أترى الزمان يسرنا بتلاق
ويضم مشتاقا إلى مشتاق
فتبسمت، فما رأيت أحسن من فمها ولا أحلى من ثغرها، وأجابتني بسرعة من غير توقف بهذا البيت:
ما للزمان وللتحكم بيننا
أنت الزمان فسرنا بتلاق
بدور بنت الجوهري وجبير الشيباني
قال علي بن منصور الخليعي: بينما كنت سائرا في البصرة إذا بباب كبير له حلقتان من النحاس فوقفت أتفرج على هذا المكان، فينما أنا واقف إذ سمعت صوت أنين ناشئ عن قلب حزين، فرفعت الستر قليلا قليلا وإذا أنا بجارية بيضاء كأنها البدر إذ بدر في ليلة أربعة عشر، بحاجبين مقرونين، وجفنين ناعسين، وشفتين رقيقتين وفم كأنه خاتم سليمان، وقد حازت أنواع الجمال بما يفتن النساء والرجال، فلما رأتني ناظرا إليها من خلال الستارة مالت إلى جارية لها، وقالت: انظري من الباب. فقامت الجارية وأتت إلي وقالت: ما سبب وقوفك هنا. قلت: عطش ألم بي فأمرت سيدتها فجاءت بكوز من الماء، فجعلت أشرب وأطيل في شربي وأنا أسارق النظر إليها حتى طال وقوفي. ثم رددت إليها الكوز ودمت صامتا لا أتكلم، فقالت سيدتها: وما سبب هذا الوقوف؟ قلت: إنني أتفكر بصحاب هذا الدار كيف تقلبت عليه الأيام، وقد كان ذا مال جزيل، فهل خلف أولادا؟ قالت: نعم. قلت: فإني أرى تغيرا في وجهك، فأخبريني بسببه فقالت: إن كنت من أهل الأسرار كشفنا لك سرنا فأخبرني ما هو اسمك؟ فقلت لها: أنا علي بن منصور الخليعي نديم أمير المؤمنين هارون الرشيد. فلما سمعت باسمي نزلت من على كرسيها وسلمت علي وقالت: مرحبا بك يا ابن منصور الآن أخبرك بحالي، وأستأمنك على سري، أنا عاشقة مفارقة. فقلت لها: يا سيدتي أنت مليحة، وما تعشقين إلا كل مليح، فمن الذي تعشقينه؟ قالت: أعشق جبير بن عمير الشيباني أمير بني شيبان، وقد وصفت لي شابا لم يكن بالبصرة أحسن منه. فقلت لها: يا سيدتي، هل جرى بينكما مواصلة أو مراسلة؟ قالت: نعم. إلا أنه عشقنا باللسان لا بالقلب والجنان. فقلت لها: يا سيدتي، وما سبب الفراق بينكما؟ قالت: سببه أني كنت يوما جالسة وجاريتي هذه تسرح شعري، فلما فرغت جدلت ذوائبي فأعجبها حسني وجمالي فطأطأت علي وقبلت خدي. وكان في ذلك الوقت داخلا علي غفلة، فرأى ذلك وعاد من وقته مغضبا عازما على دوام البين وأنشد هذين البيتين:
إذا كان لي فيمن أحب مشارك
تركت الذي أهوى وعشت وحيدا
فلا خير في المعشوق إن كان في الهوى
Unknown page