غير أن حافظا كان من الذين يعملون دائما بقول القائل:
وتجلدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع
فلهذا لم يشأ أن يظهر لي بؤسه، مع أن شواهد الحال كانت تنم عليه، وبعد أن شرب القهوة غادرني يتسكع في مشيته مطرقا برأسه مفكرا في حيلة تنقذه من ورطة الإملاق.
وبعد يوم واحد فقط سمعت أن حافظا أنفق على إحدى الراقصات في قهوة النوفرة بشارع كلوت بك خمسين جنيها في جلسة واحدة. فتأمل أيها القارئ الكريم كم كان دهشي عظيما عند ذاك! إذ بينا كان حافظ مملقا لا يملك بارة إذا به قد ظهر فجأة وهو ينفق إنفاقا يعجز عنه الأغنياء المسرفون.
من أين أتى حافظ بالذهب الرنان؟ لا أدري ولا أحب أن أختلق الحوادث والأخبار، ولهذا أقتصر على ذكر ما أعلمه من التفاصيل التي وصلت إلي عن حادث احتياله على الراقصة المشار إليها من العارفين بمحاضر البوليس.
لما عرف حافظ راقصة قهوة النوفرة أراد أن يخدعها بأنه من أبناء الذوات الوارثين، فلم يخيب لها طلبا قط، فظنته عند ذاك غنيمة باردة، فأخذت تطلب زجاجات البيرة بالعشرات وحافظ يدفع الثمن عن طيبة خاطر، غير مظهر ضجرا أو مللا، باذلا كل جهده في إرضاء تلك التي وهمها أنه وقع في غرامها حتى الركب.
ولما رأت الراقصة منه هذه السهولة في الدفع، وذلك الكرم الحاتمي، رجته أن يشرفها في منزلها على أمل أن تحتال عليه؛ لأنه مهما أنفق في القهوة من المال لا ينالها منه إلا التفاخر على زميلاتها من الراقصات، وذلك، ولا ريب، لا يزين معصمها بسوار ذهبي، ولا رأسها بتاج من الماس. فلما سمع حافظ دعواها لم يرفضها، بل شكر لها لطفها وظرفها ومكارم أخلاقها، ثم وعدها أن يزورها بعد ظهر الغد.
ولما حانت ساعة العصر ارتدى حافظ ببدلة جميلة المنظر، حسنة التفصيل، غالية الثمن، فاستقبلته الراقصة مرحبة به.
ومن ثم طلب حافظ شرب كأس من الخمر؛ لأن المدام من مستلزمات الغرام في عرف الأكثرين، واللبيب تكفيه الإشارة، فسرعان ما جاءته بزجاجة من كونياك مارتيل ماركة
Unknown page