Al-Naṣrāniyya wa-ādābihā bayna ʿarab al-jāhiliyya
النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية
Genres
إننا طالما أمعنا النظر في هذا الأمر واستقصينا البحث فيه فلم نجد له شرحًا مقبولًا إلا بأن نقول أن النصرانية كانت أصل تلك النهضة ولأنها لم تبلغ في جزيرة العرب نفوذها وعزها إلا في القرن السادس وأن كان دخولها إلى الجزيرة سبق ذلك العهد فكذلك بلغت النهضة الأدبية معها إلى أوج عزها في ذلك الجيل.
١ً وكان من نتائج توغل النصرانية في جهات العرب إنها سولت لهم طرقًا للكتابة التي لا تستطيع الآداب أن تنتشر وتترقى دونها. فاستمد العرب فن الكتابة من نصارى العراق والنبط والحبش. تلك المصادر الثلثة للأقلام العربية الأولى أعني القلم النسخي والمسند والكوفي. وقد أثبتنا ذلك في باب خاص عليك بمراجعته (ص ١٥٢ ١٥٨) . وناهيك به على ما كان للنصرانية من السهم الافوز في حفظ المآثر الأدبية ونشرها. وقد وقع ذلك في القرن السادس.
٢ً وكان للنصرانية فضل آخر على ترقية الآداب بين العرب أن أربابها مع نشر الكتابة نشروا أيضًا التعليم إما بفتح المدارس للناشئة وإما بالتعليم الخاص وقد جمعنا في فصل سابق (ص ٣٨٩ ٣٩١) بعض الشواهد المثبتة لقولنا منها المدارس المتعددة المنشأة في العراق في أديرة الرهبان وغيرها كان يحضرها أحداث العرب كما ذكرنا هناك عن المرقشين الأكبر والأصغر وعن عدي بن زيد وعن ورقة ابن نوفل والبراق ابن روحان. ونوهنا أيضًا بذكر معلمين نصارى في مكة والمدينة وغيرهما فليت شعري أيحتاج إلى برهان أعظم لبيان تأثير النصرانية في آداب الجاهلية وشعرائها المبرزين في ذلك القرن السادس؟ ٣ً ومن الأدلة المقنعة على أن النصرانية هي التي بعثت الشعر العربي وأخرجته من مهده في القرن السادس أن ذاك الشعر كان ظهوره أولًا بين القبائل النصرانية. فإن استفتينا على ذلك أقدم الكتبة كابن قتيبة في كتابيه المعارف وفي الشعر والشعراء وابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء (ص ٢٢) وابن الرشيق القيرواني في العمدة (ص ٥٤) ثم السيوطي في المزهر (٢: ٢٣٨) أجابونا باتفاق الأصوات أن الشعر العربي كان أولًا في ربيعة. وقد أثبتنا شيوع النصرانية في ربيعة كما أجمع عليه الرواة كابن قتيبة (في المعارف ص ٣٠٥) وابن رسته في الاعلاق النفسية (ص ٢١٧) وغيرهما (أرجع الصفحة ١٣٠) . ومن ربيعة كانت تلك القبائل العظيمة التي كادت تستولي على جزيرة العرب كبكر وتغلب ابني وائل وكبني امرئ القيس وشيبان وعجل وحنيفة وقد تحققنا نصرانيتها كلها استنادًا إلى معظم الكتبة. فالنتيجة بعد ذلك ظاهرة وهي نصرانية الشعراء المنتمين إليها الذين سبقوا غيرهم زمنًا كما سبقوهم إلى تقصيد القصائد. قال الفرزدق يذكر المهلهل التغلبي:
ومهلهلُ الشعراءِ ذاك الأوَّلُ
٤ً ولنا بينة أخرى على نصرانية هؤلاء الشعراء الأولين نعني بها منازلهم التي كانوا يسكنونها مع قبائلهم فإن قبائل ربيعة كانت تحتل مفاوز ما بين النهرين من الفرات شرقي حلب وجنوبها الموصل والعراق ولا يزال يطلق على قسم كبير منها اسم ديار بكر وديار ربيعة. وكانت هناك النصرانية راسخة القدم منذ القرن الرابع للمسيح فتنسك فيها الحبساء بعدد وافر كصعيد مصر وتشيدت فيها أديرة ذكر منها كتبة السريان والعرب ما ينيف على المئة عدًا. فما لبثت تلك القبائل العربية أن جحدت الشرك ودانت بدين المسيح وقد روينا في القسم التاريخي كثيرًا من أخبارها والشواهد على تنصرها نقلناها عن أصدق الرواة من يونان ولاتين وسريان بينهم كتبة كانوا معاصرين للأمور التي يخبرون بها وشهود عيانيون لما يدونونه في بطون التواريخ فتارةً يذكرون كنائسهم وتارةً أساقفتهم الساكنين بينهم في الحضر والمدر وتحت الخيم وحينًا مزاراتهم الدينية إلى غير ذلك من الدلائل الصريحة على إيمانهم.
فلما ظهر الإسلام أقر كتبتهم بما تحققوه من تنصر تلك القبائل وقد دونا ما أعلنوا به حيث قالوا "أن من قبائل العرب المتنصرة بكر وتغلب ولخم وبهراء وتنوخ وجذام" وكلهم من ربيعة أو من القبائل اليمنية المحالفة لها.
1 / 194