أضاف أبي: «لقد جاء إلي هو ووالده قبل أشهر، وتقدما رسميا بطلب يدك، أخبرني أنه مسافر إلى اليمن.» اليمن؟! ما الذي يفعله هناك؟ أكمل أبي: «وقمت بالطبع بالسؤال عنه، لكنني لم أقل لك لأسباب كثيرة، التي من أهمها ظهور رائد، أما الآن فعليك اتخاذ قرارك، ما رأيك؟» وسكت ينتظر جوابي، لكن المفاجأة عقدت لساني. كنت أنظر إلى يدي المتعرقتين، وكثير من علامات الاستفهام تتقافز أمام عيني. قام أبي وقال: «طيب، أظن أنك تحتاجين وقتا.» وخرج تاركا إياي غارقة في بحر من حيرة وذكريات.
5
لم تكن الرحلة سهلة على الإطلاق، بقينا أياما ننتظر الوقت المناسب للانطلاق ونحن نتواصل يوميا مع «أبو أمجد» سائق سيارة الأجرة الذي سيوصلنا إلى الحافلة التي من المفترض أن تسير بنا في طريق خناصر ومنها سننطلق برا إلى بيروت. وبعد أيام انطلقنا، مشينا في طريق شبه معبد لكنه غير مزفت. الحواجز كثيرة جدا على طول الطريق، جاوزت الخمسين حاجزا، إجراءات وتفتيش واتصالات وتدقيق ومحسوبيات ورشاو على المكشوف، فما نكاد ننطلق ساعة حتى نقف مجددا مع حاجز جديد ويتكرر السيناريو مع وجوه مختلفة، ومفاوضات مغايرة وأرقام تهبط أو ترتفع بحسب المعرفة و«الموانة» السابقة وبحسب أمور أخرى لا نعرفها. والسعر الذي اتفقنا عليه مع «أبو أمجد» ومع سائق الحافلة «زكوان» تضخم كثيرا وترهل أضعاف حجمه الأصلي؛ فمن الضروري أن يسعى كل سائق إلى إرضاء كل حاجز عبر علب السكائر أو المال أو ما شابه، ومن يمتنع عن ذلك يتعرض لتفتيش دقيق مهين، وتأخير قد يمتد لساعات بلا أي مبرر حقيقي سوى رغبة عناصر الحاجز بالحصول على الرشوة التي يجمعها السائق أخيرا من محافظنا.
أسافر مع «خالتي نوال» وزوجها إلى بيروت؛ فلم يتمكن والداي من مرافقتي، أبي مرتبط بعمله، وأمي مرتبطة به وبأختي فاطمة، أودعتني أمي مع أختها نوال للسفر إلى بيروت. كنت قد سمعت كثيرا عن مشاق الرحلة لكن سماع الشيء يختلف كثيرا عن الخوض فيه، وكأنها رحلة الانتقال من الموت إلى الحياة؛ فالطريق الذي كان يستغرق سبع ساعات بين حلب وبيروت تطاول حتى وصل معنا إلى سبع عشرة ساعة، مع الأخذ في الحسبان الساعات التي قضيناها في ضيافة «أشقائنا» في الحدود اللبنانية، وما واجهناه هناك من تأخير وتفتيش وخوف من منعنا من الدخول من قبل الأمن اللبناني، ونظرات بعضهم لنا وكأننا حشرات.
في اليوم الذي تبدأ الحرب في بلدك تصير منبوذا ومشبوها، ومتهما عالميا حتى لو كنت بريئا، الآن فقط بدأنا نشعر بمعاناة الفلسطينيين قبل عشرات السنين. وفي زمن الحرب تختلف كثير من الأمور، أنا مثلا عشت عامين في الحرب، هل أقول إنهما عامان مرا من عمري؟ أم أقول دهرا؟ الحرب آلة حصد هائلة، تحصد كل شيء، الأماني والأحلام، الأرواح والأحباب، والزمان أيضا، لا يبقى إلا الأرض المحروقة من نفوسنا المتعبة. كل شيء في الحرب يتغير، من أكبر شيء إلى أصغره، أساليب الناس في حياتهم، عاداتهم اليومية، أحاديثهم، أمنياتهم، لعب أطفالهم، مشاعرهم، حتى أفراحهم ؛ فبعد أن فرح الكون كله بارتباط أخي سعيد بمحبوبته الجميلة سلمى، افترقا فعاد أخي إلى قطر على أمل أن يطلبها فتلحق به، لكن مضى على ذلك تسعة أشهر وهو لا يتمكن من ذلك، تعقدت الأمور أمام السوريين كثيرا. المشكلة أنه لم يعد بإمكانه العودة إلى حلب، فهل يلتقيان مجددا؟ لا أحد يعرف!
وأنا مثلا لا يتمكن أهلي من الجلوس مع شادي إلا عن طريق صورة متقطعة على برنامج السكايب أو الفايبر، يسألون عنه، يقابلون والديه، وتتم الموافقة، نقرأ الفاتحة عبر تسجيل صوتي، تلبسني والدته خاتم الخطوبة، نحتفل أربعتنا أنا وهي وأمي وخالتي مع كئوس من العصير وقطع الكيك، وينتهي الأمر وأذهب وحدي لألاقيه في بيروت. هكذا جرى الاتفاق، ثم يشرف زوج خالتي على كتب الكتاب فهو محام، ويتولى بقية الأمور القانونية من استصدار صك الزواج، ودفتر العائلة وغيرها من الإجراءات. نجلس أسبوعين أو ثلاثة في بيروت، ثم أسافر معه إلى اليمن. أنا كنت فرحة بكل ذلك ومشدوهة، هل حقا سألتقي به بعد غياب ما يقرب من عام؟ وهل سأتزوج أخيرا من غير عرس أو فستان أبيض أو زفة وزغاريد ورقص؟
6
بيروت أخيرا! أرى البحر للمرة الأولى بعد أعوام، في سورية قمنا بتأجيل ذهابنا إليه عاما بعد عام، فأبعدتنا الحرب عنه أعواما أخرى. للبحر جمال مبهج يعج بالحياة نهارا، أما ليلا فله سحر خاص؛ ذلك لأني لا أتلقاه بنظري كالعادة، لا أرى زرقته الصافية، ولا امتداده الفسيح، ولا تراقص ضوء الشمس على أمواجه الرائقة. البحر في الليل يثير حواسي المختلفة الأخرى، أمامي ظلمة حالكة، أغمضت عيني فلا شيء لأراه، وسمحت لحواسي الأخرى بتلقي البحر. شعرت بأمواجه تغمرني، تلامس قدمي بإيقاع منتظم، وصوتها الرتيب يتكسر على شاطئ قلبي. ملأت رئتي من هوائه المشبع بالرطوبة، وخباياه المحتملة، وأسراره المخفية، تخيلت أعماقه السحيقة، مخلوقاته العجيبة، ورحت أتقدم أكثر وأكثر. بدأت برودة الماء تلامس ساقي حتى ركبتي، فأعلى وأعلى، أصابتني رعدة من برد ورهبة. فردت ذراعي وأخذت الرياح والأمواج والظلمة تلعب برأسي فأصبت بالدوار، كادت ساقاي تخذلانني، واشتغلت غريزة البقاء بتحذيري من خطر محتمل. فتحت عيني، وتلفت حولي، كنت في بحر من ظلام، ولولا أنوار تسبح بعيدا كغرقى متشبثين بالحياة لما عرفت اتجاه الشاطئ، مشيت باتجاهها عائدة إلى الشاطئ، ومستسلمة للحياة. «في بيروت» هكذا عنونت صورة لها على «الواتساب» وهي واقفة أمام صخرة الروشة، يا للمفاجأة! رندة هنا؟ علي أن أفعل شيئا. تذكرت حماسي الأول في جمعها بجدو نور، وأن الفرصة هذه ربما لن تتكرر، لكني أواجه مشكلة كبيرة، كيف سأفعل ذلك؟ ما الذي يمكن أن يجعل سيدة تعيش حياتها مطمئنة في تركيا، وتقيم أياما في بيروت تسافر إلى حلب أخطر مدينة في العالم؟ لا يوجد دافع سوى الحب، وأن أسافر معها، وهذا ما علي أن أفعله. كتبت لها: كيف حالك سيدة رندة؟ أرى أنك في بيروت، حمدا لله على سلامتك.
وبعد ساعات جاءني ردها: الله يسلمك. شكرا، كيف حالك أنت؟ - بخير. أريد أن أسألك سؤالا. - تفضلي. - ما الذي يجعل شخصا يترك بيته الآمن ويسافر إلى الحرب؟ - سؤالك غريب، لكن لا أعتقد أن أحدا يفعل ذلك إلا إذا كان مضطرا. - هل تقع الضرورة الروحية أو العاطفية ضمن هذه الضرورات؟ - بالتأكيد، إذا كانت قوية بما يكفي ليضع الشخص حياته على كف الخطر. - طيب سيدة رندة، هل يعني لك الثالث عشر من آب عام 1995م شيئا؟
بقيت بعدها دقائق أنتظر ردها لكنها لم ترسل شيئا، هل أخطأت في تدخلي بخصوصياتها؟ هل كان أسلوبي سيئا؟ يظهر عندي أنها متصلة لكنها لا تجيب، ماذا فعلت بكلماتي؟ هل أثرت غضبها؟ أم ذكرياتها؟ أم أحزانها؟ كتبت أخيرا: آسفة سيدة رندة، ما قصدت أبدا إزعاجك. لكنها أيضا لم ترد حتى اليوم التالي، جاءتني رسالة منها كتبت فيها: لست أدري ماذا تعرفين وكيف، أنت صديقة عزيزة، لكنك ما زلت صغيرة، هناك الكثير مما لا تعرفينه.
Unknown page