إن من الحجج الأثيرة لدى الفلسفات المضادة للعلم، القول إن التفسير ينبغي أن يتوقف عند نقطة ما، وإنه ستظل هناك أسئلة لا إجابة لها. غير أن الأسئلة التي يقصدونها عندئذ إنما هي أسئلة تكونت نتيجة لسوء استخدام الألفاظ. فالألفاظ التي يكون لها معنى في تجمع معين قد لا يكون لها معنى في تجمع آخر، فهل يمكن ثمة أب لم يكن له ابن أبدا؟ إن كل شخص لا بد أن يسخر من الفيلسوف الذي يرى في هذا السؤال مشكلة جدية. ومع ذلك فإن السؤال عن سبب الحادث الأول، أو سبب الكون في مجموعه، ليس أفضل من ذلك؛ فكلمة «سبب» تعبر عن علاقة بين شيئين، وهي لا تعود منطبقة عندما يكون الكلام منصبا على شيء واحد. وعلى ذلك فليس للكون في مجموعه سبب؛ لأنه لا يوجد، حسب التعريف، شيء خارجه يمكن أن يكون سببا له. والواقع أن هذا النوع من الأسئلة إنما هو لغو لفظي خاو، وليس مناقشة فلسفية.
أما العلم، فبدلا من أن يسأل عن أصل الكون، فإنه لا يستطيع أن يسأل إلا عن سبب الحالة الراهنة للكون، ومهمته تنحصر في الرجوع تدريجيا بالتاريخ الذي يمكنه على أساسه أن يصف الكون من خلال قوانين الطبيعة. وفي يومنا هذا يبلغ هذا التاريخ ألفي مليون عام، وهي مدة زمنية طويلة، من المؤكد أن استخلاصها من ملاحظات فلكية يعد عملا علميا من الطراز الأول، وقد يحدد هذا التاريخ يوما بالرجوع إلى الوراء ألفي مليون عام أخرى.
أما السبب الذي نود من أجله الرجوع بهذا التاريخ إلى الوراء، فهو أن الكرة الغازية الساخنة التي يحيط بها فضاء، ليست حالة مناسبة لتكون نقطة بداية، وإنما هي تقتضي تفسيرا من خلال تاريخ أسبق، ولا يمكن أن تكون هذه حالة استمرت طويلا؛ لأنها ليست حالة متوازنة. ومن الجائز أن الكرة الغازية ستفسر يوما على أنها سديم في كون أعظم، مر بتطور مماثل لتطور كوننا، فلسنا نعلم ماذا ستنبئنا به مناظير الغد الفلكية؛ فربما نقلت إلينا رسالة من سدم حلزونية أبعد لا تنتمي إلى نظامنا الكوني المتمدد (انظر الهامش الأخير من هذا الفصل).
على أن نظرية النسبية عند أينشتين تأتينا بتفسير أفضل لكرة الغاز الأصلية؛ ففي رأي أينشتين أن الكون ليس لا متناهيا، وإنما هو مكان من النوع الذي تسري عليه هندسة ريمان، ذو شكل كروي. وليس معنى ذلك أن الكون مقفل بنوع من القشرة الكروية، توجد بدورها في فضاء لا متناه، وإنما معناه أن مجموع المكان متناه، دون أن تكون له حدود. فحيثما كنا، نجد على الدوام مكانا محيطا بنا في الاتجاهات، ولا تبدو للعيان نهاية له، ولكنا إذا تحركنا قدما في خط مستقيم، فسوف تعود يوما ما إلى نقطة بدايتنا من الاتجاه الآخر. ونستطيع أن نشبه خواص المكان الثلاثي الأبعاد هذه بالخصائص الملاحظة لسطح أرضنا الثنائي الأبعاد، الذي يتمثل في جميع أرجائه على أنه سطح مستو تقريبا. على حين أن مجموعة من المساحات كلها مقفل، بحيث إن من يسير في خط مستقيم يعود آخر الأمر إلى نقطة بدايته. فالمكان المقفل، شأنه شأن كل المفاهيم الأخرى في الهندسة اللاإقليدية، يمكن تصويره بصريا، على الرغم من أن هذا التصور البصري يقتضي بعض المران من أجل التخلص من تعودنا على بيئة هندسية أبسط.
وقد قام العالمان الرياضيان فريدمان
Friedmann
ولوميتر
Lemaitre
بإدخال تعديل على آراء أينشتين هذه، بحيث أصبحت تقوم على افتراض أن مجموع المكان المتناهي ليس له حجم ثابت، وإنما هو يتمدد. ونستطيع أن نشبه هذا التمدد بامتداد سطح «بالون» من المطاط أثناء نفخه. فمنذ حوالي ألفي مليون عام، كان المكان الكوني صغيرا إلى حد ما، وكان يملؤه كله الغاز الأول، ولكنه منذ ذلك الوقت يتمدد بالسرعة التي تدل عليها سرعة المجرات المتباعدة. وإنه لمن الحقائق الهامة أن رياضيات النظرية النسبية تفتح المجال للقول بمثل هذا الكون المتمدد، وإن لم تكن تؤدي إلى إجابة لا لبس فيها ولا غموض؛ فمعادلات أينشتين هي ما يسميه الرياضي بالمعادلات التفاضلية، ومثل هذه المعادلات تقبل كثرة من الحلول المختلفة. ويحاول العالم الفيزيائي أن يختار الحل الذي يلائم نتائج الملاحظات على أفضل وجه؛ ففي الوقت الراهن ما زالت الملاحظات الفلكية أقل من أن تسمح بإجابة قاطعة.
ولا شك أن حل مشكلة بداية الكون كان يغدو أفضل بكثير لو أننا استطعنا أن نضع صيغة تحدد حالة سابقة بالنسبة إلى كل حالة فعلية؛ وبالتالي تتحكم في التطور الكامل لمدة لا نهائية في الماضي، بدلا من أن نترك على الدوام للعلم في مرحلة جديدة منه مهمة الرجوع بتاريخ الخطوة الأولى إلى الوراء أكثر من ذلك. والواقع أن القول بتمدد الكون يحقق هذا الإمكان؛ لأن هناك حلولا للمعادلات النسبية من شأنها أن يكون الكون قد استغرق زمنا لا نهائيا لكي ينمو من حجم الصفر إلى الحجم الصغير الذي كان عليه منذ ألفي مليون سنة. كذلك يمكن تنويع الحل إلى حد ما، بحيث يكون للمرحلة الأصلية في الماضي اللانهائي حجم متناه صغير. ونستطيع أن نضيف إلى هذه الصيغة الرياضية التفسير التالي: كان الغاز الذي يملأ الكون في حالة ثابتة، طوال الوقت الذي ظل فيه الكون صغيرا، ولم يبدأ الغاز في الانقسام إلى أجزاء منفردة تحولت بقوة الجاذبية إلى نجوم إلا بعد أن بلغ حجما معينا. والواقع أن في استطاعة الصيغة الرياضية للكون المتمدد، مقترنة بهذا التفسير، أن تجيب على جميع الأسئلة التي يكون من المعقول توجيهها، وفي هذه الحالة لن تقول إن الكون كان له في أي وقت حجم الصفر، أو حجم يبلغ الحد الأقصى من الصغر، ما دام كل ما تقول به هو وجود وحدة اتجاه متقاربة في البداية، وإن كانت ستجيب دفعة واحدة عن جميع الأسئلة من نوع «ماذا كان سبب هذه الحالة» بأن تعزو إلى كل حالة معطاة حالة سابقة؛ وعندئذ تكون الإجابة على السؤال عن أصل الكون مماثلة للإجابة على السؤال عن العدد الأصغر؛ فصيغة التمدد تقول إنه ليس للكون أصل، وإنما توجد سلسلة لا نهاية لها من الحالات التي يمكن حسابها، والمرتبة في الزمان. وبقي علينا أن نرى إن كان هذا التفسير متمشيا مع المعطيات الفلكية.
Unknown page