وهكذا بدا القانون الرياضي أداة للتنبؤ، لا أداة للتنظيم فحسب، واكتسب عالم الفيزياء بفضله القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وبدا التعميم البسيط الذي يتم في الاستدلال الاستقرائي التعدادي أداة هزيلة إذا ما قورن بقدرة المنهج الفرضي الاستنباطي، فكيف يمكن تفسير هذه القدرة ؟ لقد بدا الجواب واضحا؛ فلا بد أن يكون هناك نظام دقيق بين جميع الأحداث الفيزيائية، تعكسه العلاقات الرياضية، وهو نظام يعبر عنه لفظ السببية.
إن فكرة التحديد السببي الدقيق لكل حوادث الطبيعة هي نتاج للعصر الحديث؛ فاليونانيون قد وجدوا نظاما رياضيا في حركات النجوم، غير أنهم رأوا أن الحوادث الفيزيائية الأخرى تتحدد، جزئيا على الأكثر، بالقوانين الفيزيائية. صحيح أن بعض الفلاسفة اليونانيين كانوا يقولون بحتمية شاملة، غير أننا لا نعلم مدى اتفاق نظرتهم إلى الحتمية السببية مع النظرة الحديثة، فلم يترك واحد منهم صيغة واحدة تحدد ما يعنيه بالحتمية، وليس من المحتمل أن يكون أحدهم قد نظر إلى السببية على أنها قانون يسري بلا تخلف، ويتحكم في أتفه الحوادث مثلما يتحكم في أهمها، ويجعل كل حادث ناتجا ضروريا عن الحادث السابق، بغض النظر عما تعنيه هذه الحوادث بالنسبة إلى أهداف البشر؛ فلم يكن من الممكن تصور التنزه الكامل للسببية عن القيم البشرية، في وقت لم تكن فيه الفيزياء الرياضية قد عرفت بعد.
ولقد كان لفكرة الجبر
بالنسبة إلى الذهن اليوناني طابع ديني، يعبر عنه مفهوم المصير أكثر مما يعبر عنه مفهوم السبب أو العلة؛ فأصل القدرية تشبيهي بالإنسان، ولا يمكن تفسيره إلا بإسقاط ساذج للقيم البشرية وأشكال السلوك البشري على مجرى الطبيعة؛ وكما يتحكم الناس في الحوادث الطبيعية من أجل تحقيق أغراضهم، كذلك تتحكم الآلهة في شئون البشر، وقد رسم إله المصير خطته بالنسبة إلى كل فرد من أفراد البشر، هذه هي تعاليم القدرة اليونانية. ومهما اتبعنا من وسائل للهرب من مصيرنا، فلن نكون في ذلك إلا محققين لهذا المصير، ولكن بطرق أخرى؛ فقد كان مصير أوديب هو أن يقتل أباه ويتزوج أمه، وهو مصير لم يكن يعرفه، ولكن عرفه أبوه، ملك ثيبس (طيبة
Thebes ) عن طريق نبوءة، وكان الإخفاق مكتوبا على محاولة الأب أن يهرب من مصيره بترك ابنه الوليد في الجبال، فقد قام أبوان آخران برعاية الطفل، وعندما أصبح أوديب شابا رحل إلى طيبة، فقابل رجلا لا يعرفه وقتله ، وعندما نجح في تحرير البلدة من رعب «أبي الهول» الذي حل لغزه، كانت مكافأته هي الزواج من الملكة. وفيما بعد، اكتشف أن الرجل الذي قتله أبوه، وأن زوجته الملكة هي أمه. تلك هي الأسطورة التي يفسرها علم النفس التحليلي عند فرويد بأنها انعكاس لرغبة لا شعورية عامة، هي كراهية الابن لأبيه وحبه الجنسي لأمه. وهكذا يمكن تفسير فكرة المصير نفسيا بأنها تعبير عن العجز الذي نشعر به إزاء الدوافع اللاشعورية. على أن هذا تفسير حديث، لم يعرفه اليونانيون، وأيا ما كان رأينا فيه، فلا بد أن نكون على استعداد للاعتراف بأن فكرة الجبر عن طريق المصير هي فكرة ينبغي تفسيرها بعلم النفس لا بالتحليل المنطقي.
أما حتمية العلم الحديث فإن لها طابعا مختلفا كل الاختلاف؛ فهي قد ظهرت نتيجة لنجاح المنهج الرياضي في الفيزياء. فإذا كان من الممكن تصور القوانين الفيزيائية على أنها علاقات رياضية، وإذا اتضح أن المناهج الاستنباطية أدوات للتنبؤ الدقيق، عندئذ يكون من الضروري وجود نظام رياضي من وراء عدم الانتظام البادي للتجارب؛ أي لا بد من وجود نظام سببي. ولو لم نكن نعرف هذا النظام في كل الأحوال، ولو بدا أنه سيكون من المستحيل في أي وقت معرفته معرفة كاملة، لكان هذا الإخفاق راجعا إلى نقص الإنسان. وقد لخص الرياضي الفرنسي لابلاس
Laplace
هذا الرأي في تشبيهه المشهور، الذي قال فيه إنه لو وجد عقل فوق البشر يستطيع ملاحظة موقع كل ذرة وسرعتها، وحل جميع المعادلات الرياضية، لكان «المستقبل كالماضي حاضرا» بالنسبة إلى هذا العقل فوق البشري، ولأمكنه أن يحدد بدقة التفاصيل الدقيقة لكل حادث، سواء أكان يقع بعدنا أم قبلنا بآلاف السنين. هذه الحتمية الفيزيائية هي أعم نتيجة لفيزياء نيوتن، وهي تختلف اختلافا أساسيا عن القدر؛ فهي عمياء، لا مرسومة مقدما، وهي لا تحابي الناس أو تكرههم، وهي حتمية لا بالنسبة إلى غايات المستقبل، بل بالنسبة إلى وقائع الماضي، وحتمية لا بالنسبة إلى أمر خارق للطبيعة، بل بالنسبة إلى قانون فيزيائي، غير أنها لا تقل في دقتها وشمولها عن حتمية المصير، وهي تجعل العالم الفيزيائي أشبه بساعة ملآنة تمر آليا بمراحلها المختلفة.
فإذا كانت هذه هي صورة العالم كما رسمتها الفيزياء الكلاسيكية، فلا عجب إذن إن ظهرت في عهد نيوتن موجة من النزعة العقلية فضلا عن النزعة التجريبية؛ فقد اقتصر التجريبيون على تحليل جانب واحد من العلم، هو الجانب القابل للملاحظة، بينما أكد العقليون جانبه الرياضي. على أن التجريبية انهارت آخر الأمر أمام نقد هيوم؛ لأنها عجزت عن تعليل الطبيعة التنبئية للعلم، ولم تستطع تفسير الطريقة التي يمكننا بها أن نعرف النظام السببي الدقيق للعالم، وهو النظام الذي أيقن العالم بوجوده، وكان يعتقد أنه يعرفه في خطوطه العامة على الأقل. وهكذا اعتقد العقليون أنهم كانوا على حق عندما هاجموا الموقف التجريبي، ووضعوا مذاهب ترمي إلى تفسير الدور الذي تقوم به الرياضيات في بناء العالم الفيزيائي.
ومما له دلالته الخاصة أن الدفاع ضد هجمات التجريبيين الإنجليز هو السبب الذي دعا اثنين من كبار العقليين في العصر الحديث، هما ليبنتس وكانت، إلى وضع مذهبيهما، أو هو على الأقل واحد من أسباب وضع هذين المذهبين؛ فقد رد ليبنتس على كتاب لوك «دراسة في الذهن البشري» بكتابه «دراسة جديدة في الذهن البشري»، وصرح «كانت» بأن هيوم «أيقظه من سباته القطعي»، وكتب «نقد العقل الخالص» بقصد إنقاذ المعرفة العلمية من النتائج المدمرة التي تترتب على انتقادات هيوم.
Unknown page