إن المنطق هو الجزء الفني (التكنيكي) في الفلسفة، ولهذا السبب فإنه كان شيئا لا غناء عنه للفيلسوف. أما فيلسوف الطراز القديم الذي يخشى دقة الأسلوب الفني، فإنه يؤثر استبعاد المنطق الرمزي من مجال الفلسفة، وتركه للرياضي. غير أنه لا يحرز في هذا الصدد نجاحا كبيرا؛ ذلك لأن الجيل الجديد، بقدر ما تعلم التدوين الرمزي في الدروس الأولية للمنطق، يعرف قيمة هذا الشكل الجديد للمنطق، ويصر على تطبيقه وقد يبدو المنطق الرمزي لأول وهلة معقدا ومحيرا للطالب، شأنه في ذلك شأن أي أسلوب فني في التدوين، ولا بد من بعض التدريب لكي يدرك الطالب أن هذا الأسلوب الجديد أداة تيسر الفهم المنطقي وتوضح الأفكار. ولقد تبين لي، من تجربتي في تدريس المنطق الرمزي، أن معظم الطلاب يخافون التدوين الرمزي ويكرهونه في البداية، ولكن بعد تدريب يدوم حوالي أسبوعين. تتغير الصورة، وتنتشر بينهم حماسة عجيبة للرمزية، ولا يتبقى بعد ذلك إلا عدد قليل من الطلاب الذين لا يفهمونه أبدا فهما كاملا، ويظلون كارهين للرمزية على الدوام.
ويبدو أن المنطق الرمزي مكتوب عليه أن يقابل إما بالكراهية وإما بالترحاب الشديد. وعلى أية حال فإن أولئك الذين لا يمكنهم بلوغ المرحلة الثانية، يمكنهم أن يحققوا المزيد في ميادين أخرى للفلسفة العلمية، ويصلوا إلى النجاح في تطبيقات أقل تجريدا لقدرات الفكر البشري.
الفصل الرابع عشر
المعرفة التنبئية
إن المنطق الرمزي الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق منطق استنباطي، فهو لا يبحث إلا في العمليات الفكرية التي تتصف بالضرورة المنطقية. غير أن العلم التجريبي، وإن كان يستخدم العمليات الاستنباطية على نطاق واسع ، يحتاج بالإضافة إليها إلى نوع ثان من المنطق، يسمى بالمنطق الاستقرائي، نظرا إلى استخدامه للعمليات الاستقرائية.
والصفة التي تميز الاستدلال الاستقرائي عن الاستدلال الاستنباطي هي أن الأول ليس فارغا، أي أنه يؤدي إلى نتائج ليست متضمنة في المقدمات. فالنتيجة القائلة إن كل الغربان سوداء ليست متضمنة منطقيا في المقدمة القائلة إن كل الغربان التي لوحظت حتى الآن سوداء، وقد تكون النتيجة كاذبة على حين تكون المقدمة صادقة. والاستقراء هو أداة المنهج العلمي الذي يرمي إلى كشف شيء جديد، أعني شيئا يزيد عن كونه مجرد تلخيص للملاحظات الساقة، فالاستدلال الاستقرائي هو أداة المعرفة التنبئية.
ولقد كان بيكن هو الذي أدرك بوضوح ضرورة الاستدلالات الاستقرائية في المنهج العلمي، وله في تاريخ الفلسفة منزلة نبي الاستقراء (انظر الفصل الخامس) غير أن بيكن أدرك أيضا نواحي الضعف في الاستدلال الاستقرائي، وافتقار منهجه إلى الضرورة، وإمكان الوصول إلى نتائج كاذبة. ولم تحرز محاولاته لتحسين الاستدلال الاستقرائي نجاحا كبيرا؛ إذ إن الاستدلالات الاستقرائية التي تتسم بتركيب أعقد كثيرا، كتلك المستخدمة في المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يتبعه العالم (انظر الفصل السادس)، تتميز بأنها أرفع بكثير من استقراء بيكن البسيط، غير أن هذا المنهج بدوره لا يمكنه أن يأتينا بضرورة منطقية؛ إذ إن نتائجه قد تكون كاذبة، ولا يمكن أن تكتسب المعرفة التنبئية طابع الضمان المطلق الذي يتسم به المنطق الاستنباطي.
ولقد ناقش الفلاسفة والعلماء كثيرا ذلك المنهج الفرضي الاستنباطي، أو الاستقراء التفسيري
explanatory ، ولكن طبيعته المنطقية قد أسيء فهمها في كثير من الأحيان. فلما كان الاستدلال من النظرية على الوقائع الملاحظة يتم عادة بوسائل رياضية، فقد اعتقد بعض الفلاسفة أن من الممكن تفسير وضع النظريات من خلال المنطق الاستنباطي. غير أن هذا رأي لا يمكن قبوله؛ إذ إن الأساس الذي يتوقف عليه قبول النظرية ليس الاستدلال من النظرية على الوقائع، وإنما هو العكس، أي الاستدلال من الوقائع على النظرية، وهذا الاستدلال ليس استنباطيا، بل هو استقرائي. فما هو معطى هو الوقائع الملاحظة، وهذه هي التي تكون المعرفة المقررة التي ينبغي تحقيق النظرية على أساسها.
وفضلا عن ذلك فإن الطريقة التي يتم بها هذا الاستدلال الاستقرائي بالفعل قد أدت ببعض الفلاسفة إلى ضرب آخر من ضروب سوء الفهم. فالعالم الذي يكتشف نظرية يسترشد في كشفه بالتخمينات عادة، وهو لا يستطيع أن يحدد منهجا اهتدى إلى النظرية بواسطته، وكل ما يمكنه أن يقوله هو أنها بدت له معقولة، أو أن إحساسه كان مصيبا، أو أنه أدرك بالحدس أي الفروض هو الذي يلائم الوقائع. وقد أساء بعض الفلاسفة فهم هذا الوصف النفسي للكشف، فاعتقدوا أنه يثبت عدم وجود علاقة منطقية تؤدي من الوقائع إلى النظرية، وزعموا أن من المستحيل إيجاد تفسير منطقي للمنهج الفرضي الاستنباطي. فالاستدلال الاستقرائي في نظرهم عملية تخمينية تظل بمنأى عن التحليل المنطقي. وغاب عن هؤلاء الفلاسفة أن نفس العالم الذي اكتشف نظريته بالتخمين لا يعرضها على الآخرين إلا بعد أن يطمئن إلى أن الوقائع تبرر تخمينه. وفي سبيل الوصول إلى هذا التبرير يقوم العالم باستدلال استقرائي؛ لأنه لا يود أن يقتصر على القول بأن الوقائع يمكن أن تستخلص من نظريته، وإنما يود أن يقول أيضا إن الوقائع تجعل نظريته مرجحة وتشهد بقدرتها على التنبؤ بمزيد من الوقائع الملاحظة. فالاستدلال الاستقرائي لا يستخدم في الاهتداء إلى نظرية، وإنما يستخدم في تبريرها على أساس المعطيات الملاحظة.
Unknown page