بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله الذي أعلى مقام أهل الأدب، واستخرج من بحار خواطرهم الخاطرة ما يقضي لهم بالعجب، وجمع بهم شتات الفوائد، وأمدهم بكلمات يقف عندها رائد العوائد، ونفى عن كامل فضلهم قول ليت ولكن، وحرك بما يبدونه من المطرب والمرقص كل ساكن، والصلاة والسلام على نبيه الفائض على أقواله صوب الصواب، وعلى آله وأصحابه الذين بأساليب آدابهم الحسنة تُسلب الألباب.
فهذه ثلاثون فصلًا، طالت فروعًا وطابت أصلًا، تشتمل على ألفاظ أرق من الشمول، ومعان بعيون عقائلها تفتن العقول، وأنشأتها بعد الإاقة من نشوة الصبا وسميتها حيث ملكت زمام اللطف نسيم الصبا وأودعتها
1 / 2
أبياتًا لغيري على وجه التضمين، محليًا جيد منثورها بالمنظوم من عقدها الثمين، منبهًا عليها بالحمرة، مظهرًا ما لها على مأمور قولي من الإمرة، والله يهدي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الأول: في السماء وزينتها
أيقظتني ليلة دواعي الهموم، فنظرت نظرة في النجوم فإذا السماء كأنها روضة مزهرة، أو صرح كنَّسُ جواريه مسفرة، أو غدير تطفو عليه الفواقع، أو بنفسج نور أقاحه لامع، أو مسح ألقي عليه دررُ غواص، أو ستر به لعين كل نجم وصواص، أو جمر في خلال رماد، أو كما قال من أجاد:
بساط زمرد نثرت عليه ... دنانير تخالطها دراهم
ونهر المجرة يجري في سندسها، ويسري ليسقي ذابل نرجسها، وياله من نهر صفا ماؤه، وعقد على الأفق لواؤه، ينقلب القلب إليه، ويقف طِرف الطرف عليه، ويقبل نحوه الدبران، وينصب على شطه الميزان، ويحوم حوله النسران، ويعوم فيه الحوت والسرطان
والثريا كأكرة أو كجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح
1 / 3
أو باقة من نرجس، أو كأس يدار في المجلس، أو شمع يتوقد، أو شمس من عسجد، أو شذر منضود، أو كرم أو عنقود، أو عقد لؤلؤ حسن الاتساق، أو أقراط خَود ترتعد فرقًا من الفراق:
وسهيل كوجنة الحب في اللو ... ن وقلب المحب في الخفقان
أو كمصباح تلعب به أيدي الرياح، أوظامئ يريد أن يرد، أو فارس في حمي الحمى مجتهد، أو مُشوق يتبع الآثار، أو غريب لا يزور ولا يزار، أو غريق يدعي قوة السباحة، أو ماجد أنف من الذل فألف السباحة، أو مغاضب يدعى فلا يجيب، أو محب يغض الطرف ويفتحه خوف الرقيب، والجوزاء النيرة كالشجرة المنورة:
كأنها منطقة من ذهب ... قد عقدت على قباء أزرق
والفرقدان الهاديان المرشدان:
كأنهما إلفان قال كلاهما ... لشخص أخيه: قل فإني سامع
والذراع يذرع شقة الأفق، والجبهة تسجد على مفارق الطرق، والعيوق يعوق عن السير إذا سار، والعوا أعينها نشاوى قد تغشاها خمار، والسماك معتقل رمحه، والنثرة منتظمة كالسُبحة، والنعائم تحدوها النعامى، وزهرة الزهرة تضيء بين الخزامى،
1 / 4
وبهرام يُخجل البهرمان، والإكليل ليس يكل من مسايرة الأظعان، والمقدم لا يتأخر عن الإعناق والإيجاف، والصرفة قد همت مع العسكر بالانصراف:
تمر بواديًا ليلًا وتطوى ... نهارًا مثل ما طوي الإزار
فكم بصقالها صدي البرايا ... وما يصدى لها أبدًا غرار
فبينما أنا أسرح في درر الدراري نظري، وأروّض في رياضها جواد فكري. وأقدس من هي مسخرات بأمره، وأنزه من هدى خلقه بها في بره وبحره، إذ هب نسيم السحر يروي عن أهل نجد أطيب الخبر، فعطر الكون بعرفه، وملك الرق برقته ولطفه، وأهدى الروح إلى الأرواح، وأطرب السمع بأحاديثه الصحاح:
فهو حياة لكل حي ... كأن أنفاسه نفوس
فاستبشرت بوروده، وحصلت على الفائدة من وفوده، وسرّ بمناجاته سرّي، وقلت له والدموع تجري:
أعد ذكر من حل الغضا يا محدثي ... وإن أضرموه بالأضالع والصدر
ولا تنس سكان العقيق وإن هم ... على وجنتي أجرَوه في مدة الهجر
1 / 5
فلما أتمت الإنشاء، والانشاد وشرعت في طلب الإسعاف والإسعاد؛ تبسم الفجر ضاحكًا من شرقه، ونصب أعلامه على منازل أفقه، فانطوى نشر الليل، وكف من غمره الذيل، وارتفعت الحجب، وتأججت نار الشهب، واقتنص بازي الضوء غراب الظلام، وفضّ كافور النور عن الغسق مسك الختام:
وشردّ الصبح عنا الليل فاتضحت ... سطوره البيض في ألواحه السود
وفلت جيوش الدجا، وحرك النهار منه ما سجا، وجنح جنحه إلى الرحيل، وتلا لسان حال التحويل: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾
الفصل الثاني: في الشمس والقمر
بكرت يومًا بعد أداء الفرض، أتفكر في خلق السموات والأرض، فلمحت المشرق بالنظر، وإذا قرن الغزالة قد ظهر، كأنه جذوة نار، أو قطعة من دينار، أو كأس سُتر بعضه بالحباب، أو حسناء غطت وجهها بنقاب، ثم كشفت أستارها، وألقت على الأفق أنوارها، وبرزت كأنها كرة في ميدان، أو مجَنّ دولاب ضمخ بالزعفران، أو مرآة لم
1 / 6
تصقل ولم تطرق، أو وجه المليحة في خمار أزرق، أو سبيكة زجاج منتفخة الجوانب، أو بُودقة يحرك فيها ذهب ذائب.
وكأنها عند انبساط شعاعها ... تبر يذوب على فروع المشرق
فقلت أهلًا بالجارية، التي في طلعتها ما يغني عن الجارية، والعين التي تغار منها العين، والجونة التي وضح منها الجبين، والسراج الوهاج التي تبرجت بها الأبراج، أنت المخصوصة بالشرف والرفعة، أنت واسطة عقد الكواكب السبعة، أنت للحكمة برهان، وللفلك معيار وميزان، أنت الناطقة في صمتها، التي قصر البليغ عن وصفها ونعتها، أنت ملك مقدم، أنت النير الأعظم، أنت يوح التي تغدو في مصالح العالم وتروح، أنت ذكاء التي ذكت نارها، أنت الضحى التي علا منارها، أنت الشمس، التي بها تعرف الأوقات الخمس، بك ينشر الظل ويطوى، ويشتد النبات بعد ضعفه ويقوى، ويستدل على طريق الصواب، ويعلم عدد السنين والحساب، لما سفرت رافلة في الحلل المعصفرة، حيت آية الليل وجعلت آية النهار مبصرة، وناهيك بها منزلة، وحسبك أن صفاتك في الكتاب منزلة، ثم تمشت على بساطها وخطرت
1 / 7
في وشيها ورياطها، وسبحت في فلكها مرشدة إلى الحقائق، مظهرة أسرار الساعات والدرج والدقائق.
تسمو إلى كبد السماء كأنها ... تبغي هناك دفاع أمر معضل
واستمرت سائرة يحدوها مر النسيم ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾.
فلم يزل فكري يصاحبها، وطرفي يرعاها ويراقبها:
حتى إذا بلغت إلى حيث انتهت ... وقفت كوقفة سائلٍ عن منزل
ثم انثنت تبغي الخدورَ كأنها ... طيرٌ هفا لمخافة من أجدل
فلما حجبت عن العيون شخصها، وخطف المغرب من يد المشرق قرصها، واكتحلت جفون الأفق بالنار، وطرد زنجي الليل رومي النهار، بزغ الهلال، بأمر ذي الجلال، كأنه قوس
موتور، أو زورق منحدر في بحر الدَيجور، أو شطرُ سِوار، أو منجلٌ معدّ لحصاد الأعمار، أو
خنجر مرهفُ النصلَين، أو نونٌ مرسومة الشأفة: الأصل من لُجين، شفة كأس مائلة، أو مخلب
عقاب صائلة، أو قطعة من قيد، أو فخ نصب للصيد، أو حرف جيم، أو عرجون قديم، أو حاجب شيخ أدركه الشمط،
1 / 8
أو نعل من حافر أدهم الدجا سقط، أو ذباب سيف خرج من جفنه، أو راكع يعبد من لا يحدث أمر إلا بإذنه. وفي معناه من قصيدة
وترى الهلال يلوح في أفق السما ... يبدو كقوس بالمنى يرميني
أو شبه فخ أو كدملج غادة ... وكجانب المراّة العرجون
وجبين حب بالعمامة قد زها ... وكوجه خود بالنقاب مصون
وكتاب فيل أو قلامة أنمل ... وكزورق وكحاجب مقرون
أو كالسوار أزيل منه البعض أو ... قربوس سرج مذهب أو نون
وكشأفة الكأس المخبأ بعضه ... ضمن الشفاه ومنجل مسنون
هو منجل الأعمار للحصد الذي ... يُفني أولي التزيين والتحسين
وإذا مضى سبع تراه كأنه ... نصف لتعويذ بدا لعيون
وإذا تكامل صار جامًا صافيا ... كأنه من لؤلؤ مكنون
1 / 9
أو غادة قد أسفرت عن وجهها ... غنيت عن التحسين والتزيين
هذا هو المشهور في تشبيهه ... قدمًا وذلك جمعه يكفيني
فقلت: مرحبًا بمن ثياب مناوئه رثاث قر عينًا ستعود قمرًا بعد ثلاث. ثم تصير بدرًا، إن في ذلك لذكرى:
وإذا رأيت من الهلال نموه ... أيقنت أن سيكون بدرًا كاملًا
أنت الزمهرير الذي ليس له في نضارته نظير، أنت الزبرقان الذي له في كل شهر مهرجان. أيها القمر كم محب طاب له فيك السمر، أيها الواضح الباهر، ما أنت إلا مثل سائر، أيها البدر الكامل، الذي فضله للبرية شامل، لا تأس على ما فاتك من الدرج، ولا يكن في صدرك من الغزالة حرج:
فقد تخمد الشمس الصباح بضوئها ... تفاوتت الأنوار والكل رائق
منازلك معروفة، ومحاسنك موصوفة، وشرفك باذخ، وقدمك راسخ، وآياتك ظاهرة، وسفارتك سافرة، وكم أوضحت من طريق، وهديت الرفيق إلى الفريق، وذكرت محبوبًا
1 / 10
لمحبوبه، وبلغت طالبًا غاية مطلوبه، أحسن بضوء ذبالتك وحسبي مثالًا بهالتك، جعلك الباري في السموات نورا، وكان أمر الله قدرا مقدورا. فسبحان من جلا بمحياك حندس الغسق، وأقسم بك في قوله: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾، قدرك أثيث أثيل، ومحبك نبيه نبيل، ووجهك يابثينة الحسن جميل:
على رسل فما لك من مجار ... إلى رتب العلاء ولا رسيل
فتبارك أسم من ألبسكما أحسن الحبر، وتعالى جد من جعلكما مصباحين لأهل النظر، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر.
ثم لم يبرح يسري وأنا لا أبرح، وينجلي وأنا أشاهد وجهه الأصبح، إلى أن غاب واختفى، وحسبنا الله وكفى.
الفصل الثالث: في السحاب والمطر
إن الله تعالى حكم دائم النفوذ، وحكيم يهدي شفاء النجاة لمن به يلوذ. وله أسرار معناها دقيق، لا يفهمه إلا أرباب التحقيق. أمسك الغيث عن عباده في عام، فخاض كل منهم في بحر دمعه وعام. وساءت الظنون بضن السحاب، واشتاق النبات إلى سماع وقع الرباب. وظمئت الحياض، وعبست وجوه الرياض. واستدت العيون بالنقع المثار، وتعطلت
1 / 11
من حلى المزن أجياد الأزهار. وذهلت العقول لفقد الصوب عن الصواب، وقص جناح السرور وطارت الألباب. وطوي بساط الإنبساط ووقع القول في هياط ومياط. وطالت عهود العهاد، وتأهبت الأرض للبس أثواب الحداد:
وأصابت نبت الربا فاصل عين شمس ... أورثته مذلة واصفرارا
كلما جال طرفها ترك النا ... س سكارى وما هم بسكارى
فبينما هم يجرون أذيال الكآبة، ويرفعون الدعاء إلى مواطن الإجابة، تداركهم الله بالطف الخفي، وانثال عليهم المن الحفي، ونظر الله عليهم بعين حكمته، وحرك ساكن الرخاء لتجري بنعمته، وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته، فمدت أعناقها، وجدت إعناقها وركضت عادياتها، وجرت على أحسن عاداتها، وسدلت من أرديتها الأردان، وارخت العنان في طلب العنان:
ورياح تبشر الأرض بالقطر ... كذيل الغلالة المبلول
ووجوه البقاع تنتظر الغيث ... انتظار المحب رد الرسول
فأقلت سحابًا ثقالًا، يستهل كرمًا ونوالًا، مشكي الإهاب، خصيب الجناب، فسيح الرحاب، صادق الوعود، متلاحق الوفود، كثير الأعوان والجنود، يؤذن بالموارد الطامية، وشفاء
1 / 12
الشفاه الظامية، وإثراء فقير الثرى، وإجراء دمعه أسفًا على ما جرى:
أكب على الآفاق إكباب مطرق ... يفكر، أو كالنادم الملتهف
ومد جناحيه إلى الأرض جانحًا ... وراح عليها كالغراب المرفرف
والرعد يزجره ويسوقه بين يديه، فإذا قصر صاح به وزمجر عليه، تارة يترنم كالحمام، وطورًا يزأر كالأسد الضرغام:
وكأن صوت الرعد خلف سحابة ... حاد إذا ونت النجائب صاحا
والبرق يلمع ويلمع، ويمنح ثم يمنع، كأنه ثغر أشنب، أو قبس يلتهب، أوحسام يمان، أو
فؤاد جبان، أو سلاسل من ذهب، أو أشهب مال جله حين وثب أو أنامل بعض الحساب، أو حية تتلوى، أو كف خضيب يمد ويقبض، أو خود تعرض بعد أن تتعرض:
ترى الأرض منه وقد فضضت ... ووجه السماء وقد ذهبا
وقوس الغمام للجو نطاق، لا بل تاج على مفارق الآفاق، يزهو بلجَينه وعسجده، ويفخر بياقوته وزبرجده:
1 / 13
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض
فلما تراكمت السحائب، واجتمعت حولها الكتائب، واتسع صدرها، واستحكم أمرها، وحلق بالجو ناهضها واعترض في الأفق عارضها، ونصبت راياتها، وانتهت غاياتها، وآن رحيلها وتفريق شملها، وحان وضعها وفصال حملها، أجرت مدامعها، وردت ودائعها، وحلت نطاقها، وفكت أزرار أطواقها، وحثت الركائب، وأسبلت الذوائب، وسمحت بطلها وطشها، وسكنت رهج الغبراء برشها، وأروت الحرة برذاذها وهطلها، وأذهبت الحرقة بديمها ووبلها، وآثرت بجودها وجودها، ونثرت على بساط الأرض جواهر عقودها. أبو هلال العسكري:
تخال بها مسكًا وبالقطر لؤلؤًا ... وبالروض ياقوتًا وبالوحل عنبرًا
كم أبدت إحسانًا وبرًا، وبردت من كبد حرى، وأسدت معروفًا، وأغاثت ملهوفًا، وساقت إنعامًا، وسقت حرثًا وأنعامًا، وكفت همًا حين وكفت، وقرطت اّذان الأغصان وشنفت، وأنشرت أمواتًا، وأخرجت حبًا ونباتًا، ونشرت مطرفًا بعد الطي ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ وكم نقعت غليلًا، ونفعت عليلًا،
1 / 14
وملأت حياضًا، ونورت رياضًا، وأذلت درًا مصونًا، وشرحت صدورًا، وأقرت عيونًا، وألبست الحدائق برودًا عليها طلاوة، وأهدت للزهر قطرًا ظاهر الحلاوة:
ترى فواقعه في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر
فأمسى الناس في عيشة راضية، يرفلون في حلل الرفاهية، أمرعوا بعد الضنك والشظف، وأخصبوا بعد الجدب والطفف، وأصبح محل المحل دارسًا، ووجه الأمل يضحك بعد أن كان عابسًا، وأخذت الأرض زخرفها بعد أن كان زرعها يهيج، واهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فثغورها مبتسمة، وفرائد قلائدها منتظمة، ونمارقها مدبجة، ورؤوس
أشجارها متوجة، وغدرانها طافحة، ومخايل السعادة عليها لائحة، وألسنة أهلها مشتغلة بشكر علام الغيوب، وقلوبهم مطمئنة بذكره ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
يبدئ ويعيد، ويمتحن العبيد، ثم يفتح لهم أبواب جوده الوافر وفضله المديد. ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾.
الفصل الرابع: في الليل والنهار
أرقت ذات ليلة في مهادي، فسمعت طارقًا ينادي في النادي
1 / 15
عتاب بن ورقاء الشاعر:
إن الليالي للأنام مناهل ... تطوي وتنشر بينها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
فقمت من مضجعي، وقد بل ردني مدمعي، متحيرًا في أمري، متأسفًا على ما فات من عمري، وقلت: أيها الطارق في ظلمة الليل الغاسق، هل لك في المنادمة؟ فقال: كم نديم سفك المنى، دمه. ثم سلم وجلس، وما تنفس وما نبس. فقلت: يا من شنف السمع بدُره، اذكر لي شيئًا في طول الليل وقصره. فقال:
وليل كواكبه لا تسير ... ولا هو منها يطيق البراحا
كيوم القيامة في طوله ... على من يراقب فيه الصباحا
مقيم ليس يبرح، وعاجز لا يظعن ولا ينزح، برد نجومه لا يذوب وغائب ضوئه ليس يؤوب، لا يبلى جديد مسحه، ولا يجنح إلى الحركة ساكن جنحه، عليله ما يرجى صلاحه، وصباحه، لا يلوح مصباحه، قطع الطريق على السحر، وعذب أجفان المحبين بالسهر:
حدثوني عن النهار حديثًا ... أوصفوه، فقد نسيت النهارا
كأنه صريع راح، أو طائر مقصوص الجناح، أو أسير يخبط
1 / 16
في قيده، أو بحر منع الجزر عن مده، أوكسير ليس له على النهوض اقتدار، أو ضرير يئس طرفه من رؤية النهار:
أو هائم غمر بقطع الفلا ... قد حار لا يدري بمن يهتدي؟
أو جيش زنج بالثرى قد ثوى ... أو دارة حيث انتهت تبتدي
واعلم أيها البصير الناقد، أنه يطول على المهجور الفاقد، ويقصر على المسرور الراقد
أبو سام ﵀:
ليلي كما شاءت فإن لم تزر ... طال، وإن زارت فليلي قصير
فقلت: إيه أيها الإمام، أسمعني شيئًا في وصف الأيام. فقال ابن الرومي ﵀:
لله أيام تقضت لنا ... ما كان أحلاها وأهناها
مرت فلم يبق لنا بعدها ... شيء سوى أن نتمناها
حيث الوقت معين، دماء الشيبة معين، ونشر البشر فائح، ونور الهناء لائح، والحبيب مجيب، والرقيب غير قريب، وغصن الصبار طيب، ومطرف اللهو قشيب، والعيش غض
والدهر غضيض الطرف، وسعاد السعد ممنوعة من الصرف:
والشمل مجتمع، والجمع مشتمل ... على الجميل وحسن الخلق والخلق
1 / 17
أيا أخا الأدب، إلى كم ذا الحرص والدأب، الأيام نجمها غرار، ومدعي الوفاء منها غدار، كثيرة الملال، سريعة الزوال، تفرق الحبائب، وتسترجع المواهب، ذمامها ذميم ومسالمها سليم. تحل العقود، ولا تحفظ العهود، تكدر الصافي من الشراب، وتعد الظامئ بورود السراب، لقد سقط من تمسك بعراها، وتعب من قصد الراحة من ذراها. قال التهامي رحمه الله تعالى:
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
ثم قال: مضت الجهمة والشفق، والفحمة والغسق والقطع والسدفة، والبهرة والزلفة وآن لنسمات السحر أن تتبختر، ولعيون الفجر أن تتفجر. وقام للوداع، فقلت زودني بأنعم المتاع.
فقال: دع إزار الأوزار، واتق من لا تدركه الأبصار، وسبحه بالعشي والإبكار ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾.
الفصل الخامس: في أقسام العام
حضر فصول العام مجلس الأدب في يوم بلغ منه الأريب نهاية الأدب، بمشهد من ذوي البلاغة، ومتقني صناعة
1 / 18
الصياغة. فقام كل منهم يعرب عن نفسه، ويفتخر على أبناء جنسه، فقال الربيع:
أنا شاب الزمان، وروح الحيوان، وإنسان عين الإنسان، أما حياة النفوس، وزينة عروس الغروس، ونزهة الأبصار، ومنطق الأطيار. عرف أوقاتي ناسم، وأيامي أعياد ومواسم، فيها يظهر النبات، وتنشر الأموات، وترد الودائع، وتتحرك الطبائع، ويمرح جَنيب الجنوب، وينزح وجيب القلوب، وتفيض عيون الأنهار، ويعتدل الليل والنهار. كم لي عقد منظوم، وطراز وشي مرقوم، وحلة فاخرة، وحلية ظاهرة، ونجم سعد يدني راعيه من الأمل، وشمس حسن تنشدنا بأبعد ما بين برج الجدي والحمل. عساكري منصورة، وأسلحتي مشهورة: فمن سيف غصن مجوهر، ودرع بنفسج مشهّر، ومغفر شقيق أحمر، وترس بهار يبهر، وسهم آس يرشق فينشق ورمح سوسن سنانه أزرق، تحرسها آيات، وتكنفها ألوية ورايات. بي تحمر من الورد خدوده، وتهتز من البان قدوده، ويخضر عذار الريحان، وينتبه من النرجس طرفه الوسنان، وتخرج الخبايا من الزوايا، ويفتر ثغر الأقحوان قائلًا: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا:
1 / 19
إن هذا الربيع شيء عجيب ... تضحك الأرض من بكاء السماء
ذهب حيثما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء
وقال الصيف: أنا الخل الموافق، والصديق الصادق، والطيب الحاذق. أجتهد في مصلحة الأصحاب وأرفع عنهم كلفة حمل الثياب، وأخفف أثقالهم، وأوفر أموالهم، وأكفيهم المؤونة وأجزل لهم المعونة، وأغنيهم عن شراء الفرا، وأحقق عندهم أن كل الصيد في جوف الفرا، نصرت بالصبا، وأوتيت الحكمة في زمن الصبا. بي تتضح الجادة، وتنضح من الفواكة المادة، ويزهو البسر والرطب، وينصلح مزاج العنب، ويقوى قلب النور، ويلين عطف التين والموز، وينعقد حب الرمان، فيقمع الصفراء ويسكن الخفقان، وتخضب وجنات التفاح ويذهب عرف السفرجل مع هبوب الرياح، وتسود عيون الزيتون، وتخلق تيجان النارنج والليمون، مواعدي منقودة، وموائدي ممدودة. الخير موجود في مقامي، والرزق مقسوم في أيامي. الفقير ينصاع بملء مده وصاعه، والغني يرتع في ربع ملكه وأقطاعه. والوحش
تأتي زرافات ووحدانا، والطير تغدو خماصًا وتروح بطانا.
1 / 20
ابن حبيب رحمه الله تعالى:
مصيف له ظل مديد على الورى ... ومن حلا طعمًا وحلل أخلاطا
يعالج أنواع الفواكه مبديًا ... لصحتها حفظًا يعجز بقراطا
وقال الخريف: أنا سائق الغيوم، وكاسر جيش الغموم، وهازم أحزاب السموم، وحادي نجائب السحائب، وحاسر نقاب المناقب. انا أصد الصدى وأجود بالندى، وأظهر كل معنى جلي، وأسمو بالوسمي والولي، في أيامي تقطف الثمار وتصفو الأنهار من الأكدار، ويترقرق دمع العيون، ويتلون ورق الغصون، طورًا يحاكي البقم وتارة يشبه الأرقم، وحينًا يبدو في حلته الذهبية، فينجذب إلى خلته القلوب الأبية. وفيها يكفى الناس هم الهوام، ويتساوى في لذة الماء الخاص والعام، وتقدم الأطيار مطربة بنشيشها، رافلة في الملابس المجددة من ريشها، وتعصفر بنت العنقود، وتوثق في سجن الدن بالقيود، على أنها لم تجترح إثمًا، ولم تعاقب إلا عدوانًا وظلمًا. بي تطيب الأوقات، وتحصل اللذات، وترق النسمات وترمى حصى الجمرات، وتسكن حرارة القلوب، وتكثر أنواع المطموم والمشروب. كم لي من شجرة
1 / 21