218

Napoleon Fi Misr

نابوليون بونابارت في مصر

Genres

والآن ننتقل إلى المصدر التاريخي الثاني وهو كتاب «عجائب الآثار في والتراجم والأخبار» لمؤلفه الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، أحد علماء الأزهر، وشيخ رواق الجبرتية في مدة الاحتلال الفرنسي، وما بعده حتى زمن محمد علي.

ولد الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في مدينة القاهرة سنة 1167 هجرية «1754م»، وكان جده السابع يدعى أيضا الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وهو أول من قدم مصر من الجبرتية «نسبة إلى جبرت إحدى المقاطعات الإسلامية في بلاد الحبشة» في أوائل القرن العاشر الهجري، فتكون أسرة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي قد قضت في هذه الديار أكثر من ثلاثمائة عام، وانقرضت بوفاة المؤرخ في 27 رمضان سنة 1237ه «18 يونيو سنة 1823م.» لأن الشيخ عبد الرحمن لم يعقب من الأسر الجبرتية غير ابن وابنة، توفي الولد بعد وفاة والده ببضع سنوات، وعمرت الابنة ولا يعرف عنها ولا عن ذريتها شيء.

وأهم من اشتهر من الأسرة الجبرتية بالعلم والفضل، الشيخ حسن الجبرتي والد المؤرخ، فقد كان ممن يشار إليهم بالبنان في زمانه، وتلقى العلم عليه كثيرون من العلماء الذين ذكرت أسماؤهم في هذا الكتاب، وكانوا أعضاء في الديوان الذي أنشأه نابوليون، وصور بعضهم لا تزال معلقة في متحف في فرساي، مثل المشايخ الشرقاوي والمهدي والصاوي والفيومي وتوفي الشيخ حسن سنة 1188ه، ولم يترك من الذرية، على كثرة ما ولد له من الذكور والإناث، وعلى كثرة من تزوج من الحرائر وتسرى من الرقيقات الجركسيات والحبشيات ، غير المؤرخ عبد الرحمن، ويظهر أن والدة المؤرخ كانت واحدة من تلك السراري التركية أو الجركسية الأصل، وذكر الذين ترجموا كتاب الجبرتي إلى الفرنسية أن والده ترك له ثروة كبيرة، وكانت له ضيعة في بلدة إبيار ذهب إليها - كما يقول كاردين - عند احتلال الفرنسيين، ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد مدة من الزمن، وهي رواية إذا صحت فإنها تثبت أن الشيخ عبد الرحمن لم يشهد بنفسه كثيرا من الحوادث التي وقعت في أوائل دخول الفرنسيين، ويكون ما كتبه عنها منقولا من أفواه الناس، ويضعف الثقة بكثير من رواياته.

أما عن الكتاب «كتاب عجائب الآثار» فأقول: إن الكثيرون من الأدباء وأهل الفضل لا يقدرون كتاب الشيخ عبد الرحمن الجبرتي حق قدره، كأثر تاريخي عظيم، وعمل أدبي مجيد، ومذكرات يومية ذات قيمة كبرى للمؤخر، والسبب في النظر إليه بهذه العين يرجع إلى أن الناس لا يميلون إلى هذا النوع من الأسلوب من جهة، ولأنه مجموعة من عبارات وروايات وحوادث غير متمازجة ولا متناسقة، من جهة أخرى!

ولكن الذين لا يأخذون الأمور بظواهرها، والذين يتعمقون في البحث، عن حوادث تلك الأيام وظروفها وأحوالها، لا يسعهم إلا الإعجاب بذلك السفر الجليل وواضعه، فالشيخ عبد الرحمن الجبرتي هو بلا نزاع مؤرخ هذه الفترة وجامع شتات أخبارها، بإخلاص وحسن نية ومجهود كبير، بل هو كاتبها العظيم وصحافيها الأمين، والذي لولاه لبقي تاريخ هذه الفترة، التي تبلغ نحو خمسين سنة - أي: من نهاية القرن الثاني عشر الهجري إلى أوائل القرن الثالث عشر - صحيفة بيضاء، أو قطعة جرداء، في اللغة العربية.

والذي يهمنا في كتابه «من حيث علاقته بهذا الكتاب» هو القسم الواقع في الجزء الثالث، وقليل مما تقدمه من أخبار كبار المماليك في النصف الأخير من الجزء الثاني، ومهمتنا في هذا البحث تنحصر في قيمة الأخبار الواردة فيه، وصدق الوثائق المحفوظة به من منشورات وتعليمات وغيرها، وقرب ذلك أو بعده من الحقيقة التاريخية.

ولا تردد مطلقا في الحكم على أن الصدق في الرواية كان رائد الشيخ في كل ما كتبه، ولم يكن يحابي ولا يداجي، إلا في النادر من ميوله الشخصية وعلاقاته الخاصة بكبار المماليك كميله إلى إبراهيم بك ووقاره، ونفوره من مراد بك وطيشه وجرأته.

أما من وجهة أن كتاب عجائب الآثار، كتاب تاريخي فلا ندحة من الاعتراف بأنه ليس من التاريخ ، على أسلوبه الصحيح، في شيء وإنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها، بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ، مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء.

وكتاب الجبرتي في نظري أشبه بالتلول الأثرية لا تكاد تحفر فيها، أو تزيل الأتربة من جانب، حتى تعثر بجوهرة ثمينة، أو تحفة ناردة، وقد لا تعثر بشيء مطلقا في جزء كبير منها، وهكذا لا تمكن الاستفادة من كتاب الجبرتي إلا إذا عالجته حفرا، وبحثا وغربلة، ومقارنة ومقابلة، واستخرجت الدر من الصدف، والمعدن من التراب، وميزت بين ما له قيمة وبين ما ليست له قيمة، ولا يسهل هذا إلا بعناء ومقارنة بينه وبين المصادر الأخرى، في اللغات الأجنبية - وهي قليلة ونادرة جدا في الجزء الخاص بالمماليك قبل الاحتلال الفرنسي - وكثيرة فيما يختص بالحملة من مذكرات ومؤلفات، وأوراق رسمية، وغير رسمية.

وليس من السهل معرفة كيف كان يكتب الجبرتي مذكراته هذه، ولكن المعقول المستنتج من كثير من رواياته أنه كان يجلس لنفسه بعد مرور بضعة أيام فيدون ما يكون قدره أو سمعه أو وصل إلى علمه، وهو يعترف في مقدمة كتابه فيقول:

Unknown page