طوفان النجاحات المتتالية غمره نشوة، الكاميرات التي تلاحقه، والأيادي التي تمتد لمصافحته أو للمسه على الأقل، الفتيات الجميلات اللاتي ترتمين عليه مجازا وحقيقة، الأموال التي بدأت تتراكم في أرصدته، السيارات الفاخرة والثياب الباهظة؛ كلها أمور ما كان يجرؤ أن يحلم بها، ها هي الآن تتحقق، وهو لا يزال تحت تأثير تخديرها.
لكنه اليوم بعد حفلة الأمس كان في مزاج سيئ؛ فأخبار بلده تصله سرقة من بعض معارفه الذين حول أسماءهم في هاتفه المحمول لضرورات تخصه وحده، حتى إنه لم يستقبل مدير أعماله (مسيو جوني) مع أنه أخبره أنه يحمل له عروضا حصرية من كبرى شركات التسجيل والتوزيع الغنائي في العالم العربي. كان جالسا على الشرفة يسحب نفسا من سيكارته والأفكار تأخذه بعيدا. تذكر أيامه الأولى في البرنامج، خوفه الشديد وخجله أمام اللجنة وارتباكه في حضورهم. تذكر الأغنية الأولى التي غناها، والتي أهلته للوقوف على عتبة تحقيق حلمه. تذكر فرحته في كل مرة يصعد سلم النجومية الباهر، وسلم القلق أيضا، هل هذا ما أريده فعلا؟ لقد حصلت على اللقب، فلماذا لا تزال تسكنني الغصة؟ لا لا، كان يريد أن يذهب بذاكرته أبعد من ذلك، إلى ما قبل البرنامج كله، قبل عامين تقريبا، إلى حياته البسيطة في منزل جدته لأبيه التي تكفلت برعايته بعد وفاة أمه وسفر أبيه، إلى نزقه من المدرسة، والأعمال الكثيرة التي زاولها وهو لا يزال في الثالثة عشرة، حتى انخراطه في العمل مع صديق والده الذي أكرمه ووضع عليه آمالا كبيرة في ازدهار أعمال المكتبة؛ فهو متحدث لبق وذو وجه وسيم وذوق رفيع، فلا يخرج أحد من عنده إلا وقد اشترى كتابا على الأقل. تذكر الخيبة التي علت وجه «معلمه» حين صارحه برغبته في السفر ودخول البرنامج، الآن فقط بدأ يشعر بشيء من الأسف عليه، كيف تركته بعد أن عملت معه ثمانية أعوام؟ وبعد أن وثق بي وافتتح مكتبة وسلمها لي بالكامل لكنني خذلته؟ كم كانت أياما جميلة!
عاد إلى الداخل، أطفأ عقب سيكارته، وتناول هاتفه المحمول ليجد أكواما من الرسائل، أغلقه ورماه جانبا، فتح جهازه اللوحي (الآي باد) ودخل إلى ملف الصور، وإلى ملف «صور قديمة» تحديدا، وبدأ يبحث عن صور المكتبة التي عمل فيها (مكتبة النيل الجديد). شعر بحنين مفاجئ إليها، راح يقلب صورها ويتأمل تفاصيلها مبتسما، لماذا هذه الصور بالتحديد؟ أخذ يتأملها مليا، وبدأت الذكريات تنسكب عليه كشلال من المطر العذب اللطيف، ثم تذكر وجهها المستدير جيدا، معطفها الكحلي وحجابها السماوي، وحدها تميزت عن الجميع، تذكر خفرها في حضوره، وارتباكها من ابتسامته، تذكر نبرة صوتها الناعمة، ونظراتها المختلسة إليه وهو يتظاهر عنها بالانشغال بأي شيء، ثم أغلق كل شيء، وفي عينيه عزم جديد.
10
أنا في فراغ كبير، أبكي لأي شيء، السقوط في العدم، هذه كانت حالتي، الخوف يلفني والشوق كذلك. كانت المشاعر تتأرجح بي بين ألم وقهر وندم ومحاولة للتجاهل، شعرت كأني أسقط في هوة سحيقة بلا نوافذ أو أنوار. أغرقت نفسي بالعمل، اشتغلت بالكروشيه كثيرا، لم أتوقف أبدا، حتى إن أمي عجبت من نشاطي وهوسي به، كنت أردد في العمل الواحد ذكرا معينا «الحمد لله، أو سبحان الله، أو لا إله إلا الله ...» وأظل أكرره مع كل غرزة أعملها، فقد سألتني مرة سيدة عجوز وأنا أريها أحد أشغالي: «بأي ذكر اشتغلت هذا العمل؟» لم أفهم قصدها، فشرحت لي أن علي أن أغزل نسيجي بالذكر حتى يظل مباركا، وأن لكل ذكر قوة، فهذا مشغول بالتسبيح، وذلك بالحمد أو التهليل أو التكبير، وأن علي أن أختار بذكائي الذكر المناسب للشخص الذي أحيك له، وحين يرتدي ما اشتغلته له، فإن الذكر يلائمه تماما ويحرره من همومه وأحزانه. أعجبتني فكرتها كثيرا، ومن يومها وأنا لا أعمل أي غرزة من غير أن أذكر الله فيها.
عملت سترات وشالات بمختلف الألوان، اشتغلت جوارب وفساتين لأطفال لا أعرفهم، وبطانيات للمواليد، وربطات شعر وميداليات وقبعات، ثم جمعت كل شيء ووهبته لعائلات النازحين، وكأنما سكب ذلك علي طاقة عالية من الفرح الرفيع، رأيت وجوههم تتلألأ بالامتنان والسعادة.
ومضت أيام وأسابيع وشهور، في تلك الفترة أدمنت على قراءة نصوص سليمان الملك التي كان ينشرها يوميا على صفحته، كنت أول المعجبين بها والمعلقين عليها. وطالما أن اتصالي به لا يتجاوز تعليقات على «الفيسبوك» فلا بأس إذن، هكذا رحت أبرر لنفسي. كانت نظرته للأمور مختلفة ، عميقة وواقعية جدا، أعجبني أسلوبه الساخر من بعض المواقف الاجتماعية، أسرتني قدرته الهائلة على تطويع اللغة ومهارته العالية في صوغ الكلمات، وكأنها لغة خاصة به وحده، والكلمات التي نستخدمها كلنا تنحاز له طواعية، وكأنه أخرجها للتو من رحم اللغة الخصب، إنه ملك مثلما وصفته تماما.
إنه يحبني لم يعد هنالك من شك، لم يبق سوى أن يقولها صراحة، لكنه لا يفعل، يهرب، هذا ما يتقنه، الجميع يهربون مني، رائد وشادي، والآن سليمان، هل أرعبهم؟ لماذا إذن دخلوا عالمي، وعكروا صفوه؟ كنت سعيدة بحياتي، والآن ماذا؟ إنهم فعلوا ذلك طوع إرادتهم، شادي، أكاد أنسى ملامحه، ما تزال صفحته مغلقة. والآن يفاجئني حضور سليمان في تفاصيل حياتي، يصاحب لحظاتي اليومية، أرى غمازتيه في خيالي فيشرق كوني أملا، وأمتلئ غبطة وخوفا، عليه أن يفعل شيئا، لكنه لا يفعل، هل هو خائف مثلي؟ من أي شيء يخاف؟ لكن هل حقا أريد الارتباط به؟ ليت ذلك يحدث! هل سيوافق أبي؟ إنه في عمره تقريبا، لا يهم، سأسعى جاهدة لإقناعه؛ فأنا أحبه، لكن الأسوأ لم يحدث بعد.
أصوات وجلبة في الخارج، أنظر من النافذة فأرى تجمعا، جرس الباب يرن، تسرع فاطمة كعادتها لفتح الباب، تناديها أمي: «لا تفتحي حتى تسألي من.» أسمع صوتها: «من؟ ... نعم؟ من تريد؟ ... من؟» أقوم مسرعة إليها، أنظر من «العين الساحرة» فأرى رجلا يرتدي نظارات شمسية لا أعرفه، «من؟ من تريد؟» أضع أذني على الباب لأسمعه يقول: «هل هذا بيت سما صايغ؟» هل نطق اسمي للتو؟ الدهشة أربكتني، هرعت إلى أمي وأخبرتها، جاءت أمي لتقول: نعم يا ابني. - هل هذا بيت الصايغ؟ - نعم، من تريد؟ - خالتي، أنا رائد بدران أرغب في طلب يد سما صايغ للزواج!
الفصل السابع
Unknown page