بينما كان محمد بن عبد الله بن طاهر في الحج رأى في الطواف جارية في نهاية الحسن فوقع حبها في قلبه، فعمل على أخذها له وعاد إلى حيث كان، فلما قدم مدينة دار السلام شغف بها شغفا شديدا وأخفى أمرها وما يجده خوفا من أمير المؤمنين المتوكل، وكان من شدة وجده بها يحتبس عندها أياما لا يظهر للناس في خلالها، ففطن إليه سويد بن أبي العالية صاحب البريد، وكان بينه وبين محمد منافرة لم يجد لها كيدا إلا أن كتب إلى المتوكل وهو نازل على أربعة فراسخ من بغداد كتابا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد يا أمير المؤمنين، فإن محمد بن عبد الله بن طاهر اشترى جارية حسناء لا يفارقها أبدا وقد اشتغل بها عن النظر في أمور الناس وعن التوقيع في دعاوى المظلومين، ولا يأمن أمير المؤمنين من خراب يصيب بغداد مع كثرة ما فيها من الغوغاء فتكون العائدة سببا لتعب سره».
ثم ختم الكتاب وسلمه إلى بعض المماليك فأوصله إليه، فلما قرأ المتوكل ذاك الكتاب نظر إلى نرجس الخادم وقال له: امض الساعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر وادخل إلى منزله بغتة من غير إذن وانظر إلى ما يصنع، ثم خذ منه جاريته فلانة وائت بها من غير تأخير، فحضر نرجس من ساعته ودخل على محمد بن طاهر دون أن يطلب الإذن، فلم يشعر محمد إلا وهو واقف أمامه، فتغير وجهه وامتقع لونه وفاضت عيناه وارتعدت فرائصه لعلمه أن نرجسا ما دخل عليه من غير إذن إلا وقد أضمر له السوء، فقال له: يا نرجس ما الذي أتي بك؟ قال: أمير المؤمنين أمرني أن آخذ جاريتك هذه، قال: يا نرجس هذا اليوم قد حضر شره وغاب خيره وقد ترى ما نحن فيه وأنا لا أخالف ما أمر به أمير المؤمنين، ثم أمر للخادم بكرسي فجلس عليه بعد أن امتنع ساعة، وقال: إن مثلي لا يجلس مع مثلك، ثم إن محمدا نظر إلى الجارية وبكى بكاء شديدا، وقال لها: غني لأتزود منك، فأخذت العود وغنت بصوت حزين:
لله من لمعذبين رماهما
بشماتة العذال والحساد
أما الرحيل فحين جد تحملت
مهج النفوس به من الأكباد
من لم يبت والبين يصدع شمله
لم يدر كيف تفتت الأكباد
ثم إنهما أعلنا بالبكاء والنحيب والشهيق فرحمهما الخادم ورق لهما حين عاين ما حل بهما، فقال: أيها الأمير إن رأيت أن أمضي وأدعكما على ما أنتما عليه وأتعلل عنكما لأمير المؤمنين فعلت، فقال: يا نرجس، من خلقه مثل أبي سويد كيف يمكنه التعلل ولكن ارفق بنا. فقالت الجارية: والله يا سيدي لا ملكني غيرك أبدا، ولئن دفعتني إليه لأقتلن نفسي، فقال لها محمد: لو كان غير أمير المؤمنين لكان في ذلك أوسع حيلة، ولقد وددت أن يأخذ أمير المؤمنين جميع ما أملك ويعزلني عن عملي ويبيعك لي ولكن هذا قضاء الله وقدره، ثم التفت إلى نرجس، وقال: لقد شاهدت مني ومن هذه الجارية ما شهد قلبك علينا بالمحبة والمودة والألفة، وليس يخفى عليك أن عمل المعروف يقي مصارع السوء ومثلك من يصنع المعروف مع مثلي، فخذها وامض بها إلى أمير المؤمنين وقل ما شئت مما يليق بمروءتك، ثم التفت إليها وقبلها وبكى وبكت وبكى نرجس ثم أخذها وخرج وهي تبكي وتخمش وجهها، ثم سار حتى دخل بها على أمير المؤمنين، فلما رآه قال: ما وراءك؟ قال: ورائي يا أمير المؤمنين كل بلية، ثم إنه جلس بين يديه وقص عليه حالهما ولم يخف شيئا، فقال المتوكل: كل هذا الوجد يجده محمد من هذه الجارية! فقال: يا أمير المؤمنين والذي خفي أكثر مما ظهر وما أظنه يعيش بعدها، فرق له قلب المتوكل، وقال: يا نرجس، ارجع بها إليه الساعة من وقتك هذا وأدركه قبل أن تزهق روحه وقد أمرت له بمائة ألف درهم ولها مع ذلك مثله وجعلت أمر أبي سويد إليه يصنع به ما يشاء، ثم كتب له توقيعا بذلك دفعه إلى نرجس، فرجع الخادم بالجارية والتوقيع ولم يتمهل حتى دخل عليه فوجده عريانا يتقلب على الثرى من شدة الكرب والوجد وقد أحدقت به الجواري يروحنه بالمراوح، فقال: أبشر يا محمد، إن أمير المؤمنين قد رد جاريتك عليك من غير أن يوقع نظره عليها، وقد حكمك في أبي سويد، ثم ناوله التوقيع بذلك ودخلت الجارية عليه، فوثب إليها وعانقها وقبلها ساعة ثم خرج فجلس على باب داره وبعث إلى أبي سويد، فلما حضر دفع إليه التوقيع، فلما قرأه قال: أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وإن تهدم مني ركنا أنت شيدته وتصنع معي جميلا فمثلي من هفا ومثلك من عفا، ثم قام وقبل الأرض بين يديه، فقال له محمد: لا أبدل نعمة الله كفرا ثم أمر له بخمسين ألف درهم، فقالت الجارية: وأنا أيضا أهب له مثل هذه الهبة مما وهبه لي أمير المؤمنين، ثم ذهب أبو سويد وبقيا بعد ذلك في أطيب عيش وأحسن حال.
عمر بن عبد العزيز وامرأته
Unknown page