أغاني الجنود
الأمومة
مي تتنهد
تذكارات يتيمة
الغريب
الغريبان
حكاية هيفاء الديرانية
أجراس العيد
أعطوا يعطيكم الله
جوائز الفضيلة
التطور النسائي
التربية القومية
يا بلادي
تعبت من المدينة
درس في الوطنية1
ما نرى وما نسمع
بابل في سوريا
قولوا لها لتقول لهم
من أساطير الأقدمين1
ويومها العصيب ...
صوت الأم
الحاكمية الوطنية
من المسئول؟
موجة السرور الكبرى
حياتنا الاقتصادية
مستقبل الآثار في سوريا
حكاية الآثار
مي وكتابها
مينرفا وأخواتها
كتاب باز
وديع صبرا
أحجار الزاوية
إلى جامعة السيدات
على ذكر اللغة العربية
إلى روح أبي أمين1
تحية النهضة1
يا مي1
الإرادة عند السوريين1
ختام
أغاني الجنود
الأمومة
مي تتنهد
تذكارات يتيمة
الغريب
الغريبان
حكاية هيفاء الديرانية
أجراس العيد
أعطوا يعطيكم الله
جوائز الفضيلة
التطور النسائي
التربية القومية
يا بلادي
تعبت من المدينة
درس في الوطنية1
ما نرى وما نسمع
بابل في سوريا
قولوا لها لتقول لهم
من أساطير الأقدمين1
ويومها العصيب ...
صوت الأم
الحاكمية الوطنية
من المسئول؟
موجة السرور الكبرى
حياتنا الاقتصادية
مستقبل الآثار في سوريا
حكاية الآثار
مي وكتابها
مينرفا وأخواتها
كتاب باز
وديع صبرا
أحجار الزاوية
إلى جامعة السيدات
على ذكر اللغة العربية
إلى روح أبي أمين1
تحية النهضة1
يا مي1
الإرادة عند السوريين1
ختام
النسمات
النسمات
تأليف
سلمى صائغ
إلى أنس العزيزة
السائرة بسرعة إلى ذروة الكمال الإنساني، والمضيئة بروحها النيرة سبيل «رسول» جهادنا النسائي. إلى المرأة التي علمتني أن أخدم بمحبة ومعرفة، أقدم هذا الكتاب.
سلمى
تمهيد
بقلم جرجي نقولا باز
أتمنى لو كان لي أسلوب كاتبة «النسمات» لأحسن التمهيد؛ لأن كتابا نفيسا ممتازا كهذا الكتاب أولى بمثل إنشائها منه بإنشائي؛ ليوازي تمهيده فصوله.
أما وأنا المحظي بجمعه، وملاحظة طبعه، والمستلذ مراجعته وتكرار مطالعته، والمعجب جدا بكاتبته، ولا بد لي من تدوين تمهيد له، عملا بعادة المؤلفين، فلعلي أستمد من جماله جمالا أستطيع به إيفاءه واجب التمهيد ولو دون ما يوازيه.
ولا أتعمد تعريف الكاتبة وهي «بيراعها الساحر» غنية عن التعريف، ومطالعاتها يعرفنها من زهاء عمر البدر في زمن «حسنائي»، ثم في «مينرفا» و«الفجر» و«الخدر» و«المرأة » و«الحياة» الجديدتين، ومطالعوها يذكرونها من عهد «البرق» إلى «المعرض» و«السائح» و«الشعب» و«لسان الحال» و«مجلة سركيس» وغيرها من الصحف العديدة أخذا عن بعضها.
إن كاتبتنا النابغة ولئن تجاهلت موهبتها اتضاعا، وحرمتنا منها توفرها على الإنشاء جهدها فيما مضى، إلا أن اليسير الذي أنشأته فيه من الإبداع شيء كثير، فيه جمال وفن، فيه ريشة مصور، ونغمة موسيقي، وخيال شاعر، ومعرفة عالم، وأدب كاتب، ورأي مفكر، وشعور حساس، فيه وطنية وحرية وغيرية وإنسانية، فيه جرأة ونهضة وحكمة ومحبة، وفيه شفوف لامس الروح، وسمو بلغ السماء.
فرأيت أن من أجمل الخدم أؤديها لبنات العرب أن أجمع ضمة من زهر آداب سلمى، أبرهن بها أهلية المرأة لمباراة الرجل فكرا وإنشاء، حتى في المواضيع الجدية الجافة، تاركا لهن ولأبناء جنسي الحكم في ذلك.
فسألت نابغتنا السماح لي بجمع هذا الكتاب من بدائع آثارها، خدمة للأمة، فأجابت سؤالي مشترطة علي أن تجعله من فضلها هدية منها إلى زوجتي، وأن أنشر فيه كلمتها عن كتابي «إكليل غار» التي جعلتني فيها من حسن ظنها بي شيئا مذكورا، وألا أمدحها بكلمة.
ولئن عملت بشرطيها الأولين، فلا أعمل بالثالث، وإن سكت فسواي يتكلم، وهذه نسماتها أفصح متكلم.
نسمات باردة، حارة، منعشة، لاذعة، فيها تغريد العصفور، وهينمة النسيم، ومشبهات بزوغ الشمس ومغيبها، وطلوع البدر وتلألؤ النجوم، ورواء الزهر وشذا العبير، فيها من حنان الأم ومن شعور الأخت، ومن تجرد المخلصة، وفيها من حزم المهذب، وجزم المعلم، وإيمان المرسل، وإخلاص العامل الإنساني.
ومهما برهنت آثار سلمى نبوغها فأمامها مستقبل عظيم، ولا غرو فهي صائغة اسما وفكرا وإنشاء، هي سائرة مسرعة دواما إلى الأمام، وشعارها من حسن إلى أحسن، ومن بديع إلى أبدع شأن الفنانين النابغين.
وسيلي «النسمات» كثير من بدائع سلمى، إن شاء الله.
أغاني الجنود
ارجعوني إلى بلادي، فقد اشتاقت نفسي سماء بلادي.
ارجعوني إلى الشاطئ البهيج ذي الرمال البيضاء، حيث تمرغت طفلا، وحلمت فتى ، وأحببت شابا، وأنجبت كهلا.
ارجعوني أسمع نشيد الأمواج تردده البحار منذ مئات الأجيال، فيتخدر دماغي، وتسكر مخيلتي، وأحسب نفسي قطعة من الخلود، وقسما من الجمال. •••
ارجعوني إلى لبنان فأرى بناته يقطفن العنب والتين، ويستقين المياه العذبة من الينابيع، ويرجعن عند الغروب أسرابا تمر بين الصنوبر فتختلط أصواتهن الحلوة بحفيف الأوراق، ونقيق الضفادع، ورنة الناقوس على التلال البعيدة.
ارجعوني، ارجعوني، أرجعوني ساعة أسمع هذه النغمات فيدق لها ناقوس قلبي.
الجندي الشيخ
أنا كهل جاوزت الخمسين، سحبت جنديا وقد كاد ظهري أن ينحني،\ فتركت مدينة آبائي وسرت بين يدي ضابط صغير خليع أمسح حذاءه، وأطعم فرسه، وأنا سيد في قومي، أمير بين بني عشيرتي.
مشيت نهارا وليلا، وليلا ونهارا، حتى حسبت أن ليس للعذاب آخر، مشيت على الجليد وجررت ثقل الحديد، وتساءلت: رباه! أما للظلام زاجر؟!
ارجعوني إلى قريتي فأجلس أمام الموقد، وأرى أولادي وأحفادي يلعبون فيمثلون شخصي آن كنت صبيا ...
ارجعوني، يلامس قلبي قلوبهم الخضراء فأعود فتيا ...
ولكن هل يهمكم إفراح الحياة يا من تعيشون لسلب الحياة؟
الجندي الشاب
أنا شاب، جررت إلى الخنادق، وكلفت حصد النفوس، فحصدت، وحصدت، وحصدت.
حصدت حقولا أغراسها شبان وفتيان.
حصدت شبيبة قوية، نشيطة، منظمة، عالمة متفننة، كل ما في أوروبا من الجمال والقوة والعلم والفن كله مر أمام الآلة التي حصدت ولم ترحم.
حصدت البستان، تلو البستان، تلو البستان.
كأنه سباق بين الأمهات ومعامل كروب.
هذه ترمي ألوف القنابل، وتلك حبات القلوب.
حصدت وحصدت حتى ذابت حشاشتي من منظر الدم فصرخت: رباه! أما للجور قاهر؟!
ارجعوني إلى بيتي فأرى عروسي الصبية وطفلي الصغير، هل عرف رجل قبل اليوم معنى ابتسامة المرأة، وقبلة الولد في الصباح والمساء؟
هل درى أن في عيون الأطفال آية من ألحان السماء؟
ارجعوني فقد تاقت نفسي لملامسة خد صغير نعوم.
ارجعوني لأشعر بوجود النعيم.
تبارك خالقه الجبار العظيم.
ولكن نعيمكم دم وسماءكم صواعق.
ولكن نعيمكم للإنسان جحيم.
الجندي الفتى
أنا فتى اقتطعوني من صدر أمي، وأمي عروس بين البنات، وفلة بين زنابق المروج.
جروني وأنا صغير، فكلفت حمل الجرحى تحت صواعق الفولاذ الأحمر وأنا لم أتعود رؤية الدم.
أمي حنون تبكي لذبح العصفور، وقد ربيت في أحضانها، ولا أب لي يعلمني الخشونة، فنشأت نحيفا حساسا تسيل دموعي كدموع البنات.
أناموني على الحضيض وفي الوحول، ومذ رأت عيناي النور أنام في سرير أمي، وسرير أمي شيء كعرش سلطان له ملاءات كتانية، وستائر من حرير، وغدائر أمي الشقراء تملأ الوسادات، وتقيني البرد في ليالي كانون.
خذوني إلى خدر أمي وإلى أنفاسها النقية، خذوني! إن في نظرات النساء نعيم الحياة، وفي نبرات أصواتهن أناشيد الخلود.
الجندي المتطوع
وأنا رجل من لبنان، هاجرت في أول أمري إلى حيث يقذف الشقاء أبناء الشرق المسكين.
فكنت أسد رمقي وأرسل من وراء البحار ما يقوم بأود عيالي.
وبغتة هتف البوق، وسدت البحار، فتطوعت مع المتطوعين ورميت بنفسي داخل البركان البشري كي أموت فلم أمت.
وسكت النفير فأرجعني قائدي إلى بلادي.
فسرت إلى قريتي وفتشت عن بيتي، فرأيت مكانه أربعة جدران متداعية، دخلت من المكان الذي كان في سالف الزمان بابا، ونظرت في إحدى الزوايا بقايا الموقد وفوقها آثار الدخان.
ورأيت على جدار شيئا أشبه بأزهار صناعية كانت تعلقها زوجتي حول أيقونة العذراء، وتحت الأيقونة كانت تضع سرير الأطفال.
فجلست مكان ذلك السرير، ورفعت نظري فوقع على المسرجة.
فتذكرت نور السراج الزيتي الهادي، وأغاني أمي لأخي الصغير، ورقص الصبيان أترابي ليلة العيد.
وذكرت منظر النار في الموقد، وصوت الرياح تقصف خارجا.
وذكرت وجه زوجتي، وعنقها الممتلئ، وصوتها الرخيم يحدو أغنية الأمهات، وحسبت أنني أسمع صوت السرير الخشبي ذاهبا آيبا.
فهرولت مسرعا من ذلك المدفن الذي ضم حبي وآمالي وآلامي، وذهبت إلى الكاهن الشيخ وسألته عن عيالي، فروى لي الحكاية التي سيرويها التاريخ عن اللبنانيين واللبنانيات!
باعت زوجتي حلاها وثيابها وفراشها، ثم قطعت أغراس الزيتون في البستان، ثم باعت البيت وأكلت ثمنه، وبعد هذا نزلت إلى بيروت مدينة الذهب والفضة، مدينة الجمال والحب، مدينة العلم والدين، مدينة الأدب والأدباء، مدينة الهياكل والمدارس.
ومدينة الخلاعة والفساد والظهور والرياء.
نزلت زوجتي حاملة صغارها، فتعلقوا بأذيالها وتبعوها في الأسواق، فاستعطت وأطعمتهم، وجاعت وأشبعتهم، حتى هزل منها اللحم وبرز العظم، فانحطت قواها ومات فيها الإنسان، ماتت فيها نتيجة تهذيب المئات من السنين.
وسرقت فسجنت في الدائرة، ولما خرجت تعلق بها صغارها، فرمتهم وسارت في الأزقة المظلمة محتفظة بالصغير إلى أن مات الصغير، فحملته وأرته للناس ميتا، فأشفقوا عليها، ولما رموها بشيء طرحت الميت وجلست تأكل بنهم الوحوش.
وأخيرا حمت ودنا الأجل، فجرت نفسها إلى القرية وماتت أمام عتبة الباب.
قيل في القدم: هنيئا لمن له مربض عنزة في لبنان! تعالوا، تعالوا يا عابري السبيل رثوا أرز لبنان، وبساتين لبنان، وعيون لبنان.
تعالوا اشتروا السهل والوعر بلا فضة وبلا ثمن، تعالوا فقد بيع البيت والبستان بربع قنطار من القمح، هلموا لشراء الجواري والعبيد، فقد بيعت المرأة بريال، والابنة برغيف!
أنشودة المهاجر
ارجعوني إلى لبنان! إلى أديمه وسمائه، إلى ثلوجه ومائه، إلى وديانه الجليلة، وآكامه الجميلة، وغاباته الخميلة، ارجعوني إلى لبنان! •••
إن الحياة لفي أشعة الشمس البارزة من وراء جباله.
والحب يدب خلال أنوار البدر الساطعة فوق تلاله.
إن العبادة لفي ليلة من لياليه المقمرة وقد تفضض الجو والأديم.
وسجدت عناصر الكون ليهوه القديم!
إن الخشوع لفي نظرة إلى أشجاره الباسقات.
تشابه ليلا أشباح الجبابرة المرعبات.
كل ما فيك يا لبنان يهيب بالنفس إلى العبادة والأمل.
قباب أديارك القديمة وهي ترسل مساء أصوات النواقيس، وخرير مياهك تتدفق في الوديان، ودبيب الهواء بين أوراق الزان، وهمس النسيم في مباسم الغزلان.
كل ما فيك يا لبنان حبيب وجميل.
هدير العاصفة تكسر شتاء ضعيف نبتك يمثل جلال رواسيك الشوامخ وقد وقفت صامتة تهزأ بالدهور.
والثلوج على نواصيك تذوب في قلبك وتغور لتتفجر من عيونك أنهارا وينابيع، رموز أزلية لناموس التجدد الكامن فيك، والنبات الأصفر الذابل اليابس على جوانب طرق العربات دليل على وجود الحياة في تلافيف تربتك يا لبنان.
حتى واللثام على رءوس العذارى مثال أبدي للفضيلة الكامنة في نسائك، والفضيلة في نسائك هي دعامة حياة بنيك يا لبنان. •••
هل أعيش لأرى الحياة تدب بين بنيك؟
رأيت الموت ناشرا أجنحته السود فوق كل ذي حياة فيك!
رأيت الحياة تتمرغ في الأقنية والأقذار، رأيت الشبيبة تمشي إلى الفناء وقد مات فيها نشاط الإنسان.
رأيت الأطفال تقطع من كبد الإنسانية وترمى في سلسلة الحيوان.
وآه! كم تفتتت نفسي على ما كان يجري فيك يا لبنان!
فتحت عيني للنور وكانت أغاني طفوليتي أهوال سنة الستين، ففزعت لبني أمي، ونشأت نافرا من السفاحين، كارها للمتعصبين، وكبرت فألفت حياة الشرق! وبحثت، ولما تفهمت أشفقت على الذابحين، وأحببت الجاهلين. •••
كبرت فإذا شبان بلادي يهاجرون بالعشرات والمئات والألوف، ثم يرجعون فيأخذون من شابات البلاد زهرات يانعات عطرات.
وهناك في أرض المهجر تنمو غريبة عيال لبنان، متبعثرة في أنحاء المعمورة من كندا إلى المكسيك إلى الأمازون إلى الشيلي إلى أستراليا.
أعيدوا لي بني يقول: لبنان، أعيدوا لي عيالي، أرجعوا لي أمتي، عودوا إلي فأجدد كياني القديم في الشرق القديم. •••
كبيرا كنت أو صغيرا فأنت أنت يا لبنان.
ولئن فصلتك جراحك الدامية عن سوريا فأنت عين سوريا وقلب سوريا. هو ذا بنوك في المشارق والمغارب «بنوك آن كنت صغيرا» يحملون النشاط في قلوبهم، والأنفة في نفوسهم.
بنوك نفخوا في الشرق نسمة التجدد فتكهرب بها الشرق من سوريا إلى النيل إلى الجزيرة إلى العراق.
وبنوك، يا لبنان، سيحملون في الغد فكرة الاتحاد المجيد.
من على رواسيك ستبعث الحياة الجديدة إلى الشرق الجديد وفي وديانك ستنشأ فكرة اندغام عناصر سوريا ولبنان، اندغاما لا يحله الجهل.
ولا تفرقه الأديان. •••
ارجعوني إلى لبنان! إلى أديمه وسمائه، إلى نسيمه ومائه، إلى آكامه الجميلة، إلى غاباته الخميلة، ارجعوني إلى لبنان.
الأمومة
إلى ابنتي
إن في نظرات الأمهات نعيم الحياة
وفي نبرات أصواتهن أناشيد الخلود.
يا حلاوتك عندما دببت وعندما شببت.
بل قبل أن ولدت.
عندما تململت لأول مرة قرب فؤادي، فأحدثت في نفسي ثورة قلبت بلحظة كياني، وحولتني من ولد خلي طيار إلى كائن مثقل بالحنان والحب، وعندما وثبت إلى الحياة بيديك الورديتين، وعينيك المغمضتين، الجاهلتين معنى الحياة والوجود.
وعندما أتوا بك إلي فأخذتك إلى صدري، وبقيت طول ليلي أتأملك على نور الزيت الضئيل، ناظرة إلى عينيك، وجبينك، وفمك، وأنفك، وخديك، وكل أعضائك المتناهية في الدقة والليان، وقائلة في نفسي: «هي لي، هي لي»!
وعندما كنت أسقيك مذوب قلبي، وأراك تنمين يوما فيوما بما تمتصينه من ماء حياتي، كم تلذذت في تلك الساعات الطويلة، وسكبت نفسي أمام هيكل حبك متمنية لو أعطيك كل ما في قلبي من دم، وكل ما في نفسي من قوة، وكل ما في كياني من حياة.
وعندما فطمت فبكيت صدري، فلمست أول هموم الحياة.
يا حلاوتك في كل آن وزمان يا حلاوتك. •••
يا لجمالك في الماء تشابهين الدمى والتماثيل، وتمثلين لي الإنسانية في أدوارها النقية من قبل أن ينخرها دود الأمراض وسوس الفساد! كم وقفت خاشعة أمام تمثالك المعبود! وكم تاه نظري بين استدارة ذراعيك، وبضاضة كتفيك، وتضاعيف عنقك! وكم خرق فكري الغلاف الجميل وتغلغل بعيدا بعيدا، فتمثلت رئتيك، وقلبك الصغير يدفع الدم إلى جسدك ويحييك بنظام المبدع الأسمى! وتمثلت قواك العاقلة تتكيف وتنمو شيئا فشيئا بما وجد فيها من خميرة وراثية، وما يزاد عليها من تأثيرات المحيط، كم وددت لو أزيل كل ما أورثتك إياه - رغما عني - من نقائص ومساوئ! وكم تمنيت لو أعطيك كل ما أتوق إليه من خير وصلاح وكمال أسمى! •••
يا لبلاغتك اليوم! تتكيفين، وتتفهمين، فتقابلين وتحكمين، عندما تتأملين في خطوط وجهي، وتحدقين إلى داخل عيني فتنعكس على وجهك الغض كل تأثرات نفسي، وتلمع عيناك للهناء، أو تظلم لليأس، أو تضحك للسرور، أو تبكي للشقاء!
وعندما تقيدين عنقي بذراعيك وتسأليني: أمي لماذا أنت نحيلة وصفراء؟ لماذا لا تبسمين؟ أمي تعبانة لأنك تشتغلين؟ ثم ينتفض جسمك ويختلج فؤادك وترتجف شفتاك وتسيل دموعك، آه! كيف تجثو نفسي عند قدميك متوسلة إليك أن تكفي عن البكاء؟! وكيف أود لو أدخل إلى ذاكرتك الغضة فأزيل منها صور البؤس، وأضع مكانها صور الهناء؟! كم تتسابق دموعي حنانا لحنانك، وحبا لحبك، فأضمك إلي حاسبة أنني أضم كنوز الأرض وغني الكائنات!
كم سكبت من روحي في روحك! فأعطيتك حتى لم أبق لي شيئا وعدت إليك، فإذا أنت نبع لا يعرف الجفاف يعطيني ويعطيني ويعطيني بلا حساب!
من عينيك تنبعث قوة سحرية هي زادي في الصباح والمساء.
عندما تنفذ في قوة الجهاد انظر إلى عينيك.
عندما تضع الأيام أمامي حواجزها الهائلات أنظر إلى عينيك.
من عينيك إرادتي، وقوتي، ووجودي، وتجددي، وعلة بقائي، وسر حياتي. •••
تفقد المرأة أباها، وأمها، وأخاها، وأختها، فتتألم نفسها، وتبكي عيناها، ولكن موت الولد يؤلمها جسديا فتتوجع كمن فقئت عينه، أو بترت يده، أو شقت كبده!
كان لي ملاكان ذهبيان!
فنزل يوما ملاك أسود كبير على بيتي ونظر بعينيه الناريتين إلى أحدهما، وكما تكهرب الأفاعي صغار الزغاليل فتأتي صاغرة إلى أفواهها، كهرب ملاك الموت ولدي فسار أمامه صاغرا حزينا!
آه! ما أمرهم عندما يموتون!
آه لنظرات الحزن في عيونهم تقطع الأوصال والأكباد عندما تعف شفاههم عن أطايب الحياة وتتحول إلى ظلمات الأبدية!
عندما يصارعون قوات الموت بكيانهم الضعيف فيختلجون، ويئنون، ويحشرجون وهم لا يدرون ماذا يقطعون.
لمس الموت تمثالي الحي فأصبح باردا.
فأخذته إلى صدري، فهوى عني ومثل لي جمود الموت، فلم أخف الموت لأول مرة في حياتي. عانقته نفسي ساكنة مطمئنة، وشعرت أن الموت قسم من الحياة، وبقيت أتمرغ في حزني هادئة، خاشعة، كأنني اكتشفت في دقيقة كل أسرار الأرض والسماء.
واحتمل الموكب الصغير، الجسم الصغير ضمن النعش الصغير، ومشى به خلال أشجار السنديان، فوقفت أتبعهم بنظري إلى أن أصبحوا نقطا سوداء كبيرة تحمل نقطة بيضاء.
وأراد ذوي أن يحولوا مجرى أفكاري بكلمات مألوفة، فتألمت من نبرات أصواتهم البشرية التي قاطعت في نفسي أصوات الأجواق العلوية! •••
سكوت. بالله أيها الناس، تقول الأمومة!
إنني والموت واحد؛ فلا تفصلوني عن نفسي.
الأمومة شيء عظيم كهذا الوجود؛ إلهي كالملأ الأعلى.
في الأمومة كل ما في الطبيعة من حرارة وندى وأمطار وعواصف وصواعق وسكون وإعصار.
في الأمومة ينابيع الحب والألم، والسلوى واليأس، والصبر الجميل!
كل ما في الحياة والموت من الأم وإلى الأم!
سكوت، سكوت، أيها الناس. تقول الأمومة.
أنا والموت واحد؛ فلا تفصلوني عن نفسي، ولا تحولوا بضجيجكم بيني وبين كياني.
مي تتنهد
مي ابنة في الثامنة من عمرها، ذات بشرة سمراء زاهية كسنابل القمح، وخدين حمراوين بلون الشقيق، وفم وردي عجيب في صغره نحيف لطيف، حتى يحسب الناظر عن بعد إلى مي أن هنالك حبة كرز حمراء في صفحة وجهها البيضاء.
وحاجبا مي قوسان مشدودتان مقفلتان فوق أنفها الصغير، وعيناها ... آه من عينيها الصغيرتين كلوزتين، الكبيرتين كهذا الوجود، بما في هذا الوجود من كواكب وأقمار، وأزهار وأنوار، وشواهق وبحور ...!
أما شعرها فأسود لماع متجعد غزير، قصير إلى ما فوق عنقها الصغير. ولو ترك شعر مي مذ ولدت لكان اليوم كالحبال المدلاة لقوة الحياة في أصوله، ولكن المقص لا يبرح يمر فوق تلك الذؤابات الجميلة؛ ذلك لأن قلب أم مي - كقلوب الملايين من الشرقيات - ما كان مرة طفلا، بل حمل هموم الحياة في العاشرة، وشاخ وذوى في العشرين؛ لذا تعمل أم مي على إبقاء ابنتها طفلة طفلة، إلى أن ترتوي ضحكا ولعبا وقفزا وركضا، فكأنها بهذا تريد أن تعطيها كل ما حرمته هي في فجر الحياة.
وهنالك عامل ثان يحمل أم مي على التمسك بتلك الطفولية كما بسعادة قريبة الزوال ... نظرت يوما إلى ثوب مي القصير فقالت ضاحكة: كبرت يا ولدي! أجابت: لا أريد أن أكبر. - ولماذا لا تريدين أن تكبري؟ - ذلك لأنني عندما أكبر لا أعود أجلس على ركبتيك.
ومنذ، زادت أم مي تعلقا بالأيام المسرعة في المسير، وأخذت تنظر بخوف إلى الأثواب الآخذة بالقصر شهرا فشهرا ... وتفكر بذعر باليوم القريب «يوم تكف مي عن الجلوس على ركبتيها».
وربما نظلم أم مي إذا قلنا: إنها مسيرة بالأنانية؛ فهنالك عامل ثالث يحملها على إبقاء ابنتها طفلة، ذلك أن دماغ مي أكبر من سنها، فلو أنها سلمت إلى المعلمين والمعلمات كباقي الأولاد لكانت اليوم تقرأ شكسبير وسبنسر، ولكانت قليلة النوم، صفراء نحيلة، غائرة العينين، مقوسة الظهر ، بطيئة الحركة، ولكن أم مي تكره بكل قلبها الأطفال الهرمين، فمي تدخل سريرها الساعة السابعة، وكثيرا ما يقهرها سلطان النوم قبل أن تنتهي من صلاتها الصغيرة، وهي طروبة ترن ضحكتها العالية في جوانب الدار كأجراس العيد، لعوبة لا تعرف الراحة إلى أن يجيء أوان النوم. هي لا تقرأ شوقي ولا حافظ، ولكنها تعرف أسماء شواهق وينابيع لبنان، فتصف رأس العين ونبع العسل ووادي العرائش، وكأكابر الشعراء تتغزل بألوان الشروق والغروب، وقصف العاصفة، وهدير البحر، وهديل الحمام ... •••
قصدت أن أصف مي وهي تتنهد، فما لي أسترسل وأسترسل إلى أن يمل المطالع؟
أيها الكتاب! ما بالكم تكلمونا عن الأطفال؟ تقول الشبيبة: كلمونا عن مسرات الحياة، عن الحور المسترسلات الشعور المتجردات كتماثيل أفروديت وعشتروت.
ولكن الأطفال، أيها الناس، هم نصف الوجود، هم هذه التماثيل التي تعبدون فيها الشباب، فإذا بان لكم الهرم الباكر انقلبتم يائسين.
أيها الناس، من منكم يدخل إلى نفسية الأطفال فيعيش عمره مرتين؟ من منكم يصور لنا حزن الأطفال، وحب الأطفال، وغيرة الأطفال؟ تهملونهم فيشبون كما يشاءون، وعندما يأتي زمن الحصاد تجدون أمامكم شبيبة هرمة، متجعدة، ذاوية كأوراق الخريف، ونخرة كأخشاب أكلها السوس.
كان لوالدة مي صديقة لها ابنة تدعى هند، فانتقلت محبة الأمهات إلى البنات، وصارت هند تبكي لبكاء مي، ومي تضحك لضحك هند، وكان في بيت مي خادمة تدعى مريم، جاءتها أمها يوما زائرة، فدهشت مي الصغيرة، وأخذت تدور حول الزائرة تتفحص أسنانها، وضفائرها الصناعية، وثوبها الواسع، واستأنست فأصغت إلى عبارات الحنان بين مريم وأمها، ولم تتمالك أن سألت هل «للكبار» أمهات؟ فأجيبت أن لكل الناس أمهات.
ولم يأت المساء إلا وفكرة الأمومة تملأ دماغ مي الصغير، فأتت وجلست على ركبتي أمها وسألت: يا أمي، أين أمك؟ - ليس لي أم. - لي أم، ولهند أم، ولمريم أم، ولكل الناس أمهات، وأنت أين أمك؟ - في السماء يا ولدي.
فحزنت مي الصغيرة، ولمع في عينيها بريق ألم عميق، فتنهدت وصرخت بصوت مرتجف: آه ... يا أمي، لماذا أنت بدون أم؟! وللمرة الأولى بكت مي على أمها ووحدة أمها! •••
عندما اشتعلت الأرض بالحرب الكونية، علمت مي أن تصلي في كل مساء وصباح هذه العبارة: «يا يسوع الصغير، ضع حدا لهذه الحرب، اشف المرضى، وأرسل خبزا للفقراء الصغار.»
وهجمت النائبات، ومنها التيفوس، فأصيبت أم هند وقضت في أسبوع، وفي ذلك اليوم المشئوم تنبهت مي لوقع الأقدام على السلالم، وشاهدت الصندوق الخشبي وخلفه الصليب الكبير، وجوق الكهنة يرنمون بأصوات شجية، فصمتت صمتا مهيبا كأن نفسها الصغيرة شعرت برهبة الموت، ولما وضعوها مساء في فراشها شبكت يديها على صدرها، وقالت: إنها «زعلانة» من يسوع الصغير، ولا تريد أن تصلي له. - ولماذا أنت «زعلانة»؟ - أما رأيت كيف أنه أمات والدة هند؟ من سيحب هند بعد اليوم؟
وتنهدت مي وأرسل صدرها الصغير زفرة طويلة عميقة، ولأول مرة في حياتها بكت على الناس ومصائب الناس!
كانت مي صغيرة عندما أرسل لها «يسوع الصغير» أختا. من عساه يصف محبتها لذلك الكائن الضعيف، تلك المحبة الممزوجة بالشفقة والحنان، والعطف والغيرة المحرقة القتالة؟ من عساه يصف نفسها وقد أصبحت ساحة لمعترك العواطف المختلفة.
هل صرخت الطفلة؟ كانت مي تسرع وتقول بلغة الأطفال: احملوها ولا تتركوها تبكي، أرضعوها؛ إنها تموت من الجوع، أدفئوها؛ إنها باردة كالثلج، لعلكم تظنون أن يسوع الصغير سيرسل لي كل يوم أختا!
آه من قلب مي الصغير! كيف كان يطفح بعواطف الأخوة العذبة، ولكن تلك المحبة كانت مقرونة بغيرة قاتلة ظهرت بوادرها في عيني مي؛ لأن عيون الأطفال لا تعرف الكذب، هل نظرتم في عيني امرأة ما صورة الأمل الضائع، والحياة الذاوية، والحب البائس، والشباب الباكي! هكذا كانت نظرات مي يوم تصارعت المحبة والغيرة في فؤادها فهوى كيانها الصغير تحت أثقال الحب.
ما كانت مي محبة لنفسها، فلم تؤذ الطفل، ولا سألت مرة إنزاله عن صدر أمه كما يفعل الصغار، بل انسحبت بذل تاركة مكانها للكائن الجديد، كأنه صاحب الحق وكأنها لا شيء، ولم تمض أيام إلا وقد غارت عيناها وذبل ورد خديها، فكانت تنزوي وترسل التنهدات ثلاث ورباع إلى أن كان أحد الأمساء، فاقتربت ببطئ من أمها، وتغلغلت في الملاءات الدافئة، وكمن ضاق صدره عن وسع ما فيه، باحت مي بسر عذابها المستقر في عينيها الذاويتين الجامدتين، فسألت: أين أمي أنا؟ - أنا أمك. - والطفل، أين أمه؟ - أنا أمه. - إذن أنت أمه «هو» لا أمي «أنا».
وعبثا تعبت الأم في تفهيم مي أنها أم للاثنين معا، فلم تكن لتصدق، بل كانت تبكي على الحب الضائع، وتختبط في يأسها وتتنهد وتقول: يا لذلي! ليس لي أم، ليس لي أم ...
تذكارات يتيمة
في الغد يحملونني إلى بيت الرجل الغريب عني وعن عشيرتي، وهو سيحملني بدوره إلى ما وراء البحار البعيدة.
منذ أسبوع أتى الكاهن الشيخ الذي أحبني مثل أولاده طيلة فتوتي السوداء، الدهماء، كقلبي الهرم ونفسي القديمة، قال لي: إن أبي قد خطبني إلى ن. س. الرجل الذي عاد حديثا من المهجر، وزاد أن الفرق كبير بيني وبين خطيبي، وأنه قد أبان فظاعة الأمر إلى أبي وخالتي، ولكنهما مصران لأن للرجل ثروة كبيرة، ثم أنهى حديثه قائلا: يا ولدي سلمي أمرك إلى الله.
لم يقل الرجل الصالح هذه الكلمات بصوت أرن كسائر الكهان الذين تعودوا أن يحملوا إلى الفتيات أحكام الاجتماع العرفية، قالها بصوت أجش حزين كأنه آت من الأعماق البعيدة.
ومنذ بلغت إرادة أوليائي أصبحت تلك المرأة الثعلبية لدنة الملمس كالحية، تبسم لي حبا وتقول للناس: إن فراقي أمر من الموت، وإذ تكلمني تخفض صوتها كمن يكلم سيدا؛ ذلك لأن ثروة خطيبي ستقلبني من ابنة الزوج المكروهة إلى محسنة محبوبة، فأبي سيشتري بثمني دارا، وزوجي سيحملني بعيدا حاملا معي أخوي.
هي اليوم دائبة لراحتي وتزييني؛ تأتي صباحا فتفتح الباب بهدوء وتهمس في أذن إخوتي أن لا يعكروا سكوني كي أنام.
في هذه الساعات الباقية لي أستحضر إلى ذهني تذكارات الماضي، فتبرز الرسوم حية، وتمر أمام عيني واضحة صحيحة كأنها لم تمر عليها السنون، ولم تطوها الأيام، تلك الرسوم المرتكزة في أخفى خفايا ذاكرتي، لا أستعيدها إلا والمرارة تملأ قلبي وترجف شفتي!
هذا البيت الذي سأفارقه أبديا كان لأمي من ذويها. هنا ولدت وتزوجت وماتت عروسا بيضاء كالزنبقة البيضاء، أراها الآن ماثلة أمامي صورة للمرأة الشرقية الغارقة في الأشغال الشاقة من الفجر إلى الليل.
تفيق فتوقد النار، وتغسل الثياب، أو تعجن الدقيق، ثم تهيئ فطور أبي، وبينما هو يأكل تقف أمامه بذل وخضوع، وإذ تطلب شيئا من حاجات العيال ينفر، فيلعن الحياة والزواج والأولاد ويخرج غاضبا، فتعود هي إلى تنظيف البيت وفي عينيها نظرات مظلمة، وحول فمها ملامح المذلة.
ثم تذهب إلى الموقد تحرك القدر، وتنقي الحبوب، وإذ تتناول الغذاء يبكي الرضيع، فتجثو قرب السرير، ثم يدخل أبي متعبا غاضبا فتقوم إلى خدمته، وإذ ينام ترفئ الثياب، وتظل تعمل إلى ساعة متأخرة. وكم استفقت في ليالي الشتاء الباردة فإذا بها قرب السرير تمسح دموعها الواحدة بعد الثانية!
وداهمتها الحمى وهي نحيلة ضئيلة، تروح في البيت وتجيء كالخيال، فلازمتها أخدمها بقلبي الصغير المملوء خوفا وحبا، ويوما طلبت الكاهن الشيخ، فدخل يحمل في يده كتابا وكأسا، فسرت إلى زاوية تقودني روح خفية، وجثوت أضرع إلى الله أن لا «يأخذها» ويتركنا يتامى، والتفت فإذا بها مستوية على وساداتها ووجهها أصفر كالشمع، ويد الكاهن فوق رأسها وفمه يتمتم كلمات كبيرة غريبة ...
فاقتربت ولصقت بذلك الفراش، وأخذت يدها الباردة وقلبي الصغير يرقص في صدري، فتململت ونظرت إلي بكل ما بقي فيها من الحياة، وقالت لي: «عديني يا ولدي أنك تهتمين بإخوتك من بعدي.» ثم سالت من عينها قطرات كبيرة، فاختبأت في صدرها أشهق وأقول: يا أمي! يا أمي!
وجاءت جدتي وأبي وأناس كثيرون، وعلا الصراخ حولي، فحملني الكاهن الشيخ إلى البستان، وقال لي أشياء كثيرة، منها أنني أصبحت أما لإخوتي.
وهكذا طفرت ... عبرت طور الفتوة وطور الشباب ودخلت - أنا الولد اللعوب الطروب - في موكب الأمهات الرازحات تحت أثقال الحياة الشرقية المرة. •••
بعد أيام، بدأت نساء الحي تزحف تحت الظلام إلى بيتنا، وفي تلك الزاوية التي توسدها جسد أمي الشمعي جلسن إلى والدي وندبن حظه ووحدته وخراب بيته، ونصحنه أن يتزوج «حبا بأولاده».
ولا أزال أذكر وجه أبي يوم تزين ولبس ثوبا جديدا وحذاء جديدا، وذهب إلى عروسه الجديدة ... أذكر ذلك الوجه الضاحك لأول مرة، وتلك النظرات؛ تلك النظرات التي ما أرسلت إلى أمي إلا العبوسة، كانت ترقص في محاجرها سرورا وحبا!
ونظفوا البيت لأجل «العروس»، وأحضروا خادمة لطبخ الطعام؛ لأن «العروس» غير مجبرة أن تطبخ «لأولاده»، واشتروا لها تحفا وأثوابا ثمينة؛ لأن أبي يجب أن يبذل كي ترضى به «وبأولاده».
أما أنا فكنت عبدة لفكرتي، تلك المتسلطة علي، المتملكة مني، الآسرة كل قطرة من دمي، وكل ذرة من ذرات كياني، تلك الفكرة كانت شبح أمي الضئيل يسير في البيت ضئيلا، ويركع إلى السرير ضئيلا، ويجلس إلى الموقد ضئيلا، ويلف بأكفانه ضئيلا، وذارفا تلك القطرات الكبيرة التي بللت وجهي ساعة النزع!
قومي يا هند إلى إخوتك. كان صوت أبي يناديني في ليالي الشتاء الباردة آن يحضن الوالدون أولادهم وينام هؤلاء ملء جفونهم.
ويبكي الطفل - طفلها - فيرتفع صوت أبي ثانية: تعالي يا هند، هزي سرير أخيك، فأمشي والبرد يهز عظامي، وأسير إلى تلك الغرفة، وأجلس إلى السرير، فيذهب أبي إلى عروسه ويرتب الغطاء على كتفيها ثم ينام ...
في تلك الساعات كنت أرى الشبح المحبوب جاثيا إلى السرير، والقطرات الكبيرة تنهمر من عينيه الحزينتين. •••
يا هند، أوقدي النار، يا هند، هيئي المائدة، يا هند، امسحي حذاء أبيك، احملي الخبز إلى الفرن، انشري الثياب، اجمعيها عن الحبال، اعملي قهوة للزائرات، وأحضري أركيلة، أركيلتين يا هند! وإذ أسير لأصدع بالأوامر كان صوت يقول: ألا تسعفك في البيت؟
فتجيب المرأة الثعلبية: تسعفني؟ تأملي، أربعة أولاد عدا أولادي!
أربعة أولاد. عبارة كانت أصداؤها ترن مدى الأيام في فم هذه المرأة، وفي جوانب البيت، وفي أعماق قلبي، إلى أن أصبحنا ثلاثة؛ إذ ماتت أختي التي من أجلها صرت أما!
وفي يوم ثكلي كان وجه تلك المرأة يتجلد ليخفي عن الناس أمارات الفرح السري.
كل هذه التذكارات تتسارع اليوم متراكضة، وتبرز أمامي واحدة واحدة، وأشدها إيلاما تذكار ذلك اليوم إذ ضربتني هذه المرأة للمرة الأولى، قالت: يا هند، اذهبي إلى أم إلياس وأحضري لنا الحليب. نظرت من الباب إلى السواد المنتشر خارجا وارتجف قلبي وقلت: «أخاف»، أجابت: أف لهذه التربية الناقصة! يجب أن تكوني شجاعة. اذهبي!
ذهبت تحت الظلام في الطريق المحجرة المؤدية إلى البيت القائم في أطراف القرية، كنت أسير فترن الحجارة تحت قدمي فأحسب أن رجلا يسير ورائي، وأسرع فيزداد صراخ الحجارة، ويصل إلى مسمعي كقرع الطبول، تابعت السير إلى أن وصلت إلى الكنيسة القائمة بجانب السنديانة الكبرى، الناشرة أغصانها فوق حجرة أمي، فرميت بنفسي إلى ذلك الحائط الذي ضم عظامها، وأخذت أبكي وأنادي: يا أمي! يا أمي!
وبينما أنا كذلك ارتفع من الوادي نباح كلاب كثيرة، فانتبهت أنني بين المدافن، وتراءت لي صور الهياكل البشرية تعلوها الجماجم المخيفة، فصرخت صوتا رددته الأودية ألوفا، وهمت وقد نسيت الحليب والوعاء.
ووصلت وخالتي تنتظرني، ولما رأت أنني لا أحمل شيئا انهالت علي تصفعني، ثم دفعتني إلى غرفة وأقفلت علي الباب.
فارتميت على البلاط البارد وجسدي ينتفض، وكلي شوق إلى الارتماء على صدر حنون دافئ ... •••
أيها الرجل الكريم، يا من نشلتني من جحيمي، وبدل أن يكون أجرك عبوديتي الدائمة فتحت يديك وملأت بيت هذه المرأة خيرا وبركة.
لعلك بهذا تشتري شبابي وفتوتي! إنني عجوز أيها الرجل؛ عجوز قديمة هرمة. وكيف تكون شابة تلك التي ما بسمت للمحبة ولا للفتوة ولا للشباب؟!
الغريب
جلس الغريب إلي كما إلى نفس شقيقة،
فجاش سره في صدره،
وتصاعدت مرارته إلى شفتيه،
وهم أن يلفظ قلبه من فيه ويرميه في كف رفيقة،
وهم أن يريني آثار النخاسة على وجنتيه،
وهم أن يريني الأصفاد الضاغطة على يديه ورجليه،
ولكنه تراجع، ووجم، فأرجع سره إلى صدره، ورد مرارته إلى كبده، وأخفى أصفاده تحت أثوابه؛ كي لا أرى وثائق انكساره، لأن الإقرار بالخيبة يؤلم نفوس الرجال.
وسكت الغريب وطال سكوته.
فحلق فكري في جواء الذكرى، وتمثلته في أيام فتوته، تمثلته يوم كان ولدا طيارا ، ومرت حياته في خيالي خضراء كالربيع، روية كندى الصباح، سرية كحديث البدر، عذبة كظلمة الليالي، وغضة ونضرة كبشرة الأطفال، ثم نهض وسلم ومضى، ولما سار في منعطف السبيل همس لنفسه:
اسكت يا قلبي حتى الممات.
وسافر الغريب بعيدا لمكافحة الأيام، والأيام تيار عنيف، أهوج، يسحب الضعفاء ويكفنهم بأمواجه ذات الزبد ثم يرميهم في بحر الظلمات! والحياة مقصف هيأته أيدي الغواني، وصفت على موائده أكواب الغبطة وأثمار الهناء، ووقفت أجواقهن على بابه تستقبل الداخلين، فمن كان عابسا كئيبا صفع وطرح خارجا.
لأن الكآبة وباء يهرب منه الآكلون والراقصون والشاربون.
سافر الغريب، وهناك بين الجماهير الأغراب عصف في قلبه شوق إلى صديق يحن ويؤاسي، فكتب إلي يقول:
في ساعة تلعب بي أمواج الحياة القاهرة أفتش على يد لطيفة أمرها على جبيني الملتهب، فدعيني أبوح بسر يغالبني وأغالبه، دعيني أقول لك: إنني شقي أكثر مما تظنين يا أخت المجاهدين في هذه الحياة!
إنها نزوة من قلب مكلوم، اغتفريها واستري؛ فالشكوى لغير الله ذل.
ورجع الغريب، وجلس إلي، وكأن صرخته تلك فككت قيود كبريائه فباح بسر عذابه، وسر نحوله، وسر خيبته، وسر حظه الأعمى! لأن الحظ اللامع أليف الفكر اللامع، وأنى للفكر أن ينور وقد أطبقت عليه ظلمات الحرمان، وتأكلته وساوس الغيرة والشك، وعشش فيه، في الثنايا منه، والحنايا والزوايا شعور واحد، لا يبرح يطن ويرن:
إنني منبوذ، إنني مكروه، إنني غريب.
أنا غريب. قال الغريب:
غريب أنا في عملي، أباشره ونفسي تنقبض، وقواي تخور، وفكرتي تتضاءل.
العمل يحب إذا كان للعامل غاية في الحياة، إذا كان يحمل نتائج عمله ويضعها بين يدي رفيقة محبة قنوعة، تعرف معنى الأتعاب والجهود، وتقدر أن العرق المتصبب من جبين الرفيق هي دماء، كل قطرة منها يوم من أيام الشباب تكر ولا تعود.
الإنتاج - مهما كان حقيرا - يحب إذا رأت فيه الرفيقة فكرة محب يجابه عنها المصاعب، ويحميها من ذل السؤال.
ولكن! عندما أحمل إلى رفيقتي ثمار عملي فتنظر إليه من علو كبريائها وتقول: إنه قليل لا يشفي غليلا. وتعدد ما في البيت من الفراغ، وما يلزم لخزائنها حتى تمتلئ، وتذكر بحرقة ثوب فلانة ومائدة فلان. آه! كم تنكمش نفسي على أوجاعها، وكم تتسابق إلى قلبي شواعر الذل، والصغر، والمسكنة! وكم تنتحب روحي، تلك التي ترى الحياة جوا حرا فسيحا نيرا، يطير فيه الزوجان إلفين، اثنين، مغتسلين بأمواج النور قبل أن تتوارى الأنوار، وبندى الصباح قبل أن تظلم الأصباح!
آه! كيف تنتحب روحي، تلك التي ترى البيت عشا تسكن إليه القلوب قد أصبح ميدانا للمفاخرة الحمقاء وحب الظهور السخيف! •••
وفي بيتي أنا غريب، عندما يتراكض الرجال مساء إلى أوكارهم أسحب جسدي المضنى إلى جحيمي، فأراه متلألئا بالأنوار، مكتظا بالزائرين والزائرات، وأرى رفيقتي تميس بالأثواب الغالية كإمبراطورة في عزها وسلطانها، والرجال من حولها يتوددون ويتحببون ويصغون إلى صوتها تنغمه وتنعمه كهديل الحمام، وأرى الخدم - كما في بيوت الكبراء - يطوفون بالأكواب والأقداح، فأفكر كيف تهدر دمائي ثمنا للفخفخة الفارغة، والانتفاش الفاضح.
ويذهب الزوار، فأدنو منها لأطرح أتعابي عند قدميها الصغيرتين، لأسند رأسي إلى قلبها وأسمع - مرة واحدة - لحن الحياة قبل أن تتلاشى فينا الحياة، ولكن! سرعان ما ينكمش جبينها، وتظلم عيناها، ويقسو فمها، ويلبس وجهها - الذي كان منذ برهة أنيسا رحبا بساما - قناع البرودة والجفاف.
هذا البيت! أف له، ما أظلم اسوداده! وتعسا لي عندما أجيل عيني فيه فتتردد من جوانبه حكايات شقائي وبؤسي.
هذه الموائد لا تصف «لي»، وهذه الأكواب لا تملأ زهورا لترتاح إليها روحي، وهذه الوسائد التي تتفنن رفيقتي في صنعها من حرائر مفضضة ومذهبة لم تصنع لأسند إليها أضلاعي التعبة، وهذه الأنوار المغطاة بألوان تنثر على الجلوس أسارير الليل العميقة، هذه الأنوار لم تزين لتحمل همس الليالي إلى قلبي!
هذا البيت! أف لهذا البيت.
حلمته جنة أنعم فيها بملك كريم، فإذا هو جحيم، وإذا ملاكي امرأة دعية، خداعة تلبس لكل ساعة وجها، وكذابة ... لأنها تتمتع بمال رجل لا تحبه ولا تحتمل قربه. •••
وفي حبي أنا غريب، عبثا أنظر في عينها كي أرى ذلك القبس القديم، يوم حملتها من خدر أمها في ليلة باردة، ونزعت أزهار عرسها البيضاء، وأخذت قدميها الباردتين بين كفي أدفئهما بحر أنفاسي.
عبثا أفتش عن قبس لمع في عينيها ساعة همست في أذني أنها تحبني، وأنها سعيدة.
سرعان ما حلق الحب بعيدا، سرعان ما أخذت مكاني مشاغل الحياة العالمية العوجاء، فالعطور، والأثواب، والقبعات، حتى والأحذية أقرب إليها مني، ولكل من الرجال أسبقية وألمعية وأفضلية؛ هذا نبيل، وهذا موسيقي، وهذا شاعر، ذاك يتكلم ثلاث لغات، وذاك له سيارة، وهؤلاء يلعبون البوكر لعب «الكبار»، وأولئك رجال صالونات، وهذان يرقصان بلباقة ورشاقة.
وأنا وحدي لا فضيلة لي أغبط عليها، ولا مزية أحب من أجلها، إن تكلمت ظهرت على وجهها علامات «العصبية»، وإن أعربت عن رأي أسرعت للدفاع عن ضده، وإن أخذت يدها بيدي أشعر أنها تتقلص وتقسو، وإن رفعتها إلى شفتي نكصت وتباعدت بحركة جفاف ونفور، فأشعر بسم البغضاء يتمشى في دمي، وأشعر أنني أذل من عبد، وأحقر من دودة تلصق بالتراب.
انتهى الغريب من أنشودة غربته ثم ضحك ضحكة صفراء؛ لأنه رجل والرجال لا يبكون ...
ونهض وسلم ومضى، ولما صار في منعطف السبيل همس لنفسه:
اصبر يا قلبي حتى الممات.
لماذا يعيش هذان الغريبان معا؟
ولماذا لا يطرد هذا الغريب فيأوي إلى مغارة جرداء يفترش غبراءها، ويأتلف مع حجارتها وأصلادها.
لماذا؟
لماذا لا تتزوج هذه المرأة أكواب العطور وصناديق القبعات والأحذية؟
لماذا لا تلحق بهؤلاء الذين تجلس إليهم وكلها إصغاء، وعطف، ومحبة؟
ولماذا تحتمل طول حياتها قرب رجل تنفر منه كل حاسة من حواسها، وكل نقطة من دمائها، وكل ذرة من ذراتها؟
لماذا؟
لماذا؟
الغريبان
كانوا يدعونها قبل زواجها «مس دجاك»؛ لأنها ابنة المتمول سليم يعقوب الذي هاجر بزوجه وابنته إلى مدينة مانشستر وتوطن فيها.
كانت مزيجا جميلا من تربية متينة أخذتها عن المحيط السكسوني، وذكاء لبناني حاد تجمع فيها وتراكم ثم ظهر قويا براقا. هكذا تتجمع عوامل الوراثة وتتراكم على توالي الدهور ، ثم يأتي يوم؛ يوم تتكامل الشروط وتتوفر الأسباب فتظهر بارزة، واضحة، صارخة : أنا ماضيكم المندثر، وتاريخكم المدفون في ظلمات العدم.
قلت: إنها جاءت مزيجا جميلا؟ أظن أن كلمة «جميل» لا تكفي لتصوير كائن بشري احتكر لنفسه كل المزايا التي اتفقت البشرية على نعتها «بالمثلى»، فهناك تكوين متناسق لا عيب فيه، بخطوط هي أقرب إلى التماثيل منها إلى الأجسام البشرية، وشباب ندي كأثمار الصباح، وحياة متفجرة نابضة بالحنو والمحبة والانعطاف، ونفس وديعة هي الطفولة طواعية وليانا. •••
ما كانت بالغريبة المطلقة، بل شرقية على الأكثر، كانت تتكلم لغة أجدادها بلهجة جبلية بحتة حتى يخال السامع أنها قادمة حديثا من كسروان، وتحترم عادات بلادها كما نحترم العقيدة التي تعودنا أن نجلها ولو شككنا بأفضليتها.
لم تنزل اللغة العربية عليها وحيا، فهي تعلمتها وأشربت حبها في زياراتها السنوية إلى لبنان؛ لأن أباها - رغم البحور الفاصلة - كان يرسلها كل سنة إلى كسروان؛ فتقضي الصيف متنقلة بين ميروبا وغسطا وريفون وفيترون.
ولكن نفسها الطماحة كانت تشبعت بالأفكار العصرية والنهضة الفكرية الجديدة، فأصبحت، وهي بنت الشرق الصميمة، تتصرف وتتكلم وتفتكر وتكتب بعقلية غربية صرفة، وتميل - رغما عنها - إلى كل ما هو غربي.
كانت لم تزل «مس دجاك» يوم زارت باريس، فتعرفت في بيت السفير العثماني إلى شاب مصري سمحت له ثروة أبيه أن يسكن قصرا - هو متحف بما حوى من النفائس الشرقية والغربية - وأن يجمع حوله حلقة من أهل الأدب والفن، وأن يدرس فن النحت ويبرع فيه إلى أن تعرض تماثيله في المتاحف إلى جنب تماثيل مشاهير العصر.
نبوغ، وعلم، وفن، وفكر واسع منطلق، وتلبس تام بكل جديد، بهذه الصفات تسلط هذا الرجل على حياتها فما لبثت أن خلعت اسمها القديم، فأخذت اسمه وصارت مدام غنام.
أما أيام خطبتها فمرت كحلم ذهبي جميل ... وأما أيام زواجها الأولى فمرت كالبرق لا تكاد ترى لمعانه حتى يختفي.
كانت تزور خطيبها في قصره، فتدخل القاعة الكبيرة الملأى بجميل المرسوم والنحوت، وتتيه بين التماثيل الرخام الصامت، فيأتي ويأخذ بيدها إلى مقعد كبير فرش بالوسائد الجميلة، وهنالك يجلس عند قدميها ويقول لها - فيما يقول : إنها أجمل من كل تمثال صنعه النحات.
كان يهمس بلغة عذبة ما سمعتها في كسروان، ولا في صالون أمها، ولا في قاعة التدريس ... كانت لغته حينا تشابه هينمة النسيم، وابتسامة الطفل، وأنغام الموسيقى في الكنيسة يوم آلام يسوع، وخرير المياه في منعطفات لبنان، وحينا كان حبه يقصف كالرعد، ويزأر كالعاصفة، فيهز روحها هزة عذبة كالحياة، ومخيفة كالهاوية. •••
وتزوجت فأصبحت آلة لا إدراك لها ولا بصر ولا بصيرة، كل ذاتيتها الطيبة غرقت في ذاتية الرجل الذي اتخذته رفيقا من بين الكثيرين ...
استعارت لهجته لتتكلم، وفكره لتعبر عن رأي هو رأيه أبدا.
كانت تفيق من نومها لتحضير فطوره بيديها، وتلبس لتروق في عينه، وتتنزه في الهواء المطلق لاكتساب لون يزيدها رواء، وتنام لتأخذ قوة تساعدها على الإبداع؛ لأنها - في سبيل إرضائه - انقطعت إلى الفن وصارت من كبار الرسامين. •••
ونزل عن عينيها يوما حجاب التساهل، ونظرت إلى نفسها وإلى الحقائق حولها، فإذا بها منفردة متروكة.
ذهب الحلم الذهبي، ومر الحب كالبرق الخاطف لا تكاد تشعر به حتى يختفي ... وتلك القبلات المذيبة، وتلك الأنفاس الحارة، وتلك اللغة السماوية كله ذهب وبقي ذاهبا ...
لم هذا الجفاء؟ لم هذا السكوت القاتل، والبرودة الخرساء، والنظرات المظلمة التي تقع على كل شيء، وتهتم بكل شيء - إلا بها. عبثا جربت أن تعلم، فلم تعلم سوى أن الرجل الذي اختارته رفيقا وصديقا وركنا تستند إليه نبذها في زاوية بيته كإحدى الأثريات التي جاء بها من الشرق.
ويوما عرضت لها حاجة، فدخلت إلى غرفة التماثيل - وكانت قد هجرتها منذ شهور - فرأته جالسا إلى أقدام فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وسمعته يقول: «أنت أجمل من كل التماثيل التي صنعها النحات.»
فهربت مسرعة إلى غرفتها، وأخذت رأسها بين يديها، وبكت عمرها الضائع، وشبابها المكروه.
آه! ما أبرد تلك الجدران، وأسخف ما عليها من بدائع الفن وثمين الأقمشة! كم هي غريبة وسط تلك التحف الغالية، وكم هي موحشة تلك القاعات العديدة تمر فيها أمام المراءات الكبيرة، فترجع إليها خيال وحدتها وانفرادها الوجيع. ومضت الأيام والشهور والسنون وذلك البيت يضم غريبين يجتمعان حينا على المائدة، ووحينا في زيارة لازمة لتثبيت المركز الاجتماعي.
كل ما في الحياة كان قريبا منه، وهي، هي كانت البعيدة البعيدة، كل الغريبات كن أليفات حزنه وأنسه، كان رفيقا لكلهن، وحبيبا لكثيرات منهن. أمامهن كانت تحل عقدة لسانه - وهو المحادث الخلاب - فيتكلم الساعات في الفلسفة والعلم، والفن، والسياسة، وتدبير المنزل وكل شيء.
أما ابنهما الوحيد ... فكبر غريبا بين غريبين. •••
من رآها وقد جمد شعورها وتصخر قلبها، وانقلبت حياتها المشبعة بالرواء والشباب إلى حياة هرمة، صماء، خرساء؟
تركت الزينات النسائية كلها، ولمن عساها أن تتزين؟ وهجرت «الصالونات» وما فيها من الزهو والظهور، ولمن عساها أن تظهر، ومن يهمها بعد في هذا الوجود؟ وما عساه أن يبهج قلبها الدفين الحي؟ مدنية الغرب؟ إنها تعرفها وتعرف ما فيها من الدواهي! عوالم الفن الواسعة؟ كل ما في الفن من جمال وتعبير ليس سوى رموز لما في نفوسنا من العواطف المختلفة، أية عاطفة بقيت لها حتى ترسمها بالخطوط والألوان؟ آيات البلاغة منزلة سطورا؟ كم لعنت هذه الآيات! وكم تمنت لو بقيت جاهلة وتزوجت برجل جاهل!
لم هاجر أبوها إلى الغرب، ولم لم تبق فلاحة تسوق الأبقار، وتأكل رغيفها مع حفنة من البقول؟ لماذا أقرءوها كتب الغربيين فلمست فيها ألف ألف فكرة، وألف ألف عاطفة جديدة؟ صوروا لها القلوب البشرية مسيرة بالمحبة والألفة، ولما أن وضعت يديها على القلب الوحيد الذي اختارته من بين القلوب إذا بيديها فارغتين، وإذا بالحياة، كل الحياة، صورة تجسدت فيها العدمية واللاوجود.
انكمشت نفسها فأصبحت كهذا البحر لا يدرك ما فيه، واليوم هي طلسم من الطلاسم لا يحله سحر. هي الحلقة المفقودة بين الشباب والهرم، والحب والبغض، والحياة والموت.
حكاية هيفاء الديرانية
هي في الخامس والثلاثين من عمرها، ذات عنق بض جميل، وذراعين مستديرتين، وعضلات مريرة تتجلى فيها القوة الجبلية وراء الشباب الغض، براقة العينين، مطبوعة الذقن، ذات شفاه سميكة بسامة عن أسنان صحيحة لماعة.
اسمها هيفاء، وهو من الأسماء البدوية الجميلة ، أخذه اللبنانيون فيما أخذوه عن إخوانهم العرب، ولم ينطبق اسم على مسمى كما انطبق اسم هيفاء على قدها الأهيف.
غريبة هي الأسماء في لبنان، تقف على نبع من ينابيعه فتسمع امرأة تنادي أولادها بأسماء عربية صميمة؛ يا هيفاء! يا سعاد! أو: يا أسد، ويا ضرغام، وأخرى تصرخ: يا بشير، يا روكز، يا أغناطيوس، يا أنوار! صفحات تمر أمام فكرنا فنذكر لبنان الإقطاعي ولبنان المتدين ... ثم لبنان المتحمس لحرية الأتراك ودستورهم.
وقد يؤخذ الغريب إذا سمع على التوالي أسماء أدمون وروبرت وفكتور تلفظها الفلاحات بلهجة بقاعية أو شمالية أو شوفية، فيقال له: هذا أثر من مؤثرات الهجرة، أو دليل من أدلة امتداد النفوذ الأوروبي على سواحل الشرق الأدنى، ولكن ما قولكم بذلك المهاجر الذي أعجب بمبادئ رئيس الولايات المتحدة فسمى ابنه روزفلت، أو بذلك الأثوذكسي الذي يعد بين أبنائه اسم كروباتكين.
صدقوا. إنني لا أمزح، وليس فيما أقوله شيء من الغلو البديعي، فالحادثة حقيقية، والولد لا يزال حيا يرزق، واسمه إن لم يكن كروباتكين، فهو اسم يماثله من أسماء العيال الروسية الشهيرة؛ رومانوف مثلا، أو سازانوف، أو ماكاروف. اختاروا ما تشاءون.
إلى أين يجرنا الاستطراد؟ لنعد إلى هيفاء الديرية أو الديرانية، كما كانوا يلقبونها في محلة الكلية الأميركية، حيث خدمت سيدات بيوت عديدة. ولم يكن تنقلها ليشينها في نظر المتأمركات اللائي تعبدن إلى السكسون والسكسونية، ومن المعلوم أن ركنها الركين هو الثبات، ثم الثبات، ثم الثبات ... ولقد غفرن للديرانية هذه الهفوة لنشاطها العجيب، وشغلها النظيف المتقن، وقوتها البدنية الهائلة، حتى كان يقال عنها: إنها تحمل أثقال البيت على ظهرها؛ لذلك اجتهدت سيداتها العديدات في سبيل إرضائها والاحتفاظ بها.
مسكينة هيفاء! يا ليتهم يعلمون سبب تقلبها، ويعرفون أن في ذلك الجسم الجبار الذي لا يعرف التعب قلبا نسائيا تأكله الهم، فأصبح لا يسكن يوما حتى يستفزه القهر أشهرا وأعواما. هيفاء تحمل هم قلبها الأخرس وتتنقل به من بيوت أسيادها في بيروت إلى بيتها القديم المتداعي في القرية. وبعد أن تشبع نواحا وبكاء على حياتها المبتورة، يحملها الضجر إلى المدينة، فتمكث شهرين، ثم يعود بها شوق الاستطلاع إلى القرية لعل من قادم من تلك البلاد النائية، لعل من رسالة تنتظرها في بيت الكاهن الشيخ؟ ... وهكذا على توالي الأيام تمر السنون وهيفاء لا تسلو ولن تسلو.
قلب فقير، وحكاية فقيرة! نعم للفقيرات قلوب - كما لذوات القصور - تهيم وتشتاق، وتتفجع وتلتاع، وتحن وتئن ... كذلك لهن حكايات تبكي الأصلاد لو كان لها شعور، ولكنها حكايات مهملة منسية. ولعل الفقيرات من هذه الوجهة أقل شقاء من ذوات الحياة المبتورة اللائي يتسلى بهن الناس في سهراتهم، فيسردون وقائعهن ويضربون بهن الأمثال، وبعد أن يشبعوهن صفعا وجلدا وصلبا، يعودون فيجودون عليهن بشيء من فضلات الشفقة، كما يفعل الصبية الأشرار بأعمى مسكين إذ ينهالون عليه ثم يطرحون على أقدامه شظايا عكازه المحطمة ...
هيفاء أمية لا تعرف سبك الألفاظ ولا تجسيم المصيبة؛ لأنها لم تدخل إلى ساحة الحياة عن طريق الروايات العصرية؛ حيث العواطف المشتبكة، والأميال المتطاحنة.
إنها جاهلة، ولكن ما أبلغها عندما تصف وحدتها، وعذابها، وشوقها إلى من يحميها، وحنينها إلى ولد يدرج في الدار، وخوفها من الهرم الموحش، يوم تلزم البيت المظلم حيث لا نار تدفئ، ولا قلب يحنو، ولا رفيق تستند إليه، ولا ابنة تعطف، ولا أحفاد يمرحون ويلعبون ويضحكون!
كم هي شديدة التعلق بأولاد أسيادها! وكم تقبلهم وتدغدغهم فيطربون، وترن أصوات سرورهم في جوانب المنزل! يجلسون مساء إلى دروسهم فتأتي وتجلس القرفصاء، وتبدأ بشغل الشال الصوف الطويل فيكفون عن الدرس، ويضرعون إليها: «دخيلك يا هيفاء، احكي لنا حكاية.» فتضع شغلها إلى جانب وتأخذ بقص حكايات حسن الشاطر، والسبع العجائز، والأربعين لصا، وابنة السلطان.
قيل لها يوما: يا هيفاء، احكي لي حكاية. - حكاية من يا ستي؟ - حكايتك أنت يا هيفاء. - ... - ما بالك؟ احكي فأشاركك في همك.
وأخذت تلك المرأة الضحوك تتكلم عن ماضيها، وتصف خدمتها في بيروت، ثم موت أمها ورجوعها إلى البيت، ثم تعرفها إلى بطرس بن حنا، مختار الضيعة، وتعلقه بها، وغضب أبيه وأمه وكل أهله ، وإصراره على الزواج بها رغم الكبير والصغير. كانت تتكلم وتضحك إذ تذكر مروره أمام البيت وأغانيه الجبلية وقد تضمنت ما يريد إفهامها إياه. ولجهله الكتابة كانا يتفقان على طريقة للتفاهم، فصليب واحد على الحائط كان يعني أن تلاقيه إلى العين، وصليبان إلى الفرن، وثلاثة إلى الكنيسة، وهكذا ...
هنا أغربت هيفاء في الضحك، فلمعت عيناها، واستدارت الغمزة في ذقنها، وامتلأ البيت برنين طربها.
ثم تكلمت عن هربه من بيت أبيه، وإرساله أربعة من «الجدعان» لاختطافها في «ليلة ما فيها ضوء قمر»، وامتناع الكاهن عن تكليلهما، وانقسام القرية إلى حزبين، وفوزها في نهاية الأمر بمداخلة المطران. - إذن لماذا هجرك بعد كل هذا التعلق؟ - لم يكن لنا بيت، وقد حرمه أبوه فبقينا في بيت أبي، ولكن أهله ما زالوا يضمرون لي الشر، فتجمهروا عليه وزينوا له السفر إلى أميركا حتى ينتقموا مني - وكان قد ضجر من قلة الشغل - فذهب وترك لي ابنا صغيرا بعد أن حلف لي أمام «الأيقونة» أنه حال وصوله يرسل لي أجرة الطريق.
هنا هبط صوت هيفاء إلى قرار واطئ كئيب، فكانت دموعها تتدحرج ببطء على خديها، فتمسحها بطرف ثوبها وتتابع الحديث:
لم يتوفق في أول الأمر، فبقيت أنتظر في القرية وأنا أغسل لهذا، وأخبز لذاك، وأشتغل حينا في معمل الحرير، وحينا في موسم القز، إلى أن جاءت الحرب فتصالحت مع أهله وسلمتهم ابني، وذهبت إلى حوران وبدأت أشتغل في الحقول وأرسل لهم ما أحصله كي يطعموا لي الولد ... ولكنهم أكلوا أتعابي وأماتوا ابني جوعا.
وصلت هيفاء إلى هذه المرحلة من الحديث وشفتاها ترتجفان، وصدرها يرتفع ويهبط، ودموعها تتسابق، وأوتار عنقها تتضخم، والكلمات تخرج من فمها متقطعة متهدجة. - آه! لا أريد شيئا منك يا ربي وإلهي إلا أن أرى بطرس مرة واحدة، فأحكي له قصة عذابي ثم أموت. - لماذا لا تتبعينه يا هيفاء؟ - كلما قصدت أن أسافر كان يأتيني منه مكتوب أنه سيحضر، ومنذ سنتين نقل من البلد الذي كان فيه وذهب إلى بلد يبعد عن ذاك بالبر مسافة عشرين يوما، ثم انقعطت أخباره ... - بالله يا هيفاء، كفاك تبكين. - دعوني أبكي ... دعوني أطق، كيف أنساه ومحبته في قلبي حتى أنزل إلى القبر، يا ليتني مت قبل أن ذهب وترك في قلبي هذه الحسرة. •••
منذ سنة أتى رجل من المهجر، ولما سئل عن زوج هيفاء قال: إنه متزوج منذ سنين وله عدة أولاد.
أما هيفاء فلا تزال تخدم من يعولها بأمانة وصدق ونشاط عديمي النظير، في كل مساء تركع أمام أيقونة يسوع فتصلي عن روح ابنها الطفل النقي، ومن أجل رجوع زوجها عدة مسابح ... واحدة لقلب يسوع، وواحدة لمار فرنسيس، واثنتين لأم الإله، وفي أكثر الليالي تنتبه سيدتها ليلا على أنين وتنهد عميقين، فتنهض إليها وتهزها في فراشها قائلة: يا هيفاء، يا هيفاء، ما بك يا بنتي؟
فتفتح هيفاء الجبارة - المرأة التي تحمل البيت على ظهرها - عينيها السوداوين، وتزيل بيدها القوية شعرها الفحمي المسترسل على خديها العندميين وتقول:
لا شيء ... لا شيء ... تعبانة يا ستي.
أجراس العيد
1
سبحي أيتها النواقيس الأبدية، وليتجاوب رنينك في كل المنعطفات وفي كل الوديان.
هللي في كل مدينة وقرية ومزرعة، على كل مرتفع وعلى كل أكمة!
سبحي! فصوتك حلو لذيذ! من هذه الأرض حيث سمع صوتك لأول مرة انبعثت فكرة العبادة والألوهية، ومن معاطف هذه الوديان ارتفع قديما الفكر البشري مفتشا على «يهوه» العظيم.
هللي أيتها النواقيس؛ فرنينك أبدا طلي جديد، وقديم قديم يفاخر العالم بالمجد والقدمية.
ذكرينا أيتها النواقيس بتلك الأيام الخوالي؛ أيام البساطة والهناء والعيش الرغيد، أيام كان الشعب يجتمع في باحات المعابد حاملا إلى الإله باكورة الأثمار والأزهار. ذكرينا بأيام لعب الأولاد الأنقياء، ورقص الشبان الأقوياء، ونصائح الشيوخ والحكماء.
اهتفي اهتفي أيتها النواقيس، واطمسي برنينك عربدة السكار، وأنين المرضى، وضجيج المفسدين، أعيدي علينا ذكرى الدهور الماضيات، يوم كانت الملوك تترنم «بزيت يبهج الوجه، وبخبز يشدد قلب الإنسان»، ويوم كانت الأرامل والأيتام تسابق الفجر إلى الحقول، وتجمع كفايتها مما «فرضته الشريعة على الحصادين». •••
ذكرينا أيتها النواقيس بتلك الأيام السود والصحائف السود، لقد نسينا - وما أكثر ما ينسى الإنسان! ذكرينا بأيام كان لرنينك دوي أصم كالهاوية، وبارد كالموت! يوم كانت حشرجة المائتين، ولعنات المصلوبين تقطع أنينك، فتسمعنا صوت مناحة لبنان يبكي خلف الجنازة الكبرى.
ذكرينا بالعيد يتلو العيد والشعب يدخل الكنائس منكس الرأس، ويخرج منكسر القلب والنفس؛ وكافرا؛ لأن الجوع كافر.
ذكرينا بهم كلهم، بالمنفيين والمصلوبين، بالجائعين والمضطهدين! ذكرينا بهم قبل أن ننسى؛ لأن على جماجمهم وعظامهم قام الوطن الجديد؛ ولأن استشهادهم فتح لنا بابا للمطالبة بالحق؛ ولأن بأنينهم - بأنين مائة وثمانين ألفا - كتب لنا صك ثمين نحمله اليوم وفي كل يوم، وبعد مائة سنة، وبعد مئات السنين، فتنفتح أمامنا الأبواب الموصدة، والقلوب العمياء الصماء ...
ذكرينا بهم، بأثر واحد يقام لهم، بتمثال واحد، بنصب واحد يرفع إكراما لمن باستشهادهم بسم الأمل في وجه المتفائلين، وعاش الرجاء في صدور الأحرار.
2
هللي يا أجراس العيد، اهتفي عاليا، وسبحي مليا، وليتعال صداك من أقصى هذه الجبال إلى أقصاها حتى تدوي به أعماق المغاور وأجواف الكهوف ...
هللي أيتها النواقيس، بهدوء متقطع، أو بحدة متسارعة، فصوتك أبدا حلو لذيذ، وما رنينك سوى عاطفة الإنسان القديم يسحب ضعفه، ويحتمي في ظل الإله الكريم.
هللي أيتها الأجراس مساء وليلا، وباكرا وسحرا ... شاركي المؤذنين المقيمين - مثلك - في القباب، والصارخين - مثلك - بالناس إلى طرح أثقالهم على أقدام الرحمن الرحيم.
امزجي رنينك بنشيدهم الوقور المهيب، فلعل أصواتنا المتنافرة على الأرض تتقارب وتتحد فوق الضباب، وتعود إلينا بردا وسلاما. •••
اسكتي يا أصوات الانكسار والهوان،
في قلوب الأسرى والعبدان.
اسكتي في قلوب الأمم الذليلة، المقيدة بأطواق النحاس وسلاسل الحديد، الأمم العديدة السائرة كقطعان الإبل وراء إرادة الفرد المنتصر! الأمم المستعبدة لجهلها ولمعرفة الغريب.
اسكتي يا أصوات الذل والهوان،
في قلوب الأسرى والعبدان. •••
اخفتي يا أصوات اليأس في قلوب العميان والمرضى والمسجونين: الأولى في حياتهم ظلام، وفي أجسادهم سقام، وفي قلوبهم اليأس المريع، والملل الوجيع.
اخفتي يا أصوات المرارة في قلوب الراكضين وراء الرغيف، الذين لا تطلع الشمس إلا وتربط إلى أعناقهم أحجار الرحى، ولا تغيب إلا لتطرحهم في الأكواخ العفنة المظلمة.
اخفتي يا أصوات الحاجة في قلوب المحرومات والمحرومين اللباس، والغذاء، والدواء، والعناية، والملاينة، والحنو، والمحبة.
اخفتي أيتها الأصوات الوجيعة في قلوب العطاش، اللاهبين شوقا إلى أطايب العيش، اللاهفين حنينا إلى حياة الحياة، المتطاولين عبثا إلى كنه الكيان، وهناء الوجود. •••
انخفضي يا أصوات الكبرياء المطنطنة في قلوب المتكبرين المفاخرين، الساحقين بأقدامهم قلوب الملايين والملايين.
تلاشي يا أصوات الطمع في قلوب الأقوياء القابضين بأيديهم الفولاذية على سياسة العالم، وصناعة العالم، المكيفين الأرض جمعاء بقالب إرادتهم القاسية، الضاغطين على أنفاس الأمم لا تنال حقا مشروعا إلا بعد أن تتلاشى نفسا في نفس. •••
ابتعدي يا أصوات الوحشة في قلوب الغرباء والمجندين والمنفيين التائقين مثل يسوع الطريد «إلى زاوية يسند إليها رأسه». آه! ما أقسى الحياة! وما أكثر الخلل في أحكامها اللامنطقية! من ذا يفكر أن الذي تملأ هياكله السهل والوعر، وتقدم لذكره ربوات الذبائح، وتطبع باسمه يوميا ملايين الميداليات والأيقونات والتعاويذ، وتتلى كلماته كل يوم جهارا من على المنابر، وهسما في أعماق القلوب. من ذا يصدق أن الحياة ظلمت ذلك المعبود، ولم تسمح له «بزاوية يسند إليها رأسه»؟
ابتعدي يا أصوات الوحشة في قلوب التائقين إلى فراش دافئ، وبيت مسقوف، وزاوية يسندون إليها رءوسهم. •••
اتئدي يا أصوات الثورة الهدارة في قلوب العمال الصاخبين، المبدلين نظاما أعوج مضرا بفوضى جارفة مهلكة.
اتئدي أيتها الأصوات المملوءة صخبا ورعبا وحقا وعدلا.
اتئدي! فسوف تتحول المدافع إلى آلات حراثة، ويسير الذئب والحمل جنبا إلى جنب. •••
اخرسي يا أصوات السكر والشقاوة والمحبات المتمرغة في الوحول! اخرسي! لقد امتلأت الأرض باللقطاء والمعتلين والمشوهين برصا وجربا! اخرسي أيتها المحبات المتمرغة في الوحول. لقد كفاك ما ولدت من المسوخ! •••
هللي يا أجراس العيد، ارتفعي فوق الضباب وامتزجي بنشيد المؤذنين، وعودي إلينا بردا وسلاما.
هللي وذكرينا بالذي منذ ألفي سنة يدعو إلى العبادة بالروح والحق، اهتفي يا أجراس التعزية والاكتفاء في قلوب المحرومين. وأنت يا أجراس الإيمان والرجاء، والأمل والقوة، أنشدي، هللي ... اصرخي ... في قلوب الأمم المطوقة، المستعبدة، السائرة هزيلة، وفقيرة، وحزينة، في مواكب الأسرى والعبيد.
أعطوا يعطيكم الله
1
احذروا الأرمن، اجتنبوا الأرمن، إياكم والأرمن!
الأرمني لا يحب أحدا، ولا يرعى ذمة أحد. اجتنبوه فهو مفسد عليكم أعمالكم، وطاردكم من دياركم. •••
مررت بحي من الأحياء فإذا بصبية كبار يقرءون في منشور ألصق بالحائط هذه الكلمات، وحولهم صبية صغار اجتمعوا يسمعون ويسمون قلوبهم الغضة بسموم البغضاء والقسوة، بفعل تلك اليد التي أبت إلا أن تلقي عليهم هذا الدرس.
وتابعت طريقي، فذهبت بي أفكاري خمس سنوات إلى الوراء، وأرتني ميتم عينطورة وفيه ألف يتيم أرمني أبناء ألفي شهيد وشهيدة.
لم أر هؤلاء الأيتام وحدهم، ولم تسمع أذناي صوت أنينهم وهم يسيرون في مفاوز الأناضول، لم أر بعين الفكر تلك المجزرة الهائلة التي ضجت منها الأرض والسماء.
لم أر شيئا من هذا، بل رأيت طيف امرأة مسلمة، ابنة رجل مسلم، تدخل ذلك الميتم الذي كان بقذارته وبما فيه من الهياكل العظمية أشبه بمقبرة منه ببيت يضم أكباد ألف أم بائسة.
رأيت طيف تلك المرأة ورأيت قلبها - قلب الأم - يتفطر حزنا، رأيتها بلحظة تحول تلك الهوة النتنة التي علا فيها العويل والأنين إلى مرتع آمن وراحة.
تلك المرأة الحنون كانت خالدة أديب، أتت سوريا ولبنان، وزارت أولاد الشهداء، ومن هناك توجهت إلى المنزل العسكري في دمشق وفتحت أبوابه بما لها من النفوذ، فأخرجت من مستودعاته إلى هؤلاء الأولاد جبالا من الأطعمة والأقمشة، محولة حياتهم بدقيقة واحدة من جحيم إلى نعيم.
كانت خالدة أديب تنتمي إلى الأمة التي حكمت بإبادة الأرمن، ولكنها كانت تنتمي بروحها إلى ذلك الجوهر الأسمى الذي أجرى في قلب كل نساء الأرض ينابيع الحنان والحب.
أذكر أن أيتام عينطورة كانوا يوم سفر خالدة يعولون ويبكون وقد تعلقوا بها كما يتعلق الولد بأمه، وأذكر خاطرة مرت ببالي أوانئذ، وهي أن دين المحبة هو فوق كل الأديان، وأن الرفق يصرع كل عداوة جنسية. •••
لنكن ما نشاء أيها الناس؛ لننتمي إلى حمورابي أو إلى فرعون أو إلى التتر، ولكن لنكن بشرا.
ويا أمهات هذا الوطن الطيبات الحنونات، يوجد كثير من الأطفال ينامون في هذا الشتاء تحت الخيام، هؤلاء الصغار يقبلون بشكر السترة القديمة، والثوب القديم، والقليل القليل من الحب والحنان.
2
نحن الآن في نصف الليل، والأجراس النحاسية في الكنائس القريبة تتجاوب أصداء أصواتها المتسارعات، المحمسات، منادية الناس إلى الاجتماع مرة أخرى لذكرى ميلاد الإله الثائر الذي خط للناس مبادئ الثورة الإلهية، تلك الثورة لا تخاصم ولا تصيح ولا تسمع أحدا في الشوارع صوتها، تلك لا تقتل ولا تستبيح، بل بدون فوضوية أو بلشفية تقيم الحق على الأرض معطية ما لله إلى الله، وما للناس إلى الناس.
غدا عيد الغربيين، وأنا من الطائفة الشرقية، وحقي أن أكون غريبة عن العيد، ولكن أجراس التهليل هذه توقظ الشعور في نفسي، ونفسي منذ وجدت تبكي الجائعين والمتروكين والمحرومين.
الأجراس تهلل في الأبراج المرتفعة والناس يخرجون على صوتها من المراقص مئات وألوفا.
وهنالك ألوف غيرهم تمر الآن أمام مخيلتي، هي الألوف اللاجئة إلى الزوايا وتحت قباب الكنائس تنتظر رحمة الله وحنان الناس.
الله من بخل الإنسانية وكفرها! الله من بيروت مركز مدينة الشرق! تمر فيها مواكب البؤساء فتحول وجهها كي لا ترى ولا تسمع.
لله منا! لا نفتح يدنا عن صدقة إلا بعد أن نأخذ ثمنها زهوا ولهوا ورقصا، تعالوا أيها البؤساء، نقول: تعالوا وأعطونا من بؤسكم حجة أخرى لنقيم مرقصا آخر، ولنضحك ونسر حتى الصباح، تعالي يا أجواق الروسيين أطربينا بأصواتك، أسمعينا من نغماتك أنين الظلم والاحتمال فالانفجار فالثورة! أسمعينا تلك القرارات ذات الصعود والهبوط؛ فنجود عليك ببعض الدريهمات!
تلك الدريهمات ثمن ورقة البالو ندفع مقابلها الألوف ثمن الأثواب وما يزينها، ثم أجرة العربات، ثم أرباح ملتزمي «البوفه»، ثم نرمي إلى المنكوبين بما يتبقى ونملأ الأرض صياحا أننا دفعنا ثمن ورقة إلى مشروع المنكوبين. الله من صغارتك وصغرك يا قلوب البشر!
أيها القارئ - كائنا من كنت - إن كاتبة هذه السطور تسترحمك في يوم العيد هذا أن تأخذ من جيبك ورقة «الخمسة غروش» وترسلها ضمن غلاف إلى مركز الإعانة باسم منكوبي الهجرة.
خمسة غروش ولك أن تزيد.
أيها القارئ - مسلما كنت أو موسويا أو مسيحيا - عندما تجلس اليوم وفي الأعياد المقبلة إلى المائدة الفخمة أو إلى الصحن البسيط، وعندما تشتري لأولادك اللعبة الكبيرة أو الزمور الصغير، وعندما تصفي حسابك في آخر هذه السنة - رابحا أم خاسرا - لا تنس «خمسة غروش» المنكوبين.
وكاتبة هذه السطور تقول لك من خلال رنين الأجراس:
أعط يعطيك الله.
جوائز الفضيلة
يظهر أنه لم يزل للفضيلة أنصار مع كثرة اعوجاج الناس واندفاعهم في طريق الغواية، أو هو انتشار الغواية يهيب بالمتشائمين ويدفعهم إلى خلق أساليب التشويق للدفاع عن الفضيلة وتعميمها بين الشبيبة.
ومن جميل هذا التشويق هو وضع جريدة «الإيكوده باري» جائزة كبرى «للفتاة الأكثر فضلا من فتيات الوطن»، فجاء هذا الاقتراح جديدا في بابه؛ لأن الناس يهتمون على الغالب بجوائز الجمال، تفننوا بها ما شاءوا، فوضعوها للجمال المطلق أولا، ثم لجمال الرأس والعين، والشعر والرجل، حتى والساق ... وربما يذكر البعض منا شيئا من جوائز الرءوس الجميلة والأقدام النحيفة.
وبعد، فقد نشر مقال «الإيكوده باري» وبدأت رسائل أنصار الفضيلة تنهال من رجال الدين والحكام ورؤساء المدارس، وكل منهم يقدم اسم الفتاة التي يظنها أكثر فضلا من سواها. والغرابة هي أن الكل أجمعوا على تقديم أسماء فتيات حملن على أكتافهن الضعيفة واجبات كبيرة، وهي العمل المتواصل للقيام بأود العجزة والمحرومين والمرضى من والدين وأقارب وإخوة وأيتام.
وبدأت الجريدة بالتحقيق، فأخذت ترسل مندوبيها إلى بيوت المرشحات ليدرسوا أحوالهن عن قرب، فكان هؤلاء يحققون ثم ينشرون مقالاتهم مع رسوم الفتيات.
هل للجمال ولغضاضة الشباب تأثير هذا مقداره، حتى إنني عمدت إلى نشر حديث أجمل المرشحات؟ أو هي تعاسة هذه الفتاة البادية في عينيها وخطوط وجهها وقفت تشفع إلى جانب جمالها؟ لا أدري.
وهذه خلاصة ما قاله المندوب وصدره بهذه الأسطر:
الآنسة لاردي في العشرين من عمرها، مستكتبة مختزلة «داكتيلو ستينو»، تربح 600 فرنك في الشهر، تعول أباها الكسيح، وأمها العمياء، وأختا أرملة مسلولة مع طفلها، وأختا مصابة بأمعائها .
صعدت على الدرج الخشبي إلى الطابق الخامس وقرعت الباب، ولما فتح إذا بي أمام الآنسة لاردي في غرفة ضيقة، رطبة، مظلمة، جلست فيها العائلة إلى مائدة لم تزل عليها بقايا عشاء حقير.
وقدمتني الآنسة إلى ذويها: الأب المقعد، ثم الأم العمياء وقد اشرأبت بعنقها وعينيها المفتوحتين وعليهما غشاء أبيض، والأخت الأرملة - هذه كانت متزوجة بعامل نشيط، كريم الخلق، ولكن رطوبة الخنادق أثرت فيه مدة الحرب فأصيب بالسل الرئوي ورد إلى عياله، ولما مات كانت العدوى قد سرت إلى زوجه. أما الطفلة الصغيرة، كذا قالت الآنسة لاردي، فقد حن عليها قلب إحدى المحسنات فحفظتها من العدوى بأن أبعدت أمها إلى السناتوريوم. والآن بعد أن رجعت الأم وضعنا سريرها قرب النافذة لتستنشق الهواء النقي. بقيت الأخت المصابة بأمعائها، وهذه أرسلت بدورها إلى المستشفى بعناية قلب كريم.
كانت الآنسة لاردي مرتدية ثوبا بسيطا جدا ونظيفا - ولعله الثوب الوحيد الذي تملكه - وقد وضعت على حضنها مئزرا لبقا. كم كان منظرها مختلفا عن شهيرات الداكتيلو، المالئات المكاتب العصرية بحفيف أثوابهن الحريرية، وروائح عطورهن الذكية ...!
هي في العشرين من عمرها، وتحسب من الجميلات، بقوام طويل، وشعر كستنائي، وعينين كبيرتين زرقاوين لمعت فيهما طلائع الحمى، وبشرة صفراء ذابلة تنم عن التعب والحرمان، وهي حيية الطبع فطرة، على أن العمل أكسبها سهولة في التكلم، فحديثها حديث أدب ورزانة وثقة.
قالت: إنها تشكر حاكم المقاطعة الذي افتكر بها ورشحها «لجائزة الفضيلة»، وسألتها فأجابتني أنها تربح 600 فرنك في الشهر، فتدفع أجرة المنزل، والباقي لا يكاد يكفي ... «في الصباح نشرب كلنا القهوة مع الخبز، والقهوة تقوي أعصابنا، والظهر نأكل الخضر المسلوقة، ومساء الشورباء مع الخبز.» ثم أشارت إلى الصحن الشورباء وكان لم يزل على المائدة، وإلى جانبه في صحفة قشرة بيضة فارغة. هنا ابتسمت وقالت: هذه البيضة من حقي في كل مساء؛ لأنني أتعب وأحتاج إلى غذاء، وإلا فإنني أهبط ... قالت: «أهبط». وأشارت إلى العائلة، وكأني بها تقول: «ويصبح هؤلاء تحت رحمة السماء.»
وبينما كانت تتكلم كانت الدموع تجول في مآقي ، والتأثر يضغط على حنجرتي، فأتمتم كلمة أصرف بها فكر الفتاة عن موضوع شقائها.
وودعت متمنيا لها ربح الجائزة، ولما صرت في أسفل الدرج التفت وإذا بالفتاة في أعلاه تنير سبيلي، وحول وجهها هالة نور ذهبية ... بقي أن أقول: إن شهادة الحاكم تنص على أن الآنسة لاردي هي مثال الفتيات بالتأدب والرزانة والصبر والشجاعة.
التطور النسائي
نعم! هو آت لا ريب فيه، ذلك اليوم السعيد الذي ينظر فيه العالم إلى الدمى المزخرفة كما إلى أدوات لا مكان لها في الإنسانية الجديدة، الإنسانية العاملة، الإنسانية المدركة أن لا نصيب في عشائها السري لمن لا يعمل.
وإنني بسرور أنقل شهادة مجلة «الألستراسيون» بالتطور الجديد الناشئ في باريز، تلك المدينة التي يسمونها مدينة الأزياء، والتي نتهم بأخذنا عنها كل قبيح. لنرد ادعاءهم مرة ونأخذ عنها المليح ...
قالت الألستراسيون:
لقد جرى في الأزمنة الأخيرة اهتمام جدي بالنساء الجميلات جدا، على أن رصيفنا صاحب جريدة «الإيكوده باري» أظهر لنا فكرة جميلة، ظهرت غريبة في بابها بسبب الأفكار العصرية السائدة. أما فكرته فهي تعريف الناس بفواضل الفتيات، وانتخاب عشرين منهن من بين مئات المرشحات. وقد قامت بهذا الانتخاب جمعية يرأسها الجنرال كاستنلو.
وإننا نخطئ إلى الحق إذا نحن أنكرنا التأثير الجميل الذي ساد على القراء في فرنسا وفي الخارج يوم أخذت الجريدة بنشر حكايات الفتيات، ووصف جهادهن وبؤسهن. أما التصويت العام الذي اشترك فيه خمسة وخمسون ألف قارئ، فقد كانت نتيجته أن الآنسة هنريت ساجه نالت الأسبقية بحصولها على اثني عشر ألف صوت.
وحياة هذه الآنسة مثال مؤثر للتضحية والعمل والنشاط النفسي: فقدت أمها في السادسة عشرة من عمرها، وبينما كانت تكمل دروسها كانت تعتني بالبيت، وفيه جدة عجوز وستة أطفال صغار كلهم مرضى؛ لتحدرهم من أبوين مريضين. في السابعة عشرة من عمرها بدأت تعمل خارج البيت براتب زهيد، ثم توفي والدها، فإذا بها ربة البيت، وبين يديها حياة سبعة أنفار، وبنشاط عجيب جاهدت ليلا نهارا، واحتملت ويلات المرض الذي انقض على بيتها فذهب بأختها ولازم سائر الأطفال زمنا. وأخيرا وجدت مركزا موافقا وفازت من أرباب العمل بعطف ورأفة، وزارها مؤخرا مدير جريدة «الإيكوده باري»؛ ليبشرها أنها نالت لقب أفضل فتاة في فرنسا بأكثرية مؤلفة من 2500 صوت مع جائزة قدرها 45 ألف فرنك؛ أي 2250 ليرة سورية؛ لتستعين بها على إعاشة ذويها، أما التسع عشرة فتاة الباقيات، وبينهن الآنسة لاردي فقد نالت كل منهن جائزة.
وإذا كان مدير «الإيكوده باري» لم يتمكن من تعريفنا بكل فواضل الفتيات، فهو على الأقل قد بدأ عملا شريفا وعادلا وكثيرون سيسيرون على خطته، وها إن لجنة الأعياد في باريز قد قررت أن جائزة «ملكة الربيع» التي تعطى في كل سنة إلى أجمل فتاة لن تعطى من الآن وصاعدا إلا إلى أفضل عاملة، وأسراب العاملات اللائي لقبن «بالنحلات» سينتخبن من بينهن «ملكة النحل».
لتحي النحلات العاملات! ليحي العمل الشريف الذي تحنى له الرءوس! وليحي ابن الوطن الذي يتبرع لنحلات الوطن بأول جائزة من جوائز الفضيلة!
التربية القومية
الحمد لله الذي أوجد فينا من ينادي بالتربية القومية. ما هذا النداء سوى إقرار بفقدانها، فمتى شعر المرء أنه بحاجة إلى الشيء سعى وراءه، وفي السعي إليه نيل له قريب، ومن ينادي بالقومية يصبح بها بشيرا، عاش إذن هذا النداء وعاش البشير.
كنت في عهد الفتوة أحلم لو تصل الإنسانية إلى يوم تختفي فيه الجنسيات والقوميات، وتصبح الأرض كلها جمهورية كبرى رئيسها الله.
وجاء الشباب ومعه حادثات الأيام فأرتني أن الحلم بعيد، والإنسانية لن تصل إلى حد الكمال إلا يوم تمسي كل طوائف البشر في مستوى واحد؛ أي يوم ترتقي كل أمة ضمن قوميتها، ومن ذلك اليوم - منذ تأكدت أن التفاوت بين الأمم يجعل فيها قويا وضعيفا؛ أي آكلا ومأكولا - صرت أعتقد بمبدأ القومية، القومية القوية الطماحة التي ينادي بها الأستاذ بولس الخولي.
هذه القومية لا تأتي - في نظري - إلا عن طريق التربية، وهذه التربية لا يقوم بها إلا كل من تطهرت عاطفته من كل تأثير خارجي، وارتقى عقله فأمن الضلال، وتسامت نفسه فعانقت نفوس الذين إنما مروا على هذه الأرض ليعلموا الناس كيف تكون التضحية.
فجوابي أن قوام التربية القومية هو التضحية.
ومتولي أمرها هو ابن البلاد، هو أنا وأنت أيها القارئ.
أنا ألقي كل الحمل على ابن البلاد؛ لأن من لا يعرف أن يحمل وطنيته كما يحمل يسوع صليبه لا يستحق أن يعيش، وخير لهذه البلاد أن تسكنها أقوام عزيزة من أن تسكنها أمة تدوسها سنابك الخيل صعودا ونزولا، وذهابا وإيابا، فتصبح أمثولة في الخنوع ومثلا في الذل.
نحن نتولى أمر التربية القومية في بيوتنا أولا، إذا كان قضي على هذه البلاد أن تكون كل معاهدها قلاعا تحتلها البعثات المتنوعة احتلالا أشد وطأة من الاحتلال العسكري.
نحن نتولى التربية القومية باتباعنا خطة أكيدة بطيئة لا تحول ولا تزول، مغمضين أعيننا عن كل المساومات التي يمكن أن يعرضها علينا الناس، معتقدين أن العمل علينا وحدنا، وأن كل من يظهر اهتماما بنا إنما يفعل ذلك حبا بنفسه لا حبا بنا.
لقد تسلح الغرب بحماية المسيحيين ليتمكن من الدخول إلى هذا الشرق، ولو لم يوجد فيه مسيحيون لخلق الغربي حجة أخرى - كما خلق الله آدم من التراب. نعم، إن هذا الخروج والولوج أوجد في نفس الغربي شيئا من العطف على شعوب الشرق التي ظلمتها الأيام، على أن أساس هذا العطف هو المصلحة، والمصلحة لا تعرف التحول عن الغاية. ولست أدري كيف يمكن أن نطلب تربيتنا القومية ممن لا يمكنه أن يخلص إلى النهاية.
وبعد أن نعقد النية على إيجاد التربية القومية يجب أن نضحي، والتضحية شيء لا تقدر عليه النفوس المتعودة الصغارة، النفوس التي لا تعرف أن تسمو إلى النور، بل تعيش في الظلمة كما يعيش الخفاش.
لنضح إذن.
ليضح الموظف بأن يرفع جبينه أمام رئيسه الغريب، ومتى ارتفع جبين الفرد ارتفع جبين الأمة.
ليضح الشبان الراحة اليومية والعيش المبطن بالحرير، وليطلبوا الجندية بصوت واحد، فإن الوطن الذي تجبل أسسه بالدم الإفرنسي أو الإنكليزي يكف عن أن يكون وطنا يوم تضن علينا أمهات فرنسا وإنكلترا بحبات قلوبهن.
لتضح الفتاة التي لديها متسع من الوقت، وتساعد أباها على كسب المال، فالمال هو وحده دعامة الاستقلال.
لتضح المرأة المتمولة في سبيل الأمة، فتعطي من مالها المدارس الوطنية والجمعيات الوطنية، وتعطي من نهارها الطويل ساعات قصيرة تصرفها في مستشفيات الأمة ودور أيتامها، وفي سبيل الأطفال الذين تضطر أمهاتهم أن تعرق دما لأجل الرغيف.
لتضح كل نساء الأمة من عبادتهن للمستحدثات الغربية؛ فإن الأموال التي نرسلها إلى أوروبا ثمن جرابات وأزرار وخزعبلات هي دماء الأمة وماء جبينها، بل ماء وجهها، بل هي ثمن صريح للسلاسل التي تزداد حلقاتها كل يوم.
لتضح الأم ساعة فتعلم ولدها لغة الأجداد بنفسها، فمن العار أن نرمي المعاهد الأجنبية بهذه الحجارة كلما نظرنا إلى ذلنا.
انظروا إلى الشعب اليهودي المتشتت في أقطار الأرض منذ ألفي سنة كيف حافظ على لغته وتقاليده، وقولوا لي بعد هذا: إن المعاهد الأجنبية هي المسئولة عن كسلنا وعارنا.
ليضح السوري العائش في وادي النيل برغد وهناء، وليرجع إلى بلاده؛ فقد كفانا ما استعمر من صحارى السودان على أكتافنا، فتكسير الحصى في الوطن أفضل من الحياة تحت ظلال الناس.
ليضح المهاجر النائي مظاهر المدنيات الخلابة، وليعد إلى التربة التي أنبتته؛ فإن كوخا في البقاع أفضل من كل قصور بروكلين، والخبز الأسود في بلادنا أطيب من الخبز الأبيض في أرقى بلاد الناس.
لتضح الأمة كلها عاطفة هي أصل البلاء، لتضح العاطفة الطائفية التي نسم بها وطنياتنا المختلفة.
ليخفف الماروني من حبه لفرنسا، والبروتستانتي من حبه لإنكلترا، والأرثوذكسي من حبه لروسيا، والمسلم من حبه لكل الجامعات الإسلامية التي يمكن أن تتألف في أنقرة وموسكو وبرلين.
لنخفف من حبنا للناس، أيها الناس؛ فمن العناق ما هو خناق.
يا بلادي
يا بلادي كم يتغنى بك الناس! وكم تلعنين من بنيك!
يا بلادي، ما أكثر المتقاتلين على هواك! وما أقل حظك من ذويك!
أما لبنيك عيون لترى بهاءك!
أما لهم آذان لتسمع نداءك!
أما لهم أرواح فتصبوا إلى الأرواح العلوية المالئة فضاءك! •••
يا بلادي، ما أجمل ألوانك الزاهية ، وأحب أنفاسك الطيبة، وأشد تأثير جمالك على من يدرك أن الحياة جمال وحب!
يا بلادي، كم أشتهي أن أكون رفائيل فأخلد جمالك!
أو دانتي فأنشد قصائد حبك!
أو جان دارك فأحرق من أجلك!
بل أشتهي أكثر من هذا، أشتهي لو أصير روحا علوية قدسية فأدخل روح بنيك وأنفخ فيهم شيئا من شعلة حبي وهيامي.
أحببت بلادي كما يحب الشباب، أحببتها أولا من أجل الحب، ولما اقتربت من هيكلها وتجلى لي بهاؤها في ليلة إلهية ملأت أنفاسها أنفاسي، وامتزجت روحها بروحي؛ فصرت - ككل المحبين الراسخين - أحب الحب لأجل الحبيب.
ذلك كان في ليلة من ليالي الصيف، عندما توغلت في قلب لبنان وسرت بين سهوله وجباله، ودخلت في صميم البقاع إلى ما بين الجبلين القائمين كهيكلين عن يمينه وشماله.
سهرت الليالي على قمة من القمم المطلة على المرج الوسيع، وفي آخر الليل جاءت الآلة البخارية فحملتني وهرولت بي نزولا إلى أن استقرت في رياق، ومن هناك سارت بي خفافا إلى بعلبك.
وما أنسى لن أنسى ليلة بيضاء كشفت لي عن مخبآت وكنوز بلادي، سرت وسط ذلك المجوف الواقع بين لبنان الشرقي ولبنان الغربي، ذلك المجوف الذي يمتد من قرب جزين جنوبا، ويتصل شمالا بسهول سوريا المخصبة.
كان القمر يتضاءل ليغيب وراء لبنان الغربي، وأوائل الفجر تسرع صعدا فوق لبنان الشرقي مرسلة خيوطا ذهبية، فتراءى لي ذلك السهل الفسيح كوجود لا قرار له يخفي في جوفه كنوز الحياة المستقبلة ودفائن الحياة الماضية ... تراءى لي كجبار فخور يهزأ بالأجيال وما تحمله من الحوادث، ويظل سكوتا صبورا يعطي باليد الواحدة لبنيه خيرات تربته، ويخفي باليد الثانية في طيات تلك التربة الكريمة الكتومة عظام وأطماع الطامعين والفاتحين.
وقفت إلى نافذة القطار وقد عراني خشوع ورعدة، وتغلغل برد الليل في مفاصلي وعظامي، ثم لمعت شهب واندلعت من فوق ذلك الجبل ألسنة لهيب سماوي، وأطلت المحسنة الأزلية لتفرق على الكائنات الحرارة والنور، فقلت في نفسي: هذه هي عليقة موسى تحترق ... ونظرت إلى السهل فإذا بي أرى من بعيد أعمدة هيكل الشمس واقفة كحجة أزلية تنطق بمجد معبودة الأقدمين وعزها القديم.
فتأملت وقد تململت في نفسي آيات العبادة فيما يحيط بي من مظاهر الحب والجمال، وفهمت لماذا أقام الأقدمون في هذه البقعة من الأرض المذابح والمحاريب.
فهمت لماذا اكتسح المصريون سوريا، وداسوا بحوافر خيولهم عروش ملوكها، فهمت لماذا سالت دماء الحيثيين والفرس واليونانيين والرومانيين، فهمت لماذا قذفت رمال الصحراء قبائل الحجاز إلى قلب بلادي، ولماذا دفعت أوروبا جيوش الصليبيين.
ولماذا بصقت لنا جبال الأناضول قبائل الأكراد والتتر.
فهمت لماذا احترقت أوروبا بالحرب العالمية.
ولماذا نجرت عروش الإمبراطورية العربية.
ولماذا غضبت سيدة البحار وغلا قلبها بالطمع، فنفثت من صدرها سموما لفحنا لهيبها وتركت في أجسامنا هذه الكلوم.
وفهمت لماذا يموت أبناء السين على حدود بلادي، ولماذا يسفكون دماءهم في سبيل دعوة جاحدة ناكرة.
فهمت في تلك الساعة معنى الروح القوية العطرية الإلهية المنبثقة من تربة بلادي، تلك الروح الجذابة التي خطفت أبصار شعوب الأرض، تلك الروح الحسودة التي حفظت هذا القطيع وأبقته كما كان منذ آلاف السنين، ينظر إلى أصناف البشر تمر وتمر وتمر وهو جامد يسمع وينظر ولا يتأثر.
بورك لكم بأطماعكم أيها الناس. تقول بلادي.
بورك لكم بهذه المدنيات السريعة الاندثار كأزهار الربيع.
بورك لكم بأصنامكم ومعدات هلاككم.
أما أنا فلا أزال منذ أقدم أزمنة التاريخ أنظر إليكم تدفنون وتندثرون أمة بعد أمة، ودولة بعد دولة.
تأملوا، أيها الناس، بقوة كياني! تأملوا بالأبناء الذين ولدتهم كيف ثبتوا على مصارعة الأيام.
تأملوا بأبنائي كيف لا يزالون إلى اليوم يتكلمون اللغة التي نطق بها سام، واسمعوا أناشيدهم، فهي باقية كما كانت يوم كان رعاة اليهود يعزفزن بالمزمار على جبال جلعاد. •••
أما أنا المرأة الشرقية، الغيورة من مجد الأمم وأعلام الأمم، فلم تشبع نفسي مما قالته بلادي؛ لأن لي نفسا جبارة كالحياة، وطماعة كالموت.
أريد بلادي عزيزة، مناعة، أريدها متشبعة من كل ما اندثر فيها من المدنيات، ومفرقة على العالم دروس العلم والحكمة.
وكلما تألمت الأمومة الجريحة في قلب راحيل، فصرخت بمرارة إلى يعقوب: «أعطني ولدا وإلا أموت.» هكذا وقفت نفسي الجائعة على أطلال بعلبك، فصرخت صراخا إلهيا كالآلهة، وعميقا كالهاوية.
يا أبناء بلادي القريبين والبعيدين، أعطوني بلادي، أعطوني وطنا وإلا أموت.
تعبت من المدينة
إلى جبل الرب أيها المتعبون، إلى الغابات التي رددت قبلات سليمان، والقمم البيضاء حيث تجلت قدسية يسوع، إلى لبنان في الصيف والشتاء والربيع والخريف، إلى قممه ووديانه وآكامه وسهوله وسواحله، إلى لبنان في كل آن وزمان. •••
تعبت من المدينة فذهبت إلى سفح «حريصا» حيث وقفت أم الناصري فاتحة ذراعيها، وكأني بها تقول بلسان ابنها: «تعالي إلي يا جموع التعبين».
تعالوا إلي وأنا أريحكم. يقول الإله. وما الإله ورمز ألوهيته سوى هذه الجبال الصامتة، والسهول الضاحكة، والغدران الراقصة، وهذا البحر الغضوب الوثوب اللعوب، يسخط فيعول، فيثور هاجما محطما، ويعود متذللا لطيفا مداعبا مهينما مدغدغا أقدام لبنان، ورمال ساحله البيضاء.
الله من هذه الآيات الخالدات! من أناشيد رقص على أنغامها قديما كهان عشتروت، الله من رمال أزلية نتمرغ عليها أطفالا، ونلعب فتيانا، وننحني كهولا، ونندثر شيوخا، الله من هذا السكون الأخرس المنادي بفم التمثال الصامت: «تعالي إلي يا جموع التعبين».
تعبت من المدينة، من صراخ الناس، وخرير العربات، وحشرجة السيارات، واختلاج المائتين تحت دواليبها، تعبت من المدينة ومن أصنامها وهياكلها ومذابحها، تعبت من كل ما يعمي ويصم ويخنق الألوهية في الكائن المصنوع على مثال الله.
تعبت نفسي من المدينة، ونفسي منذ وجدت تسير بين الناس وتتفرس في عيونهم علتها تجد رسما أو شبه رسم للطابع الأسمي، ولكن ما أكثر ما رأت نفسي من المسوخ، ويا الله من حزنها عندما تحول وجهها عن أشباهها، وتنتحي مرابض الأنعام علها تجد في وجوهها مسحة من روح الحق، وفي أنفاسها نهلة من الحياة الأزلية.
تعبت نفسي من المدينة، وكم في المدينة من بيوت تنهار وأطفال تئن! تعبت من أنين أطفال، ومن نزع ضعيفات تمزقهن أظافر الرجال وألسنة النساء.
تعبت من المدينة ومن غيرة أقوامها الآكلة! هؤلاء الذين ينبشون حول خفايا القلب الخفية ، فإذا فتحت لهم داسوها بأقدامهم، وإذا أقفلت في وجوههم ساروا لاعنين معربدين. •••
تعبت من كل ما في بطون الصحف والأوراق، وهل في أكثرها إلا ثرثرة الإنسان الأبدية، هذا الإنسان الذي ساء ذوقه فأصبح ولا لذة له سوى اللغط الذميم.
تعبت - وأنا أنقل اللاسلكيات إلى بني أمي - من منظر الإنسانية تسير مصفدة بإرادة رجل واحد يلعب بحياة الروسيين والبولونيين والشرقيين، تعبت من اختلاج الربوات والملايين.
وأنت أيتها الإنسانية؛ أفما تتعبين؟
تعبت - وأنا في نافذة أرى منها الحاكم والمحكوم - من رؤيتكم يا بني أمي على أقدام الأمم، تعبت منكم معشر الواشين والمتذللين والراكعين، انصدعت حزنا على جباهكم المعفرة، وركبكم الدامية.
وأنت أيتها الأمة؛ أفما تتعبين؟
تعبت من المدينة فذهبت إلى جبل الرب، فتعالوا أنتم أيها التعبون.
تعالوا في الصيف والشتاء والربيع والخريف، تعالوا طهروا نفوسكم بخيوط الشمس وضياء القمر.
تعالوا إلى أقدام أم الإله، واسمعوا نشيد البحر القديم حيث رقصت قديما قلوب المحبين، وحيث تسكب اليوم نفوس المتعبدين.
درس في الوطنية1
ذكر الكاتب الإنكليزي الشهير سونبرن
Swinburne
في كتابه «صلاة الأمم» أن فرنسا في صلاتها إلى الحرية تقول النشيد الآتي:
أيتها الحرية! أنا رمزك وأنا رافعة أعلامك
أنا صوتك وصراخك
أنا التي غسلتك بدموعي وصيرتك أكثر بهاء
ألم ترفعك يداي الداميتان من الحضيض لتغذيك وتحييك
ألست اللسان الذي تكلم عنك، والعين التي أنارت طريقك.
أيها السادة، من سنة 1870 إلى الآن ظهر على الأرض أناس كثيرون جعلوا همهم تكذيب هذا المديح؛ ليحملوا العالم على الاعتقاد أننا أمة تمشي إلى الفناء. ولقد نجح هؤلاء الدعاة؛ ففي كل مكان كنا نسمع هذه العبارة: لقد شاخت فرنسا وأصبحت أمة قديمة.
نحن لا ننكر أننا أمة قديمة، وأننا أول أمة شعرت أنها «أمة»، وأنها «وطن»، ولكننا لا ندري أي عار في القدمية، قالوا: إننا جمعنا كثيرا من الأمجاد، وكثيرا من الكنوز، وكثيرا من العاديات، وكما يجلس شيخ قديم بين تحف قصره جلسنا نتذكر مجدنا الغابر وعزنا السالف.
وقالوا: إننا أمة غير رصينة، وأن همنا في الحياة هو الركض وراء الملذات، وتراكضت الأمم إلى عاصمتنا لتذوق الملذات.
أيها المبغضون الظالمون! كيف يمكنكم وأنتم ثملون أن تعرفوا ماذا يجري ضمن عائلتنا التي تعرف أن تسكن بعيدة عن الضوضاء.
إن تلك العائلة كانت تختمر - بينما أنتم تسكرون - بالعاطفة العلوية، فلما دقت الساعة وعلا النداء نهضنا كشخص واحد ولبينا ذلك النداء كما لو كان وحيا سماويا. •••
أرجع بكم إلى شهر آب سنة 1914 حين بوق بالبوق وقرعت الأجراس في قباب الكنائس التي بنيت أساساتها فوق المدافن، فكانت أصواتها ترن عميقة هائلة كأنها أصوات الملايين من الأموات وقد قاموا من مراقدهم ينادون الرجال، ويندبون حظ النساء.
واحتشدت الجموع في المحطات من أطفال ونسوة وشيوخ حول الراحلين الذين كانوا يصرون بأسنانهم قائلين: «لقد أرادوها فهيا بنا.»
لا يمكن لي أن أصف كل المشاهد المؤثرة، ولكنني سأسير بكم إلى مدرسة سان سير الحربية، فتقفون هنيهة بين الشبان الصغار وترون عاطفة أمة بأسرها تختلج في صدور فتيانها.
تحتفل هذه المدرسة كل سنة بعيد الحرية في شهر تموز، وبمناسبة العيد تقيم إدارة المدرسة حفلة وداعية للضباط المنتهين، الذين بعد انتهاء الحفلة يأخذون تحت رعايتهم الصف الذي يليهم في الدروس، ويعمدونه باسم يتفق عليه الجميع.
ففي ليلة 14 تموز؛ أي في أسبوع المفاوضات التي سبقت في الحرب الكبرى، أبلغ مدير المدرسة الضباط المنتهين، وكان اسمهم «مونميراي» أن الحفلة السنوية ستكون بسيطة، وأن عليهم أن يعمدوا رفاقهم بدون أبهة خلافا للعادة.
فاجتمع الكل ليلا في باحة المدرسة، وفي وسط سكوت عميق عمدت فرقة «مونميراي» الضباط الفتيان باسم صليب الراية، ثم لفظ بعض الضباط الخطب الحماسية، منهم ضابط اسمه غاستون فوازار وقف وقال:
أقسموا أيها الرفاق أنكم لا تذهبون إلى النار إلا بثياب العيد، بالقفاز الأبيض والريش الأبيض في القبعات.
فصرخ ضباط مونميراي - وعددهم خمسمائة شاب: «نقسم».
وتلتهم فرقة صليب الراية - وعدد فتيانها خمسمائة - صرخوا بصوت واحد: «نقسم».
لقد كلفنا هذا القسم ثمنا غاليا، فإن الريشة البيضاء كانت علامة فارقة اتخذها الألمانيون هدفا، فأصيب أكثر هؤلاء الأحباء في جباههم، ولست بذاكر عدد الأموات ، ولكن معظمهم سقطوا الواحد بعد الآخر.
وهاكم ما كتبه أحدهم، وهو شاعر فتى اسمه جان إلار إلى أمه في وصف تلك الحفلة:
بعد العشاء أخذ كل منا سلاحه واجتمعنا في الساحة العامة تحت إمرة القائد، وكانت الليلة جميلة، والنسيم عطرا، والسكوت عميقا ملتفا حولنا جميعا، وفي وسط الحماس المتعاظم وقفت وأنشدت قصيدتي التي تعرفين.
يا أمي الصغيرة! لن أقول في حياتي هذه الأبيات؛ لأن الساعة التي نظمتها فيها لن تعود. هذه الساعة آن أتهيأ للسير إلى الحدود وحولي ألف شاب ينتفضون بعاطفة الكبرياء والوطنية وحمى الحياة.
آه يا أمي لو نفخ في البوق في هذه الساعة لحملنا صداه إلى ضفاف الرين.
تعرفون، أيها السادة، حكاية الشاب الذي هجم على خندق ألماني صارخا تلك الصرخة التاريخية: «وقوفا أيها الأموات.»
لقد نقلت رسم هذا الشاب أكثر جرائد العالم، ولم تبق مجلة إلا ذكرت أخبار شجاعته، فأردت أن أراه لأسمع منه شيئا، وهاكم ما قال لي:
كنت مع رفاق لي وراء خندق حاول الألمانيون الاستيلاء عليه مدة ثلاثة أيام متواصلة بشدة وعنف لا مثيل لهما، وكانت رمانات «الشرابنل» تتساقط بالمئات والألوف، وصراخ المحتضرين حولنا يصم أذاننا ويمزق نفوسنا، وكان بجانبي ملازم يدخن لفافة ويبتسم للموت، وإذا برمانة أصابت رأسه، فاستند إلى جذع شجرة وأغمض عينيه، وإذا بالدماء تتدفق من جرحه، وتندفع إلى الأرض بشدة فتتألف منها فقاقيع كالخمر المتدفق من برميل فوق وعاء.
ثم تدلى الرأس وهبط الجسد الغض، إذ ذاك ذعر الرفاق لموت رئيسهم، ولا يمكنني وصف اليأس الذي استولى علينا جميعا، فتفرقنا وهممنا أن نختبئ وراء أكياس الرمل بينما كانت الجثث تتساقط كما في لعبة الكيل.
وبعد أن اختبأت لحظة رأيت الجندي «بونو» يناضل وحده نضال المستميت، فخجلت من نفسي وتبعته، ثم نظرت إلى يميني ورأيت الخندق وطوله يبلغ الثلاثين مترا، والألمانيين من خلفه يضاعفون الهمة ليدخلوه، وبغتة دخل إلى رأسي فكر هائل وقلت: لأذهبن وأرى ماذا يجري هناك، كانت الفكرة سريعة تكهرب لها جسدي فمشيت ... ويا لهول ما رأيت! الأموات أكداسا أكداسا وأنا وحدي بينهم، فجننت من غيظي عندما رأيت الأعداء يتقدمون وقلت: إذن قد نحر كل هؤلاء الأحباء عبثا، وسيأتي العدو ويدوس بحوافر خيله هذه الوجوه الجميلة؟ لا، لا، إن هذا لن يحدث! لن يحدث أبدا.
والتفت إلى الأموات في الحفر وصرخت: ماذا تفعلون هنا؟ ما بالكم نياما؟ وقوفا أيها الأموات! وقوفا أيها الأموات!
ولم أعد أرى سوى ألوان حمراء أمام عيني، وشعرت بأن أرواح الأموات كلهم تتحد مع روحي، ورأيت الرفاق يتراكضون حولي ويصيحون بأصوات كالرعد: وقوفا أيها الأموات! وقوفا أيها الأموات!
ما جرى بعد هذا. لا يمكنني أن أقول بالتدقيق؛ لأنني أشعر بالضباب يغشى ذاكرتي. أذكر أن إيماني في تلك الدقيقة كان يزحزح الجبال، وخيل لي أني كبرت وأصبحت شيئا عظيما له قوة غير متناهية وغير محدودة، شعرت أن لي عيونا وأيدي كثيرة، بهذه أضرب، وبتلك أصدر أمرا، بهذه أصيب، وبتلك أنجو من قنبلة، ولم نزل كذلك حتى ذابت قوة الأعداء أمام حماسنا الإلهي، فتراجعوا.
وبعد هذا أتى إلي رفاقي وهنئوني، فكان كلامهم أطيب على قلبي من الصلبان والميداليات.
والآن، أرجو منك أيها الكاتب أن تصدق أنني لست بطلا، ولم يكن لي في سابق حياتي شيء من الشجاعة، وكثيرا ما ارتجفت قبل الهجوم على خندق. إن ما عملته في ذلك اليوم لا فضل لي به، الفضل هو لرفاقي الأحياء والأموات الذين كانوا قدوة لي في الحياة وفي الموت.
2
ما نرى وما نسمع
نسمع همسا ولغطا وصريرا، بل صراخا وعويلا، نسمع الشتائم واللعنات حتى، ولقد سمعت كلاما بذيئا، فقلت في نفسي: سيبقى الشرق شرقا حتى يتدرج ويتطور ويتقلب في كل الظروف التي جعلت الغرب غربا.
قال لي أحدهم: ما هو مذهبك يا سيدتي، ومن تحبين من دول الغرب؟
قلت: إن ديني دين العقلاء، والعقلاء لا يبوحون بدينهم، وأما من جهة المحبة، فأنا يا سيدي أحب أولا نفسي، ونفسي قبل كل شيء شرقية، ثم إنني أجل وأكرم كل الشعوب الحية الراقية.
ثم قال لي: هل علمت أن سوريا ستنال استقلالها، وأن مبادئ ولسن ستكتب بأحرف من نور، وأننا سنحيا بعد الآن حياة طيبة؟
أجبته - وكنت إذ ذاك متشائمة: أعلم شيئا واحدا؛ وهو أن الغرب قوي، والشرق ضعيف، وأن كلمة الاستعمار كلمة تكتب اليوم بأحرف من ذهب على صفيحة من فضة ضمن إطار من الجواهر، ولكن الاستعمار يعني الاستعمار، وأن ما قدر فهو كائن. وهذا القدر يخطه اليوم مؤتمر الحلفاء الذي يأمر بأمر الله، الذي - جل جلاله - الذي جعل الحق للقوة.
أما اليوم وقد تعدل تشاؤمي وداخله شيء من التفاؤل، فلا بأس من كلمة صغيرة أدسها بين جمهور الصارخين وقد قيل مرارا: إن صوت النساء من صوت الله، وأنا صدقت، والذنب ليس ذنبي.
قال سبنسر ما معناه: إن مبادئ الاشتراكية لا يمكن تطبيقها عمليا، ولكن وجودها لازم؛ فهي لجام تضعه الأكثرية في فم الأقلية؛ أي العمال، في أفواه أصحاب الأعمال. هذا اللجام يشتد قليلا كما أعمى البطر المحتكرين والمتمولين، فتحفظ بذلك الموازنة الطبيعية اللازمة، فاللجام الذي بيدنا - نحن الشعوب الضعيفة - نحن الأكثرية، نحن العمال، الذين نحيك بدماء قلوبنا ثوب أوروبا الاقتصادي، اللجام الذي وضعته الظروف في يدنا هو صوتنا نرسله من هنا صراخا فيصل إلى المؤتمر همسا. وهذا الصراخ لا يجب أن يصل إلى آذان من يلزم لغطا مشوشا، بل نغمة واحدة تضرب على وتر واحد.
إن اللجام الذي في يد الأكثرية اليوم لا يجب أن يرخى فتضيع الفرصة، ولا يجب أن يشد فتغضب أوروبا القوية صاحبة العز والملكوت والجبروت، وترفسنا رفسة ترمينا خمسين سنة في زاوية من زوايا السياسة.
يا قوم، قد اتفقتم على الاستقلال فاتفقوا على سن بروغرام معتدل.
إن أوروبا اليوم مع كل احترامها لنخبة رجالنا الأفاضل تعرف حقيقة اجتماعية تجرحنا في أعماق قلوبنا، ولكنها حقيقة لا يعلو عليها حق؛ وهي أننا عشنا مئات السنين في الذل والخنوع، ولنا كل نقائض الشعوب الذليلة من سقم في الإرادة، وضعف في النفوس، وجبن في القلوب.
يا قوم، أخاف أن تطلب أحزابكم المختلفة ثلاث دول في آن واحد، فينظر إلينا المؤتمر باحتقار ويقول: يا هؤلاء، يظهر أنكم اتفقتم على أن لا تتفقوا؛ ولهذا نحن سنتفق من أجلكم، ولا صوت لكم في هذا الاتفاق.
وإذا أسكت المؤتمر صوتنا اليوم قضي علينا إلى أجل مجهول.
فاتفقوا قبل أن يتفق المؤتمر عنكم أو ... عليكم، والسلام ورحمة الله.
بابل في سوريا
كنت أعد - على أصابعي - لئلا أغلط بالعد فيضيع الحساب، عددت:
حزب الاستعمار الإنكليزي.
حزب الاستعمار الفرنسوي.
حزب الاستقلال مع الوصاية الإنكليزية.
حزب الاستقلال مع الوصاية الفرنسوية.
حزب الاستقلال مع الوصاية الأميركية.
حزب الاستقلال التام الناجز بلا وصاية.
حزب الضم.
حزب الفتح.
حزب التجزئة، والساحل، ولبنان الكبير، ولبنان الصغير، ولبنان الأصغر.
قلت: أف! يكاد نفسي أن ينقطع.
فقال لي جليسي - وكان ضليعا في السياسة: استقلالنا سنأخذه تاما، تاما ... لا رقابة ولا وصاية. نريد أن نستجلب من أوروبا اختصاصيين لتعليمنا طريقة الأحكام، اختصاصيين بالأجرة من أي صقع ومن أي قطر نريد.
من بلجيكا وهولانده وسويسرا وأسوج والدانمرك.
وكاد يقول: حتى ومن داهومي.
قلت في نفسي: هذا حزب جديد أعده مع الأحزاب، أما اسمه فسيكون حزب بابل أو التبلبل أو البلبلة ...
ما شاء الله ...
ولم أتمالك نفسي فغضبت غضب رجال الصلاح، ونفثت من أعماق روحي نفثة أحملها منذ أربع سنوات وتكاد أن تقتلني.
قلت له: إن الشعب الذي لا يعرف أن يقول: لا أريد، لا يحق له أن يقول: أريد ...
سنون أربع أذابت منا الشحم واللحم، أفنت الأعصاب، ودقت العظم، ونحن وقوف نتفرج ولا نعرف أن نقول: لا نريد.
لا نريد أن تستبيحوا أموالنا.
لا نريد أن تشلوا تجارتنا.
لا نريد أن تميتوا أطفالنا جوعا.
سنون أربع وأطفالنا تحشرج في الأقنية والمزابل، وقد مسخها الشقاء، فشابهت السعادين والقرود، بل بقايا عاد وثمود.
من هو طفل محمد مصطفى من البسطة، وطفل يوسف توما من شنانعير؟
هما طفلاي أنا، بحكم الأمومة التي حولت ألياف قلبي وجعلتها أوتارا حساسة رنانة، هما طفلاي أنا وطفلا كل امرأة شرفتها الأمومة، فإذا كنت وأنا أم لا أعرف أن أشفق على طفل جاري ؛ فقد سقط عني لقب الأمومة الإلهي.
طأطأنا الرءوس وعفرنا الوجوه، بذلنا الأموال وفلذات الأكباد، ولكننا ما عرفنا أن نقول: لا نريد؛ خفنا من المشنقة ومن النفي، كأن الحكومة البائدة كانت قادرة أن تشنق أو تنفي كل أهل بيروت والشام لو اجتمعوا في يوم واحد وصرخوا بصوت واحد: لا نريد!
قابلت مرة ضابطا إنكليزيا وضابطا إفرنسيا كانا ذاهبين إلى قونية في أوائل الاحتلال، قلت لهما: كل بقايا الجيش التركي موجودة في قونية، أفلا تخافون غدرهم وأنتم حفنة؟ فأجابني كل بلغته - كأن كل واحد يترجم أفكار الآخر: «وأي مصيبة تحدث إذا قتلنا في وديان الأناضول؟ ألا تعلمين أن كل ضابط يقتل هو سلاح جديد يضعه الأعداء في يد الحلفاء؟»
هذه شعوب تقدر أن تقول: نريد، بحكم الله وأوامره، والعمران وشرائعه، والتاريخ وآياته التي لا تقبل الرد والتحوير.
وخفت أن يفسر سامعي هذه الكلمات على غير معناها، فقلت له: استقلالنا أعطي لنا بحكم ظروف فاقت التصور؛ فالظروف الطارئة شيء والتطور الطبيعي شيء آخر، على أنه لو أعطي أو لم يعط؛ فليشتغل كل منا لأجل هذا التطور.
قال: عهدتك تفكرين ضمن دائرة التدريس والتهذيب، فما بالك ...؟
فقاطعته وقلت: أنا كارهة السياسة وأوحالها، ولكن هذه ليست سياسة يا أخي، هذا درس في الأخلاق.
قولوا لها لتقول لهم
هي: اللجنة بالطبع؛ لجنة الاستفتاء الأميركية.
وهم: زعماء السياسة.
قولوا لها كلبنانيين وبيروتيين، كشاميين وحلبيين، كعراقيين وحجازيين، كأناضوليين وفلسطينيين، قولوا لها ما تشاءون.
اطلبوا بلسانها، كمسلمين ونصارى، كدروز ونصيرية، كشيعيين وسنيين، كروم وموارنة وكاثوليك وسريان وأرمن وبروتستانت، إلى آخر ما ابتلي به هذا الشرق من الطوائف، اطلبوا بلسانها الدولة أو الدول التي تريدون ولكن كشرقيين، قولوا لها لتقول لهم: إن هذا الشعب الضعيف الذي عليه تموهون، إن هذا الشعب الضعيف اليوم سيقوى غدا بفضل النفخة التي تنفخون، والأموال التي تنفقون، والدسائس التي تخلقون، والأحزاب التي توجدون! نعم، إن أحفاد هذا الشعب سيطالبونكم بالمبادئ الخلابة التي تسنون!
قولوا لها لتقول لهم: إن أبناء الشرق سيطلبون في المستقبل - القادم عليكم بالخير - سيطلبون الحق صريحا، والسياسة صريحة، والقوة صريحة ... وإن هذه الألاعيب التي يتلهون بها هناك منذ عشرات السنين ربما تدهش في المستقبل زنوج أفريقيا. أما شبيبة هذه البلاد فقد فتحت عيونها وآذانها، وهي تقرأ وتكتب، بحمد الله؛ تقرأ التاريخ وفلسفته، والسياسة وتاريخها، ومنعطفاتها ودهاليزها، وسراديبها ولوالبها ...
قوموا أمامها بحق الضيافة كما يليق نحو أمة كريمة نبيلة، فما نسينا ولن ننسى ما فعله أبناؤها معنا مدة الحرب. لا، لا ننسى الدكتور كراهام وقيامه وحده بمستشفى العصفورية مدة سنتين كاملتين، ولا المستر دودج الشاب وتسلقه تلال لبنان صعودا ونزولا، وإطعامه المئات من أطفال الشوف، ولا السيدة الكريمة التي أوقفت في الدائرة جزاء على الإحسان.
قولوا لها: إننا نعرف الجميل ولا ننسى ...
ولكن! ...
نظرة إلى هذه الأحزاب هنا وهناك وهنالك، نظرة إلى مبدعيها وموجديها، نظرة إلى ما يقال هنا وما يقال هناك، ونظرة مقابلة واستنتاج بين ما يجري هنا ويجري هنالك.
يا لله!
ألدرس أحوال البلاد هم قادمون؟
إن سوريا، بطوائفها ومعابدها ومدارسها ومبشريها، سوريا بسهولها وجبالها ووديانها، بل بشجيراتها وأحجارها، سوريا مرسومة ليس على خرائط بل على أدمغة الساسة هناك، حتى أقدر أن أقول: إنها تنتقل من الآباء إلى الأبناء بالوراثة ... قسموا الشرق إلى أشطر، ونحن أمة رضينا منذ مئات من السنين قسمة الجبار فينا، رضينا أن نكون جسرا يعبر عليه الفاتحون شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا، رضينا مرغمين بحق القوة وقوة الحق، ثم انتظرنا الحلفاء والفرج الذي يحملون.
فماذا جرى؟
جرت أعجوبة غريبة، تجمعنا ثم تفرقنا، ثم تحزمنا ثم تحلنا، ثم ترمي بنا إلى الهواء أعوادا تتبعثر هنا وهناك.
حالة نحن فيها كالخارج من حرب، الداخل في أحر منها وأوجع.
قولوا لها لتقول لهم: كنا قبل أن تشب الحرب وفي خلالها قلبا واحدا، وميلا واحدا، وإرادة واحدة، لكن السلم ولد لنا حربا خاصة، فمن ترى يقول لهم: لا أحد منهم يقبل الوصاية علينا. سبحانك ربي!
قولوا لها لتقول لهم : إنا فهمنا ...
ولا بأس إذا رددتم أننا نريد قوة صريحة، وقولا صريحا، وعملا صريحا إزاء هذه الحالة ... وإننا وإن جررنا اليوم في هذا التيار، فإن سماء الشرق الجديد تتلبد بغيوم ربما تعلم الغرب الصراحة قولا وفكرا وفعلا. والمستقبل لله.
أما إذا كنتم لا تريدون أن تقولوا فقد قلت هنا عنكم، والسلام.
من أساطير الأقدمين1
الشرق بعد ألف سنة
جرت الحادثة الآتية في قصر من مدينة مرسين المبتدئة من شاطئ بحر الروم، والممتدة بضواحيها وما يحيط بها من المزارع والقرى إلى تحت أقدام جبال طوروس، حيث قامت منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة مدينة رومانية قديمة.
كان ذلك حوالي الغروب وقد أخذ ظلام الليل ينشر ستائره السود، ثم تبدد ذلك الظلام بغتة وأنارت الكهربائية البيضاء كل القصور الواقعة على جانبي الشارع، وهي كأنها سلسلة نجوم معلقة بخيوط فضية فوق رءوس الناس.
وهناك على الرصيف الواسع مشى مئات من العمال إلى بيوتهم وهم يتنزهون ويتغنون بعد تعب النهار ومشاقه.
قلنا: إن الحادثة جرت في قصر من هذه القصور.
ففي قاعة كبيرة مفروشة بفاخر الأثاث، قعدت عجوز قديمة بيضاء أمام الموقد اللامع، وقعد حولها أحفادها؛ البعض ركع، والبعض جلوس، والبعض وقوف، قعدوا يصغون إلى حكاية العجوز البيضاء التي كانت تتكلم وصوتها يتهدج:
في ذلك الزمان؛ أي في سنة 1918، كانت بلادنا بلاد بؤس وشقاء، فشوارعنا كانت ضيقة مظلمة، وكان السائر فيها ليلا يتلمس طريقه تلمسا بين الحفر والأخاديد ... وكان أجدادنا المساكين يتحاشون الخروج ليلا؛ لأن عصابات اللصوص كانت تختبئ في كل زاوية وفي كل بستان.
ولم تكن هذه العصابات في البساتين والزوايا فقط، بل كان القسم الأكبر منها على العروش وفي دسوت الأحكام.
ولما لم يكن لهؤلاء الأشقياء شيء من القوة كانوا يسودون على الناس بالتخويف والإرهاب، فكانت البلاد كلها عبارة عن لصوص صغار يأتمرون بأمر لصوص كبار، وكانت الحياة معركة دائمة يقتل فيها المسلم نصرانيا في اليوم الأول، فيقوم النصراني في اليوم الثاني ويثأر لصليبه بقتل أحد أبرياء المسلمين.
كأن صليب السلام تحول إلى راية شعارها الدم والنار!
هل تخاصم مسلم مع جار له وقتله؟ فكانت التهمة تقع على رءوس المسلمين أعداء الصليب ...
هل افترس ذئب أحد الرعاة المسلمين؟ فكانت التهمة تقع على رءوس النصارى أعداء الإسلام ...
وفي أحد الأيام، رأى أجدادنا حورية جميلة رشيقة القوام خارجة من الأمواج، وكان لها شعر ذهبي طويل، وعينان ذهبيتان صافيتان، وعنق جميل كالبلور قائم على أكتاف كأنها الرخام المصقول، وكانت مرتدية وشاحا شفافا له أردان كخيوط الذهب، وقد لفته على جسمها الجميل بهيئة تماثيل اليونان، وكان ناعما ناعما يحاكي الهواء أو بخار الماء ... ولما رأت هذه الحورية الناس وشقاء الناس أرسلت من عينيها الذهبيتين دموعا كانت كحبات اللؤلؤ.
وبعد أن استنزفت كل الدموع التي كانت في عينيها نظرت إلى الحراس حولها - وهم طوال القامات، بيض الوجوه، ذوو شعور ذهبية - وقالت لهم: إنني حزينة يا إخواني، حزينة على حالة هذا الشعب، هلموا نتعاون ونخفف شيئا من آلامه.
فقالوا لها: أيتها الحورية الجميلة، إنما نحن إخوانك ومساعدوك، نحن جيوش متحدة انتدبتنا السماء ووضعتنا بين يديك، ونحن من زمان نكافح الحرب بالحرب، وقد تعبنا من مكافحة الحرب بالحرب، وماذا تفعل حرابنا وبنادقنا أمام أشعة الحب المنبعثة من عينيك.
فطافت إذ ذاك الحورية في الشوارع والأسواق، وكانت تبشر بالحب والإحسان، فلم يسمع صوتها الناس؛ لأن عويل النادبين وحشرجة المائتين أصمت آذانهم، ومنظر الدم أعمى عيونهم، صم بكم عمي لا يسمعون ولا ينظرون!
فلم تيأس الحورية، بل ظلت تسير بين الجبال والأودية واعظة مبشرة، وفي أحد الأيام رأت في بيت بعيد على رأس جبل كأنه عش للنسور ولدا صغيرا يبكي فوق جثث أبويه وإخوته، وكان اسم الولد أحمد، فأخذته ووضعته في هدب ثوبها، وسارت به على جوادها تنهب الأرض نهبا.
وفي فجر اليوم الثاني استيقظت مع الطيور، ورأت على عتبة بيتها ولدا صغيرا مطروحا بين حي وميت وقد قتل أهلوه في المنفى، فأتى به أبناء السبيل ورموه على باب الحب والإحسان.
وكان اسم الولد سركيس.
فحملته بين ذراعيها، وكان يرتجف بردا ، وقالت له: لا تبك يا حبيبي؛ سأضعك في كنف حبي وحناني فلا يصل إليك الأشقياء.
ثم ذهبت به إلى السرير حيث كان نائما يتيم الأمس بين الستائر الحريرية الناعمة، فوضعته إلى جانبه وقالت لهما: ناما كأخوين.
ولم تمض ساعة حتى سمعت صراخا غريبا، فهرولت ورأت الطفلين يختصمان كأنهما شبلان صغيران.
فتنهدت وغسلت الدماء وضمدت الجروح، وأخذت الولدين بيديها إلى جنة قريبة فيها أزهار عطرية وفاكهة ذهبية، فقطفت الورد وضفرت منه إكليلين كللت بهما رأسيهما، وقطعت أغصان الفاكهة وقالت لهما: «العبا كأخوين.»
ولم تغب دقيقة حتى اشتبك الولدان، فداسا الزهور، ورميا الفاكهة إلى الغدير، ونزلا برقاب بعضهما نهشا وعضا.
فرجعت وغسلت الدموع وضمدت الجراح، وحبست الولدين في غرفة، وقالت في نفسها: سألهيهما بالعمل، ثم وضعت بين يديهما الأقلام والدفاتر، ولم تتجاسر أن توصيهما بالحب والأخوة، بل قالت لهما: «اعملا».
وذهبت فلم يعملا بالوصية، بل كسرا الأقلام، ومزقا الأوراق، واشتبكا من جديد.
فيئست الحورية وقالت: لا شيء يؤثر بهذين الشبلين، لا وعد ولا وعيد، ولا غنى ولا دلال، ولا أزهار ولا أثمار.
ثم وضعتهما على ركبتيها، وسكبت من عينيها الذهبيتين لؤلؤتين سقطتا؛ الواحدة على عنق سركيس الأبيض، والثانية على جبين أحمد الأسمر.
وفي تلك الدقيقة لامس الحنان قلبيهما، فتعانقا وبكيا، واختلطت دموعهما بدموع الحورية التي تبسمت وحلت وشاحها وألقته على الولدين وقالت بصوت كأنه آت من عالم بعيد: اتحدا كأخوين؛ الاتحاد سر القوة، والأخوة سر الهناء.
وغابت الحورية بين الأمواج ولم يرها سركيس، ولم ينظرها أحمد إلا في الأحلام، على أنهما حفظا لها الحب والجميل، وحافظا على وشاحها كما يحتفظ المسيحي عود الصليب، فكان لهما بياض الوشاح رمزا لحسن النية، وزرقته رمزا للأمانة، واحمراره رمزا للحب الخالص الكامل.
توقفت العجوز البيضاء عن الكلام، وسكت صوتها المتهدج، فاقترب منها صغير الأولاد وقال لها بلهجة الولد غير المصدق: وهل هذه الحكاية صحيحة يا جدتي؟
فتبسمت العجوز وقالت: يا ولدي، إن جدة أبي عاشت مائة سنة، وهي روت لي هذه الحكاية عن جدتها، وجدتها عن جدتها عن جدودها عن أساطير الأقدمين. والله أعلم.
ويومها العصيب ...
في يوم ممطر من الشتاء الماضي صعدت إلى الحافلة التي يسمونها الترام، شققت لي طريقا بين الصدور والمناكب وعليها المشمعات تقطر ماء، فوصلت إلى مقعد جلس عليه ثلاث سيدات، إحداهن آنسة كريمة تشتغل في إحدى الدوائر المحلية، وقفت حالما رأتني إلى جانب النافذة، وأشارت إلي أن أجلس في مكانها الصغير. - أشكرك لست تعبة. - أراك تتعبين من الوقوف في الترام، أما أنا فمنذ سنتين أقطع هذه المسافة أربع مرات في النهار، وكثيرا ما أقطعها واقفة. اجلسي.
نزلت من الترام وأنا أفكر بكل الموظفين والتجار والطلبة الذين يدخلون الترام أربع مرات في النهار، فيحشرون ويتذمرون ويظلون صابرين ...
وجاء الصيف فذهبت إلى الأعالي، ويوما جاءني شاب يقول: احمل نبأ أعرف أنه يسرك. - هات. - اعتصب الشعب على الترام.
وفتح أمامي الجرائد وفيها بخطوط عريضة تفاصيل الحركة الشعبية المباركة.
يا للحركة الهائلة في حلاوتها، الحلوة في هولها، كيف كانت تكهرب كياننا وتهزه هزا ...
وكم رددت في تلك الآونة قصيدة الريحاني المشهورة:
ويومها القطوب العصيب
وليلها المنير العجيب
وصوت فوضاها الرهيب
من هتاف ولجب ولجيب
وزئير وعندلة ونعيب ...
وقالوا: انتهت مشكلة الترام فخطر في بالي أن أجرب، فصعدت إلى تلك التي تسير على طريق الحرش، وصعد ورائي سرب كبير من النساء، وبما أننا أصبحنا متمدنين نهض الرجال - بارك الله في أصلهم - وأعطوا أماكنهم للسيدات، ثم إنهم - كدت أغلط وأقول: تفرقوا - انحشروا قرب السائق وبين المقاعد، وكان عددهم يزيد عن العشرين.
وجرت الحافلة، باسم الله مجراها، جرت بعنف وشدة، فاهتز الرجال في مواقفهم، ووقع بعض من كان بين المقاعد على اللواتي كن عليها، وهنالك شيخ لطم رأسه بلوح الباب لطمة كادت تذهب برشاده ... ووقف الترام فشققنا نحن السيدات طريقا لرءوسنا وأكتافنا بين الرءوس وبين الأكتاف.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكت عن الكلام المباح.
صوت الأم
ونحن، لنا كلمة في القمار وضريبته، وصوتنا - وهو الصوت المختفي طيلة الدهر - هو اليوم صوت العائلة الوطنية المحتضرة تحت ثقل الأزمة الاقتصادية، المحترقة بلهيب الثورة الاجتماعية، المجرورة بتيار اللهو والزهو إلى الموت المحتم.
قالوا: إن في المسألة تعزيزا للاصطياف، فنحن النساء بسيطات العقول لا نفهم إلا الصريح من القضايا، نقول: إما أن يكون لبنان مصيفا كسويسرا، أو مقمرة كمونت كارلو.
فالحالة الأولى قريبة المنال، وهي تتم بتحسين إداري طفيف تقدر عليه الحكومات إذا شاءت؛ لأن زبائنها؛ أي زبائن الاصطياف، هم جيراننا السوريون والمصريون الذين إنما يفدون علينا في الصيف لاكتساب العافية لا لتبذير الأموال.
أما الحالة الثانية، وهي جعل لبنان مونت كارلو، فبعيدة المنال؛ لأن كبار اللاعبين من أميركيين وأوروبيين لن يتركوا مقامرهم الجميلة، وفيها التسهيلات المعروفة ليأتوا للمقامرة عندنا. بقي أن زبائن القمار؛ أي زبائن الضريبة الجديدة، سيكونون من الوطنيين، ويؤيد هذه الفكرة السماح بالقمار في بيروت التي ما كانت في زمانها مصيفا. وفي هذا حكمة لا تفهمها عقولنا البسيطة.
قال كبير: إن من وراء ضريبة القمار إيراد قد يبلغ المليون، وهو رقم لا يستهان به.
لنفرض أن إيراد القمار بلغ العشرين مليونا تحولت كلها إلى تحسين الطرقات، فنحن قوم قانعون بشوارعنا الضيقة القذرة، ولا نريد إصلاحا مؤقتا، وطلاء لماعا يجيئنا من فضلات موائد القمار التي يبيع عليها رجالنا ضمائرهم وصحتهم، وسعة صدورهم، وعقولهم؛ فيكون ربحنا - نحن النساء - الشقاء الدائم، والحرمان الأليم.
إذا كان رجال هذه الأمة يخافون الدفاع، فنحن ندافع عن كيان الأمة الأدبي، نحن نحافظ على بقايا إرث قديم تركه لنا الجدود؛ وهو الفضيلة الشرقية.
ليس من يشك في حسن نية الذين يودون تكثير الإيراد؛ لأنهم كلما طلبوا إصلاحا وجدوا أنفسهم أمام العقدة التي لا تحل، وهي عجز الميزانية، ولكننا نسترحمهم أن لا ينشطوا القمار في هذا البلد الذي سماه الشرق بلد المعاهد والمدارس.
تريدون ضريبة جديدة؟ اضربوها على أعناقنا، ونحن النساء نرضى بأن ندفع الخراب عن الأمة، ونفخر أن نكتب صفحة خالدة في سجل الوطن الجديد.
نحن نقصي عن شبيبتنا خطر القمار الذي لم تبتل به بلد كما ابتليت بيروت، ونشتري دموع الأطفال والأمهات والزوجات اللائي ستلقى حظوظهن رهن شفاه المقامرين، فيربطن - بسبب تنشيط القمار - إلى مواكب البؤساء، وهم كثر.
الحاكمية الوطنية
إذن للحاكمية الوطنية أخصام ومريدون؟ ولها من يقول بها ومن لا يقول؟ لولا هذا لما كان هذا الجدال في أمة صغيرة يجتمع سكانها ويحشرون بسهولة في زاوية من زوايا العواصم الكبيرة ...
ولكننا على ضآلة شأننا نعرف أهمية هذا الاقتتال علينا، وإلا فما كان لهذا الدلال من سبيل ومن وجود، ولعلنا - من دون أن ندري - ندين بدين أصغر مخلوقات الله، ونعطف على النملة الصغيرة الفخورة في بيتها الحقير فخر العقاب في وكره.
الحاكمية الوطنية؟ لو تسمع أخصامها يصفون لك ويلاتها لقلت: إن الأمة ستغوص في الدم يوم تخطئ المفوضية وتجرب فينا هذا الدواء.
يقولون: إن الأرثوذكسيين والمسلمين - وجلهم ناقمون لأنهم في هذه الحكومة يعاملون كما لو كانوا أولاد الجارية - لن يرضوا عن حاكم ماروني، والدروز - ولهم تاريخهم في حماية العرين - لم يزالوا بشرا، ولهم أطماع البشريين.
والموارنة لن يتنازلوا عما يعتبرونه حقهم الصريح لأن فرنسا إنما جاءت إلى الشرق من أجلهم ...
فإذا حصرت الحاكمية في إحدى هذه الطوائف، لا نأمن النقمة العامة، ثم الفوضى، ثم الثورة.
يقولون: إن الحاكم الإفرنسي؛ أي القومندان ترابو، لم يكن مهابا لأجل شخصيته؛ بل لكونه «ابن فرنسا»، ووراؤه جيوشها وزحافاتها وطياراتها، فشخصية الحاكم الوطني - هذا إذا وجدت - لا تكفي، بل يلزمها دعامة، وأين هي؟
يقولون: يوجد أقليات ناقمة قد تسيطر على الحاكم الوطني بالرشوة أو بغيرها، فيميل إلى خيانة لبنان و... خيانة فرنسا.
ويقولون: لا عبرة في الحاكمية، وطنية كانت أم أجنبية، الجوهر أن يكون الشعب هو المسيطر على مصيره، وأن يسير الحاكم بإرادة الشعب.
جميلة هذه الأمنية ... لو لم تكن غرارة كالسراب، لنصرف النظر عنها، ولنتآلف - صفقة واحدة - مع فكرة أساسية هي اليوم حجر الزاوية، الإدارات والمجالس والبلديات والحكومة كلها، وكل صامت وناطق هو قيد إرادة المفوضية. والحاكم، وطنيا كان أم فرنسيا، لا يخطو خطوة إلا بإشارة أمين السر العام.
هذه الحالة ستظل مرعية الجانب حينا لا يعرف مقدارها، فإذا لم يكن لنا بعد حق السيطرة على أمورنا، فلينصبوا لنا حاكما وطنيا يكون الرسول الأمين بيننا وبين رجال الانتداب؛ ليجعلوا لنا حاكما وطنيا يرفع إلى المفوض السامي أماني الشعب كما يسمعها بأذنه وبقلبه.
اجعلوه بلديا نعرفه ويعرفنا فلا نقف على باب الأجنبي كمن يطلب صدقة، خذوه واسع الثروة فتأمنوا الرشوة، أصيلا لا سبيل للصغارة إلى نفسه، قيدوه بقانون يؤمن الطوائف على مالها، وينص على عزله إذا هو سعى إلى الخيانة ...
أما النقمة، فالفوضى، فالثورة، فهي أدواء لها عند السياسة دواء، والحجج في غير هذا واهية كخيط العنكبوت، والدعامة الدعامة هي فرنسا أولا وآخرا، هي تحمي لبنان يوم يكون حاكمه فرنسيا، ويوم يكون وطنيا؛ لأن من صالحها أن تحميه. وما تنصيب الحاكم الوطني سوى برهان جديد على عطفها، وعلى حبها للحرية، لها أولا ثم الناس.
أما الخوف علينا من أن نأكل بعضنا، فماذا نقول فيه؟ دعونا نضحي مصالحنا الفردية في سبيل الخير العام، دعونا نتعلم على حساب أنفسنا، دعونا نسقط وننهض، وننهض ونسقط إلى أن تعلمنا هفواتنا أن الله في السماء، والجار قرب الجدار.
وإذا حدثت بعض الضحايا فلماذا ننادي بالويل؟ لماذا نعتقد أن الوطن يبتدي وينتهي عند باب الصندوق؟ إن حذر المتطيرين يدل على خوف. ومتى كان الخوف من شيم الرجال؟ نحن نتشاءم نسبة إلى أفكارنا الحذرة على مصالحنا «الفردية»، ولو فكرنا لجابهنا الشر واقتلعناه من أصوله.
هي خطوة نحو الاستقلال، فلنخطها ولنضح في سبيلها، ولا نقولن: يجب أن ننتظر حتى نتمرن على الحرية. إن أحسن مدرسة للاستقلال هي «الاستقلال».
من المسئول؟
... ورفع نائف الكلاس إلى المشنقة فانقطع به الحبل، فأمر بحبل ثان، وعاد الجلاد إلى عملية القياس والربط والتعقيد ... والمجرم الذي مات مرة ينظر ويسمع ... ورأى من لا جلد لهم على تهدئة ألسنتهم مجالا لإبداء الآراء، فبدءوا يتفلسفون بالكيفية والنوعية.
ورأى المصورون فرصة ثمينة، فصوبوا الفوهات الأمينة لخطف السر، سر عذاب المجرم الرهيب.
والتصق نايف بالأرض وأخذ يبكي ويبكي ويبكي، والمتفرجون ينادون ببرودة عاجزة: العفو! العفو! والبعض يودون لو يسرع الجلاد فيهدأ خفقان قلوبهم؛ لأن هؤلاء المبكرين قبل الفجر للارتواء من منظر النطع يخافون على قلوبهم الغضة من ضربة سريعة ...
وظل المسكين لاصقا بالأرض، وتحول بكاؤه إلى نحيب فشهيق، وتلك الساحة تغص برجال تحجرت فيهم الحياة فسمروا في أماكنهم، فما فيهم جريء تغلي فيه دماء الرحمة والشباب فيكهرب من حوله من الرجال فيحتملون المجرم ويسيرون به هازجين بطلب الرحمة.
الرحمة! الرحمة! تمتم القوم يوم وقف قاتل الخمسة أمام القضاء، وأخذ يحكي ببساطة الأطفال حكاية بؤسه وشقائه.
كيف قتل أخوه وبقي القاتل حرا طليقا، وكيف كان والد القاتل يقطع أوصاله بأنواع الظلم والقسوة، وكيف رآه يوما يضحك من عجزه ويعبث بقلبه المكلوم، فثار جنونه وقتله وهو لا يدري كيف قتله، ومن قتل معه؟!
وسار المسكين إلى الإعدام وحوله كهان صلاح يسندون قواه ويحثونه على طلب الرحمة بكل ما حفظوا من أقوال إله المحبة.
لعلهم شعروا بجرم ذلك الكاهن فجاءوا يكفرون أمام الله وأمام الناس؟
وبكى ذلك المسكين ثم بكى وطلب الرحمة؛ لأنه غير مسئول. •••
وسرى العبث بالموت من الكبار إلى الصغار، وكما يتسابق المئات من الرجال والنساء إلى ساحة الإعدام وقف منذ أيام عشرة من الصبيان والبنات يلعبون «بالمشنقة».
ولما كانوا أناسا ولهم من العسف ما للناس فتشوا عن فريسة «مستضعفة»، فوقع اختيارهم على زرزور مسكين ربطوا يديه ورجليه، ثم علقوه بخيط إلى شجرة، وهموا بشده على عنقه. وبإشارة خفية من «الزعيم» رفع الأولاد أيديهم وأخذوا يصرخون: الرحمة! الرحمة! فترة كان فيها «الجلاد» قد شد الخيط، فقضى الزرزور المسكين، فقال الزعيم البارد لطالبي العفو: لقد فات الأوان.
وانتهت الرواية بضحك شديد فسر لي قساوة الإنسان ذي الأنياب والمخالب.
قصة تافهة وعادية ... ولكن كم هي شبيهة بحكاية الجلادين الحقيقيين يسلمهم القضاء أعناق الناس، فيلعبون بها كما يلعب الأولاد بالمشنقة.
من المسئول؟ من المسئول؟
هو دوي يجيش منذ أيام في أذني، وله في كل ساعة طنين ورنين.
أفتح اليوميات فأقرأ أخبار «موسم الإعدام».
وأفتح الجرائد المصورة فأرى رسوم المشنوقين تتوالى عددا بعد عدد، وأفتح اللطائف المصرية فإذا الرسوم قد قطعت البحار وتصدرت في صفحاتها.
يا لفظاعتك أيتها الآلات الخاطفة لأسرار الموت وأسارير المجرمين المرعبين! يا لقساوتك أيتها القلوب المتفرجة! وأنت أيتها الأيدي الباردة التابعة حركات الحبال ربطا وتعقيدا، وخطوات المشنوقين صعودا وهبوطا، ثم صعودا وهبوطا! •••
من المسئول؟ من المسئول؟
هي كلمة أراها كل يوم وإلى جانبها علامة استفهام كبيرة لا تبرح ملازمة لفكري ولأفكار الكثيرين ...
إدارات عظيمة ضاعت فيها المسئولية، ولنا على هذا في كل يوم ألف دليل، وحاكم - رافقه عفو الله حيث هو - لا يدري من يتبع وكيف يسير، طائفيات تتطاحن، وزعماء يبهرون البسطاء بجيوش لهم وهمية، جيوش من الأتباع لرنة الطائفية يطربون، أو بالوعود يتبلغون، وأحزاب فردية ألفت حكم الإقطاع، وأسه احتيال الفرد المنبوذ من السلطة للوصول إلى ذروة بفعل ما ينصب من الحبائل، ومفوضية - وقاها الله ووقانا من سوء المظنة - تسن من الخطط ما تحسبه آية الله في العصمة، وتدفعها إلى الحاكم فيطبقها وسط هذه الفوضى، فوضى الطائفية، والزعامة الوهمية، والنزعات الفردية.
تحاملا مرا يسمع المرء أين ذهب، وتبرما من عسر اقتصادي، ومن موات في صناعة وطنية قتلها نفوذ المصنوعات الغربية، وتحسر على الخسارة فيما تقتله الريجي والمكوس والأجور، وهنالك غيرة قاتلة تمتلك قلوب العاجزين عن الوصول إلى حقهم، كل هذه عوامل تؤثر في الشعب فيتحول تبرمه من انتقاد إلى تهكم، إلى عبث بالأنظمة، إلى تطاول على سلطة يرى فيها العجز والإهمال.
في قرية من قرى البقاع مأمور نشيط شهد له بمزايا وفضائل ندر أن اجتمعت في رجل. سار هذا المأمور إلى حانوت رجل دأبه العبث بالنظام، وفرض عليه ما يقضي به القانون، فثار غضب الرجل وأقسم أن ينتقم، ومضت أيام قلائل فإذا بالقرية تفاجأ بنقل الموظف إلى أردأ مركز في لبنان الكبير. هذا وصاحب الحانوت يفخر أن نسيبا له في خدمة موظف كبير سعى لدى سيده فكان ما كان.
مهما يكن في كلام الرجل من دعوى قد تكون كاذبة وقد لا تكون، فقد صدق أهل تلك البقاع أن حظوظهم وحظوظ سائر الناس هي قيد غضب الطباخين والحجاب ... وكيف لا يصدقون وقد لمسوا الدليل؟
يخطئ زيد إلى النظام أو لا يخطئ فتدسه السعاية في السجن - كذا كانت الحال منذ أيام - فتأخذ أوراقه بالتنقل من دائرة غير مسئولة إلى دائرة غير مسئولة، ويظل هو وذووه أسرى العذاب ما شاءت السعاية وشاء الإهمال، ويعتبر سواه بما أصابه فيهرب من وجه الحكومة إذا هي طلبته، وإذ يطارده رجالها يعتصم بالجبال، ثم يجوع فيعمد إلى سلب الناس، وبينما هو يسرق ليأكل يسمع إطلاق نار، فتهب الحياة فيه مدافعة عن نفسها، وفي دقيقة يصبح القروي الآمن مجرما.
فمن المسئول؟
المفوضية غير مسئولة؛ لأنها لا تدري.
والحاكم غير مسئول؛ لأنه يسير في الظلمة.
والشعب غير مسئول؛ لأنه مكبل بسلاسل العصور الخوالي.
اصبروا أيها الناس، اصبروا على العسر والجرائم والاعتقال والفوضى.
اصبروا أيها الناس، حتى نقطع سلاسل العصور الخوالي، ومتى زالت عنا سمات النخاسة نعلم المفوضية أن تدري، وإذ تدري ترفع بيدها مشعل النور فيستنير الحاكم ويطمئن المحكوم.
موجة السرور الكبرى
نحن في هذا الشرق لفي جوع لجوج إلى أمور عديدة يتمتع بها الناس وينعمون، بينما جماهيرنا - شهود مرقص الحياة الأكبر - تبكي حينا، وتندب حينا، وتغص حينا. وكم من الأحيان تلسعنا عقارب الغيرة من أمجاد الأمم، ومنعة الأمم، وسعادة الأمم، فننكمش على نفوسنا وقلوبنا تغور فيها البغضاء وتفور، حتى إذا ما لامس فكرنا أول غربي نراه، صببنا رشاش غيرتنا الآكلة وما يلتصق بها حتما من نفور، وحذر، وتعصب، وبغيضة «شرعية»، فيهز الغربي أكتافه ويقول:
لا خير يرتجى من الأمم الشاكية، الأمم الغارقة في سويدائها، الموسومة - على جبين شبابها - بطابع الخيبة والهرم الباكر.
لا شك أن الحياة هي للشباب الزاهر، وأن أمة لا تغسل أحزانها أمواج السرور الكبرى لهي أمه تمشي إلى الفناء، فأول ميزات الحياة وآخرها هي «الحياة»، والحياة شيء غير الانكسار، فالخيبة، فالذل، فالبكاء.
أجل إننا في حاجة وجيعة إلى السرور والطرب، ولكن كيف نطرب وكل من حولنا يبكي. لقد تعالى بكاؤنا فغطى بنعيبه كل أصوات الطبيعة الضاحكة حولنا دواما، فهذه السماء الزرقاء، الزرقاء كعيون الأطفال المذهبة الشعور، وهذه الشمس اللامعة ، والأشجار المخضلة إلى مديد من الأيام عديد، وهذه الزرارير المصفرة في أعالي الصنوبر، والطيور المنشدة فوق دوالي العنب وأغصان التين، والغدير المهمهم بين الأعشاب، والشلال الصارخ فوق الصخور، وأمواج الهواء المهينمة في الغابات، كل هذه تنشد أنشودة الحياة زاهية طربة ونحن وحدنا نبكي.
ولآدابنا العربية، بما يتبعها من شعر وموسيقى وإنشاد، اليد القاهرة في تكييف نفوسنا على الحزن والأنين، ولا عجب فآداب الأمم هي صورة حية رسمت فيها مشاهد حياتنا على توالي العصور. وهل في حياتنا - منذ عدة مئات السنين - سوى مشاهد الأسر والذل والفقر والحرمان؟
واليوم، وقد نفخت في الشرق روح نهضة جديدة، وأصبح الشيخ والكهل والطفل يشعر بحاجة إلى «كرامة قومية»، اليوم تدخل آداب لغتنا في طور جديد، فشعراؤنا ينشدون القصائد الحماسية، وأطفالنا في المدارس يغنون القدود الوطنية، ولكن طابع الحزن القديم لا يزال في مكانه، فهو من هذا القبيل لازم الوجود، كختم «المندوبين السامين» على كل قرار يتعلق رأسا بمرافقنا الحيوية في سوريا ولبنان وفلسطين.
خذوا مثلا هذه الأنشودة:
لك يا أرض الشآم
مهبط الوحي المجيد
من فؤاد مستهام
خالص الحب الأكيد
كلما هبت علينا
منك أنفاس الجبال
فذكرنا الغابرينا
من مشاهير الرجال
هاج في القلب حنينا
ذكر أيام الجدود
فجرى الدمع سخينا
كالدما فوق الخدود
قرار
نحن جبلنا من تراب الأنبياء
فلنكن للمعالي شهداء
أنشودة حماس مع ما فيها من الدموع السخينة ... ولكن اللحن! أشهد أنني لا أسمعه مرة إلا وتغلغل في نفسي حاسات القهر والأسى ممزوجة ... فيمر في خيالي مشهد أم تحتضر باكية على أطفالها، أو مشهد جنازة صغيرة تسير الهوينا حول عربة صغيرة تحمل نعشا صغيرا أضجع فيه طفل صغير. •••
وفي قرية الدوار الصغيرة، المختبئة بوداعة خلف أكمة ظهور الشوير، ذلك المصيف الفخور بجلال باسقاته، وجمال بناته ذوات العيون الذباحة، في القرية الدوار بيت صغير ساكن مختبئ - مثل الدوار نفسها - بين الأشجار الكثيفة الخضراء.
لا عيال في هذا البيت، إنما من حين إلى حين تجتمع فيه طائفة من الشباب، فيلهون ويطربون ويسكرون، وعندما يبلغ رنين الأقداح حده الأقصى تخفت أصوات الشاربين، ويرتفع وسط سكون الغاب أنين الأوتار الشرقية يرافقها صوت شجي أظنه يغني على الحب.
إنني أدري لماذا نبكي حينما تهزنا عاطفة القومية، ولكنني لا أدرى لماذا تبكي الأوتار تحت أنامل شبان يلهون ويطربون وينشدون أنشودة الحياة الكبرى.
ولعل الحق في هذا على شعرائنا وأدبائنا ومنشدينا الذين لا يؤدون رسالتهم في حياة الأمة كما يجب أن تؤدى.
إن حياتنا الشرقية في حاجة إلى أنواع جديدة من الأدبيات، ولعل ألزمها هو الإنشاء الزاهر المطرب، الذي إذا قرأناه فاضت علينا موجة من روح الكاتب الطربة فبردت نار الحزن الكثيف اللاهبة دواما في حنايا ضلوعنا.
وإذا جاز لي في هذه الرسالة أن أصف سركيس
1
قلت: إنه هو نفسه موجة سرور كبرى، وحياته كلها طرب وإطراب، وضحك وإضحاك.
إنه ابتكر لنفسه طريقة في الإنشاء لم يأتها قبله كاتب سوري أو لبناني، وتوفق إلى بدائعها، وقراؤه مدينون له بساعات طويلة تنفلت فيها أعصابهم من سلطة الطوق الحديدي، وتغتسل في موجة زهو يطلقها عليهم «سركيس الضاحك».
وبعد أن يشبعهم طربا وسرورا وضحكا ينفخ فيهم نسمة من نسمات التجدد مؤديا رسالته دون أن يدري.
حياتنا الاقتصادية
1
يحكم عالمنا الاجتماعي على المرأة بعدم التعرض لما لا يعنيها، والاقتصار على ما يعنيها، وهو يحكم حكمه هذا بداهة دون ترو ولا إمعان، فإذا سألنا بعضهم أن يحدد لنا هذا «الذي يعني والذي لا يعني» لما قدروا أن يحصروا نظريتهم ضمن نظام شامل عام. والحقيقة هي أن مداخلة المرأة في أمور المجتمع أمر لا يمكن تحديده، فهو نسبي على الإطلاق.
حتم المجتمع على نساء المزارع أن يفلحن الأرض ويزرعنها ويحصدنها، وأن يقطعن الخشب وينشرنه ويحملنه من الجبال البعيدة إلى المدن والقرى، وأن يسقن قطعان الماشية إلى مسافة بعيدة لورود الماء والمرعى، ولم يقل العالم الاجتماعي في هذه الأحوال: إن بشرة النساء الطريئة لا تحتمل أشعة الشمس، وأن أيديهن الناعمة لا تقوى على رفع الفأس.
كذلك تبعت نساء الغزاة رجالهن إلى ساحات القتال لطبخ الطعام، وجلب الماء، وشحذ السلاح، وتاريخ الغزوات القديمة ملآن بأخبار النساء اللواتي ما قيل لهن مرة: ابقين في الحي فبنيتكن النحيفة لا قبل لها بالأسفار المضنكة.
وهكذا نرى النساء في المجتمع كله خاصعات - ككل الكائنات الحية - لأحكام الظروف، فامرأة الجندي تشحذ سلاحه، وامرأة الفلاح تغرس كرمه، وابنة الراعي تجوب البراري أمامها سائقة مئات الأنعام.
حدثني أديب عن سياحة له في نواحي الأردن قال:
رأيت مرة في صحراء خاوية مقفرة؛ فتاة في الخامسة عشرة من العمر تسوق مئات من النوق، فكانت على ظهر ناقتها كأحد كبار الفرسان بقوام منتصب كالرمح، ووجه عزيز فخور.
أما ثوبها فكان شبه قميص مفتوح من العنق إلى أسفل الصدر ينم عن تكوين لم تر العين أبدع منه، فعجبت من وجود الفتاة منفردة في قلب تلك البادية، واقتربت منها أطارحها السلام وأسألها عن حالها، فكانت تجيبني بحرية ولطف ورقة وكياسة لم أرها في امرأة غربية أو شرقية.
وما يقال عن نساء البداوة يقال عن نساء الحضارة، فنساء الطبقة الفقيرة في بلادنا قد زاولن منذ زمان المهن الأولية - ولا أقول: المهن الحقيرة؛ فليس من عمل حقير على الأرض - كالخياطة والكوي والرضاعة والخدمة في البيوت، ثم نزلت نساء الطبقة المتوسطة إلى ميدان العمل، فكان منهن المعلمات، ثم الممرضات والصحافيات وبعض الطبيبات، ولا تزال دائرة العمل تتسع أمام من تضيق بوجههن اقتصاديات الحياة، فلا يمر علينا عشر من السنين إلا ونرى النساء الوطنيات مهتمات بمسائل الاقتصاد، مقتنعات أن الحرية الاقتصادية هي أم كل حرية بشرية.
نرى مما تقدم أن حكم العالم الاجتماعي على المرأة وحصره إياها ضمن دوائر ضيقة ليس من الشرائع التي لا تزول قبل أن تزول الأرض والسماء، فحالة المرأة خاضعة دائما وأبدا لحالة الإقليم، ولحالة المحيط، ولحالة الظروف؛ أي أنها نسبية في كل زمان ومكان، تابعة لناموس التطور ككل التقاليد وكل الشرائع التي اتبعها الإنسان منذ وجد إلى اليوم، وليس لكائن أن يقول: «هذا يعني المرأة وذاك لا يعنيها»؛ إذ كل ما يهم الأمة يهم المرأة.
فكل الأبحاث التي يطرقها الرجل معتقدا أن الوقوف عليها يفيده ويفيد الأمة يمكن للمرأة أن تطلع عليها، وتدرس جزئياتها، وتلقنها لأولادها، وتباحث بها صديقاتها.
إن العراك الناشب اليوم في العالم هو عراك اقتصادي، والأمم تدافع عن اقتصادياتها - رجالا ونساء - بشدة تشابه الكلب، فلا ندري لماذا تبقى المرأة عندنا بمعزل عما يجري حولها، ولماذا ينفرد نصف الأمة في هذا العراك، بينما يقف النصف الآخر متفرجا وهو قادر أن يؤدي مساعدة كبرى لذلك النصف الذي يناضل وحده في أزمة تقصم الظهور، وتقضي على الأنفاس.
أقول هذا ناظرة إلى الوجهة المادية من هذه المسألة التي لها وجهة أدبية لا يجب إغفالها؛ إن باطلاع الرجل وحده على معلومات نافعة، واحتفاظه بها لنفسه ظلما للولد عميما.
أقول: إن الرجل الذي يحتكر المعلومات لنفسه - إن كانت هذه المعلومات نظرية أو عملية - يمنعها عن ولده شاء أو لم يشأ، إن حاضنة الولد ومهذبته ومرشدته ورفيقته هي المرأة أولا، والمرأة آخرا. فلو سألنا كل رجل من رجال عصرنا، عالما كان أو تاجرا أو لغويا: كيف تعلمت ما تعلمته؟ لأجاب فورا: «لقد تعلمت على حسابي.»
إن لرجالنا الذين يتعلمون على حساب نفوسهم فضلا كبيرا لو ندري؛ لأنهم يبدءون حياتهم كما بدأها جدنا الأول، وعندما يصلون إلى زمن العمل يرون المسافة التي قطعها الغربي فينشطون للحاق به. وكم من زلة! بل كم من كبوة وهفوة يلاقون إلى أن يصلوا - وغالبا لا يصلون قبل الخمسين - إلى حيث وصل أبناء الغرب، فهم يختبرون، في مدة ثلاثين سنة، ما اختبره الغربيون في أجيال، على أنهم ينسون جهادهم الطويل، ويتركون أولادهم يتخبطون في مثل ما تخبطوا هم به، وبكلمة أخرى يتركونهم «يتعلمون على حسابهم».
وإنها لهفوة كبيرة يعرف مقدار ضررها كل من تعلم على حساب نفسه، علينا أن نسلم لأولادنا اختباراتنا ومعلوماتنا، أعني على أولادنا أن يأخذوا عنا خلاصة أبحاثنا طول العمر، فيبدءون حيث انتهينا، لا حيث بدأ رعمسيس، ويكون جهادهم في الحياة خفيفا لذيذا منظما، لا مضنكا قاتلا، وليس من يعد الولد للعراك في الحياة مثل أمه، فكيف تعده هذه الأم للحاق بأبيه إذا كان بين رقيها ورقي زوجها بون هو نتيجة اختباره ثلاثين سنة، ونتيجة حصرها في دائرة صغيرة من التافهات تعرفها الأنعام بالسليقة.
ولقد بدأنا نشعر بحاجة إلى الأمور الجدية، كما أصبحنا نمل من الأبحاث النسائية الضاربة دائما وأبدا على أنغام الخيال، ووصف الطبيعة، وواجبات المرأة التي سمعناها ألوفا من المرات، وكدنا نكره من أجلها الخيال والطبيعة، حتى والمرأة.
2
هل رأيتم مرة حديث نعمة يقلد الأغنياء والأمراء؟ هل نظرتموه مرتجفا مرتبكا غريبا في قصره وبين ضيوفه، حتى وفي ثيابه؟ فكما يلقب من ينام فقيرا ويصبح غنيا «حديث النعمة» يلقب من يدفع بغتة من ظلمة القرون الوسطى إلى نور العلم العصري «حديث العلم»، و«حديث التمدن»، و«حديث الرقي».
إن كل ما نأتيه يجيء ناقصا متقلقلا مرتجفا؛ ذلك لأننا حديثو العهد في المدنية الغربية التي طمى سيلها علينا فاضطررنا إلى قبولها دون استعداد، نحن حديثو العهد في هذه المدينة وحداثة عهدنا تظهر في كل مظهر من مظاهر حياتنا؛ في حياتنا السياسية، وحياتنا العلمية، وحياتنا الفنية، وقبل كل شيء نحن حديثو العهد في حياتنا الاقتصادية، والبلاء العميم هو أن مجموعنا يجهل ذلك، فهو إذا تألم من الانحطاط الملم بنا يحول وجهه شطر الحياة السياسية والحرية السياسية، ناسيا أن الحرية الاقتصادية هي الأصل، وما بقي فهو الفرع.
لو كان لنا حياة اقتصادية لوقفنا بنفوذنا أمام العالم المتمدن وقلنا: نريد أو لا نريد، لو كان لنا كيان اقتصادي لكان لنا كيان سياسي، ولو كان لنا كيان سياسي لما قضينا كل هذه القرون ونحن جسر يمر عليه الفاتحون ذهابا وإيابا.
قلت: جسرا! لا وربي! الجسر شيء قوي يتعهده من يمر عليه بالعناية حتى لا ينكسر بعد مروره فينقطع عليه خط الرجوع! نحن طنفسة - والتعبير مؤلم - على باب هذا الشرق داستنا منذ القدم أقدام الغزاة والفاتحين والمتاجرين.
نحن لم نفهم مرة معنى الحياة ومعنى الكيان، فعشنا حياة شخصية فردية لا يهم الفرد منا إذا عاشت الأمة أو ماتت. نعم، إننا عشنا كتجار مستقلين تنحصر حياتنا في صندوقهم، فكانت هذه العلامة من أدلة انحطاطنا، وأي انحطاط أكبر من فقد التضامن والتكافل بين أبناء البلد الواحد.
إن لهذا الانحطاط أسبابا لن أتوسع في البحث فيها كي لا أتعدى دائرة بحثي، على أن أكبرها هو كوننا عشنا في بلادنا غرباء لا نشعر بالوطنية ولا بالقومية، فكيف يسأل من لا عقار له عن تعهد عقاره؟ أما نتائج انحطاطنا فواضحة عم بلاؤها سوريا ولبنان في الحرب، وبعد الحرب، فرأى العالم مبلغ فهمنا للحياة، ومبلغ تقديرنا للقومية وللحياة القومية.
انحطاطنا أساسي لا يزيله جلاء «الأتراك» ولا الاحتلال الإنكليزي ولا الفرنسي، حتى ولا احتلال الملائكة! إن حريتنا الاقتصادية هي الأساس الذي تبنى عليه بناية الوطن، فأين المشتغلون في هذه البناء! أين الدوائر الاقتصادية تأتينا بالإحصاءات عن حركة الصادر والوارد؟ أين هذه الدوائر تظهر لمجموعنا بالأرقام أن البلاد التي تصدر إلى الخارج 1 وتستورد 6 مصيرها الخراب؟ لقد أوجدت لنا المفوضية العليا «دائرة اقتصادية»، ولكن هذه الدائرة مهما قيل فيها فقد أنشئت بجهاد الفرنسيين واجتهادهم. هذه الدوائر هي ككل المشاريع في بلادنا أجنبية، هي كشركة الترام والماء والمرفأ والخطوط الحديدية وكل شيء ... هذه الدائرة أنشئت لأن الفرنسيين شعروا بالحاجة إليها. الذي يحس بالحاجة إلى أي أمر من الأمور ربما يكون قد تعود على استعماله، وبما أننا ما شعرنا إلى اليوم بضرورة دخول التجارة من أبوابها، فنحن لم نزل أطفالا فيها.
سيقول بعضهم: ما هذا الادعاء؟ ألا يوجد عندنا تجار؟ وفلان وفلان وفلان؟ من أين جمعوا هذه الثروة؟
جوابي على هذا: إن التاجر الذي يشتغل لنفسه ليس بتاجر. التاجر الحقيقي هو الذي يشتغل لنفسه وللأمة، التاجر الحقيقي يحسب أن الذي لا ينبع يفرغ، وأن الأمة التي تدفع لأوروبا - مثلا - ستة ملايين، وتقبض منها مليونا واحدا ستفلس بعد سنين معدودة. وما ربح التجار المعدودين المشتغلين ببيع البضائع الأوروبية إلا كربح القرد الذي كان يلحس المبرد متوهما أن فيه الحياة، وهو بالحقيقة لم يكن يلحس إلا دماء قلبه!
لا أزال أذكر يوم انتهت الحرب كيف كان فرح الناس يوم بدءوا ينظرون جبال البضائع الأوروبية مكدسة في الجمارك. إنهم فرحوا لدرجة جعلتني أعتقد أنها تأتينا مجانا! وإنني أقابل الآن بين تأخرنا وتقدم الأوروبي عندما أقرأ أسبوعيا في التلغرافات الفرنسية هذه العبارة:
استوردت فرنسا في الشهر الماضي كذا وكذا من المواد الأولية الفلانية؛ أي بنقص كذا عن الشهر الذي مثله من العام الماضي.
ولقد قامت إنكلترا وقعدت يوم اعتصب المعدنون، واضطرت الحكومة إلى شراء الفحم من الخارج، فكان العالم يتتبع أخبار ذلك الاعتصاب الأسود بنفس الأهمية التي كان يتتبع بها أخبار الحرب. •••
لقد مات منا في الحرب جوعا مائة وثمانون ألفا، فلو كنا نفهم ماهية الاقتصاديات في حياة الأمم لفكرنا يوما أن قوام الاقتصاديات هو الإنتاج، وأن الإنتاج يرتكز على اليد العاملة، وأن موت اليد العاملة هو نذير الموت لمن لم يمت!
لو كنا نفهم معنى القوة الاقتصادية لحولنا اهتمامنا بعد الهدنة إلى وضع الأسس المالية لحياتنا المقبلة، ولانصرفنا عن الاهتمام بالسياسيات - هذه السياسيات التي لا أفتكر بها إلا وأغرب في الضحك، وهو ضحك كالبكاء - وأسسنا الأحزاب الاقتصادية بدل الأحزاب السياسية.
نعم لو أننا نعرف ماهية الحياة لدخلناها من أبوابها، وبدلا من تأليفنا الوفود للاحتجاج على تعيين هذا الحاكم، وعلى تأليف تلك الإدارة، وذلك النظام؛ كنا نرسل الوفود إلى أوروبا للتوسل إليها بإنهاء المسألة الشرقية التي بانتهائها تنتهي الحرب، وبانتهائها تعود العصابات إلى السكينة، وبانتهائها يستبدل المدفع في سهولنا بالآلات الزراعية.
لو كنا نعرف ماهية الحياة لعملنا مجتمعين على إحياء موسم الاصطياف، وحولنا نصف رءوس أموالنا التي تذهب وتسمن صناديق الأوروبيين إلى صناديق شركات وطنية تشتغل لتسمن جيوب الأمة.
يقولون: إن التجارة واقفة! نعم إنها واقفة؛ لأن المشتري هو الزارع والصانع، وهذان - إذا وجدا - لا يشتريان؛ لأنهما لم ينتجا شيئا، وإذا أنتجا فثمن ما ينتجانه زهيد أمام ثمن البضائع الأوروبية التي زادت أثمانها كثيرا بسبب نقص اليد العاملة. التجارة واقفة لأن الأهالي مفلسون، ولا يعود دولاب التجارة إلى حركة طبيعية إلا إذا تساوت في البلاد حركة الصادر والوارد. لتقف هذه التجارة! هذه التجارة التي تغطينا بمنسوجات الغربيين! لتقف هذه التجارة إلى أن يشعر الشعب أنه بحاجة إلى الإنتاج فيحول قواه إلى ما يدر عليه المال، ولا حياة ولا حرية ولا استقلال بغير المال.
3
لماذا نحن متأخرون؟
ولماذا تتحكم الأمم في رقابنا؟
ولماذا نحن عبيد للغرب، والنسبة بيننا وبينه لا تستلزم وجود مثل هذا الفرق؟
ولماذا ظلمنا فقدر علينا أن ندفع ثمن هفوات كل الأجيال التي تقدمتنا، وهذه ديون تركيا واحدة منها؟
كثيرون يتساءلون، وربما تمضي السنون فتطوينا الأرض، ويظل أحفادنا وأحفاد أحفادنا يرددون «لماذا»؟ •••
على أن الوقت حرج، حرج جدا لمن يفهم معنى القوة، الوقت حرج ولا يرفع الأحمال عن أكتافنا سوى تقدمنا الاقتصادي. البلاد غارقة بالدين، وهذا المد لا يزال يعلو رويدا رويدا وعما قليل يأخذ بخناقنا، ونحن لاهون بالكلام نقضي أوقاتنا بالانتقاد ضمن جدران بيوتنا، وبالاستبشار بتقلص ظل الحكم الفلاني لنستبدله بالحكم الفلاني، كأن في إمكان الغريب - ولو كان من سكان السماء - أن يعاملنا كما يعامل نفسه، أو أن يبدل بقوة سحرية هذه الحالة التي أوجدتنا فيها هفوات الذين تقدمونا.
قضى التاريخ بأن تنفصل بلادنا عن تركيا، وما حوادث التاريخ سوى أعمال حسابية ذات قواعد مقررة لا سبيل إلى الخطأ فيها.
فكما نقول: إن الأرقام الفلانية تعطي المجموع الفلاني، هكذا يمكننا أن نقول: إن مجموع الحوادث - البعيدة والقريبة - التي توالت على الدولة التركية قضت بفصلنا نهائيا عن جسم هذه الدولة، فانفصلنا، ولكننا لم نزل نحمل فوق أكتافنا قسما مهما من هفوات تركيا ومن ديونها.
وقد رافق هذا الانفصال حوادث سياسية مشئومة قضت بوجود جيش احتلال سندفع نفقاته المادية والأدبية عاجلا أو آجلا، أما النفقات المادية فهي الملايين التي يقوم لها البرلمان الفرنسوي ويقعد، وأما النفقات الأدبية فهي دماء أبناء السين، فكلما رفعنا رأسنا بطلب الحق - والنفس طلابة - يهيب بنا هاتف في داخلنا فيقول: «انظروا إلى الدماء إنها لا تزال طريئة»!
لو علم بعض الذين اندفعوا من أهل البلاد لتمثيل تلك الفاجعة أن روايتهم ستترك لنا هذه النتيجة لفضلوا أن يمشوا على الجمر قبل أن يلعبوا أدوارها؛ أقول هذا لأنني متيقنة أن الكثير من الذين ساروا مع التيار إنما ساروا عن طيب قلب، وصفاء نية.
أقرأ من حين إلى آخر في الجرائد السيارة فصولا عن ميزانية لبنان الكبير، وعندما أصل إلى الانتقادات على بعض النفقات، التي لو جمعت كلها لما بلغت المليونين، يتيه فكري في عالم الحقائق؛ فأرى «هذين المليونين» قطعا ذهبية تؤلف كومة صغيرة، وأرى بجانبها جبلا عظيما هو ذلك المليار!
ذلك المليار يجب أن نضع حدا لإنفاقه، يجب أن تجتمع كلمة السوريين واللبنانيين الموجودين في أقطار الأرض حول أمر واحد، وهو أن يطلبوا من الذين بيدهم زمام العالم أن يشفقوا على هذا القطيع الصغير، فيكفوا عنه هذه المناورات الحربية؛ ليتخلص من نفقات الحملة الحاضرة، ومن ويلات كل حملة. هذا ما يجب عمله أولا.
وبعد، يجب على الأمة أن تتعلم شيئا غير الكلام الفارغ، فتهتم بأمر حيوي هو إيجاد نسبة بين الصادرات والواردات، يجب على الأمة أن تنتج فلا ترسل مليونا إلى أوروبا إلا بعد أن تصدر من الحاصلات ما توازي قيمته المليون.
الاهتمام بالإنتاج، أيها الوطنيون، أهم من الاهتمام بحذف النفقات من ميزانية العدلية مثلا.
الإنتاج قبل السياسة الخارجية وتتبع المناوشات في لندن وباريس وواشنطن، الإنتاج قبل قراءة أسعار القطع؛ لأن البلاد التي تستخرج حاجاتها من أكل وشرب ولبس لا يمكنها أن تتأثر من سقوط الفرنك وارتفاع الدولار؛ لأن الإنتاج فوق كليهما.
الإنتاج مصدر العز، فبدلا من أن نقضي حياتنا بالتذلل أمام الأسواق الأوروبية نصبح سادة في أسواق بلادنا. •••
قرأت أمس خبرا في جريدة، مآله أن أهالي مقاطقة كولومبيا بدءوا يضطهدون السوريين، وحجتهم أن السوري يزاحم الوطني على خيرات البلاد. وهذه الحركة ضد السوريين ليست بالجديدة فقد سبقها أخوات لها في أماكن كثيرة.
إن الأميركي لا يضطهد المهاجر الإيطالي ولا المهاجر الألماني، فلماذا يضطهد السوري واللبناني؟ ليس في هذا سر عميق، والمسألة بسيطة: يذهب الإيطالي إلى أمريكا فلا ينقطع إلى التجارة - شأن السوري - بل يشتغل في الأرض فيستخرج كنوزها، وهو بهذا يساعد أهل البلاد التي يستظل بظل علمها على زيادة ثروة البلاد؛ أي تكثير الصادرات، خلافا للسوري الذي يتاجر بالأصناف الأوروبية، فيأخذ من امرأة الفلاح الكولومبي في أسبوع واحد ما حصله زوجها في عدة أشهر.
وإنما أوردت هذا المثال البسيط لأظهر أننا شعب خسرنا مزية أولية أساسية لكل أمة تريد النجاح، وهذه المزية هي الإنتاج والعمل ضمن بلادنا.
من الغريب أن أتناول هذه الأبحاث وأنا امرأة، ولكن عذري حب بلادي، فهو يدفعني إلى ولوج هذا الباب الذي ما سبق لنساء البلاد أن دخلنه ...
وهنا يقف قلمي لأتأمل بالألوف المؤلفة من أبناء وطني الضاربين في كل بقعة من بقاع الأرض ركضا وراء الرغيف. والرغيف هنا في قلب هذه البلاد.
الثروة هنا وليس من يمد يديه ليتناولها.
يعترض المهاجر بأن البلاد فقيرة لا تقوم بسكانها!
وليس من فقر إلا في قلوبنا وفي نفوسنا.
النفوس الفقيرة تأبى الجهاد، والنفوس الغنية تجاهد إلى أن تحيا حياة حرة أو تموت!
والحرية يا أهل الوطن هي أن يحصل كل إنسان على ما يكفيه دون أن يحمل الناس أثقاله.
مستقبل الآثار في سوريا
1
تجاسرت أن أطرق المواضيع الاقتصادية والعلمية؛ لأن لي عقيدة ثابتة هي أن بلادنا المحبوبة لا تصير كما نريدها إلا إذا جارى رقي المرأة رقي الرجل؛ فيتمكن الاثنان من تربية الولد تربية كاملة حقة. ولا أسمي «مجاراة» إتقان المرأة التكلم بلغات كثيرة؛ فاللغات ليست سوى واسطة للتفاهم بين الأمم، ولو كان التكلم بلغات عديدة من الدلائل على العلم لكان خدام البواخر وخدام المطاعم وتراجمة السياحة في طليعة العلماء.
العلم بالشيء هو أن نعرف كيف تكون هذا الشيء، ومن كونه، وكيف يمكن إدخال التحسين إليه، فإذا أرينا ولدا من أولادنا إناء زجاجيا - مثلا - فليس من الأهمية أن يعرف اسمه بجميع لغات الأرض، المهم هو أن يعرف الولد أين يصنع الزجاج، وكيف يصنع، وتاريخ صنعه ، ولماذا لا نصنع مثله في بلادنا. وإننا إذا فعلنا هذا نحمل أولادنا على تشغيل عقولهم بأمور مفيدة، فينصرفون إلى الأمور الجدية التي تعود على البلاد بالنفع، أما إذا بقينا نعلمهم فنون «الرطانة» لا غير، فلا نستغربن إذا أصبحنا بعد جيل عبيد؛ عبيد المتمدنين.
نحن نسابق بعضنا في تعلم روايات شكسبير وقصائد فكتور هيكو، ويمكنا أن نعد بين شبيبتنا المئات من الذين يتقنون الآداب الفرنسية والإنكليزية إتقانا كاملا. نسافر إلى أوروبا ولا نترك زاوية لا تنتفع منا «بقبض رسم الدخول»، فنتنقل من لندن إلى باريس إلى برلين إلى جنيف، ونتآلف مع البنايات والمتاحف والمسارح والممثلين والممثلات أكثر من تآلفنا مع بيوتنا وعائلاتنا.
أما بلادنا فنكاد لا نعرف عنها شيئا، ولا نكلف نفوسنا المعرفة، وإذا جازف أحد كتاب الفرنج بوقته وماله وكتب لنا شيئا عن بلادنا؛ فإننا لا نتعب لتصفح ما كتب، جال غوستاف له بون، الفيلسوف الفرنسي المعروف، في كل مدن الشرق مفتشا عن آثار المدنية العربية، فلم يترك رسما إلا نشره، وقد صور هذه الرسوم بقلمه، فجاء كتابه معجزة من المعجزات، وزار هذا الفيلسوف أحد كتاب سوريا، فنقل عنه هذه العبارة المرة: «لقد قضيت قسما من عمري في كتابة مدنية العرب، ومن الغريب أنني لم أر عربيا واحدا كتب إلي سطرا، أو شكرني بكلمة.»
تحتفظ الحكومات الأوروبية بالعاديات، فتبني لها المتاحف والقصور وتعرضها لأنظار المتفرجين، ومن وراء هذا العرض موارد لا يستخف بها، ونحن نملك في بلادنا كنوزا من الآثار القديمة، لو كلفنا نفوسنا قليلا من العناء لأقمنا في كل يوم مدينة من مدن سوريا متحفا يفوق أكبر المتاحف الأوروبية؛ فهنا في قلب هذه البلاد دفنت المدنيات القديمة من الفينيقية إلى الآشورية إلى اليونانية إلى الرومانية إلى العربية. وكل هذه المدنيات تركت بعدها آثارا هي دليل التاريخ والمؤرخين، فإذا أدرنا عيوننا إلى هذه الآثار كان لنا فوق الربح المادي، الربح الأدبي، وهو مساعدة المؤرخين على درس المدنيات القديمة بدرس آثار الأمم التي تعاقبت على سوريا.
لمحة في العلوم الأثرية
يطلق معنى لفظة العلوم الأثرية أو «الأركيولوجيا» على كل ما هو قديم: كاللغات، والأديان، والفنون ، والمعاهد، حتى عادات البشر.
على أنها اليوم قد حصرت في معنى واحد، وهو درس المباني القديمة، وكل ما أبقته المدنيات من أوان خزفية أو حجرية أو خشبية أو نحاسية. والغاية التي يرمي إليها المشتغلون بالعلوم الأثرية هي: «الوقوف على تاريخ الأمم بدرس الآثار الصامتة التي تركوها».
وظهر مؤخرا فضل العلوم الأثرية على التاريخ بظهور آثار مدنيات قديمة لم يكن العالم يحلم بوجودها. أما على الفن فقد ظهر فضلها بنوع خصوصي بما وضعت تحت نظر المشتغلين به من التماثيل التي تعد نتيجة تطور الفنون مدة أجيال عديدة.
وعلم الأركيولوجيا علم حديث لم يشتغل به اليونانيون ولا الرومانيون، يقول المؤرخون: إن «دانتي» عندما كان يفتش على كتب قديمة خطية عثر صدفة على بعض المخطوطات الحجرية، وإن المشتغلين بالتصوير لم يعثروا على الصور القديمة إلا عندما بدءوا يضعون النظريات الأولى لهذا الفن، ثم إن ميشل أنجلو ورافائيل أخذا يدرسان النصب القديمة وخرائب أثينا ورومية، وهكذا كانت الخطوة الأولى نحو العلوم الأثرية خطوة إيطالية خطاها كبار الأساتذة من النحاتين والمصورين والشعراء.
وكانت الخطوة الثانية للويس الرابع عشر. على أن الناس لم يتعدوا في هاتين الخطوتين جمع الصور والمنحوتات، ولم تدخل الأركيولوجيا الطور الجدي إلا بعد ظهور العالم ونكلمان.
ولد هذا العلامة الألماني في مدينة ستندال سنة 1717، وكان أبوه صانع أحذية فلم يتمكن لشدة فقره من تعليم ولده، فأشفق عليه رئيس إحدى المدارس وأخذه تحت حمايته، وساعده على إكمال دروسه. وبعد خروجه من المدرسة انصب على العلوم الأثرية وألف كتابا في موضوعها، ثم ذهب إلى رومية فعينه البابا بنديكتوس الرابع عشر مديرا لمكتبة الفاتيكان، وزار بعد العاصمة كل مدن إيطاليا وألف المؤلفات الكثيرة التي حتمت باندماج الفن بالعلوم الأثرية اندماجا نهائيا.
وزاد في أوروبا عدد المهتمين بالآثار وعدد المجموعات الأثرية، وأخذت إدارات المتاحف ترسل الزوار والبعثات إلى الشرق مركز المدنيات القديمة.
فاكتشف شامبوليون، العالم الفرنسي، معاني الأحرف المصرية، وأنعم على التاريخ والمؤرخين بأن أهدى إليهم صفقة واحدة كل تاريخ مدنيات مصر السالفات.
ولا يزال علم الأركيولوجيا في تقدم مستمر، وقد قسمه المشتغلون به إلى أقسام عديدة، فهناك الأركيولوجيا المصرية «الهيروغليف» والفينيقية، والآشورية، والفارسية، واليونانية، والرومانية، والنصرانية، وأركيولوجيا العصور المتوسطة.
2
تحت هذا العنوان نشر الدكتور كونتنو
Contenau
في مجلة مركور ده فرانس
Marcure de France
مقالا عن الآثار في سوريا وأهميتها المستقبلة، والدكتور المذكور هو رئيس البعثة الأركيولوجية في سوريا قال:
أمام غنى سوريا المادي يوجد غنى أدبي عرفنا بالنزوع إليه والتفتيش عنه. وهذا النزوع هو سبب نشر علومنا في الشرق؛ لهذا يجب أن نصرف اهتمامنا إلى مستقبل سوريا العلمي. وفي هذا المقال، الذي أكتبه بعد سفرة طويلة فتشت في أثنائها عن الآثار القديمة، أجرب أن ألفت نظر السوريين إلى أهمية الميراث الذي وضعته الأجيال بين أيديهم، فيتمتعون بكنوزه ويمتعون بها المدنية.
إن مركز سوريا بين الإمبراطوريات الثلاث الكبيرة؛ الآشورية والمصرية والفارسية، هو سبب جعلها مدة أجيال ساحة حرب تتلاطم فيها مطامع جيرانها، فقبل المسيح بألفي سنة امتدت عليها سطوة بابل، وبعد خمسة أجيال حملت نير المصريين الذين جعلوها درعا يتقون به هجمات الشعوب النازلة عليهم من الشمال.
وبعد ذلك بألف سنة، تبع حظها حظ إمبراطورية ما بين النهرين التي داست كما شاءت عروش ملوك سوريا الصغار، ثم إن الفرس استولوا عليها بعد استيلائهم على بابل، وجاءت بعدهم المدنية اليونانية فأزهرت وأثمرت واستولى الرومانيون بعد اليونانيين على سوريا، ولم يلقوا مقاومة إلا من بعض أمراء الصحراء سكان ضواحي تدمر الذين ما برحوا أن اقتبسوا المدنية الرومانية.
وجاء الفتح العربي فغطى مدة أجيال كل ما كان قبله، وتبعه الصليبيون فبنوا قلاعهم وقصورهم وكنائسهم في كل سوريا، وأدخلوا مدنيتهم التي أثرت بالشعب السوري وبأخلاقه إلى درجة لم يتمكن الفتح التركي مدة أجيال من إزالتها، ولا من التغلب عليها.
هل يوجد تحت السماء بلاد لها ماض كماضي البلاد السورية، تعاقبت عليها تواريخ الإنسانية جمعاء؟ لا يوجد بقعة من بقاع الأرض شهدت ما شهدته هذه البلاد، فكأنها بكاملها منجم لا يفرغ يحوي الشهادات الحية عن الماضي الصامت.
كل ما أقوله صحيح، ولكن في درس آثار سوريا صعوبة لا يعرفها إلا من عاناها. إن البلاد غنية بالآثار، ولكن جميع هذه الآثار مبتورة ناقصة؛ فهناك ركام من الكنوز المقطعة الأوصال لا تنطق إلا أمام من يعرف أن يحل رموزها؛ أي أمام العلم، والسبب في وجودها على هذه الحالة هو أن الفتوحات التي حدثت في سوريا كانت سلسلة معارك دموية قضى فيها الغالب على كل ما للمغلوب من صامت وناطق، وبقدر تعدد أديان الفاتحين كثر التخريب والتجديد ...
وهناك سبب آخر لتحطيم الآثار هو كره الأهالي لكل ما هو صورة أو تمثال، فإذا هم عثروا على ناووس قديم فتحوه بقصد أخذ ما فيه، ثم أجهزوا عليه بضربة فأس فحطموه، وهم لا يتأخرون عن تحطيم أجمل الآثار الفنية رغبة برؤية ما في داخلها، وقد شهدت بعيني الحادثة الآتية - وهي برهان على عدم تقدير الأهالي قيمة الفن:
بعد دخول الحلفاء سوريا، طلبت بلدية صيدا من الحكومة أن تأذن لها باستعمال أحجار متهدمة من القلعة المعروفة بقلعة القديس لويس لبناء بعض المدافن، وقد جاء بعضهم ليلا وشرع بهدم القسم الباقي من القلعة رغبة في الحصول على أحجار كثيرة!
وكثيرون من سكان صور وصيدا ينقبون دوما على العاديات لأنهم تيقنوا وجود من يشتريها، فهم ينقبون ويحملون ما يقوون على حمله. أما التماثيل والأحجار الثقيلة الوزن فيحطمونها بسرور.
ذهبت سنة 1914 إلى خليج النبي يونس وأزلت الأتربة عن لوحة حجرية كبيرة تحوي فسيفساء «موزاييك» من النوع البيزنطي، وبعد أن أخذت قياسها وصورتها بالفوتوغراف غطيتها بالأتربة، ثم رجعت لأراها ثانية فظهر لي أن كل شيء باق كما كان، ولما أزلت الأتربة رأيت النقوش مشوهة كأنها ضربت بفأس ضربات عديدة.
1
فعليه لا بد من تنوير أذهان الذين يجهلون قيمة الآثار ومعناها، وهذا العمل يلقى على عاتق معلمي المدارس والكهنة والأئمة. يجب أن يفهم الشعب معنى ماضيه الباهر، ويتأكد أن هذه الآثار الدالة على مدنيته القديمة هي من عوامل فخره كشعب يتوق إلى الحرية، وأن عليه أن يحافظ على أمجاد تاريخه كما يحافظ على حياته، ويجب أن يقتنع مشوهو العاديات أن المشتغلين بالآثار يفتشون عن الحجارة لقراءة ما عليها من الكتابة، لا لما في جوفها من الذهب والفضة.
أذكر - بأسف - حادثة وقعت قديما للمسيو كلرمون غانو
Clermont Ganneou ، فقد اكتشف هذا العالم نصب «مشا» ملك موآب - وتاريخه يرجع إلى تسعة قرون قبل المسيح - وقصد حمله إلى متحف اللوفر حيث هو باق إلى الآن، فلما رأى الأهالي الأهمية التي لذلك التمثال ظنوا أن في جوفه كنزا، فاجتمعوا ليلا وأوقدوا حوله النار حتى حمي، ثم صبوا عليه الماء البارد بقصد تكسيره، وحطموا بفئوسهم ما لم تقو عليه النيران، وهكذا شوهوا تمثالا من أثمن التماثيل المعروفة إلى الآن.
ومع قلة احترام الأهالي للعاديات وكثرة الأيدي اللاعبة لا تزال سوريا ملأى بالآثار القديمة، وأهمها لا يزال مدفونا، وكلما أراد الباحث اكتشاف الآثار الأكثر قدما تحتم عليه أن ينزل بعيدا في جوف الأرض. قصدت مدة بحثي في صيدا أن أصل إلى آثار تمثل ما قبل التاريخ المسيحي بألفي سنة، فبعد أن حفرت ثمانية عشر مترا تمكنت من الوصول إلى أوائل الآثار الرومانية اليونانية؛ فكم يلزم من العمل الشاق للوصول إلى الآثار البابلية والفارسية والحثية؟
وقد كانت العاديات السورية فيما مضى مشاعا يحملها الأثريون الأوروبيون إلى متاحف بلادهم، ثم سنت تركيا قانونا يمنع إخراج العاديات إلى أوروبا، ويقضي بنقلها إلى إسطنبول. أما اليوم فقد تقرر مبدئيا أن تبقى عاديات سوريا في سوريا.
وللجنرال غورو ولع بالفنون القديمة والحديثة؛ لهذا عني منذ وصوله إلى سوريا بإنشاء إدارة للآثار تأخذ مصاريفها من صندوق المفوضية، ومخصصات أخرى سنوية من الحكومة الفرنسية.
والعمل الملقى على عاتق هذه الإدارة كبير شاق، فيجب الاحتفاظ بالآثار الموجودة حاليا، ومباشرة الحفريات الجديدة للوصول إلى آثار المدنيات القديمة، ويجب الاهتمام بالمباني كخرائب تدمر وبعلبك، وجعلها في حالة تجلب إليها السياح، وهم لا يتوافدون بكثرة إلى سوريا قبل تعميم طرق المركبات، وتأسيس شركات تقوم بنقل السياح، وبإنشاء نزل يجدون فيها الراحة التامة.
ثم يجب الاهتمام بإيجاد متحف للآثار. هل يقام في كل بلد متحف أو تجمع العاديات في متحف واحد مركزه بيروت؟ ولقد قر الرأي على إنشاء متحف بيروت أولا، حتى إذا تكاثرة العاديات تنشأ متاحف أخر في بقية مدن سوريا.
وهنالك متحف سيؤسس في دمشق خصيصا للفن العربي، وقد أقرت الحكومة مركزه في أحد البيوت العربية القديمة، فيجمع فيه كل ما كاد أن يضيع من النحاسيات والسجاد والكشمير والمخطوطات والخزفيات، وليس أجمل من وضع هذه الكنوز في قصر تمثل جدرانه وسقوفه كل الفن العربي والمدنية العربية.
والآثار الظاهرة اليوم كثيرة، منها الفينيقية، ومركزها تجاه جزيرة أرواد، ومنها آثار مغازل، وهياكل أشمون في صيدا. أما المباني اليونانية فأكثرها يقع في تدمر، وهي تناظر آثار بعلبك الوحيدة في أهميتها.
أما مباني العهد البيزنطي فعديدة بني أكثرها في القرنين الخامس والسادس، منها قلعة سمعان بين حلب وأنطاكية، والمباني الواقعة في ضواحي حماة.
وآثار الصليبيين أكثر من أن تحصى، منها: قلعة الحصن، وقلعة الشقيف، وقلعة صيداء، ومما يؤسف له أن أكثر هذه المباني تحولت إلى حظائر للأنعام ومرابط الخيل، ومستودعات للسماد!
3
تصدر اليوم في باريس مجلة علمية تدعى سوريا
Syria
يقوم بتحريرها نخبة من كبار الأثريين، وهي تنشر كل ما له علاقة بالشرق الأدنى من الوجهة الأثرية، وما تقوم به البعثة الفرنسية في هذا السبيل.
وبين الذين يراسلون هذه المجلة عالم هو المسيو أوستاش ده لوري، رئيس البعثة الأثرية في دمشق، وهو عالم أوفده متحف اللوفر الفرنسي ليعمل مع البعثة الفرنسية، وذلك لما له من الإلمام بالفن الشرقي، وخصوصا العربي منه. وقد عرفه إخواننا الدمشقيون بمشروع ينوي القيام به، وهو تأسيس مدرسة لإحياء الصنائع الشرقية القديمة، وقد اشترى لهذا الغرض دار آل العظم الشهيرة.
وقد طلبت إلى هذا العالم أن يتحف عالمنا النسائي من وقت إلى آخر بشيء عن الآثار ومستقبلها، فقال لي: إنه يخدم بسرور النهضة العلمية في هذه البلاد؛ لأنه لم يأت بيروت إلا لهذه الغاية. وبهذه المناسبة أعطاني رسمين يمثلان نقوشا من نعشين عثر عليهما في دمشق؛ وهما نعشا سكينة وفاطمة الشهيرتين.
والمقال الآتي الذي بعث به إلى المؤتمر الفني في باريس ونشرت شيئا منه مجلة «سوريا»:
في مدفن الباب الصغير في دمشق قرب الجامع الذي نقش عليه شعار السلطان مملوك الملك الظاهر بيبرس يوجد قبر له قبتان، وهما - حسب التقاليد التي يتناقلها الدمشقيون عن الأساطير القديمة - يضمان أم كلثوم ونسيبتها سكينة ابنة الحسين، وبقرب هذين القبرين يوجد قبر ذو قبة واحدة يقال: إنه قبر فاطمة الصغيرة أخت سكينة.
وقد خربت هذين القبرين زلزلة فأعيد بناؤهما مؤخرا في نفس مكانهما القديم، وقد كلف بالبناء مهندس من أصل فارسي، هو السيد الفاضل سليم المرتضى، وهو يحتفظ بهذين القبرين كأقدس ذخيرة يملكها أبناء مذهبه.
والسيد سليم هو الذي عثر أثناء عمله في إعادة بناء القبرين على نعشي سكينة وفاطمة اللذين أتكلم عنهما.
هذان النعشان موضوعان في مغارة تحت الأرض لا يدخلها إلا المقربون، ويقول السيد سليم: إن جسدي السيدتين الكبيرتين موجودان في سرداب تحت الأقبية.
ونعش سكينة مصنوع من خشب الجوز، طوله متران و65 سنتيمترا، بعرض متر و50، وعلو 74 سنتيمترا، ألواحه مقسومة إلى ثلاثة أقسام، على القسم الأعلى كتابة بالحروف الصغيرة تمثل الكلمات الأولى من سورة العرش، ويجيء بعدها اسم الناقش هكذا:
هذا عمل محمد بن أحمد بن عبد الله - رحمه الله.
ويرى بعد هذه الكتابة خط دقيق بارز يفصل بين القسم الأعلى والقسم الأوسط، حيث حفرت الكتابة بالحرف الكوفي المتقن، ويلي هذه الكتابة إلى الأسفل نقوش على شكل الأغصان اضمحلت وتكاد أن لا تظهر.
وقد نقشت بين الحروف أغصان وأوراق متشعبة، ولكنها متناسبة، وهي داخلة في الخشب غير بارزة، واضحة على كثرتها، تذكر بالفن الهندي، ونحيفة إزاء الخط الكوفي الجميل الذي يرمز إلى شرف أصل ابنة سبط النبي.
وقد نقشت البسملة على اللوح الجنوبي الموجه للباب. وهو اللوح الوحيد الذي يمكن أخذ رسمه بسبب ضيق المغارة. وعلى اللوح المقابل للجبهة الغربية تقرأ هذه الجملة:
هذا قبر سكينة بنت الحسين.
لقد ساد الاعتقاد أن القبر هو قبر سكينة، على أن البراهين على صحة هذا متناقضة، فابن جبير يقول: إن القبر واقع إلى غربي المدينة، ولكنه لا يثبت أنه قبر سكينة نفسها، وذكر ياقوت «القبر إلى جنوبي الباب الصغير.» وزاد على هذا أن سكينة دفنت في المدينة.
فعليه لا يتفق التقليد الشائع مع كلام ياقوت، فضلا عن أن بعض المؤلفين - كالأب لامنس وابن خلكان - يقولون: إن سكينة ابنة الحسين ماتت في المدينة، وإن هذا المدفن هو ضريح أقيم لإكرامها.
ونعش فاطمة مصنوع من الحجر، ومنقوش بيد صانع ماهر، ولكن مما يؤسف له أن بعضهم أراد أن يحسن في هيئته، فدهنه بدهان أسود أضاع كثيرا من جماله. والكتابة التي عليه بالخط الكوفي ومآلها:
هذا قبر فاطمة ابنة أحمد بن الحسين بن السبطي. توفيت - رضي الله عنها - في رجب سنة تسع وثلاثين وأربعمائة.
لم نر في الأخبار أثرا لفاطمة هذه، ولا للنسب المتحدرة منه، وعلى كل لا يمكن التسليم بأنها أخت سكينة ابنة الحسين؛ لأن النص المنقوش واضح جلي على أن أمثال هذا الخطأ يقع كثيرا، وخصوصا في الشرق.
حكاية الآثار
1
نشرت مجلة المقتطف الغراء فصلا عن آثار فلسطين وسوريا، فتكلمت عن النقب في فلسطين والطرق العلمية الدولية التي يتبعها الناقبون، ولما جاء دور الكلام عن النقب في سوريا قالت:
لما قرأنا ما اقتطفنا منه السطور السابقة؛ أي السطور التي تضع تحت نظر الناس ما يجري في فلسطين، اتجهت أفكارنا إلى سوريا ولبنان، إلى صور وصيدا وبيروت وجبيل وبعلبك ودمشق، إلى أشهر مدن التاريخ وما أخذ منها من العاديات، وما يحتمل أن يوجد فيها الآن إذا نقب عنه على أسلوب علمي، ولكن أين يوضع؟
كتبت إلينا سيدة سورية من باريس في أوائل الصيف الماضي تقول:
سمعت اليوم عن الآثار التي وجدت في جبيل حديثا ونقلت إلى باريس، فاغرورقت عيناي بالدموع حالما رأيت أن آثار بلادنا وعنوان مجدها السابق لا تكاد تكشف فيها حتى تغرب عنها.
بعد هذه «الغمزات» اللطيفة يقول المقتطف: إن عنده وصفا مسهبا لمكان آثار لم تر العين مثلها في جمالها وكثرتها اهتدى إليه الأثري المشهور؛ المرحوم أدمون دوريغلو، ثم سده وتركه كما كان، وأنه يضن بنشر هذا الوصف لئلا تخرج هذه الآثار وتنقل إلى أوروبا، وأنه قد يسلم ولاة الأمر هذا الوصف المكتوب بخط أدمون دوريغلو إذا هو؛ أي ولاة الأمر، قاموا بشروط يقصد منها في الدرجة الأولى حفظ حق الوطنيين.
أما وقد أصبحت مسألة الآثار موضوع ريبة لمجلة رصينة محققة مثل المقتطف، أما وقد كثر الكلام حول مسألة الآثار؛ فلا بأس إذا تناولناها نحن النساء بدورنا وقلنا كلمتنا فيها، وغايتنا: (1)
رفع الستار عن أمور كثيرة مبهمة؛ لأن هذا الإبهام قد يجر إلى ريبة عامة غير محمودة. (2)
إفهام الشعب أولا: معنى الآثار وقيمتها المادية والمعنوية، والربح الذي تناله البلاد من وراء المتاحف، وثانيا: حمله على المطالبة بحقوقه في الإشراف على الحفريات بواسطة مندوبين يسميهم مجلس النواب. (3)
المطالبة بمتحف ينشأ في أقرب وقت وفي مدينة بيروت. (4)
الاحتجاج على تأخير إنشاء هذا المتحف، وعلى الأعذار التي ترمى إلينا، مثل: عدم وجود بناية، وعدم اهتمام الشعب بمسألة الآثار وما أشبه. (5)
الاحتجاج إلى المجلس على لفه هذه القضية يوم تصدى لها أحد النواب، وعدم تعيينه لجنة تبحث فيها كسائر الأمور التي طرحت ووكلت إلى لجان.
ولي كلام في هذه النقاط الخمس أرجئه إلى فصل ثان متمنية أن تزال هذه الحجب السوداء التي يكفنون بها الآثار.
2
إن الرأي العام في كل بلاد الله يمشي مع تيار كبير هو تيار الاقتناع؛ فالناس يسمعون فيقتنعون فيمشون. وللاقتناع شروط: أولها التكرار، فمن يسمع بإشاعة مرة قد يرتاب في تصديقها، ولكن إذا سمعها مرات متواليات تدخل إلى رأسه، وترتكز هناك مع كل الأمور المقررة، ولا تخرج إلا كما دخلت؛ أي بأدلة عديدة متكررة.
الشعب يقول: أين الآثار؟
وهذه الريبة تتردد ثم تتمدد حتى تصل إلى مسامع الوطنيين المقيمين في المهاجر، ثم تعم فلا يحجم عالم كبير مثل الدكتور صروف أن يسأل من على صفحات مجلة هي أم المجلات العربية: أين توضع الآثار؟
ثم هو يذكر - فيما يذكر - أنها أرسلت إلى باريز وكأني به يقول: «لماذا أرسلت؟»
فالعالم والعامي إذن يستويان في طلب الأدلة، فعلى من بيدهم الأمر أن يقدموها لإزالة الريبة. ونحن نرجوهم أن ينشروا بيانا يذكرون فيه كل ما وجدوه، وبيانا ثانيا يقولون فيه: لماذا أرسلت الآثار إلى باريس؟ قيل: إنها أرسلت ثم أرجعت! وحبذا لو يوضحون لنا الداعي إلى هذه المناورة؛ فالشعب كما قلنا: يريد الدليل.
يقول الأثريون الفرنسيون: إن الحكومة التركية لم تمض بعد معاهدة الصلح، وأن مسألة الحفريات لا تزال خاضعة للقوانين التركية، ويقولون: إن الحكومة اللبنانية لا تعطي غرشا واحدا لأجل الحفريات، وأن المفوضية قد دفعت إلى الآن كل النفقات فبلغت عشرات الألوف من الليرات، ويقولون: إن كل إلحاحهم لدى الحكومة الوطنية في طلب بناية تجعل متحفا قد ذهب عبثا.
أما مسألة الصلح مع تركيا فلا نهتدي إلى وجهة المنطق فيها. الصلح لم يعقد؟ إن عدم عقده لم يؤخرنا عن التطور المتتابع في شكل الحكومة التي تكاد أن تكون كلها في يد الوطنيين. نحن لا ننكر وجود القيود ... ولكننا قد خطونا خطوة كبرى إلى الأمام رغم كل الكبوات وكل الهفوات؛ فلماذا تسري الأنظمة الجديدة على كل شيء وتبقى إدارة الحفريات - وحدها - خاضعة للقانون التركي؟
أما مسألة النفقات التي صرفت من خزينة المفوضية إلى اليوم، فهذه نضيفها إلى حسنات الحكومة الإفرنسية في هذه البلاد التي منذ القديم تصرف بدون حساب على نشر المعارف، ونغتنم هذه السانحة لنقر مرة أخرى بهذا الجميل ونقول: إن شعبنا لا ينسى المعروف.
ولكننا نسأل إذا كانت مسألة هذه النفقات تقف سدا بيننا وبين حقنا في الاشتراك بمشارقة الحفريات، وفي حصولنا على متحف يؤتمن عليه رجل وطني.
ونرجو الجواب.
تبقى مسألة البناية وتقصير الحكومة في تقديمها وواجبات الشعب وواجبات المجلس تجاه هذه المسألة الحيوية القيمة.
3
في بيروت عشرات من الجمعيات لمشروع السل، ولدفن الموتى، ولتوزيع الطحين، ولتهذيب الناشئة، ولتجهيز البنات الفقيرات، ولإيواء المهاجرين، وقد بقي مشروع واحد أهملناه؛ وهو إيجاد متحف نحفظ فيه الآثار، ونشوق به السياح إلى زيارة لبنان.
من حديث للسيدة لبيبة ثابت
يظهر من الحديث المنشور أعلاه أن أهل البلاد يفهمون معنى الآثار، فإذا كانت الفكرة لم تنضج بعد تماما، فيكفينا أن نرى السيدات أمثال السيدة ثابت يعملن على نشرها، ويحبذن تأليف جمعية تهتم بهذا الأمر الحيوي.
ندعو الشبيبة أن تحقق فكرة السيدة ثابت التي نرجو منها - وهي أم البيت الوطني الغيور - أن تتابع السعي لهذه الغاية، وتعمد إلى تأليف حلقة لنشر الفكرة في المدينة، ومطالبة المجلس والحكومة بالأمر.
الآثار هي عنوان مجد البلاد؛ لأنها تظهر أننا أصحاب مدنية مضى عليها ألوف السنين، والمتاحف التي تضم هذه الآثار هي لوحة يتعلم فيها الولد بزيارة أو بزيارتين مجمل تاريخ بلاده. المتاحف هي واسطة كبرى لتحسين ذوق الناس؛ إذ نعرض فيها مصنوعات أبناء الفن من متقدمين أو متأخرين، وهي عامل كبير على إيجاد موسم سياح يزورون البلاد خصيصا للتفرج على آثارها. •••
لقد طوى المجلس مسألة الآثار، ونجتهد أن نجد له عذرا من ضيق الوقت ... ومن ضيق اليد ... و... ولسنا نعمد إلى حمل المجلس على استفتاء الحكومة: لماذا أرسلت الآثار إلى باريس؟ وما هي الغاية من إرسالها وإرجاعها؟ لا نطالب بأمر كهذا، ولا نكلف المجلس فتح الدفاتر العتيقة ...
المفوضية صرفت على الآثار مبالغ جسيمة. صرفت وتصرفت وانقضى الأمر، فمن الآن وصاعدا نريد أن نصرف من مالنا على الحفريات كي لا يقال: ما شأنكم والآثار؟
على المجلس أن يوجد المال، وأن لا «يتلبك». يكفي أن «يريد» والنجاح مكفول. على المجلس أن يوجد مالا للحفريات من أي مورد شاءه.
أما مخصصات المتحف فنحن ننادي البلدية ونرجو منها أن تسمعنا كي نسجل لها أحدوثة طيبة، ونقول: إن أول متحف أنشئ في بيروت أنشأته البلدية.
المتحف يقوم بنفقاته - تقريبا - لأن الداخل يدفع رسما، فلا يبقى على الصندوق الكريم إلا دفع النفقات الأولية، وسد العجز السنوي الذي ربما لا يحدث.
النتيجة العملية: نرجو المجلس أن يوجد مخصصات للحفريات تدفع منها معاشات الأثريين الإفرنسيين ونفقات الحفر.
ونرجو البلدية أن توجد لنا متحفا.
ونرجو الشبيبة أن تؤلف حلقتها فتنشر الفكرة بين الناس، وتفهم من يهمهم الأمر أن الشعب - وإن كان غير متفهم كما يقولون - فهو يريد أن يفهم.
مي وكتابها
مي هي أكتب كاتبة عربية على الإطلاق. أقول هذا وأنا واثقة من مصادقة أخواتي الكاتبات، فكل منهن شعرت وأقرت بتفوق مي بعد الاطلاع على كتاب «باحثة البادية».
هذا القول لا يحط من شأن كاتبات سوريا، هاته الشقيقات المخلصات العائشات في محيط قاتم، الراسفات في ثقيل السلاسل، المفككات، بقوة نفوسهن العلوية، قيودا أحكمت شدها الأيام، هؤلاء الحبيبات لهن فضل كبير، ومنزلة عزيزة.
في العالم العربي اليوم كاتبات يرسلن أفكارهن بلغة فصحى جميلة، ولكن هذا العالم فقير بالنساء المتمكنات من العلوم، المبتدعات الأساليب الحديثة، فما تكتبه نساؤنا يجيء خلابا إذا نحن نظرنا إلى الصورة البارزة، ولكنه يجيء فقيرا إذا نحن تقصينا الجوهر.
عالمنا العربي فقير بالنساء المطلعات على الجديد، الواقفات على حالة العالم فنيا وسياسيا وأدبيا وعلميا، المتضلعات بالعلوم الوضعية، المتآلفات مع المدنية الحديثة بكل ما فيها من البارز المصقول والجوهر العميق؛ لهذا يشعر من يقرأ شيئا لكاتباتنا أنه يرى أفكارا شديدة الشبه بأفكار الأطفال، بكل ما في الأطفال من العذوبة، والطهارة، والمعرفة الغريزية التي لم تصل إليها يد صاقلة.
وليس من ذنب على كاتباتنا إذا كن لم يزلن أطفالا؛ فنحن في أول درجة من الانقلاب الفكري، والطبيعة آية الله في حسن النظام؛ فهي لا تعطي النفوس إلا ما وسعت. •••
أما هذا الفراغ في العالم النسائي فقد ملأته مي، ولعلي لم أقم بالواجب نحو نبوغها عندما قلت: إنها أكتب كاتبة، وها أنا أرضي ضميري وأقول: إنها تحسب - بحق - بين كتاب الطبقة الأولى، وهي في نظري أكثرهم استحقاقا للأفضلية للأسباب الآتية:
أولا:
نسبة إلى سنها؛ إذ لم تقع عيني إلى اليوم على كتاب عربي يمكن أن يقاس بكتاب «باحثة البادية» كتبه رجل في سن «مي».
ثانيا:
نسبة إلى وضعية النساء الشرقيات وحالة أدمغتهن، ومن يكلف نفسه للبحث قليلا يلمس بيده هذه الحقيقة، وهي أن دماغ الرجل الشرقي سبق في التطور دماغ المرأة، فتكيف في عالم الأسفار، وعالم المدارس، وعالم المطالعة، وعالم التجارة. والدماغ المتحضر أكثر قابلية للنبوغ والإبداع من الذي لم يزل على الفطرة. وهذا حدث أولي أثبته العلم والاختبار.
وكثير على مي - وهي بنت الشرق - أن تعادل كبار الرجال علما واطلاعا ونبوغا.
أراني رجعت إلى التحفظ كأنني أحذر أن تقوم القيامة علي ... مي أكتب الكتاب عندي؛ لأنها جعلتني أقرأ كتابا كاملا بدون تثاؤب وكفى ... •••
وهي تنتفض بحمى الحياة، ذات إرادة جذابة، عميقة، غيورة، والقوة المفكرة فيها قوية، شديدة، حضانة، مستأثرة. ولعل لمؤلفات «غوستاف له بون» يدا في صقل مواهبها على هذه الكيفية.
أما كتابها فثلاثة مؤلفات في واحد: نظريات «قاسم أمين» في تحرير المرأة، وأجمل ما كتبته «باحثة البادية» في إصلاح شئونها، وشروح مي على هذا التحرير وهذا الإصلاح.
ولقد أنصفت مي صديقتها الراحلة بأن شرحت أفكارها، وحللت نفسها، وأظهرتها للعالم كما هي - ملك كريم - معيدة بإعجاب نشر أجمل ما كتبت. وهذه آية من آيات البلاغة تصف فيها باحثة البادية حالة المرأة الشرقية، متعة الأجيال، ورقيقة الدهور.
قالت تصف نفسها مشبهة إياها بالماء:
يصبونه فينصب، ويريقونه فيختفي في الأرض، ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة، فيأخذ كل شكل، ويصطبغ بكل ما يراد من الألوان، تبخره الطبيعة زارية هازئة، فتارة ترفعه إلى السحاب، وطورا تقذف به إلى الأرض، وآنة تعاكسه بصقيعها فيتحول بردا، وآونة تحمي عليه براكينها فيخرج ملتهبا، ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال يضعون به سكرا فيحلو، ويذيبون به الحنظل فيمر، وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنا، ولا يعترفون بجميل ... إنه مثلي يا مي يذهب ضياعا.
وليست مي المخلصة نحو الباحثة بأقل جودا نحو قاسم أمين، فقد ذكرت أحد سهامه، تلك السهام التي رمى بها العالم الشرقي في قلبه، وكأنها خافت أن ينسى الشرق جهاد محرر المرأة فجاءت بما نشرت من أقواله نذيرة ومذكرة، وكأنها حذرت أن تهتز مصر من جديد كما اهتزت يوم صدر كتاب تحرير المرأة، فبادرت المصريين حين تكلمت عن الحجاب بهذه العبارة:
فليس ما أورده هنا إلا سوانح لا قيمة لها في الإصلاح المرجو ، ولا أهمية لما أقوله إزاء ما يرتئيه أساطين المسلمين.
بعد هذه المقدمة القصيرة اللطيفة تعود مي في كلامها عن قاسم أمين فتقول:
وبين زرافات النساء المارة أمامه تستوقف خاطره امرأة بلاده؛ أمه وأخته وزوجته وابنته، أولئك اللائي أوجدتهن الطبيعة صديقات لحزنه وأنسه، وكأني به يناديهن فيلبين النداء بطيئات متسكعات تعبات، ويدنين فيرى عليهن غشاء يمنع عنهن نور الشمس ونور الحياة؛ الحجاب!
لئن أتعست الطبيعة «مي» - كما تدعي في رسالة إلى مجلة الفجر - بأن «جعلت لفافة السياسة في دماغها جافة عميقة لا تتأثر ولا تتأخر.» فقد أسعدتها بلفافة كبرى أوجدتها في دماغها «اللفاف»، لفافة خلابة لا أدعوها «حسن السياسة»، بل السحر الحلال.
مينرفا وأخواتها
إذا كنتم - أيها القراء الكرام - تتوقعون درسا ميثولوجيا عن مينرفا وفينوس وأمفيتريت ونميزيس وبروزربين وجينون، آلهات الحكمة والجمال والبحار والانتقام وجهنم، نسيبات وبنات وأزواج جوبيتر، فإنني سأسارع وأزيل رعبكم بقولي: إن «مينرفا» هي هذه المجلة، «وأخواتها» هن - بحسب القدمية - العروس والفجر والخدر والمرأة الجديدة والحياة الجديدة - أطال الله بأعمارهن وأعمار صاحباتهن العزيزات إلى قلبي.
بين قومي اليوم شعور - أظن أنه في غير محله - هو شعور تبرم ... و... اشمئزاز من كثرة المجلات النسائية، كما لو كانت هذه المجلات تطرح على الناس طرحا، وكما لو كانت منحصرة في بلد واحد، وبين مشتركين هم نفسهم للجميع.
لنفرض أن هذه المجلات الست منحصرة في بيروت وحدها، فهل هي كثيرة على بيروت؟ أقول: لا، وأثبت كلامي بالدليل؛ لأن مينرفا وأخواتها مجتمعات يطبعن أقل من ستة آلاف نسخة - هذه الأرقام هي بعد حساب أخذته على أوسعه - فهلا يوجد في بيروت ستة آلاف امرأة يمكن لكل منهن أن تقرأ مجلة واحدة؟ وهل يكثر على المرأة المتعلمة التي تنفق كثيرا أو قليلا أن تنشط النهضة النسائية باشتراكها في نشرة لا يزيد ثمنها عن نصف ثمن قبعة؟
وإنني أرجح أن صاحبات المجلات هن أعقل من أن يعتمدن على بيروت وحدها ، وأعتقد أن مجلاتنا ستنشر في كل الأصقاع العربية وفي كل المهاجر، وأن لها مريدين - هنالك - ومروجين يعز نظيرهم؛ فلتطمئن القلوب، وليهدأ رجفانها، ولتأمن طوفان المجلات النسائية ...
ولتبادر نساء سوريا ولبنان إلى تعزيز نهضتهن وأسها الصحافة؛ لأن المرأة في صحيفة لها خصوصية تبث من روح التجدد النسائي، ومن روح التقدم النسائي، ما لا يمكن لمائة جريدة من جرائد أسيادنا الرجال أن تفعله، فضلا عن أن المباراة ترهف القوى، وتثير النزعات الطيبة في النفوس، فلا يمضي زمن إلا ولصحافتنا النسائية قوة تنضم إلى سائر قوى الأمة عندما يجيء وقت العمل الجدي ... العمل المثمر الهادئ المتين ...
إنني راسخة الإيمان بأثمار نهضتنا النسائية. لا أقول هذ تعصبا مني لبنات جنسي، بل أقوله إذ أرى في كل يوم لبنات بلادي ذكاء وشجاعة وإقداما، وجلدا على العمل، وحسن إدارة، وفضيلة ما بعدها فضيلة.
ويمينا، إن نساء هذه البلاد لو تيسر لهن أن يتعلمن ما يتعلمه الناس في أرقى بلاد الناس، وجمع هذا العلم إلى ثروتهن - تلك الخميرة الوراثية الطيبة - لكن مثالا لنساء العالم أجمع.
بعد هذه المقدمة أقول: إنني لا أعرف منذ الآن كيف سيؤثر مقالي - بكامله - على صاحبات المجلات. على كل، إنني واثقة من أنهن يعرفن شيئا عن محبتي المجردة والبعيدة البعيدة عن التحامل المذموم، فضلا عن أن غايتي من هذا المقال ليست لإظهار تفوق هذه المجلة على تلك، ولا لأضع نفسي موضع الحكم، إن للحياة شرائعها القاهرة، ونحن نطيعها مكرهين أو راغبين.
والزمن وحده يظهر الحسنات والسيئات، وهو خير المحكمين؛ فلننتظره هو وحده يلفظ حكمه، وهو الذي سيقول لنا: إن المجلة التي تصل إلى أعلى القمة، هي التي حملت في طريقها ذخيرة كافية من علم وثبات وحكمة وأدب.
كتب أديب دمشقي إلى سيدة تقيم في بيروت ما يأتي:
إننا بفارغ الصبر ننتظر «مينرفا»، وعساها أن تكون أحسن من رفيقاتها اللائي لا يمكن أن نمدح منهن شيئا سوى شجاعتهن ...
الله من هذا المجتمع كيف «يغرف» الانتقادات من بحر جوده ويفرقها على الناس ... وإنني، مع ضآلة رأيي، أخالف الأديب الدمشقي، فمع الشجاعة التي لا يرى سواها في مجلاتنا أرى الكرم ... أرى كرما يفوق كرمه في رش سهام الانتقاد؛ فإنهن يعطين كل ما في قلوبهن من التشوق لرفع البلاد إلى مستوى يرغب فيه الكل، ويعطين كل ما تعلمنه وكل ما قدرن على جمعه، وكل ما يعتقدن أنه صالح، وأنه حسن.
فإذا كان العطاء لا يشفي غلة الذين استقوا من موارد عليا، فهذا لا يدعى تقصيرا؛ لأن النفوس لا تعطي إلا ما أخذت.
فعلى صحافياتنا أن يتابعن التوسع في معارفهن القيمة، ولا يسمحن للأسياد الرجال أن يعيبوا عليهن - كما هم فاعلون - ضربهن على وتر واحد، وبقاءهن في دائرة واحدة ضيقة. عليهن كما يقول صهرنا جورج باز أن «يتخصصن».
هذه الكلمة شديدة على أذني، فهل لأصحاب الأقلام «المتخصصين» لتهذيب اللغة أن ينحتوا لنا كلمة أفضل من التخصص وما يتفرع منه؟
إن عالم الصحافة واسع، وفيه أمور كثيرة غير الخياليات والاجتماعيات وواجبات المرأة، ونظريات الناس في الزواج وتدبير المنزل إلخ ...
المجال فسيح جدا لصحافياتنا، وما عليهن إلا أن يتهافتن بجد على العلم الغربي من باب لغة من اللغات الأجنبية؛ لأن العلم كما يقول - بحق - الدكتور «طه حسين» قد أصبح غربيا خالصا، وليس لنا فيه نصيب قومي، ويجب أن نندفع في الطريق العلمية اندفاعا لا حد له إلا مقدرتنا الخاصة.
عند هذا، عندما تطلع صحافياتنا بطريقة أعم وأوسع على أمور العالم من علمية وصحية وفنية وسياسية واقتصادية، تزداد معارفهن وتتشعب مواضيعهن، فيكتبن بثقة وجرأة وتمكن، كما تكتب مي مثلا، التي لم تصل إلى مركزها الأدبي في عيون الناس إلا لكونها ثابرت السنين العديدة على نحت وصقل قواها العقلية، وتصبح مجلاتهن ذخائر قيمة، إذا اذخرت في المكاتب تذخر كآثار جديدة، لا كمجموع نظريات - كذا يقول سادتنا الرجال - ربطها مختلف المباني، ومعناها لا يزيد شيئا عما قرأناه منذ عصر إسحاق والحداد والعازار.
وإنني بعين الفكر أرى مستقبلنا النسائي وضاحا لماعا، ولا يؤلمني الفراغ الموجود في الصحافة وفي كل مكان؛ لأنني أعتبره شريعة طبيعية .
إن النهضة لم تصل إلى زمن البلوغ، وهي اليوم نواة! نواة هي حياتنا، سياسية كانت أم أدبية أم اجتماعية أم اقتصادية. وإذا جاز لي أن أستعمل تعبيرا طبيا أقول: إننا لم نزل في طور الحضانة - بمعناها العلمي - لا الوصاية ...
وعندي أن كلمة «انتداب» التي نزلت مع ما نزل من عصارة دماغ ولسن - رضي الله عنه - هي كلمة مغلوطة! فالانتداب هو الإشراف على كائن مكتمل إنما يعوزه الإرشاد، لا على الأطفال، بل الرضع، بل الأجنة ...
كتاب باز
إن الكتاب، والشعراء، والمصورين، هم رسل السعادة الروحية إلى الناس.
الإنسان ليس حيوانا يأكل ويشرب ويسكر وينام وحسب ...
للإنسان من أقدم أزمنة التاريخ ولوع بالملذات الأدبية، وفيه نزوع إلى تعميمها بين الناس.
هذه أساطير الأقدمين وأشعارهم وتماثيلهم تطفح بالأفكار والصور والأحلام العذبة نقف أمامها خاشعين، طربين برنينها وخطوطها وألوانها فنقرؤها، ثم نقرؤها، ولها أبدا طلاوة الجديد، ولها دواما حلاوة الأثمار الندية المبردة، فهي في حياتنا - نحن عشاق الخطوط والألوان والألحان والأحلام - مثل واحات يأوي إليها المسافر الملذوع بشمس الصحراء وبحر رمالها.
الكتب هي الواحات المخضلة وسط صحراء الحياة المقفرة، نقف إليها ساعة فننهل نهلة تنسينا مشاق السفر، أو تساعدنا على إكمال الطريق.
فالتي تنسينا مشاق السفر وتبرد شفاهنا العطشى لحظة هي الكتب الشعرية ذات الألفاظ المشبعة نحتا وصقلا وتوازنا وإيقاعا، أصحابها هم المطربون المغردون، ولإنشادهم شيء من حلاوة أحاديث يسوع على جبال اليهودية، ومن طلاوة نشيد المؤذنين بعيد الغروب في حي من أحياء المدائن الشرقية النائمة ...
أما تلك التي نقف إليها فنأخذ منها زادنا لمتابعة المسير، فهي المؤلفات الاجتماعية التي قد تبدو ناشفة لما فيها من النظريات ومن الأرقام، وأصحابها هم رسل الإصلاح في العالم، هؤلاء يعيشون لنشر فكرة يعتقدون أن في تعميمها خيرا للناس، وقليلا ما هم يخطئون.
وكتاب باز الجديد هو من هذه الفصيلة، كتاب يحوي أرقاما وحوادث تاريخية نسائية، هو يسجل حسنات نساء العالم أجمع، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، في الممالك المتمدنة التي تملأ أخبارها الأرض، وفي البلدان النائية البعيدة مثل الصين واليابان ونيوزيلاندا، حتى وليتوانيا، لم يترك باز بلدا أنجبت امرأة عظيمة يعتب عليه.
لمن يكتب باز؟ هو يكتب للمرأة العربية، فإذا سمى كتابه إكليل غار؛ فهو يعني به إكليلا لرءوسنا نحن النساء العربيات، فهل نستحق هذا الإكليل؟ ماذا فعلنا لأجل النهضة الحديثة؟ إننا لم نفعل شيئا وما زلنا نتلمس الطريق ... قدرنا الله أن نحسن العمل لنستحق الجزاء.
باز هو مصلح كبير، وكاتب اجتماعي ثابت الإيمان، ليس فيما يكتبه بلاغة «الإمام علي»، ولا جزالة «ابن المقفع»، كذا يصف نفسه، ويزيد:
لست بالكاتب الكبير حتى ولا الصغير!
إذا ما كان باز كاتبا كبيرا فهو فكرة كبيرة، هو فكرة كبيرة نظيفة، نقية، بيضاء، مصقولة، وبسيطة بسيطة يفهمها الطفل.
فكرة باز التي يعرفها كل قراء العربية هي:
تنشيط المرأة، إصلاح شأنها، تعميم تهذيبها، فالانتفاع بمواهبها.
وقد زادت هذه الفكرة رسوخا ونفعا يوم اندغمت بذاتية زوجته الدكتورة أنس، تلك المتخذة شعارا لها ولبيتها هذه الآية الذهبية:
المعرفة، المحبة، الخدمة.
وباز في سبيل المعرفة والخدمة لا يكل ولا يمل، فكرا وقولا وفعلا وكتابة وخطابة، نشطوا النساء، احترموا النساء، انتفعوا بمواهب النساء.
هو ينظر إلى المجتمع ويعد فيه الصالحين والمصلحين، ثم يفتش عن سبب الصلاح والإصلاح فيرى خلف الستائر شبح امرأة، الأم والأخت والزوج، يرى المرأة الحاملة، المرضعة، التعبة، الساهرة، القلقة، الواجفة، الملوعة.
يرى الملكة، والكاهنة، والعالمة، والمخترعة، والمكتشفة، والمعلمة، والممرضة، ويرى تلك ... تلك المجندة لبث دعوة الحرية بين الشعوب المستعبدة، وبث روح السلام بين الأقوياء المفترسين، تلك التي بما تكتب وما تنشد وما تخطب توحي إلى الرجل آيات المجد، فيسير ونفسه مستودع للقوة والمكابرة، وقلبه سر من أسرار الغلبة!
ثم يحول باز وجهه شطر مواكب البؤساء، من أطفال مرضى ومن سكيرين ومجرمين ومستعبدين، فيلتاع؛ لأنه يدرك أن كل هذا الشقاء ما كان لو فتحت أبواب الحياة في وجه المرأة.
إنه يشتاق إلى يوم تزول فيه هذه المتاعب، يوم يرتفع نصف العالم فيرفع العالم «نصف الكائنات مشلول، مريض، مستعبد، اشفوه، حرروه، فيشفيكم ويحرركم، لا تشكوا بمقدرته فلا حد لها تقف عنده، آمنوا بعطفه، وكرمه، وإخلاصه، وخذوا الأدلة بالأرقام.»
صدقوني أيها الناس - كذا يقول باز - صدقوني أنكم واهمون في هضم حق تلك التي يكفيها فخرا أنكم نسيج يديها، ودماء قلبها. هاكم الأسماء والأدلة والتواريخ؛ أفلا تصدقون؟
لهذه الفكرة طبع كتاب «إكليل غار»، وصاحبه يطلب مني انتقاده؟ معاذ الله! ليكتف مني أن أسكت عن مديحه.
وليعلم أن كتابه هو عاطفة إخلاص ومحبة، وهذان هما - على الدوام - فوق لغويات البشريين، وفوق لغات الملائكة.
وديع صبرا
لا أظن أنه يوجد بين قراء هذه السطور من سكان بيروت من يجهل الأستاذ وديع صبرا، فقد عرفته هذه المدينة موسيقيا نابغا، وعاملا ممتازا في عالم الفن، على أن له مزية أخرى لا يعرفها الناس، وهي العمل في بناية هذا الوطن من قبل أن يصير وطنا؛ لهذا أقول بفخر: إن وديع صبرا هو من الرجال الذين يعملون منذ سنين في سبيل عمل لم يقدم عليه سواه، لا من الغربيين ولا من الشرقيين. وهذا العمل سيفتح صفحة جديدة في حياة الموسيقى الشرقية.
من المعلوم أن الموسيقى العربية الحالية مأخوذة عن الموسيقى البيزنطية، وأن الموسيقى الشرقية كلها غير مقيدة بالعلامات التي تتميز بها الموسيقى الغربية، ولم يقدم أحد إلى اليوم على ربط الموسيقى الشرقية بالعلامات المعروفة ب «النوت» - بطريقة أصولية - لأن هذه العلامات وضعت للأنغام الغربية، وهذه الأنغام هي نفسها ناقصة نسبة إلى الموسيقى الشرقية التي هي أقرب إلى الأصوات الطبيعية.
إن أقرب الآلات إلى الأصوات الطبيعية هي الآلات النافخة؛ كالقصب والناي والفلوت وسواها، ويتلو هذه ذوات الأوتار؛ كالكمنجة والعود والقيثارة
Guitare ، أما البيانو فمع أنها ناقصة - من جهة الأصوات - بالنسبة إلى ذوات الأوتار، فهي كآلة أكثر ضبطا من جميع الآلات؛ لأن من يعزف عليها لا يحتاج إلى ما يسمونه «الدوزان».
على أن البيانو لا تؤدي الألحان الشرقية كاملة؛ ذلك لأن الأصوات في الموسيقى الغربية تقسم إلى أنصاف، أما الأصوات الشرقية فتنقسم إلى أرباع وإلى أثمان؛ لهذا لا يمكن لأي موسيقي مهما كان بارعا أن يعزف على البيانو نغم «غيري على السلوان قادر» أو أي نغم سواه ويأتي به كاملا كما يأتي به العواد. •••
وقد خطر في بال الأستاذ وديع - وذلك منذ 15 سنة - أن من الممكن إيجاد طريقة تقيد بها الموسيقى الشرقية بأرباعها وأثمانها، وتطبيقها عمليا على آلة مثل البيانو، ولما عرض فكره هذا في إسطنبول سنة 1928 قال له أحدهم: لو كان هذا العمل ممكنا لسبقك إليه الغربيون.
لقد وصفوا الشرقي بقلة الثبات، على أن وديع صبرا يخفي وراء سكوته إرادة تفتت الصخر ولا تتفتت، فهو منذ خمس عشرة سنة يعمل لإيجاد الطريقة التي حلم بها عندما كان تلميذا في دار الموسيقى في باريس، إلى أن تكلل جهاده بالفوز، وتوصل إلى اكتشاف ما قضى الحياة بالتفتيش عنه.
أما سر نجاحه فهو الثبات أولا، ثم الانقطاع بالكلية إلى العمل الذي وجد لأجله، وقد اشتهر بهذه الصفة حتى شاع عنه أنه لا يعرف من أمور الدنيا شيئا إلا الأنغام، فلو تكلم أحد أمامه عن مسألة تجارية قال بكل بساطة: «هذه مسألة يفهمها جيدا التاجر الفلاني.» وإذا سأله أحد رأيه في السياسة أجاب: إن السياسة من اختصاصات الكوميساريا.
على أنه يفهم من الأمور أكثر من كثيرين غيره، ولكن مبدأه في التخصص ثابت لا يحول ولا يزول، وكثيرا ما يقول النكات المستظرفة في هذا الصدد.
أذكر أنه ذهب مرة إلى إدارة شركة الماء ليطالبها بواجبها نحوه كرجل يدفع الاشتراك ولا يأخذ شيئا، ولما سأله ذووه عن نتيجة تلك المقابلة قال:
استقبلني فلان وكلمني عن الموسيقى، ولما صرنا إلى البحث عن الأنغام الشرقية رأيت نفسي أمام رجل متضلع في الفن، فرجعت ولم أكلمه في مسألة الماء؛ لأنني قلت في نفسي: إن الرجل الذي يعرف الموسيقى إلى هذه الدرجة يجهل - ولا بد - كل ما هو متعلق بالماء وشركات الماء.
إن في هذه النكتة المضحكة مثالة كبيرة، فلو تخصص كل منا للموهبة التي أوجدها الخالق فيه لانقطع هذا الضجيج في لبنان وسوريا، وساد مكانه العمل الهادئ المثمر ...
لنرجع إلى الآلة التي اخترعها الأستاذ وديع، لقد اشتغل الأستاذ نهارا وليلا حتى بلغ ما يصبو إليه، وفي هذه الأيام يسمع من يسكن في جواره أنغاما رقيقة كأنغام العود تخترق الأثير، وتحمل إلى قلب كل من تتبع وديعا في جهاده عاطفة جميلة هي الشعور معه بسمو الفوز بعد الجهاد. وهذه الأنغام تخرج من طاولة خشبية بسط عليها الموسيقي اختراعه الذي سيعرضه بعد أسابيع قليلة على البيروتيين، فيعزف أمامهم الألحان الشرقية على البيانو المعروف، فيرون النقص فيه، ثم يعزف نفس الألحان على الآلة التي اخترعها، فيظهر الفرق جليا واضحا.
وقد اهتم أرباب الفن في باريس لهذا الاختراع يوم سافر إليها الأستاذ وديع صيف 1919، وعرض فكرته على صاحب معمل بلايل الذي كلفه أن يطلعه على كل ما يجد لديه، ووعده بصنع البيانو العربية حالما يتم اختراعها.
وليس صاحب معمل بلايل بالغربي الوحيد الذي يعرف قيمة هذا النابغة اللبناني، فقد سبق الأستاذ لافينياك الشهير وكتب عنه سطورا جميلة هي عبارة عن نبوءة تمت اليوم، وفي الأسطر التالية شيء من هذه المراسلة القديمة التي تدل على إقرار الغربي للشرقي بالنبوغ.
قال الأستاذ لافينياك:
عندما أتاني الأستاذ وديع صبرا سنة 1894 لم يكن يعرف كلمة في اللغة الإفرنسية، أو علامة من العلامات الموسيقية، والحق يقال: إنني لا أعلم كيف توصل إلى فهم الدروس التي كنت ألقيها على صفي، على أن نجاحه كان غريبا في بابه، فقد كان يتعلم بسهولة نادرة، وظهر لي أن الموسيقى شيء غريزي فيه.
واليوم أصبح أصيلا في علم الإيقاع، وقد برهن مرارا عديدة على مقدرة في التأليف، فهو موسيقي كامل الأوصاف، وليس هذا كل ما يقال عنه، فهو ممتاز بفضائل سامية، وبأخلاق رضية، وقد عرف أن يجعل نفسه حبيبا إلى كل رفاقه وإلى كل أساتذته. أما أنا فأسر لأنني أرى فيه - ما عدا التلميذ البارع - الصديق الحقيقي، وإنني له كذلك.
وكتب عنه الأستاذ نفسه في إحدى المجلات الموسيقية ما يأتي:
إن ما يجب إلفات النظر إليه هو مقدرته الفنية المضاعفة، فهو الموسيقي الوحيد الذي يعرف الفن الغربي والفن الشرقي في وقت واحد.
أما مواهبه الموسيقية فلم أرها في أحد من أبناء الشرق؛ لقد قدم فرنسا فتى، وتعلم فيها الموسيقى الغربية، على أنه لم يهمل موسيقى بلاده، فهو يسافر من حين إلى آخر إلى وطنه ويدرس فيه الموسيقى الشرقية، ولولا التوازن المتين في قواه العقلية لما نتج عن هذا الدرس المختلط سوى الاضطراب والتعقيد، على أن وديع صبرا قدر أن يملك ناصية الفنين في وقت واحد، فبينما هو يشتغل في تعميم الموسيقى الأوروبية في بلاده، نراه في باريس يشتغل بدون ملل بين أرباب الفن ليحبب إليهم الموسيقى العربية، ويكشف لهم مخبآتها.
ويلذ لي أن أصرح أن وديع صبرا هو أستاذ ذو مكانة سامية؛ فهو يكتب ويتكلم لغتين من لغات الموسيقى مختلفتين كل الاختلاف، ويفهم جمال الاثنتين على حد سواء. وهذا حدث مفرد في تاريخ الفن.
هذا ما يقوله عن وديع صبرا كبير من كبار الموسيقيين في الغرب، ويسرني في هذه الفرصة أن أنشر هذه السطور «عسى أن يصير للأنبياء شيء من الكرامة في وطنهم».
أحجار الزاوية
هم، في نهضتنا الحديثة، أولئك الرجال تلامذة مدارسنا الأولى، الذين استناروا بالعلم يوم كانت البلاد كلها في جهل عميم، فجعلوا حياتهم وقفا على الأمة، وقضوا عمرهم بتعليم ما به علموا.
نعدهم ولا نعدد مآثرهم، وهل تعد حسنات البستاني واليازجي والحوراني وسركيس وإسحاق والحداد ونمر وصروف وزيدان؟ هل تحصي خدماتهم في عوالم اللغة والأدب والعلم والتاريخ والسياسة؟
الحق أنها لا تحصى ولا تقاس بميزان، هم مدارسنا من قبل هذه المدارس وبعد هذه المدارس، أجل إن الصحافة العربية من جرائد ومجلات هي التي حملت المشعل فاستنارت البلاد، هي كانت منبر الأحرار والمصلحين في أيام الظلمة، هي التي نقلت إلينا أخبار الحرية والمتحررين، وأخبار العلم والمتعلمين، هي التي بما أنشأت وما عربت وما نقلت وما حفظت أوجدت في الشيوخ عادة المطالعة، وهيأتهم لقبول فكرة «الإنفاق على البنين في سبيل التعليم».
وجرائدنا هي مدارسنا من بعد أن فتحت هذه المدارس ... هي وحدها اليوم «المدافع الضعيف الوحيد» عن لغة تقتل في المدارس والنوادي والمحاكم وفي دور الحكومة. جرائدنا لا تزال - والحمد لله - تدخل إلى العيال، ولا بد أن يقع نظر الأولاد «المتفرنجين» عليها من حين إلى حين، فيقرءون ولو سطرا يذكرهم أن لهم لغة قومية وكرامة قومية.
نحن اليوم نقرأ، ونقرأ كثيرا، وذلك بحرية وسهولة. كل المطبوعات تدخل إلى البلاد بدون مانع ولا زاجر، ولكن إذا رجعنا بأفكارنا إلى ما قبل الدستور، وذكرنا أن ما كنا نقرؤه كان قيد مراقبة «المكتوبجي» قدرنا جهاد الكتاب البيروتيين أمثال المرحومين خليل سركيس والعازار وحبيقة، وأمثال الأحياء كالبدوي وزينيه والعقاد وسواهم، الذين لم يهاجروا، بل بقوا خداما لفكرة الإصلاح وللآداب العربية يوم كان السجن والنفي قصاصا خفيفا لمن يخالف الإرادة الشاهانية ويتعمد «تخديش الأذهان».
نذكر جهاد مجاهدينا أيام الاستعباد فنحني رءوسنا إجلالا، ولكن هنالك صفة أخرى وجب علينا تقديسها، وهي الثبات، فالجهاد يسمى جهادا إذا تناول الحياة بكاملها؛ أن يبدأ الإنسان عملا في شبابه ولا ينفك عنه إلى سواه، أن يمارسه ويتقنه بالدرس والصقل والمران حتى يصبح عملا تاما؛ لأن الأولوية والأفضلية هي لتلك الأثمار الناضجة، يمر عليها الشتاء وتزهر في الربيع، وتنضج في الصيف فتقطف في الخريف.
الأعمال في بلاد الغرب مثمرة ومتقنة؛ لأن الغربي يثبت في عمله إلى أن يموت، فيسلمه إلى أبنائه كاملا، كذا كان عمل خليل سركيس - رحمه الله - وكذا سلمه إلى ابنه من بعده. كانت إدارة سركيس الأب مثالا للصدق والثبات والإتقان والإخلاص، وهي لكذلك في أيام سركيس الابن.
عاش الأب في ابنه.
وعاش الابن لأبنائه ولأبناء أبنائه.
إلى جامعة السيدات
إن في بيروت اليوم حركة نسائية مباركة، حركة يقصد منها السير في طريق التقدم، والتقدم في نظري هو الذي يأخذ بحياة الأمة من أربعة أطرافها، فيتناول الأخلاقيات، والعلميات، والعقليات، والاقتصاديات، ويوجد نقطة خامسة، ولعلها الوسط لا الزاوية، هذا الوسط يسمى السياسيات أو حياة الأمة السياسية ...
ولكن الحكمة والمنطق والتعقل تقضي على النساء بعدم تناول السياسة. وهنا لا أتكلم عن السياسة بوجه العموم، فللنساء الأوروبيات فيها نظرية خاصة بهن نشأت من نفس أحوالهن، هذه النظرية تدفعهن إلى الدخول في الحياة السياسية؛ لأن فيها المناصب الكبيرة. وكبيرات النفوس في أوروبا يشتغلن للوصول إلى المناصب الكبيرة، لا لأجل التنفذ فيها؛ ولكن لأن منها تسن الشرائع والقوانين، ومنها تصدر مقدرات الأمة. والأمة يا سيداتي مجموع عائلات كثيرة، وفي هذه العائلات يوجد أناس غير الرجل الغني، الرجل التاجر، الرجل الوزير، الرجل السيد، يوجد أناس يدعون أرامل، وعمالا، وعاملات، وأصحاب عاهات، ورقيقا أبيض، وأيتاما، وأطفالا جنى عليهم السكر والفساد الفظيع، فدخلوا إلى هذا العالم لأجل العذاب، لأجل العذاب فقط يا سيدتي.
لأجل تحسين حالة هؤلاء طرقت سيدات الغرب أبواب السياسة. ولكن السياسة عندهم مرتكزة على قواعد معروفة، فهي في الأمة ومن الأمة.
وهي منذ مئات السنين تتطور ضمن قاعدة النشوء والارتقاء اللازمة الملازمة للأمم.
إن سياسة الغربيين مبنية على التجربة والاختبار؛ سياسة شيوخ، سياسة بلدية وطنية.
أما سياسة هذه البلاد، فلا حنكة فيها ولا خبرة، وأحيانا لا اعتقاد صحيح، ولا مذهب قويم، ولقد قلت: إن الحكمة والمنطق يقضيان على نسائنا بعدم المداخلة فيها، ليس لكونها سياسة، بل لكونها سياسة أوحال، والمرأة في نظري درة مكنونة لا يجوز طرحها في الأوحال. •••
إذن على نسائنا الطالبات التقدم أن يأخذن بأربعة أطراف الحياة: الأخلاقيات، والعلميات، والعقليات، والاقتصاديات، ليمشين في طريق لهن؛ فلعلهن يلتقين في آخرها بالرجل وقد أخذ نصيبه من أمثولة السياسة.
1
ولقد وجهت مقالي هذا إلى جامعة السيدات ولي أمل كبير بهذه الجامعة - حقق الله آمالي - وما قلته أعلاه لهن ليس بالجديد؛ فقد فهمن قبلي ضرر السياسة وفي قانونهن بند يقول: إن الجامعة تسعى لرفع المرأة وتحسين حال العائلة.
أما الذي أقوله الآن فهو هذا: النساء هن نصف العالم، وعليهن نصف العمل، ولقد تألفت قبل الآن جمعيات كثيرة في بلادنا، ورأينا عدم فائدة أكثرها، وقلة فائدة بعضها.
ذلك لأن أعمالنا تقوم بالكلام، والكلام لا تقوم به الأمم. منذ عشر سنوات ونحن نحضر الحفلات الخطابية، ونسمع القصائد، فلم نتقدم كثيرا في طريق التجدد الفعلي. فعلى الجامعة الآن أن تأتينا بالأعمال السريعة لنشعر بالتحسين السريع، ولا يمكن للجامعة أن تأتي بالأعمال بدون أن تكون قوية الجانب، مسموعة الكلمة، فلا قوة للجامعة بدون المال، ولا كلمة مسموعة لها إلا إذا انتشرت غايتها في كل حي من أحياء المدينة.
أفهم بلفظة الجامعة حلقة قوية تضم السيدات في بيروت، أو نقابات تمثل سيدات بيروت، وأود لو وجد في جامعة السيدات لجنة خاصة قوامها أعضاء من كل الجمعيات النسائية والمدارس النسائية في بيروت، كجمعية زهرة الإحسان، وجمعيات السل، وجمعية مستشفى القديس جاورجيوس، وجمعية الأعمال الخيرية للفتيات المسلمات، ومدرسة تهذيب الفتاة، والمدرسة السورية الأهلية إلخ.
لو وجدت هذه اللجنة التي هي عبارة عن نقابات نسائية قوية لقوي شأن الجامعة وشأن النساء في بيروت، وقدرن في وقت قصير أن يعملن أعمالا كثيرة تعود بالخير على الأمة.
وربما يقول البعض: وماذا تفعل نقابات النساء؟ فأجيب: إن هذه النقابات تمثل عددا عظيما من نساء البلد، وللكثرة تأثير لا يمكن أن يناله الفرد، فيمكن للجنة النقابات - مثلا - أن تدرس مدة من الزمن نظامات التعليم في مدارس بيروت كلها، وترفع بعد درسها تقريرا لمن بيدهم الحل والربط، فتبين وجه الخطأ في نظام، ووجه الصواب في غيره.
ويمكن للنساء أن يهتممن بأمور الصحة، فيدرسنها درسا وافيا، وينشرن النشرات الأسبوعية أو الشهرية، ويرفعن التقارير إلى البلدية وإلى مديرية الصحة. وهذه المراجع تعرف معنى تعب السيدات وتعير كلامهن التفاتا، وكلام السيدات أفعل من كل ما تكتبه الجرائد.
وكذلك يمكنهن أيضا أن يهتممن بهمل الأيتام، وبصغار المتشردين، فرجال الحكومة لا يردون طلب السيدات إذا هن أبدين رغبتهن بإيجاد محلات جديدة للصغار وإصلاح المحلات القديمة.
إن أسباب التسلية والرياضة للأولاد مفقودة تماما، ففي أوروبا يذهب الولد مرة في الأسبوع إلى محل السينماتوغراف، فيرى على الستار صور وقائع وأمور تاريخية لو أراد أن يتعلمها في كتاب لقضى شهرين في درسها. فلو طلبت عائلة واحدة من العيال البيروتية إلى إدارة السينما أن تستجلب لها الصور التاريخية لأجل تسلية الأولاد لما أجابت الإدارة لها طلبا، ولكن إذا رفع تقرير إلى تلك الإدارة موقعا من عشرين جمعية نسائية لبادرت الإدارة حالا وأحضرت صورا خصوصية للأولاد فيها التسلية والأدب والفائدة.
وأي شيء لا يعملنه سيداتي الناهضات لو قصدن إليه؟ إن صوت المرأة من صوت الله، وما تريده المرأة يريده الله، فإلى الأمام يا سيدتي في توسيع الجامعة وتوسيع غايتها - حفظكن الله.
على ذكر اللغة العربية
إكراما لجامعة السيدات
إنني لا أذكر مرة ما تفعله هذه العصبة النسائية في سبيل الوطن إلا وتنتفض نفسي بعاطفة غريبة، هي مزيج بين الإعجاب والحنو والشفقة.
إنني أعجب بسيدات تتوق نفوسهن إلى عمل الواجب فتثب نابضة، مختلجة، تائقة، صارخة وسط هذا النزاع بين الموت والحياة: يا هؤلاء، انظروا في إلى بوادر الحياة!
إنني لأحنو وأحن إلى رفيقات يغرفن ماء البحر في صدفة، معتقدات بكل ما في قلوبهن الطيبة من البساطة أن اقتراحهن في موضوع اللغة العربية سيأتي بنتيجة في إحياء هذه اللغة التي نقف أمام حبها خاشعين، قلقين، حذرين، كما يقف العابد أمام المعبود!
وإنني لأشفق على نفسي وعلى أمتي، عندما أنظر بعين الفكر إلى البناء الذي لم تضع فيه الأمة حجرا واحدا، وإلى الأتربة والخرائب والجماجم القائمة أمامنا كالجبال، والتي لن تزاح ويقوم مقامها البناء الجديد إلا بعد أن تصبح عظاما رميما! •••
لنعد إلى سيداتي وإلى اقتراحهن، وهذا رأيي على وهنه.
علاقة الوطن باللغة أو اللغة بالوطن. هذا تحصيل حاصل، وإنني لأعجب كيف يمكن لكاتب أن يطرق هذا الموضوع؛ ففي دماغي الصغير - الذي هو قبل كل شيء دماغ امرأة - لا يمكن للقوة المفكرة أن تفهم من المسائل إلا ما كان بسيطا، جليا، واضحا؛ لهذا لا أراني مدفوعة إلى تحويل هذه القضية من بسيطة إلى مركبة لأضيع في لوالبها وتعاريجها.
فالوطن واللغة في فكري واحد لا يتجزأ، والعلاقة بينهما صريحة لا تحتمل التأويل، فلا وطن بدون لغة، ولا لغة بدون وطن، وليس من حاجة لإثبات ذلك بالمنطق.
أما البحث في خير الوسائل لترقية اللغة فيعجبني جدا، وفيه أقول: إن ترقية اللغة في أمة من الأمم هو عمل من الأعمال الكمالية تتفرغ لها الأمة بعد أن يكتمل نموها ؛ فنمو الأمم يكتمل عندما يسود النظام، ولا يسود النظام في مملكة بدون أن تستوي أحوالها الاقتصادية في مستوى راق، ومتى أثرت الأمم تفرغ أفرادها إلى الكماليات؛ فأوجدوا العلوم والفنون وكل ما نشاهده من المميزات في الأمم الحية.
فترقية اللغة أمر كمالي يأتي إلينا صاغرا بعد أن تنتظم أحوالنا الاقتصادية. وتأخرنا الاقتصادي هو عقدة العقد لا يحلها إلا الإنتاج، وزيادة صادراتنا على الواردات. وهذا النقص في الإنتاج لم يسببه الاحتلال الأوروبي، ولا الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، ولا تقسيم سوريا إلى إدارات مركزية، هذا النقص في الإنتاج سببه الكسل ثم الكسل ثم الكسل، فاقتصادياتنا تئن من الإهمال كما تئن لغتنا، وكما يئن كل شيء في بلادنا.
قلت: إن ترقية اللغة هو من الأمور الكمالية، فإذا أردنا أن نصل إلى الكماليات يجب أن نهتم بالأوليات، هل رأيتم رجلا يشتري أثاثا وتحفا قبل أن يستأجر بيتا يأوي وأهله إليه؟
فإذا وصلنا إلى ذلك اليوم السعيد الذي نتمكن فيه من الاهتمام بالكماليات، ننصرف إلى ترقية اللغة على الأسلوب الذي ستقرؤه أيها القارئ، ولكن بشرط أن لا تضحك: (1)
نقيم معاهد علم وطنية تعلم فيها كل العلوم الحديثة بلغتنا، وتفوق المعاهد الأجنبية الموجودة حاليا في البلاد؛ لتتمكن من مزاحمتها والقضاء عليها. (2)
نقيم هذه المعاهد بأموال الأمة؛ إذ لا يجب أن نمزح ونعتمد في هذا الأمر على الآباء اليسوعيين، ولا على عمدة الكلية الكرام، ولا أن نسترسل في المزاح - بل في الدلال - ونطلب من الحكومات الأوروبية، إفرنسية كانت في سوريا، أو إنكليزية في فلسطين، أن تبني لنا المعاهد الوطنية. (3)
نوجد مجمع علوم كبيرا، عدد أعضائه مائتان، بينهم الأطباء والكيماويون والمهندسون والفقهاء والموسيقيون والفنيون، فيتفرغون لترجمة ألوف المجلدات، ونقلها إلى اللغة العربية في كل فرع من العلوم الحديثة؛ وذلك لنتمكن من تعليم أولادنا كل العلوم باللغة العربية. (4)
تقوم الأمة بنفقات هؤلاء العلماء، لا أوروبا؛ لأن الغرب لا يعطينا قطعة نحاسية إلا ويدخل معها إلى نفوسنا ما يعادل وزنها من السم؛ فلكي لا نتشبع من السم الأوروبي، ولكي لا نتهم بنكران الجميل، وجب علينا أن نترك مهنة التسول.
هذه هي خير الوسائل لترقية اللغة العربية! ولما كانت هذه الوسائل صعبة لا تنال اليوم، وكانت الأمة تريد شيئا تضعه على النار - كما تقول العامة - فأنا أدل الذين تأكلهم الغيرة على اللغة على طريقة، وهي أن يقاطعوا المدارس الأجنبية بأن يتولوا أولادهم في بيوتهم، فهذه أحسن وسيلة نخبر بها هذه المدارس على الاهتمام بلغتنا.
ولما كان لا يوجد فينا شخص واحد يقدم على هذا الأمر؛ فإنني أنصح لقومي ... بالصبر و... بالسكوت، فهو أولى.
هذا وإنني أطلب من سيداتي أعضاء الجامعة أن لا يغضبن لكوني لم أقل: إن ترقية اللغة مسألة بسيطة، فكل شيء أهون من غضبكن يا سيداتي.
إلى روح أبي أمين1
يجتمع كبار الأمة اليوم لتكريم فقيدها مرة ثالثة، وفي هذا كل الإثبات على أن في الوطن من يعتقد أن أحمد مختار أتى في حياته عملا يستحق من أجله الإكرام.
إن أبا أمين ما كان كاتبا ولا خطيبا ولا شاعرا ولا مشترعا، إنه ما كان لغويا يقضي السنين منحنيا على المخطوطات القديمة ليجد فيها كلمة تضاف إلى معاجم اللغة، ولا عالما يفني حياته بفحص ملايين الذرات ليكتشف حقيقة حيوية جديدة، إنه كان عاملا نشيطا في سبيل النهضة النسائية.
أيها الكرام، إذا ما ذكر التاريخ رجال نهضة الشرق، فسيذكر في طليعتهم قاسم أمين وأبا أمين.
أما قاسم أمين، ربيب وادي النيل، فقد أرسل آراءه النظرية في محيط يعد بين رجاله؛ أمثال محمد عبده، والمنفلوطي، وحافظ، وشوقي، والمطران، ونمر، وصروف، وزيدان وسواهم.
وأما فقيد بيروت، فبدون مقدمات أو نظريات تقدم وفتح باب الأمة على مصراعيه، وأخذ بيد كرائم المسلمات وقال لهن: هذه ساحة العمل، هنا أيتام تطلب الرحمة، وهنا نسوة تعيش على قشور الفاكهة، وهنا أولاد ينشئون متمرغين في الشوارع وتحت دواليب العربات، فكانت إذ ذاك الجمعية المعروفة،
2
وكان من حسناتها: النادي، ومدرسة النادي، وهذا المصنع، ودار الأيتام. أخذ أبو أمين بيد من تفتخر بهن بيروت، ومن خلال الحجاب الكثيف أطل بهن على هذا المجتمع حيث تراكمت أنقاض ماضينا المظلم، وقال لهن: لكن من نفوسكن النيرة ما يقيكن العثرات. تقدمن في طريق النور.
يعتقد البعض أن من يقول للمرأة المسلمة أن تساعد في ترميم الوطن المتهدم إنما هو يدفعها إلى نزع الحجاب. هذا البعض مخطئ في ظنه لأن مسألة الحجاب في نظر من يجاهدون مسألة جزئية لا تستحق أن يقف عندها مفكر.
المهم هو أن يكون عندنا نساء يعرفن ما عليهن من الواجبات، وما لهن من الحقوق؛ ولأجل هذا الأمر وضع أحمد مختار حجر الزاوية في النهضة النسائية الإسلامية.
فإذا ما جاء اليوم الذي تصبح فيه المرأة كائنا كاملا عليه واجبات وله حقوق، تذكر الأمة فضل الرجل الذي خدمها بإخلاص.
وكأني بكم تقولون: «ألعلنا ناسون فضل الرجل؟ فإذا كنا غير مقرين بفضله، فما معنى اجتماعنا لتكريمه؟»
أيها السادة، ما تمكنت السنة الماضية من حضور الحفلة التذكارية التي أقامها نادي السيدات للفقيد الكريم، على أنني أرسلت كلمة جاء فيها: إذا أردتم أن تكرموا الرجل فكملوا العمل الذي بدأ به، فحرام أن تموت هذه النهضة بموت أحمد مختار.
والآن أراني أتردد بقول هذه الحقيقة المؤلمة، وهي أن الحفلات التأبينية قليلة الفائدة إذا كانت النهضة لا تزال حيث كانت. إذا رجع كل منكم إلى نفسه، أنتم الذين تكرمون الفقيد وتعرفون قيمة العمل الذي بدأ به، إذا رجع كل منكم إلى نفسه وسألها: ماذا فعلت في البناء الجديد؟ يأخذ جوابا: لا شيء.
أيها السادة، لا شيء! فالنادي لا يزال حيث كان، والمدرسة حيث كانت،
3
والمصنع حيث كان. إن الوقوف في علم الاجتماع يعني التأخر؛ لأن من لا يركض في عصر الطيران هذا يدعى واقفا، ومن يقف يرى جماهير الراكضين تسبقه، ومن يسبق فهو متأخر.
أيها الكرام، لا أقصد هنا أن أطرق موضوع النسائيات الذي لا نبحث فيه لسوء الحظ إلا لنتكلم عن التافهات؛ كموضوع الملابس القصيرة أو الطويلة إلى آخر ما هنالك من الجزئيات التي نلهو بها؛ إذ ليس لنا ما نلهو بسواها.
هل نحن نريد حياة استقلالية كاملة؟ هل نريد هذه الحياة حقيقة أم نريدها بالكلام - كما نريد كل شيء؟
لا حياة كاملة بدون نهضة قومية، ولا نهضة قومية بدون نهضة فكرية. ونهضة فكرية يقوم بها الرجل وحده تدعى نصف نهضة؛ لأن النصف الثاني الذي يتألف منا، نحن النساء، لا يزال لسوء الحظ مقعدا كسيحا.
لنذكر كلما جاء ذكر الفقيد - وما أكثر ما تذكرونه - أننا على باب حياة جديدة، وأن علينا أن نعمل كل يوم، بل كل ساعة، بل كل دقيقة. لنذكر أننا نطالب بحقوق الشعوب الحية، فلنعمل عملا واحدا يدل على الحياة.
تحية النهضة1
رأيت منذ أمد الشاعر الأديب ميشل أبي شهلا، فقال: نطلب خطابا لجمعية النهضة الأدبية، قلت: ودعت المنابر منذ سنوات، قال: كلمة في الحي الذي نشأت فيه، قلت: بعيني الحي ومن فيه، وفي إنسانها منزلة القائمين بهذه الحركة المباركة.
فيا أهل الحي، سلام، وإذا ألقيت سلامي عليكم، فإنما أنا ألقيه على أفراد العشيرة التي عشت بينها أياما جميلة أبقت في قلبي أعذب وأجمل وأحسن ما يحفظ في تلافيف الذاكرة.
كل شجرة من هذا الحي، وكل عطفة فيه، وكل بيت من بيوته، وكل حفنة من رماله، وكل رنة من ناقوس معبده هي أناشيد خالدة أسمعها كل مرة أزور الحي، ولها في أذني طلاوة، وفي قلبي عذوبة، وفي نفسي عبادة.
وكيف لا أذكر المكان الذي يضم رفات والد صالح بكل ما في كلمة الصلاح من المعنى، ورفات والدة نشيطة صبورة حنون كانت صورة حية للمثل الأعلى.
إن هذه البقعة من الأرض تذكرني بالحياة البسيطة التي عشناها بالأمس كلنا، والتي ذهبت من هذه البلاد ولن تعود. تلك الأيام نذكرها بشيء من التوجع؛ إذ كنا فيها بعيدين عن الأفكار الغربية، وعن تيار المدنية الحديثة المندفع كالسيل الجارف.
أيها الكرام، لن أقتل الآن وقتكم بما لا يفيدكم، فمن التذكارات القديمة سأستخلص ذكرى واحدة أبني عليها موضوع حديثي معكم.
أذكر من طفوليتي المدرسة الصغيرة الابتدائية، ورئيستها الفاضلة التي هذبتني وهذبتكم، ومما أذكره جليا هو التأثير العميق الذي كانت تتركه في نفسي زيارات السيدات الإفرنجيات لمدرستنا، وزيارات الطبيب الإفرنجي لبيتنا، وزيارات السيدات الإنكليزيات لبعض تلميذاتهن القديمات، وأذكر - وهنا يغشى أفكاري ضباب - عائلة إنكليزية كانت ترسل أولادها إلى المدرسة التي كانت فيها حيث كنا كلنا، معلمات وتلميذات، ننظر إلى هؤلاء الأولاد كما لو كانوا أولاد آلهة.
واليوم أرجع إلى نفسي وأسألها عن مصدر هذه السطوة التي كانت للإفرنج علينا ونحن صغار، تلك السطوة المعنوية المحتلة نفوسنا قبل الاحتلال العسكري لبلادنا بزمن مديد.
مصدر هذا التسلط المعنوي هو شعورنا بأننا دون الغربي تهذيبا وعلما، فهل هذا صحيح؟ وهل نحن دونهم حقيقة؟ وإذا كان من فرق بيننا وبينهم، فهل هو عظيم بهذا المقدار حتى نحني الركب ونعفر الوجوه؟
لسنا دونهم في التهذيب النفسي الخصوصي، ولكننا دونهم في التهذيب بمعناه المطلق؛ أي في التهذيب العلمي والاجتماعي.
والفرق بيننا وبينهم كبير وصغير. هو كبير إذا بقيت حياتنا فوضى.
ووطنيتنا أديان ومذاهب وطوائف، وأحزابنا شخصية نفعية، وهو صغير إذا وضعنا الجهاد نصب عيوننا وقلنا: حي على النظام، وعلى العمل، وعلى الفلاح.
وكم يمتلئ قلبي سرورا عندما أرى هذه الفئة العاملة، أبناء هذا الحي العزيز، ينتظمون جماعة ويؤلفون نهضة حية غايتها الإصلاح والتهذيب.
أيها السادة والسيدات، لا حياة لنا بدون نهضة أدبية، ولا نهضة أدبية بدون نظام؛ ففي كل يوم وفي كل ساعة نشعر بفقد هذه القوة الهائلة التي يتميز بها الغربي، والتي تذوب أمامها كل فضائلنا النفسية، وكل مزايانا الطيبة، وكل رغائبنا الصادقة.
كنت أتباحث مرة مع أحد الغربيين عن حالة البلاد الحاضرة، فقال لي: بلادكم لماعة غرارة تضيء من بعيد كلمع السراب، لكن لا منطق في بلادكم ولا نظام، ولا هيئة معروفة يمكن وصفها، معاهدكم شخصية، وجماعاتكم فردية، وأحزابكم نفعية، اكتبي وأنت كاتبة لهذا الشعب أن يتنظم، تنظموا، ابنوا أساساتكم.
قلت له: لمن أكتب وليس من يقرأ؟! لقد تسممت أفكارنا بكتب الغرب، وأصبحت اللغة العربية شيئا قديما لا يتنازل له أبناء هذا الجيل.
قال: اكتبي لعشرة أشخاص، اكتبي لاثنين، اكتبي لواحد، وإذا ما وجدت هذا القارئ الوحيد فاكتبي للأجيال القادمة.
وسافر هذا الغربي إلى بلاده وكتب لي من هناك: «أيتها السيدة، إنني أتأسف عليك وأنت في عنفوان العمر أن تدفني هبة يمكنك أن تنفعي بها أمتك، كلكم في هذا الشرق كسالى، كلكم تعيشون كما لو كانت الحياة ألف عام، نصيحتي إليكم أن تؤلفوا جماعاتكم، وتؤسسوا معاهدكم.»
فيا أيها السادة، أعضاء النهضة الأدبية، لقد أثرت بي كلمات هذا الغريب فانصببت على العمل، فأنا مثلكم أجرب أن أنفع أمتي بهبة أعطانيها الله، وكعاملة في حقل الأمة أحييكم إذ أرى طلائع العمل في هذه النهضة المباركة، جعلها الله بنشاطكم وتألبكم واتفاقكم نواة حية لحياة كبيرة تتوحد فيها أفكار هذه الجماعة؛ فتسير في الطريق الذي سارت عليها الجماعات التي نحسدها.
يا مي1
لقد سار اسمك في الأقطار العربية فتسلطت ذاتيتك السامية على قلب كل من يقرأ الضاد، واتخذت لها مكانة عالية لم تصل إليها كاتبة في العالم العربي.
هذه كلمة حق، وقائلتها فهمت معنى هذه الذاتية الجذابة، الغنية بكل مواهب العقل والقلب والروح، يوم قرأت كتابك الأوحد «باحثة البادية».
كنت تعبة من كل ما كتب وما قيل، وعاجزة عن قراءة أي كتاب عربي دفعة أو دفعتين أو ثلاث. هل هو ملل أو اكتفاء، أو ظماء أو جوع إلى غذاء كامل يشبع نفسي، أم أن الحياة في هبطت إلى سكون لا توقظه أصوات الحياة العادية؟ لا أدري! كل ما أدري هو أنني أخذت هذا الكتاب في أحد الأمساء، ولما وصلت إلى الصفحة الأخيرة منه إذا بنور القنديل يحمر أمام أنوار الفجر البيضاء الداخلة من النافذة فوق رأسي، وإذا بنفسي تصرخ كما صرخ ابن نابوليون يوم لقي البطل فلامبو: وأخيرا لقد ظفرت بواحد! وإذا بروح «مي» الساحرة وقد أشبعت ظمأ قلبي توقظ في روحي المستكنة عوالم لا تعد ولا تحصى.
هو الكاتب الكبير يجمع المنطق والبلاغة والجزالة، أقول: آه! ما أفقر المعاجم بين أيدينا ! هو يجمع شلالات الحياة بكل ما في الحياة من ثروة وفيض وغنى وتجدد، ومن وثبات تهب نابضات على عدد الثواني، ويطلقها على الناس فتسير كقوة خالقة تشبع وتروي، وتبعث الفكر النائم من ظلمات الصمت والسكون.
هذه مي كما رأيتها في باحثة البادية، مي المخلصة، يؤلمها أن تهب حياة صديقتها ضياعا فتكرس كتابا بكامله لتكريم الصداقة بعد الموت.
مي الوصافة ترسم بالكلمات:
الوجوه والآفاق والليل والكواكب، فتنبض في الألفاظ الجامدة حياة سريعة متقدة، يهيجان الغضب، وأنين الشكوى، ورنين الظفر، وتهتز للألفاظ تارة كالأوتار، وتولول طورا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينا همسا عجيبا كمبهم الآمال القصوى.
بهذه الموسيقى تصف مي الكاتب الحق، ويا حلاوتها من وصافة ما وصفت إلا نفسها!
ومي الجريئة تعالج أمور الشرق بجرأة ما عرفها الشرق، فتقبض بيدها على علة العلل، على الاتكالية المهرأة، البالية، وتقول بهذه البلاغة:
كلنا معجب بفصاحة القرآن، ونعزو إليه فصاحة العربية عند المسلمين، واستقامة لفظهم، وجمال منطوقهم، وفخامة أسلوبهم الكتابي؛ لأنهم يستظهرون آياته صغارا، ويستشهدون بها كبارا، إلا أن فصاحة الكتاب الحكيم وجماله قد عودا القوم الكسل الفكري، فصاروا إذا ما أرادوا الإفصاح عن رأي أو نظرة، أهملوا إجهاد القوى المولدة مطمئنين إلى ضرب آية قرآنية، أو حكمة شعرية مثلا، تاركين قرائحهم في حالة الجمود مستكنات، وعليها خيوط العنكبوت تخيم آمنات.
وما ألطفها إذ تستدرك:
بيد أن هذا الانتقاد الذي يصح على الأكثرية لا ينطبق على أقلية لبيبة، إن هي استعملت الآية القرآنية عند الحاجة فإن لها أسلوبها الخاص، وقد تنسج عباراتها على وزن عبارة القرآن بنزعة فطرية، واضعة ألفاظه لمعنى شخصي، وبشكل جديد يسترق السمع، ويستأثر بالمخيلة قبل أن يبلغ أفق الإدراك.
وبهذا اللطف نفسه تشرح أفكار باحثة البادية فتقول في صدد تعدد الزوجات:
العجز يجعلني قاصرة دون تشخيص هذه العلل الغريبة؛ لأنني فتاة مسيحية، ومهما تفهمت هذه الأوجاع بقلبي النسائي فإنها تظل عندي خيالية ليس غير.
ما ألطفها تتنصل من تشريح هذه العلة الغريبة عنها! ولكن هل هي غريبة عنها؟ وهل تعدد الزوجات محصور في طائفة من الناس دون سواهم؟ المرأة مظلومة في كل مكان، ووفرة الزوجات - على ما نعلم - شائعة في الغرب كما في الشرق. اسمعوا قلبها الوجيع ينتصر لنساء الأرض جميعا! اسمعوه يردد زفرات نساء العالم المعذبات ويئن:
يخاف الناس ويرجون، ويكرهون ويرغبون، وظلام الأمل مخيم عليهم، فيبحثون عن الأصدقاء والمساعدين والمؤيدين! ولكن أليس هؤلاء الذين نحبهم ونحتمي في قلوبهم من مكايد الأيام هم الذين يسكبون سيال الألم في كئوسنا صرفا، ويتفننون في التعذيب كأنما الطبيعة ائتمنتهم على أسراره.
أما كاتبة هذه السطور التي تجرب اليوم في خمس دقائق أن ترسم خطوطا صغيرة لذاتية مي الكبيرة، فإنها تعبد هذا السحر الحلال.
ومي الوديعة تتكلم في الأدب والشعر والاجتماع والعمران، تتكلم عن اطلاع جم وعلم صحيح، برسوخ ومتانة لا يفوقها فيهما أقوى الرجال حجة، ولكنها في كل مواقفها أديبة. أديبة ما سمعتها تتكلم إلا وفي صوتها رنة استفهام عميقة وكأني بها تقول: «لعلي مخطئة». بهذه الرقة تتقدم مي إلى المواضيع التي عالجها قاسم أمين فهز وادي النيل تلك الهزة العنيفة، فتبدي رأيها ولكن بعد أن تقول:
ليس لي رأي إزاء ما يرتئيه أساطين المسلمين.
ومي الصادقة الصريحة تقول الحق لأنها تعتبره حقا وإنصافا، تقوله صراحا بدون محاباة، لا تراعي فيه حتى ولا المحبة، كذا تقابل بين الباحثة وقاسم أمين. وهذه المقابلة مع ما سبقها من البرهان، وما تبعها من الاستنتاج، هي آية في الإبداع خلاصتها أن الباحثة تصلح كامرأة، وكامرأة هي مقيدة بالعادات والتقاليد، حذرة أبدا. هي تحوم فوق بيئتها، ولكنها لا تزال خائفة، وما أحسن «مي» تصور لنا الباحثة وحيدة في فكرها، تصرخ وسط وحدتها لتوهمنا أنها غير خائفة.
أما قاسم فهو أمين مما يقول، سلطان كصاحب الحق، شاعر بدون خوف ولا ارتعاش، إنه يقول الحق؛ لذلك هو يجلس على كرسي القضاء، ويطلب تحرير المرأة حبا بالسعادة الحلال، تلك السعادة التي يريدها لأمه وأخته وزوجته.
هذه هي مي أيها المواطنون، مي الوصافة، العالمة، الجريئة، الوديعة، الرقيقة، الصريحة.
وهنالك «مي» ثانية تتطور مع الدقائق، وتتجدد عند كل شروق وكل غروب، تلك «مي» الجديدة بعد أن زارت لبنان وساهرت نجومه في لياليه الخلابة، مي الجديدة السباقة في نشر دعوة لبنان أيان يرن صوتها الرنان. أما رأيتموها تتململ وتنادي من على صحائف «الهلال» أين وطني؟ أريد وطنا أموت لأجله أو أحيا به. كذا تقول مي.
وطنك يا مي هو هذا الجبل القديم الذي كان وطنا من قبل أن تتكون كلمة «الوطنية» في عقول الناس. هنا وطنك، لبنان الوجيع، تغضب عليه الليالي فتحشره في كل مسألة من مسائل الشرق، ثم تقتطع سهوله، ثم تميته تجويعا وشنقا. ولقبس من نور يطلع عليه، لنهلة من مياه الحياة، لرمق يعاد إليه تزلزل الأرض زلزالها وهو لا يزال الشيخ الكريم يضحك من بخل الناس وصغارة الناس، ويفرق على العالم الشرقي من دماء قلبه، وفلذات كبده حججا أزلية على حقه في الحياة.
نعم يا مي، ليس لنا أعلام ذات خطوت وألوان ونجوم وأهلة وصلبان، إنما لنا - يا رافعة العلم - أعلام سيارة تسير خفاقة فوق الهند والحجاز والعراق ووادي النيل والسين والهدسن والأمازون.
ولنا أعلام قديمة مضرجة بدمائنا ودموعنا مطوية في جوف التاريخ، هي ضحايانا القديمة والحديثة نحملها على أيدينا، ونريها للناس فيذكرون الوفاء.
هنا وطنك يا ابنة لبنان، فبشري بالرجوع إليه، فلا يقوم بالأوطان سوى أكتاف الرجال وقلوب النساء.
هذا وطنك مجتمع هنا، صورة مصغرة، برجاله ونسائه وبناته وصحافته وأدبائه ومدارسه ومعاهده وكشافته؛ ليحتفل «بميه» الوحيدة، ويشيعها بكلمة حب وحنان.
أنت وطن يا مي بحياتك الفياضة التي إذا وزعت كان منها ألف ألف حياة؛ فلا تقولي - فدتك روحي: أين وطني؟
الإرادة عند السوريين1
في الأزمنة القديمة يوم كانت الشعوب تعبد قوات الطبيعة الغامضة، فتصورها بشكل منحوتات ذات أسماء مختلفة، كان الفينيقيون يقدسون - بنوع خاص - القوة الروحية، فمثلوها بشكل «هرقل»؛ ألبسوه جلد أسد رمزا إلى القوة.
ولم تكن هذه الآلهة القومية حامية المزروعات ومفرقة الخيرات إلا رمزا ناطقا بنشاط الشعب الفينيقي وإرادته وتفوقه في البحار.
وقد أقام الأقدمون لهذه الآلهة هيكلا عظيما في مدينة صور رآه هيرودوتس، ووصف عموديه الشهيرين فقال: إن أحدهما من الذهب الخالص، والثاني من الزمرد، والعمودان يلمعان ليلا بنور قوي ساطع.
أمام مذبح هذا الهيكل كانت وفود المدن والمستعمرات البعيدة تجيء كل سنة وتجدد قسم الاتحاد، مقدمة قواها وسلاحها لخدمة الوطن المشترك.
إن تاريخ هذا الشعب الذي بدون غزاة وجيوش احتلال أخضع لنفوذه ولمدنيته شطوط وجزر البحر المتوسط جمعاء، وتمكن بفضل مبادئه وتجارته من توحيد العالم القديم؛ لهو أجمل ما تمجد به إرادة الإنسان، وأفصح ما يعبر به عما تأتي به من العجائب، وهو يرينا أن العالم ليس للأقوياء ولا لكثيري العدد، بل هو لذوي العزم وذوي الإرادة، ويفسر لنا أسباب عظمتنا وانحطاطنا، وأحقية آمالنا، ويدلنا على وسائل النهوض وأولها: إيمان ثابت، وإرادة مطلقة.
هذا ما يقوله لنا كل فصل من فصول التاريخ، وكل صفحة من صفحاته.
إن نزعات إرادتنا خلال الدهور هي التي خطت لنا طريق الصعود أو الهبوط، ارتفعنا بارتفاع الإرادة وسقطنا بسقوطها.
ولعل الشبيبة المجتهدة المصغية إلي تقول: ألا يكفينا العلم للصعود إلى القمة؟
أقول: لا يا أحبائي! العلم الذي يفرقه عليكم أساتذتكم بمقدرة نادرة وإخلاص لا يعرف الملل إن هو إلا منارة تنير بحر حياتكم، ولكن العلم لا يضيع المجذاف في يدي البحار، ولا يجر القارب إلى المرفأ الأمين. العلم لا يشدد عضلات الرجال، ولا يقوي نفوسهم الخائرة ليصادموا ويقاوموا عجاج الزوابع العاصفة، يقول هوراس في قصيدة:
يقتضي أن يكون ذا قلب مدرع بثلاثة دروع من الفولاذ ذلك الرجل الأول الذي اقتحم غضب البحار على قارب ضئيل.
ولكن الشاعر تناسى أن أول بحار جابه الأمواج كان من أبناء صور أو صيدا، وأن قلبه المدرع إنما كان قلبا فينيقيا، وأن درعه المثلث كان تلك الإرادة الفينيقية التي لا تغلب.
أيها السادة، عندما نرى قواعد هيكل بعلبك، تلك الأصلاد المرمرية القائمة إلى علو عشرين مترا بثخن أربعة أمتار، عندما نفتكر أن هذه الصخور قطعت أولا من أماكن بعيدة، ثم رفعت عشرة أمتار فوق الأرض ، عندما نتأكد - وذلك بحسب تقدير العلماء - أنه يقتضي لجر إحدى هذه القواعد مسافة متر واحد جهود أربعين ألف رجل يشتغلون معا، نتساءل إذا كان هذا الهيكل صنعه شعب جبار، أو صنعه رجال فوق الرجال.
أمام هذه الخرائب يقف كاتب إفرنسي ويعترف - مجبرا - أن القوة المادية إنما هي نتيجة القوة الروحية، وأن الجهود التي صرفها عمال هيكل بعلبك إنما كانت تتناسب مع قوتهم الأدبية، ثم يتساءل هذا الكاتب عما إذا كان يمكن لشعوب هذا العصر الضعيفة الأعصاب أن تأتي بمثل هذه العبقرية المولدة لهذا الغرائب.
من العبث أيها السادة أن نبحث إذا كان أجدادنا استعانوا بالبخار أم بالكهربائية. إن القوة التي حركت ورصفت بهذا التوازن هذه الأعمدة العظيمة لم تكن قوة مادية فحسب، فهيكل الشمس ومدينة تدمر المشيدة في قلب الصحراء هما شاهدان قائمان يشيران إلى الأوج الذي بلغته الإرادة السورية.
وقد قدس أجدادنا إرادتهم الحرة ففضلوا الهجرة، كما يفعل أولادهم من بعدهم، على الإقامة في ظل سلطة مقيدة، معتقدين أن ظلاما يقيدون إرادة البشر، وأشرارا ينكرون عليهم وجودها، إنما هم رجال سقطوا عن مستوى الرجال.
تعرفون حكاية طاليس الفينيقي، أحد حكماء اليونان السبعة، الذي بحسب قول أرسطوطاليس كان أبا الفلسفة. كان طاليس هذا مدعوا إلى مائدة أماسيس، مغتصب عرش مصر، فأخذ الحضور يتكلمون عن طبيعة الحيوانات، ولما سئل طاليس عن رأيه أجاب:
إن أشر الحيوانات البرية هو المستبد، وأقدر الحيوانات الداجنة على الأذى هو المداهن.
الإرادة تكيف الكائن البشري وتميزه عن الحيوانات والنباتات التي لا تعيش إلا لنفسها، بالإرادة يقاوم الإنسان أمياله، ويسير مستقبله في طريق حرة، يقولون: إن من يريد ينال، بل ينال كل شيء.
إنما الإرادة تفسر بالعمل، والعمل يقتضي له بذل الجهود؛ لذا لا نندهش عندما نرى من لا يبذل جهدا يئوب بالخيبة؛ فالمشروعات البشرية التي كان نصيبها الحبوط هي التي رافقها إفلاس إرادة القائمين بها.
إن تنفيذ الإرادة يتطلب جهدا كبيرا، وبدنا قويا سليما، ولكن الكثير من الرجال يتغلبون على بنيتهم الضعيفة بروحهم القوية، منهم بوزيدونيوس السوري، أستاذ شيشرون والموحي إليه رسائله الجميلة في الألوهية، والقدر، وطبيعة الآلهة. هذا الفيلسوف كان مصابا بداء النقطة، فيوما جاءه بومباي خصيصا ليسمع تعاليمه، وبينما هو يتكلم فاجأه عارض من أعراض مرضه المبرح، فغالب الألم وصرخ:
مهما تفننت في تعذيبي فلن تجبرني على الإقرار بكونك داء.
هذا مثال من قوة إرادة لم يكتف صاحبها بالتبشير بها، بل علمها بالمثل الحي.
قد نتساءل: لم فارق العزم شعوب هذه البلاد؟ وما هي أسباب هذا الانحطاط المؤلم؟ وماذا حل بسبيكة الذهب فتحولت إلى رصاص؟
لنعترف بدائنا مع اجتناب الغلو ما أمكن.
التبر الذي تركه الجدود لم يزل تبرا، ولكنه دفن في أرض رطبة فغطته النفايات والأوساخ، لقد رمانا الحكم الغابر في جمود عميق فتأكل الصداء عضلاتنا وأوصالنا، وأنقص من مقدرتنا على الدفاع.
أيها السادة، كيف يمكن أن يكون غير ما هو كائن؟ إن شأن الأمم ليس كشأن تلك الغادة الخرافية التي نامت في الغابة مائة سنة، وأفاقت فإذا هي لم تزل غضة جميلة، وإذا بالغاب لم يزل مخضلا. إن سباتنا الطويل قد ترك فينا الغضون، ومزروعاتنا المهملة لم تلمسها قوة السحر، ولم تبق لها ازدهار الربيع.
بينما نحن نغط في سباتنا، تداعت جسورنا ومعاهدنا، وانهالت الأتربة فملأت مرافئنا.
لم يصف كاتب موات الأشياء حولنا كما وصفه لامرتين يوم ألقت سفينته مرساتها في ميناء صيدا، فذكر الزمن الغابر، وذكر الأرصفة المرمرية وقد تزاحمت فيها أشرعة السفن كسرب النسور، ثم فتش عن المدينة البحرية العظمى، ولما لم يجد إلا صقالة صغيرة متداعية صرخ:
كيف نسحق بقوة خلودك يا إله الدهور؟
هو الرق كفن بالتراب هذه البقعة المخصبة، وصوب سهامه إلى إرادة شعب فأرداه مشلولا، فإذا ما تزعزع هذا الكابوس يوما كان النشاط القومي يستفيق، وإذا ما رومية ارعوت ومنحت لبعض مدن السواحل حق الجنسية الرومانية، أو أشركت أبناءها في الحكم؛ كان النبوغ السوري يفتح له سبيلا، ويشرف بلادا أنجبته، وبلادا عرفت كيف تستفيد منه ...!
أراد تراجان أن يخلد اسمه فاستعان بمهندس سوري دمشقي، اسمه أبولودور ، فرسم له خطة موقعة من أمجد مواقعه، وأنشأ له على نهر الدانوب جسرا هائلا، وشيد له معاهد الفن الروماني الخالد ، ومنها قوس النصر وعمود تراجان في رومية.
كذا نبغت جوليا دونا الحمصية السورية ذات الجمال والذكاء السامي، فتسلطت على زوجها - وهو جندي أفريقي - ودفعته إلى اقتحام الأرجوان الروماني. وبفضلها حكم أمبراطرة سوريون من عائلة سيفير مملكة تعد مائة مليون نفس، وبفضلها دعا هؤلاء الأمبراطرة ثلاثة من فقهاء بيروت وحمص وصور، وهم: بابنيان والبيان وبولس، إلى استلام أسمى الوظائف القضائية؛ أي وظيفة قاضي القضاة، فأوصلوا الشرع الروماني بعلمهم وقضائهم إلى ذروته العليا.
من يدري ما كان حل بهؤلاء الفقهاء، ومنهم واحد استحق لقب أمير المشترعين، لو عاشوا في زمن الاستبداد والجهل؟
ربما كان بابنيان أفندي تمكن من أن يصير رئيس كتبة في إحدى المحاكم، هذا لو جمل خطه إلى الحد الأخير.
وكان البيان أفندي ينال وظيفة عضو بداية، إذا هو لجأ إلى ذوي النفوذ وتحاشى غضب رئيس المحكمة، أما بولس أفندي فربما كان يتوصل إلى وظيفة مدير إجراء إذا تزوج بابنة أحد كبار الموظفين.
أيها السادة إذا وجب على الإنسان أن لا يفاخر بنقائصه، فقد وجب عليه على الأقل الإقرار بها. إن للمستبدين بنا، إن للذين كبلوا قوانا وسيرونا إلى المهاوي شركاء في الجريمة هي: انقساماتنا، ومنافساتنا، وتطاحننا بعضنا ببعض.
كثيرا ما سبكنا حديد أغلالنا وسلاسلنا بأيدينا فأدخلها الظالمون في أعناقنا وهم واثقون بأن انقساماتنا تضني قوانا، فلا نتمكن من تكسير القيود. إن الرق الاختياري الذي ضرب علينا بعد الرق الإجباري هو أشد أنواع العبودية؛ لأنه يستمد غذاءه من تخاذلنا.
واليوم وقد تحررنا فماذا ننتظر، إن الاستقلال الحقيقي الذي ينشده الناس لا تلده المعاهدات الدولية ... الحرية الحقيقية التي تمكن الشعوب من السيادة على نفسها هي حرية الإرادة، وهذه تنال بالتربية الثابتة وبالجهود المتتالية. الحرية لا تنال بسن دستور جديد، ولا بإنشاء مجلس نواب.
لكي نتخلص من «التحكم» يجب أن نتحكم في إرادتنا، وفي نزعاتنا، وفي عاداتنا، تلك المتمكنة منا والمخضعة إيانا كالعبيد.
يجب أن نتغلب على الأفكار المضرة التي سببت بلاءنا في الماضي وجعلت لكل مذهب، ولكل طائفة قومية خصوصية، ثم ضربتها بعضها ببعض فقضت على فكرة الوطن، ومنعتنا من أن ننشأ كأمة.
لنقو في هذا السبيل جمعياتنا العلمية والوطنية؛ ولنضم إليها كل ما في الأمة من نشاط وذكاء ومقدرة بدون تمييز في الاعتقاد ليتم لنا التقرب ثم الامتزاج، فمتى اجتمعنا وعملنا معا سرنا نحو التآخي، وبالاجتماع والعمل نعرف حاجات بعضنا، ونسير ببطء نحو غاية الكمال المشتركة.
لنمش ولا نخشى النميمة والحسد، هل يحجم الجندي عن الهجوم خشية أن يجرح، ومن ذا يقول: إن الحسد هو سلاح جارح؟ أوليس هو داء مثل سائر الأدواء، وصاحبه أولى بالرحمة؟ لكي نتخلص من جمود ومن شلل روحي بهما نضام؛ علينا أن لا نكتفي بالإرادة الناقصة والعلم الناقص. ولكي نتقي العثرات وما تجره من اليأس؛ علينا أن نوحد جهودنا، ولا نخلط بين التمني الذي لا يكلف شيئا، وبين الإرادة المولدة التي تتطلب جهودا متتابعة وضحايا عظمى.
أيها السادة، لا يكفي أن نتمنى لبلادنا الفلاح والاستقلال، يجب أن «نريد» ذلك «ونريده» من كل قوانا.
وأحسن شعار يمكننا أن نتخذه لنا كلمة زوج جوليا دونا إلى قواده وهو على سرير الموت؛ وهي: اشتغلوا.
ختام
اشتغلوا، اشتغلوا!
كذا يصرخ الأستاذ إده من فوق منابر بيروت.
ما أجمل هذه الكلمة! وما أحسنها آية يختم بها كتاب أهديه إلى أمتي العزيزة!
وكلي شوق ورجاء أن أسير في طريق المعرفة، وأن أستنير بقبس من نور المحبة؛ محبة البلاد وأهلها، حتى أحسن الخدمة في حياتي الكتابية. •••
أكتب هذه الصفحة الأخيرة يوم المولد النبوي الكريم، أكتبها وأصوات التهليل ترن في أذني. هو العيد الأول في حياتنا الوطنية، هو العيد الأول تمشي فيه راية المحبة - هلال يحضن صليبا - تمشي خفاقة فوق رءوس الشبيبة المسيحية السائرة إلى الجامع، للمرة الأولى، للاحتفاء بالعيد.
هي نسمات طاهرة أضمها إلى هذه النسمات.
هي صفحة ذهبية جاءت اليوم عفوا، وجلست في منتهى هذا السفر الصغير.
إنها صفحة جميلة، إنها صفحة مباركة. •••
اشتغلوا، اشتغلوا! الطبيب في طبه، والمهندس في زراعته، والأديب في أدبه.
وعندما نرتاح من أشغالنا ونأوي إلى بيوتنا ؛ لنذكر غرسة صغيرة زرعناها معا يوم المولد الكريم.
تلك هي غرسة التفاهم والمحبة.
لنسقها من دموعنا، من دموع فقرنا، وجهلنا، وذلنا، ولنحلها في مرتفع لائق، منظور، حتى نراها في كل آن ونسمعها تقول: تفاهموا، واتحدوا.
سلمى
بيروت 23 تشرين الأول سنة 1923
Unknown page