؤيدني في إطلاق الحكم على بقية أفراد النوع الذي خبرت بعض أفراده، وذلك العامل الآخر هو العقل.
فإذا قارنت بين التجريبيين والعقليين من حيث نوع المعرفة التي يعترفون بها؛ وجدت أنه بينما التجريبيون لا يقبلون إلا معرفة جاءت عن طريق الحواس، حتى إنهم ليعدون الفكرة التي لا يمكن ردها أو رد عناصرها إلى أصولها الأولى من انطباعات حسية فكرة باطلة، ترى العقليين لا يرفضون ما تجيء به الحواس من معلومات، غاية ما في الأمر أنها معلومات لا يقطع بيقينها؛ إذ تنقصها صفتا الضرورة والتعميم، وإذن فلا بد من مصدر آخر، هو الذي تركن إليه إذا أردنا معرفة صدقها، ضروري وشامل.
والنموذج الذي يتخذه العقليون مثلا للمعرفة في صورتها الكاملة هو نموذج الرياضة، فالقضية في الرياضة - مثل قولنا 2 + 2 = 4، أو أن زوايا المثلث تساوي قائمتين - صدقها محتوم، وهو صدق لا تغير منه الظروف. ولما كان التفكير في الرياضة يسير على منهج استنباطي، وهو المنهج الذي يبدأ شوطه بمقدمات مسلم بصحتها، ثم ينتزع منها نتائجها، ومن النتائج نتائجها، وهكذا، بحيث يتحتم أن تصدق هذه النتائج جميعا ما دامت المقدمات مسلما بصحتها؛ فقد أراد العقليون أن يكون هذا المنهج الاستنباطي هو منهج التفكير في كل ميادينه على السواء، لا فرق في ذلك بين علم وعلم، فما تسير عليه العلوم الرياضية يمكن أن تسير عليه العلوم الطبيعية كذلك، فنصل إلى مثل اليقين الذي تصل إليه العلوم الرياضية. وسنسوق إليك «ديكارت»
1
مثلا للعقليين ورأيهم في مصدر المعرفة.
Unknown page