ـ[نصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي]ـ
المؤلف: جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي (المتوفى: ٧٦٢ هـ)
قدم للكتاب: محمد يوسف البَنُوري
صححه ووضع الحاشية: عبد العزيز الديوبندي الفنجاني، إلى كتاب الحج، ثم أكملها محمد يوسف الكاملفوري
المحقق: محمد عوامة
الناشر: مؤسسة الريان للطباعة والنشر - بيروت -لبنان/ دار القبلة للثقافة الإسلامية- جدة - السعودية
الطبعة: الطبعة الأولى، ١٤١٨ هـ/١٩٩٧ م
عدد الأجزاء: ٤
[الكتاب مشكول ومقابل وترقيمه موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
Unknown page
المجلد الأول
مقدمة
...
مقدمة "نصب الراية- لأحاديث الهداية"
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك اللهم، لك الحمد، كما أنت أهله، وكما يليق بجلال وجهك، وعظيم سلطانك، صل على صفوة خلقك، رسول الرحمة محمد، وآله، أهل بيته وعترته وصحبه، صلاة ترضيك، وترضيه عنا، يا رب العالمين.
وبعد: خطر بالبال أن يكون "نصب الراية - لأحاديث الهداية" مسبوقًا بمقدمة، تحوي أمورًا، يجب علمها، وحقائق ثابتة، تجب معرفتها.
ووقعت هذه الخطرة بالبال موقعًا. ولم تلبث حتى أصبحت فكرة، ولم تزل الفكرة، حتى دعت طلوعًا على هذه الصفحات.
فرافقتني الخطرة، وأعجبتني الفكرة، فاحتفلت بها احتفالًا، ورحبت دعوتها ترحابًا. وحاولت أن أصدّرها بكلمة في تعريف "المجلس العلمي" - بالهند، فإنه أضحى سببًا لطبع الكتاب، وعلى إثرها لمعة من ترجمة - المؤلف - ورشحة من ترجمة صاحب "الهداية".
ثم أعقبها بمقالة حافلة في أهم مواضيع الفقه، والحديث، ما يرتاح له قلب العالم، ويبتهج له عقل الفقيه، بقلم نظار محقق، وبحاثة متبحر، وأختمها بكلمة في تصحيح الكتاب، وما لاقينا فيه من كبد وعناء، والله سبحانه خير موفق ومعين.
1 / 1
المجلس العلمي
المجلس العلمي - إدارة تأليفية، فعلت في سن طفولتها، ما لو فعلته في عهد شبابها، لكفاها فخرًا وشرفًا.
رجل سعيد الحظ، ميمون الطلعة، طيب الأرومة، رحيب الصدر، من أهل سملك في - الكجرات - بالهند، أصبح إفريقيًا منذ برهة من الدهر، من مشاهير تجار أفريقيا الجنوبية.
التحق بدار العلوم في ديوبند - مركز الثقافة الدينية، والعلمية بالهند - وتخرج منها بعد سنوات، عالمًا فاضلًا.
في عهد تحصيله: ساعد طلبة العلم، أعان دار العلوم - مهد تربيته العلمية - بآلاف جنيه، وخدم أكبر شيوخه، إمام العصر المحدث، الشيخ محمد أنور الكشميري ثم الديوبندي، بما فيه أسوة لمن يأتي بعده.
فارق مهده العلمي! فخلّف صيتًا حسنًا، وذكرًا جميلًا، على الألسنة، وقدرًا في القلوب.
بأعماله الخالدة، أصبحت مدرسة تعليم الدين في - دابهيل - "من الكجرات" - جامعة إسلامية - ينثال إليها طلبة العلم من كل صوب وناحية. يتبرع إليها بعطية، تربو على ألف جنيه كل عام.
ثم فتح إدارة علمية لإحياء المآثر العلمية، غرامًا بإبقاء آثار العلم الخالدة، تحت إشراف إمام العصر السالف ذكره، ومحقق العصر الشيخ شبير أحمد العثماني الديوبندي - طال بقاءه - فوفق لأن يقدم لأهل العلم ما يربو على عشرين كتابًا: في علوم الحديث. والقرآن. والحقائق وغيرها، قبل أن يبلغ المجلس إلى ثماني حجج، من عمره الميمون.
وكذا الكريم إذا أقام ببلدة ... سال النضار بها وقام الماء
وإليك ذكر شيء من مآثره:
1 / 2
فمن القرآن: -
١ - مشكلات القرآن - لإمام العصر، محمد أنور الكشميري ﵀.
٢ - تحية الإسلام. في حياة عيسى ﵇ أيضًا له.
٣ - خاتم النبيين - أيضًا له.
ومن الحديث: -
١ - نصب الراية - لأحاديث الهداية تأليف الإمام الحافظ العلامة. جمال الدين الزيلعي، في - أربعة أجزاء كبيرة -.
٢ - نيل الفرقدين، في مسألة رفع اليدين - لإمام العصر.
٣ - كشف الستر. في مسألة الوتر - أيضًا له.
ومن الحقائق: -
١ - البدور البازغة - للإمام الشاه، ولي الله الدهلوي، صاحب حجة الله البالغة
٢ - الخير الكثير - أيضًا له.
٣ - التفهيمات الإلهية في جزءين - أيضًا له.
٤ - المعارف اللدنيّة - للإمام الرباني - المجدد للألف الثاني - الشيخ أحمد السرهندي.
٥ - مرقاة الطارم - لحدوث العالم - لإمام العصر.
فهذه وأمثالها مآثر ناصعة للمجلس العلمي ألا وإن بانيه المشار إليه، هو الحاج محمد ابن موسى السِّملكي، ثم الإفريقي. أسسه على عماد التقوى والإخلاص! نجاره شرف الخلق، وشعاره سيما العلم، ودثاره رحابة الصدر.
بَيْدَ أني ألاقى منه متضايق الصدر عند التنويه بشأن من شؤونه، غيابًا، أو شفاهًا!
1 / 3
اكتب هذه السطور، وأنا في القاهرة، وهو في إفريقيا الجنوبية، والقلب يستشعر بخوف الكدر على قلبه مني، مع صفاء. ولولا هذه الخطرة لبثثت طرفًا من مفاخره التي هو يطويها، ومناقبه التي هو يستنكف عن إفشائها، كأنها مثالب نقص، وصمات عار، وحاشاه عن ذلك. وأصدق ما يحكي حاله وحالي، ما قال أبو الطيب: -
أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه ... تأتي الندى، ويذاع عنك فتكره
لكن أبى المسك إلا أن تتم به نفحاته. وأبت الشمس إلا أن تلمع في الأنحاء سطعاتها المتشعشعة الحمراء.
أرجو عن سماحة شيمته، ورحابة صدره، أن لا يؤاخذني بهذه الكلمات، حيث جذبها القلم من جذر القلب. وحاشاها أن يشوبها نغص من الإطراء، وكدر من الرياء، وكأنها تناثرت من سنىّ القلم، من غير أن يتجشمها إرادة! ومن شيمة الكرماء حسن الظن، وقبول المعاذير.
وقصارى القول: إن المجلس قام في طفولته بأعباء، لو قام بها في فتوّته لكفاه براعة، وصاحب المجلس انتهض لمهمة دينية في ريعان شبيبته، لو انتهض لها في أوان شيبته لكفاه فضلًا ونباهة في الدنيا، وذخرًا في الآخرة، ووجاهة عند الله جل ذكره، وعظم برهانه، وأرجو له التوفيق من الله سبحانه بما تقرّ به عينه، وعيون آهل العلم في أنحاء الأرض، إنه سميع مجيب.
ثم أرى لزامًا عليَّ أن أشكر حُسن قيام صديقنا الفاضل الأستاذ السيد أحمد رضا بن السيد شبير علي البجنوري، بأعباء خدمة هذا المجلس العلمي من كل جهة بحنكة، وبصيرة، وصدق وإخلاص، وهو الذي أصبح هذا المجلس بحسن شؤونه الإدارية، ودأب جهده البالغ في تنميته وترشيحه، يرتقي معارج كماله، بما تطمئن به القلوب، وتثلج به الصدور.
أدعو الله سبحانه أن لا يزال موفقًا لما فيه سكينة لقلبه في الدارين، وراحة لقلوب أهل المجلس، وما ذلك على الله بعزيز.
1 / 4
[ترجمة الزيلعي]
إلمامة "بترجمة الإمام الحافظ جمال الدين الزيلعي الحنفي" "صاحب نصب الراية - لتخريج أحاديث الهداية"، ولمعة من مزايا كتابه الجليل
هو الإمام - الفاضل البارع، المحدث المفيد، الحافظ المتقن، جمال الدِّين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد بن أيوب بن موسى الحنفي الزيلعي ﵀.
الزيلعي - نسبة إلى - زيلع - بلدة على ساحل الحبشة، قاله السيوطي في اللباب.
وإليها نسبة شيخه فخر الدِّين الزيلعي، الفقيه، صاحب تبيين الحقائق - في شرح كنز الدقائق في ست مجلدات كبيرة، ونسب إليها عدة رجال من علماء زيلع الحنفيين، وترجم لبعضهم في كتاب قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر١ للشيخ أبي محمد محمد الطيب بن عبد الله من علماء القرن العاشر للهجرة.
قال تقي الدين بن فهد الملكي في ذيل تذكرة الحفاظ - للذهبي: تفقه، وبرع، وأدام النظر والاشتغال، وطلب الحديث، واعتنى به، فانتقى، وخرَّج، وألف، وجمع، وسمع على جماعة من أصحاب النجيب الحراني، ومن بعدهم: كالشهاب أحمد بن محمد بن فتوح التجيبي مسند الإسكندرية.
والشهاب أحمد بن محمد بن قيس الأنصاري فقيه القاهرة والإسكندرية. والشمس محمد بن أحمد بن عثمان بن عدلان شيخ الشافعية وجلال الدِّين أبي الفتوح علي بن عبد الوهاب بن حسن بن إسماعيل بن مظفر بن الفرات الجريري - بضم الجيم - وتقي الدين بن عبد الرزاق بن عبد العزيز بن موسى اللخمي الأسكندري، وتاج الدِّين محمد بن عثمان بن عمر بن كامل البلبيسي، الكارمي الأسكندري، وجمال الدِّين عبد الله بن أحمد بن هبة الله بن البوري، الأسكندري، اهـ.
_________
١ نسخته الفوتوغرافية في- ست مجلدات كبيرة - في دار الكتب المصرية، تحت رقم "١٦٧"، من التاريخ.
1 / 5
وقال تقي الدين أبو بكر التميمي في الطبقات السنية:١ اشتغل وسمع من أصحاب النجيب، وأخذ عن الفخر الزيلعي - شارح الكنز - وعن القاضي علاء الدين التركماني، وغيرهما، ولازم مطالعة كتب الحديث، إلى أن خرَّج أحاديث الهداية، وأحاديث الكشاف، فاستوعب ذلك استيعابًا بالغًا.
قال في الدرر يعني به الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: ذكر لي - شيخنا العراقي - أنه كان يرافقه في مطالعة الكتب الحديثية، لتخريج الكتب التي كانا قد اعتنيا بتخريجها، فالعراقي لتخريج أحاديث الإحياء، والأحاديث التي يشير إليها الترمذي في الأبواب، والزيلعي لتخريج أحاديث الهداية، والكشاف، فكان كل منهما يعين الآخر، ومن كتاب الزيلعي في تخريج أحاديث الهداية استمد الزركشي في كثير مما كتبه من تخريج أحاديث الرافعي.
وقال ابن العديم، ومن خطه نقلت: شاهدت بخط شيخ الإسلام حافظ الوقت، شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلاني ما صورته - بعد أن ذكر غالب ما نقلناه هنا من الدرر منه -: جمع تخريج أحاديث الهداية، فاستوعب فيه ما ذكره صاحب الهداية من الأحاديث، والآثار في الأصل، وما أشار إليه إشارة، ثم اعتمد في كل باب أن يذكر أدلة المخالفين، ثم هو في ذلك كثير الإنصاف، يحكي ما وجده من غير اعتراض، ولا تعقب غالبًا، فكثر إقبال الطوائف عليه، واستوعب أيضًا في تخريج أحاديث الكشاف٢ ما فيه من الأحاديث المرفوعة خاصة، فأكثر من تبين طرقها، وتسمية مخرجيها على نمط ما في أحاديث الهداية، لكنه فاته كثير من الأحاديث المرفوعة التي يذكرها الزمخشري بطريق الإشارة، ولم يتعرض غالبًا لشيء من الآثار الموقوفة، ورأيت بخطه كثيرًا من الفوائد، مفرقًا ﵀، وعفا عنه بمنه وكرمه. اهـ انتهى ما حكاه التميمي في طبقاته.
_________
١ نسخته المحفوظة في التيمورية، من دار الكتب المصرية، تحت رقم "٥٤٠" من التاريخ، في - أربع مجلدات.
٢ وقد أخطأ النواب، صديق حسن خان في كتابه الأكسير- في أصول التفسير وحيث جعل تخريج أحاديث الكشاف للحافظ ابن حجر، وتلخيصه للحافظ الزيلعي، وذكر هذه الأوصاف التي ذكرها ابن حجر لتخريج الزيلعي لتخريج ابن حجر فعكس الأمر ونبه عليه الفاضل الشيخ اللكنوي في تعليقان الفوائد البهية والعجب أنه كيف خفى عليه هذا! مع أن ابن حجر ولد بعد وفاة الزيلعي بأحد عشر عاما فكيف يمكن أن يلخص الزيلعي كتاب ابن حجر؟ ولم يكن هو عند ذاك في عالم الوجود، وكثير له في تراجمه أمثال هذه الأوهام
1 / 6
وقال الشيخ جلال الدين السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ - الذهبي سمع من أصحاب النجيب، وأخذ عن الفخر الزيلعي، شارح الكنز، والقاضي علاء الدين بن التركماني، وابن عقيل، وغير واحد، ولازم مطالعة كتب الحديث إلى أن خرَّج أحاديث الهداية، - وأحاديث الكشاف، واستوعب ذلك استيعابًا بالغًا، اهـ، ومثله قال في حسن المحاضرة عند ذكر حفاظ الحديث، ونقاده بمصر ص ١٥١ - ج ١.
قال البحاثة الكبير الأستاذ المحقق الشيخ محمد زاهد الكوثري طال بقاؤه في حواشيه على ذيل ابن فهد: واستمد ابن حجر نفسه في تخاريجه كذلك، وقال الفاضل المحقق الشيخ عبد الحي اللكنوي في الفوائد البهية: به استمد من جاء بعده من شراح الهداية، بل به استمد كثيرًا الحافظ ابن حجر في تخاريجه: كتخريج أحاديث شرح الوجيز - للرافعي. وغيره. اهـ. وقال الأستاذ الكوثري: والزيلعي أعلى طبقة من العراقي، وعمله هذا معه - أي مرافقته في التخاريج - يدل على ما كان عليه من الأخلاق الجميلة والتواضع، وتخاريجه شهود صدق على تبحره وسعة إطلاعه في علوم الحديث، من: معانيه، وأسماء رجاله، ومتونه، وطرقه، وقد رزقها الله الانتفاع بها، والتداول بأيدي أهل العلم بالحديث على مدى القرون، وكان بعيدًا عن التعصب المذهبي، يحشد الروايات، وقد لا يتكلم فيما له كبير مجال، انتهى كلامه.
قال الراقم: وكأن الأستاذ الكوثري يعّرض إلى كثير من الحفاظ الشافعية، ولا سيما حامل لواءهم في المتأخرين، الحافظ ابن جحر، فإنه بضد الحافظ الزيلعي، يبخس الحنفية حقهم في أمثال هذه المواضع، ويتكلم فيما لا يكون للكلام فيه مجال، ومن دأبه في كتبه - ولا سيما فتح الباري - أنه يغادر حديثًا في بابه مؤيدًا للحنفية، مع علمه، ثم يذكره في غير مظانه، لئلا ينتفع به الحنفية.
قال شيخنا إمام العصر، الشيخ محمد أنور الكشميري، ثم الديوبندي رحمه الله تعالى: كان الحافظ جمال الدين الزيلعي، من المشائخ الصوفية، الذين ارتاضت نفوسهم بالمجاهدات والخلوات، وتزكت قلوبهم عن الرذائل والشهوات، كما كان من أكابر المحدثين الحفاظ، بحور العلم والحديث، وترى من آثار تزكية نفسه أنه لا يتعصب لمذهبه شيئًا، بل يمشي مع الخصوم، ويسايرهم بغاية الإنصاف.
1 / 7
وبمثل هذه الميزة امتاز الشيخ الحافظ، تقي الدِّين بن دقيق العيد، ﵀، بين علماء عصره، وكان هو أيضًا من أكابر الصوفية، صاحب كرامات، لا يتعصب لأهل مذهبه، وربما يقصد في تحقيقه إفادة الحنفية وتأييدهم، وحاشاه أن يبخس حقهم، ومثله منا - في الجمع بين طريقة القوم، وبين علوم الشريعة، ثم النَّصَفة والعدل - الشيخ المحقق ابن الهمام، صاحب فتح القدير، وهذا بخلاف الحافظ ابن حجر، فيتطلب دائمًا مواقع العلل، ويتوخى مواضع الوهن من الحنفية، ولا يأتي في أبحاثه ما يفيد الحنفية، ويقول شيئًا، وهو يعلم خلاف ذلك، ولا يليق بجلالة قدره ذلك الصنيع، وحاشاي أن أغض من قدر الحافظ ابن حجر الذي يستحقه، وإنما هي حقائق ناصعة، ووقائع ثابتة، يجب على الباحث الناقد أن يعرفها، عفا الله عنه، وبدل سيئاته حسنات.
وسمعت منه ﵀: أن الشيخ ابن الهمام كل ما ذكره في فتحه من أدلة مذهبنا، مستفاد من تخريج الإمام الزيلعي، ولم يزد عليه دليلًا، إلا في ثلاثة مواضع: منها مسألة المهر، وقدر ما يجب.
وأفادني الأستاذ الكوثري: أن من مؤلفات الإمام الزيلعي مختصر معاني الآثار للطحاوي، وهو من محفوظات مكتبة - رواق الأتراك - بالأزهر، والكوبريلي - بالآستانة - اهـ.
أما وفاة هذا الإمام الجليل، فقد اتفقت كلمتهم، ممن ترجم له - كابن ابن حجر. وابن فهد. والسيوطي. والتميمي. والكفوي - على وفاته في المحرم سنة اثنتين، وستين، وسبعمائة - ٧٢٦ - هجرية، وزاد ابن فهد تعيينه: بالحادي عشر من المحرم، ولم يتعرض أحد منهم، لذكر تاريخ ولادته، ولم أظفر بها، مع تتبع، ودفن بالقاهرة، واتفقت به كلمة من تعرض لوفاته، والعجب أنه لم يعين أحد قبره، ولا جهته، من أصحاب التراجم، ورجال الطبقات، والمؤلفين، في خطط القاهرة، وآثار مصر: كالمقريزي. وغيره، والمتصدين لذكر مزارات الأولياء، وقبور الصالحين بالقاهرة، كالسخاوي. وغيره، إلا أن علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية ذكر عند ذكر، شارع باب الوزير، في: ص ١٠٣ - ج ٢، عطفة الزيلعي، وقال: عرفت بضريح الشيخ الزيلعي المدفون بها، اهـ. ولم يعينه من هو، فوصلت إلى العطفة المذكورة الواقعة في - شارع المحجر - برفاقة صديقي المحترم، الشيخ عبد المجيد الدسوقي عطية، وبمساعدة الأستاذ الفاضل إبراهيم بن مختار الزيلعي، فألقينا في آخر العطفة بيتًا مغلقًا، واطلعنا إلى شباكه، فإذا هو مكتوب على غلاف المرقد الشريف:
1 / 8
هذا مقام الإمام عبد الله الزيلعي، وكان خارج البيت فوق الباب، كتابة في حجر منحوتة، فقرأنا فيه كلمة: عبد الله، وكلمة الزيلعي، ولكن كان في القلب شيء، فاستظهرت بالأستاذ حسن قاسم عالم هذه الآثار فذهب وقرأ اللوح، بعد أن أتعب نفسه، فإذا هو أبو عبد الله، فاتضح أنه غيره، ثم الأستاذ حسن قاسم يجزم بأن ضريحه بقرافة القاهرة، بباب النصر، بَيْدَ أنه اندثرت المقبرة هنا، فلا يعرف اليوم قبر أحد، والله أعلم.
خصائص هذا الكتاب الجليل
قد سمعت أقوال علماء الأمة، وحفاظ الحديث في حق المؤلف، الإمام الحافظ الجهبذ، وأغنتنا كلماتهم الموجزة عن الإطناب في مدحه، بَيْدَ أني أحاول أن أشير إلى لمعة من خصائص مؤلفه هذا، نصب الراية - لتخريج أحاديث الهداية، ليكون من بدء الأمر، بصيرةً لأولي الأبصار، وبصرًا لأرباب البصائر، فيقع الكتاب في جذر قلوبهم، بانبلاج وانشراح. فمن خصائص هذا الكتاب، أنه - كما أصبح ذخيرة نادرة للمذهب الحنفي - كذلك أصبح ذخيرة ثمينة لأرباب المذاهب الأخرى، من المالكي. والشافعي. والحنبلي، فكما أن الحنفية يفتقرون إليه في التمسك بعراها الوثيقة، كذلك أصحاب سائر المذاهب لا يستغنون عنه أبدًا.
ولا بدع لو قلت: إنه دائرة المعارف العامة، لأدلة فقهاء الأمصار، حيث أحاط بأدلتها، فلا يرى الباحث فيها بخسًا ولا رهقًا.
ومنها: - أن هذا الكتاب الفذّ، خدمة جليلة للأحاديث النبوية - على صاحبها الصلوات والتحيات - أكثر مما هو خدمة للمذهب الحنفي، فليكن أمام الباحث الحثيث، أنه كما يحتاج إليه الفقيه المتمسك بالمذهب، كذلك يحتاج إليه المحدث، فأصبح مقياسًا ونبراسًا للفقهاء، والمحدثين.
ومنها - أنه نفع الأمة في الأحاديث، بتعقبها بجرح وتعديل، مع سرد الأسانيد، ثم ذكر فقه الحديث وفوائده، فالفقيه البارع، يفوز بأربه من فقه الحديث، والمحدث الجهبذ، يقضي وطره من أحوال الرواة، ولطائف الأخبار، والتحديث.
ومنها - أنه وصل إلينا - بواسطة هذا العلق النفيس - نقول: من الكتب القيِّمة في
1 / 9
الحديث، التي أصبحت بعيدة شاسعة عن متناول أيدي أهل العلم، وأبحاث سامية فيما يتعلق بالرجال، من كتب أضاعتها يد الحدثان، ولا نرى لها عينًا، غير أثر في الكتب الأثرية، وكتب الطبقات والتراجم، من ذكر أسمائها: كصحيح - أبي عوانة. وصحيح - ابن خزيمة. وصحيح - ابن حيان. وصحيح - ابن السكن. ومصنف - ابن أبي شيبة. ومصنف - عبد الرزاق. وكثير من المسانيد. والسنن. والمعاجم، وككتاب الاستذكار، والتمهيد - لابن عبد البر، وكتاب المعرفة، والخلافيات - للبيهقي، وعدة كتب من تصانيف أبي بكر الخطيب البغدادي، وكتب ابن عدي، وكتب ابن أبي حاتم. وغيرهم.
ومن كتب المتأخرين، ككتاب الإلمام، والإمام - للحافظ تقي الدين بن دقيق العيد، وكتب ابن الجوزي كجامع المسانيد، والعلل المتناهية، وكتاب التحقيق، وغيرها من كتب أعلام الأمة، ومعالم الإسلام.
ومنها - أنه نرى فيه كلمات في موضوع الجرح والتعديل، من أئمة الفن، وجهابذة الحديث، ونقدة الرجال، ما لا نشاهده في الذخيرة التي بين أيدينا، من كتب أسماء الرجال المطبوعة المتداولة، بحيث لو أفردت منه جزء مجموع، لأصبح كتابًا ضخمًا في الموضوع.
فهذه خصائص عندي، كلها على حيالها، مزايا على حدة، واليك فائدة من فوائد كتابه، تمثيلًا لما قلته.
فائدة: ومجرد الكلام في الرجل لا يسقط حديثه، ولو اعتبرنا ذلك لذهب معظم السنة، إذ لم يسلم من كلام الناس، إلا من عصمه الله، بل خرج في "الصحيح" لخلق ممن تكلم فيهم، ومنهم جعفر بن سليمان الضبعي. والحارث بن عبد الأيادي. وأيمن بن نابل الحبشي. وخالد بن مخلد القطواني. وسويد بن سعيد الحرثاني. ويونس بن أبي إسحاق السبيعي. وغيرهم، ولكن صاحبا الصحيح رحمهما الله إذا أخرجا لمن تكلم فيه، فإنهم ينتقون من حديثه ما توبع عليه، وظهرت شواهده، وعلم أن له أصلًا، ولا يروون ما تفرد به، سيما إذا خالفه الثقات، كما أخرج مسلم لأبي أويس حديث: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي: لأنه لم يتفرد به، بل رواه غيره من الأثبات، كمالك، وشعبة، وابن عيينة، فصار حديثه متابعة، وهذه العلة راحت على كثير ممن استدرك على
1 / 10
"الصحيحين" فتساهلوا في استدراكهم، ومن أكثرهم تساهلًا، الحاكم أبو عبد الله في كتابه المستدرك، فإنه يقول: هذا حديث على شرط الشيخين، أو أحدهما، وفيه هذه العلة، إذ لا يلزم من كون الراوي محتجًا به في الصحيح أنه إذا وجد فبي أي حديث، كان ذلك الحديث على شرطه لما بيناه، بل الحاكم كثيرًا ما يجيء إلى حديث لم يخرج لغالب رواته في الصحيح، كحديث روي عن عكرمة عن ابن عباس، فيقول فيه: هذا حديث على شرط البخاري يعني لكون البخاري أخرج لعكرمة، وهذا أيضًا تساهل، وكثيرًا ما يخرج حديثًا بعض رجاله للبخاري، وبعضهم لمسلم، فيقول: هذا على شرط الشيخين، وهذا أيضًا تساهل، وربما جاء إلى حديث فيه رجل قد أخرج له صاحبا الصحيح عن شيخ معين لضبطه حديثه وخصوصيته به، ولم يخرجا حديثه عن غيره لضعفه فيه، أو لعدم ضبطه حديثه، أو لكونه غير مشهور بالرواية عنه، أو لغير ذلك، فيخرجه هو عن غير ذلك الشيخ، ثم يقول: هذا على شرط الشيخين، أو البخاري. أو مسلم، وهذا أيضًا تساهل، لأن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين، لا في غيره، فلا يكون على شرطهما، وهذا كما أخرج البخاري. ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال. وغيره، ولم يخرجا حديثه عن عبد الله بن المثنى، فإن خالدًا غير معروف بالرواية عن ابن المثنى، فإذا قال قائل في حديث يرويه خالد بن مخلد عن ابن المثنى: هذا على شرط البخاري. ومسلم، كان متساهلًا، وكثيرًا ما يجيء إلى حديث فيه رجل ضعيف، أو متهم بالكذب، وغالب رجاله رجال الصحيح، فيقول: هذا على شرط الشيخين. أو البخاري، أو مسلم، وهذا أيضًا تساهل فاحش، ومن تأمل كتابه المستدرك تبين له ما ذكرناه، قال ابن دحية في كتابه العلم المشهور: ويجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم أبي عبد الله، فإنه كثير الغلط، ظاهر السقط، وقد غفل عن ذلك كثير ممن جاء بعده، وقلده في ذلك.
ثم ذلك إلماع إلى أمهات الخصائص، لا حاجة بنا إلى استيفاء الأطراف، بعد الإِيماض إلى اللباب، فقد أبدى الصريح عن الرغوة، وما يوم حليمة بسر، فنرجو الله سبحانه التوفيق، وإصابة الغرض، ونجاح العمل، والله الموفق.
1 / 11
تلخيص الكتاب، وتذييله
ثم ليُعْلم أن الحافظ ابن حجر قد لخص هذا الكتاب، وسماه الدراية - في تلخيص نصب الراية وسمعت من شيخنا إمام العصر مولانا محمد أنور ﵀: أن الحافظ ما أجاد في تلخيصه، كما كان يرجى من براعته في التنقيح والتحرير، وعلو كعبه في التلخيص، وغادر كثيرأ من غرر النقول التي ما كان يحرى تركها، وقد طبع هذا التلخيص مرتين - بالهند -، وسموه في طبعة نصب الراية. وطبع أيضًا على هوامش الهداية.
هذا، وللشيخ المحدث قاسم بن قطلوبغا الحنفي، ذيل على هذا التخريج، سماه: منية الألمعي فيما فات من تخريج أحاديث الهداية - للزيلعي، والأسف أننا مع شدة الاستقراء، لم نظفر بوجوده في مكتبة، والا فكان المجلس العلمي يريد أن يستوفي فائدة الكتاب بهذا الذيل، ليكون درة التاج لهام التخريج، ولعل الله يحدث بعد ذلك امرا.
رواية الكتاب
يرويه غالب أصحاب الأثبات، بطريق أمين الدِّين الاقصرائي، عن الحافظ شمس الدَّين محمد بن الجزري المقرئ، عن المؤلف الزيلعي، راجع "الأمم لإِيقاظ الهمم".
1 / 12
نتفة من ترجمة صاحب الهداية
بعد أن ذكرت ترجمة صاحب تخريج الهداية سنح لي أن ألحق بها ترجمة صاحب الهداية، ليعرف منزلة هذا الإمام علماء غير المذهب الحنفي، فإن الكثرة الغامرة من علماء العصر بحظ ضئيل من معرفة رجال العلم، من غير مذهبهم، وأما أهل مذهبه، ولا سيما علماء الأفغان، والهند، فهو أشهر عندهم من نار على عَلَم.
قال الحافظ بن عبد القادر القرشي في الجواهر المضيئة: علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني، شبخ الإسلام، برهان الدِّين المرغيناني، العلامة المحقق صاحب الهداية، اهـ.
ولفظ الفاضل اللكنوي في الفوائد البهية: كان إمامًا فقيهًا، حافظًا، محدثًا، مفسرًا، جامعًا للعلوم، ضابطًا للفنون، متقنًا، محققًا، نظارًا، مدققًا، زاهدًا، ورعًا، فاضلًا، ماهرًا، أصوليًا، أديبًا، شاعرًا، لم تر العيون مثله، في العلم والأدب. وله اليد الباسطة في الخلاف، والباع الممتد في المذهب، اهـ.
مرغينان - بفتح الميم - مدينة من بلاد - فرغانة -، فرغانة - بفتح الفاء -، وراء الشاش، وراء جيحون، وسيحون. وأيضًا، فهي قرية من قرى فارس. قاله اللقرشي.
تفقه على أئمة عصره، كمفتي الثقلين، نجم الدين أبي حفص عمر النسفي. وابنه أبي الليث أحمد النسفي. والصدر الشهيد حسام الدين عمر. والصدر السعيد تاج الدين أحمد. وأبي عمرو عثمان البيكندي تلميذ، شمس الأئمة السرخسي. وغيرهم.
وأقرّ له بالفضل، والتقدم، أهل عصره، كالإمام فخر الدِّين - قاضي خان - وصاحب المحيط، وصاحب الذخيرة. والشيخ زين الدِّين العتابي. وظهير الدِّين البخاري، صاحب الفتاوى الظهيرية، وغيرهم.
فاق شيوخه، وأقرانه، وأذعنوا له كلهم، ولا سيما بعد تصنيفه لكتاب الهداية. وكفاية المنهى. ونشر المذهب.
ومن مؤلفاته أيضًا كتاب المنتقى. والتجنيس والمزيد. ومناسك الحج. ومختارات النوازل. وكتاب في الفرائض. انتهى ملخصًا، وملتقطًا من الجواهر. والفوائد
1 / 13
طبقة المؤلف
عده ابن كمال باشا، من أصحاب الترجيح، وبعضهم، من أصحاب التخريج، وقيل: هو من المجتهدين في المذهب، ومال إليه الفاضل اللكنوي، في تعليقاته على الفوائد البهية، توفي ﵀، سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة - ٥٩٣ - هـ.
الهداية
صنف كتابًا، سماه بداية المبتدى جمع فيه كتابي: القدوري. والجامع الصغير، للإمام محمد بن الحسن الشيباني، وزاد عليهما مسائل عند الضرورة، ثم شرحه بكتاب سماه كفاية المنهى، في ثمانين مجلدًا، ثم اختصره في كتاب، سماه الهداية. صنف الهداية في ثلاث عشرة سنة، وبقي صائمًا في عهد تأليفه لهذا الكتاب، لم يطلع على صومه أحد.
قال إمام العصر، المحدث، الشيخ محمد أنور الكشميري الديوبندي ﵀: ليس في أسفار المذاهب الأربعة كتاب بمثابة كتاب الهداية في تلخيص كلام القوم، وحسن تعبيره الرائق، والجمع للمهمات في تفقه نفس، بكلمات كلها درر وغرر.
وقال: وقد صدق من قال من بعض أفاضل الشيعة: إن كتب الأدب العربي في المسلمين ثلاثة: التنزيل العزيز. وصحيح البخاري. وكتاب الهداية، اهـ.
وقال: براعة الإنشاء، وفضل الأدب يظهر في إفصاح التعبير الأدبي في غوامض الأبحاث، ومشكلات المسائل، ليست المزية في فصاحة عبارات الحدائق والأزهار، وذكر النسائم، وخرير الأنهار، فإنه باب طَرَقه كل شاعر وكاتب.
وقال: لا يدرك شأو صاحب الهداية في فقهه ألف فقيه، مثل صاحب الدر المختار، فإن صاحب الهداية فقيه النفس، علمه علم الصدر. وعلم صاحب الدر المختار علم الصحف والأسفار، وان البون بينهما لبعيد.
وقال: سألني بعض الفضلاء، هل تقدر على أن تؤلف كتابًا، مثل - فتح القدير، وهو شرح الهادية - في الدقة والتحرير؟ قلت: نعم، قال: ومثل الهداية؟ قلت: كلا، ولو عدة أسطر.
قال الراقم: وناهيك بهذه الكلمات، من هذا الأستاذ الإمام، إمام العصر. في منزلة هذا
1 / 14
الكتاب الجليل، وإنها ليست مجازفة وإطراء، بل خرجت من فكرة دقيقة صائبة، غاصت في دَرَك الكتاب بمكابدة العناء والتعب، فقدَّم درر تحقيقه للقوم التي أخرجها عن دَرَكه بعد برهة من الدهر.
شروح الهداية فقهًا وحديثًا
قد ذكر صاحب كشف الظنون من شروح الهداية، والتعليقات عليها، والتخاريج لأحاديثها، قدرًا كبيرًا يجاوز ستين شرحًا، ولو أخذنا في التحقيق وضم الحواشي والشروح إليه بعد عهد صاحب الكشف، وإلحاق شروحها في اللغة الفارسية، واللغة الأردية، لزدنا على القدر المذكور قدرًا غير يسير. ولاستقصاء البحث موضع غير هذا.
وأول شروحها النهاية - لحسام الدين الصغناتي، تلميذ صاحب الهداية، وقيل: غيرها، ومن شروحه الفوائد - لحميد الدين الضرير. ومعراج الدراية - لقوام الدِّين الكاكي. والكفاية في دراية الهداية لعمر بن صدر الشريعة. وغاية البيان، ونادرة الأفران - للإمام قوام الدين أمير كاتب الإتقاني، المتوفى سنة ٧٥٨ - هـ، صاحب الشامل، شرح أصول البزودي. والبناية - للشيخ بدر الدين الحافظ العيني، شارح صحيح البخاري، المتوفى سنة ٨٥٥ - هـ. والعناية - للشيخ أكمل الدين البابرتي. والغاية - لأبي العباس السروجي، الإمام المحدث، وتكملته عن الشيخ المحدث، سعد الدين الديري.
وتصدى لتخريج أحاديثها، الحافظ عبد القادر القرشي، المتوفى سنة ٧٧٥ - هـ، وسماه: العناية في تخريج أحاديث الهداية.
والحافظ البارع، علاء الدِّين علي بن عثمان المارديني، المتوفى سنة ٧٥٠ - هـ، صاحب الجوهر النقي في الرد على البيهقي، وهو شيخ الحافظ الزيلعي، وسماه الكفاية في معرفة أحاديث الهداية. والحافظ جمال الدين الزيلعي، سماه نصب الراية - لأحاديث الهداية، وقد فرغنا من ترجمته ومزاياه، وذَّيل تخريجه، الحافظ الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي، وسماه: منية الألمعي، وتقدم ذكره، وللشيخ مصلح الدين، مصطفى السروري تعليق على شرح ابن الشحنة في التنبيه على أحاديث الهداية، وللحافظ ابن حجر الدراية - في تلخيص نصب الراية، وقد تقدم في - ترجمة الزيلعي -.
وطبع من شروحه فتح القدير - للشيخ ابن الهمام السيواسي بمصر، مع تكملته، وهو من أمتن الشروح، وأبرعها، وطبع بالهند أيضًا. والعناية - للشيخ البابرتي. والكفاية وهما من أحسن شروحها فقهًا، وطبعت هذه الثلاثة بمصر مجموعة. وطبع البناية - للعيني
1 / 15
في الهند، طبعًا سقيمًا، وأصبح اليوم نادرًا جدًا، وهو من أنفع الشروح، حلًا لغوامض الكتاب، ثم جمعا بين أبحاث الفقه، وأبحاث الحديث، وهو يحتاج إلى إعادة الطبع، مع عناية بالتصحيح بالغة، ومما نحن في اشتياق وحاجة شديدة إلى طبعه من الشروح، فيما أرى - غاية البيان - للاتقاني. ومعراج الدراية - لقوام الدِّين الكاكي والغاية - للشيخ أبي العباس السروجي، حافظ الحديث.
قال الراقم: لم يخدم كتاب في الفقه من المذاهب الاربعة، مثل كتاب الهداية، ولم يتفق على شرح كتاب في الفقه، من الفقهاء، والمحدثين، والحفاظ المتقنين، مثل ما اتفقوا عل كتاب الهداية، وناهيك بهذا الإقبال العظيم، وتلقي القوم إياه بالقبول، فمن شراحه من الفقهاء المحدثين، أعلام العصر، وأعيان القوم، مثل الحافظ العيني. وقوام الدِّين الاتقاني. وقوام الدِّين الكاكي، وابن الهمام السيواسي. ومن مخرجيه من جهابذة الحفاظ، مثل المارديني، والزيلعي، والقرشي، وابن حجر. والقاسم بن قطلوبغا الحنفي، فكفى لكتابه فضلًا وشرفًا، أمثال هولاء الأعيان في شارحيه، ومخرجيه، فهل هذه المزية تساجَل أو تجارَى؟!:
وما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مصقول الحديد يمان
وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب، والله الهادي إلى الصواب. وصلى الله تعالى على صاحب النفس القدسية، والأنفاس الزكية، صفوة البرية، محمد وآله، وصحبه، وبارك، وسلم.
محمد يوسف بن السيد محمد زكريا بن السيد مزمل شاه البَنُوري،
نزيل القاهرة، عفا الله عنه، وعافاه، وجعل آخرته خيرًا مِن أولاه،
عضو المجلس العلمي، والمدرس بالجامعة الإسلامية - دابهيل سورت - الهند
يوم الاثنين ٢١، من الربيع الآخر، سنة ١٣٥٧ هـ.
1 / 16
نصب الراية - والعناية بحاشيته والعناء في تصحيحه، وطبعه
إمام العصر المحدث الجليل البحاثة، الشيخ محمد أنور الكشميري، ثم الديوبندي، المتوفى سنة ١٣٥٢هـ. رحمه الله تعالى، كان وجّه المجلس العلمي إلى إعادة طبع هذا الكتاب الجليل نصب الراية بعناية بالغة بالتصحيح، وكان الكتاب مطبوعًا في الهند، قبل خمسين عامًا، مشحونًا بالأغلاط في الأسانيد، وألحان فاحشة في متونها، مشوَّهًا بتصحيفات، وتحريفات، وسقط عبارات، بحيث اختل الغرض، وانخرم المقصود في كثير من المواضع، وقلما طبع كتاب بالهند مثله، محرّفًا مصحّفًا، وكان ﵀ يودّ أن لو يتم الأمر في حياته، لكن الأسف والرزء - أن إمام العصر وافاه الأجل المحتوم قبل إنجاز هذه المنية، ولم يوفق المجلس إلى تكميل بغيته في حياته. بَيْدَ أنه على إثر ذلك، قام مدير المجلس العلمي صديقنا الفاضل المحترم السيد أحمد رضا البجنوري - زاد الله مآثره - مشمرًا عن ساعد الجد، لتكميل أمنية إمام العصر، لطبع الكتاب، وأشار محقق العصر، الشيخ شبير أحمد العثماني الديوبندي، صاحب فتح الملهم على صحيح مسلم لاستيفاء الفائدة بتحشية الكتاب أيضًا.
فانتخب لذلك العالم المحقق، والفاضل المحدث الشيخ عبد العزيز الديوبندي الفنجاني، صاحب أطراف البخاري، فاشتغل بتصحيح النسخة المطبوعة والحواشي المفيدة على الكتاب، ولم يظفر الشيخ بنسخة مخطوطة منه حتى يقابل بها، إلا بتلك النسخة المطبوعة، مصححة بالمقابلة بنسخة مخطوطة - بكلكتة - فاعتنى في التصحيح بالمراجعة إلى أصول الكتاب من الأمهات الست، وما تيسر له من المسانيد والمعاجم وغيرها، فراجع المخارج والمصادر، وأطال النّفَس في مراجعة الكتب، من الحديث. والرجال. والطبقات، ولم يمنعه من التحقيق سآمة، ولا كلال، فوُفّق إلى حد قلما يوفق أحد إليه، ولاقى في ذلك عناءً، غير أنا نأخذ عليه شيئًا: - كنا نود أن يطلع علماء القاهرة، وفضلاء البلاد الإسلامية العربية على نفائس تحقيقات بارعة، لإمام العصر السالف ذكره، المبعثرة في مؤلفاته، من فصل الخطاب في أم الكتاب - وخاتمة الخطاب في فاتحة الكتاب وكشف الستر في مسألة الوتر ونيل الفرقدين في مسألة رفع اليدين وبسط اليدين لنيل الفرقدين وفي أماليه وتقريراته على أبحاث الحديث، وما كتبه من الحواشي على جزء القراءة - للبيهقي، وكان حضرة المحشي استعارها من إمام العصر برهة، وما استفاد الشيخ المحشي شفاهًا منه، فإن مؤلفات إمام العصر، وأبحاثه الغامضة، وتحقيقاته البارعة، مما لا مناص للبحاثة المحقق عن الاطلاع عليها
1 / 17
ولكل من يحاول التوسع مع تحقيق وتدقيق، ولكن الشيخ المحشي على رغم أنوفنا، لم ينتبه لهذه الدقيقة، أو تواكل وتساهل فيه، فلم ينقل عنها شيئًا، إلا في مواضع قليلة جدًا، وهذا مع أنه يدرك منزلة تحقيقات إمام العصر ويقدرها، وكل ذلك إن شاء الله نستدركه في الطبع الثاني، والله الموفق.
ولما وصل إلى كتاب الحج، هجم على الشيخ مرض، عاقه عن التأليف، فانتظر المجلس لعود صحته وعافيته سنة كاملة، وبعد أن خاب الرجاء، انتخب لتكميل حاشيته وانتهاج مسلكه في التصحيح، صديقنا العالم الفاضل محمد يوسف الكاملفوري، فتلا تلوه، وحذا حذوه، وقدر وفقه الله فيما أرى لأن يدرك شأوه في التحشية والتصحيح، ثم اطلع المجلس على نسخة محفوظة في المكتبة السعيدية - بحيدر آباد دكن، فأمر الفاضل الكاملفوري بمقابلة الكتاب بها، فرحل إليها، وقام شهرين حتى انتهت المقابلة، ثم رأى المجلس نظرًا إلى جلالة قدر الكتاب أن يطبع في القاهرة في ثوب قشيب حبًا لظهوره في جمال وبهاء، وسعة لنشره بين إخوان القاهرة وسائر البلاد العربية، فأمر المجلس، الفاضل المحترم السيد أحمد رضا مدير المجلس، إلى أن يتمطي صهوة الرحيل إلى القاهرة، لإنجاز هذه المهمة العلمية والدينية، بمرآه كما يشاء، وأحب المجلس أن أكون زميلًا له، فافتتح هذا السفر المبارك بالسفر إلى الحرمين، زادهما الله شرفًا وكرامة١ وبقينا شهرًا وبضعة أيام في مكة، زادها الله تعظيمًا، وصادفنا هناك نسخة مخطوطة من الكتاب في مكتبة الحرم المكي، مكتوبة بيد الشيخ عبد الحق شيخ الدلائل، ونسخة أخرى، في مكتبة الشيخ عبد الوهاب الهندي، فاغتنمنا الفرصة، وقابلنا بهما عدة مواضع كانت لم تصحح، وإذ فرغنا من زيارة الحرمين، شددنا الرحل نحو القاهرة، فنزلناها منتصف الصفر من العام الجاري، وكنا على ثقة وطمأنينة من جهة التصحيح، وألفينا في - دار الكتب المصرية - عدة نسخ من الكتاب، منها نسخة في ستة مجلدات، على الأول. والسادس تصحيحات، وبعض حواش، بقلم الحافظ ابن حجر، ولم نحتفل بالمقابلة بها كثير احتفال لضيق الوقت، والاستعجال في الطبع، وظن الاستغناء عنها في أصل التصحيح. وشرعنا الطبع، فبدا لنا في أثنائه أنه بقيت أغلاط فاحشة في الأسانيد والمتون جميعًا، تساهل فيها المصححان والمحشيان، وآلمنا ذلك جدًا، وضقنا به صدرًا، لقلة الفرصة، وعدم اتساع الظروف للمقابلة، حيث كانت تصدر، ملزمة كبيرة في - ست عشرة صفحة - كل يوم، ومن العجيب أنا نجد في الحاشية تخريج للحديث، وتفصيل المخرج بذكر الباب، وتقييد الصفحة، ويكون في الإسناد
_________
١ تفصل الرحلة هذه في كتاب الرحلة لصديقنا الفاضل السيد أحمد رضا في اللغة الأردية.
1 / 18
والمتن خطأ يذهل عنه المصححان، ونراجع المخرج، فنلقى الحديث هناك صحيحًا، لم يتوجه إليه المصححان في نسخة الكتاب، ومثل هذا كثير، ثم نجد أسماء مكررة في صفحة واحدة مثلًا: هزيل. وزريع وخيثم، مثلًا. فيكون تارة - هذيل بالذال وتارة بالزاي، وزريع - تارة بالزاي، وتارة بالذال، وخيثم - تارة بتقديم التحتانية على المثلثة، وأخرى بالعكس، ولا يتوجه المصححان إلى تصحيحها، وجعلها على نمط واحد، وظاهر أن الزاي في الأوليين هنا، وتقديم التحتانية في الثالث متعين، فاضطررنا إلى جمع الكتب من الأصول المتعلقة به، وألجئنا إلى المقابلة بنسخة دار الكتب، وزالت الثقة على التصحيح السابق، وخاب الرجاء، وقام بأعباء هذا التصحيح الأخير للكتاب، صديقنا الفاضل السيد أحمد رضا ولاقى فيه عناءً وعنتًا. ولا نغمض من منزلة تصحيح المصححين ما يستحقانه، وإن لهما الفضل في التصحيح، وصححا أكثر بكثير مما لم يصححا، ونعلم أن ذلك لكثرة الأغلاط، فوقع ما وقع، ولم يبق من الأغلاط إلا نحو ربع منها، غير أنا نحاول لفت النظر إلى عنايتنا بالتصحيح، وإفراغ مجهودنا في مثل هذه الظروف الضيقة.
ثم إن الضغث على الإبالة، أن فضيلة المحشي صحح نسخته التي يملكها، وحشى على هوامشها، وترك نسخة المجلس التي فوضها إليه المجلس لهذا الغرض، ثم لم يسمح بنسخته بالإعارة، مع شدة الحاجة إليها، فألجئنا إلى نقل التصحيحات والتحشية، ثم بقيت في النقل أغلاط، وسقطات في العبارات، فزاد الأمر غمة، حتى اضطر المحشي إلى إرسال نسخته إلى القاهرة بالبريد، ثم إنا نرى في كثير من المواضع، الحواشي كالمذكرة غير مرتبة، وغير مهذبة، فافتقرنا في ترتيبها إلى زيادة كلمات ونقصها، وقصارى القول: إنه استعرضت أمثال هذه الأمور المتعبة في أثناء شغل الطبع، حتى عاقتنا عن كثير من المهمات العلمية التي حاولنا أن نقضيها في عهد الإقامة بالقاهرة، ولم ندرك المقابلة بالالتزام، مع نسخة دار الكتب إلا من الجزء الثاني، نعم أدركنا كثيرًا من الأغلاط في الجزء الأول، حيث انتبهنا لها، ولا سيما الملزمة الأولى، فإنا أعدنا طبعها بسبب أغلاط فاحشة بقيت فيها على غرة منا بالتصحيح السابق، ومن المشكل أن نذكر نماذج تلك التصحيحات، ونكلف الناظرين على الثناء على كل لفظة لفظة، ومن أجل هذا لم ننبه على الخطأ في الهوامش في الطبع السابق، بل التزمنا التصحيح، وعند اختلاف النسخ سلكنا مسلك الترجيح، فإن لم يترجح جانب أشير الاختلاف في الهوامش، ولا حاجة هنا إلى بسط الأمثلة، ففي سبيل الله ما لاقينا من العنت البالغ، والكبد في التصحيح، وما بذلنا من المجهود البشري، وعلمنا أن من أصعب الأمور أمر التصحيح، ومع هذا لا ندعي أنا استوفينا حق التصحيح، ولا ندعي أنه لا يجد
1 / 19