لما احتل الفرنسيون هذه الديار، ونقبوا في آثارها، وألفوا الكتب في أحوالها، كتب بعضهم من رجال البعثة العلمية مباحث دقيقة في نظام حكومة المماليك قبل احتلال الفرنسيين، وعلى هذه المباحث نعتمد فيما نكتبه في هذا الباب؛ لأن ما كتبه المؤرخون باللغة العربية، ممن شهدوا تلك الأيام كالجبرتي، ونقولا الترك، والشيخ الشرقاوي، لا يشفي الغليل، والكثير منه خط وخبط لا يهتدي الباحث في ظلماته إلى قبس نور يستضيء به في وضع مختصر عن نظام حكومة المماليك في عهدها الأخير، ولا في بيان الحال الاقتصادية للبلاد، ولقد تعبت كثيرا في معرفة عدد سكان القطر في ذلك الحين لما وجدته من التناقض البعيد في الروايات، إلا أنه بضم أقوال السياح وأقوال المؤرخين المتأخرين إلى بعضها، يصح الاستنتاج أن سكان القطر في ختام القرن الثامن عشر كانوا بين المليونين والثلاثة.
وإنه لمن المفيد كثيرا معرفة عدد سكان القطر المصري، قبل الفتح العثماني ومقارنته بعددهم الذي أشرنا إليه.
كان النظام الإداري الذي وضعه السلطان سليم لمصر، ونقحه وزاد عليه السلطان سليمان بعده، يلخص فيما يلي:
أنشئ ديوانان تحت رئاسة الباشا الوالي يحضر اجتماع كليهما وهو جالس وراء ستار ولا صوت له في أحدهما، وما يقره الديوان ينفذه الباشا الذي يجدد تعيينه كل سنة.
وأما واجبات الديوان الأول فهي المفاوضة والإقرار على ما يتعلق بالأمور الداخلية التي لا علاقة للدولة بها، وأما أعضاؤه فهم أغوات الوجاقات «الأورط أو الفرق العسكرية» الست، ودفتر داريوها وروزنا مجيوها، «يعني قومندانات الآلايات ورئيس كتابها ومدير وحساباتها» ونواب من جميع فرق الجيش، وأمير الحج، والقاضي الأكبر، وأعيان المشايخ، والأشراف، وللباشا الحق في إصدار الأوامر بعقد جلساته، ولم يكن ذلك إلا في الحوادث الهامة.
وأما الديوان الصغير فيعقد يوميا في قصر الباشا وأعضاؤه هم كخيا الباشا «وكيله» والدفتردار والأغا وكبار رجال المتفرقة ونائب من كل وجاق «فرقة» وينظر هذا الديوان في الأعمال، وما تحتاج إليه البلاد من الأمور.
ورسم السلطان سليم بأن يكون مقر الوالي قلعة الجبل، وأن لا تزيد مدة ولايته عن سنة واحدة ثم تعطى لغيره، وزاد في نظام الجند فأنشأ وجاقا سابعا بمن بقي من المماليك الشراكسة، ورتب لكل وجاق ديوانا ينظر في شئونه، وكان مجموع الوجاقات «أي: الحامية العسكرية» عشرين ألفا.
وجعل السلطان سليمان للبكوات المماليك، الذين أقامهم السلطان سليم، امتيازات خاصة وأضاف إليهم 12 بيكا فوق العادة، وهاك أسماء الموظفين الذين ينتخبون من البكوات المماليك وهم الكخيا، أو نائب الباشا، والقباطين الثلاثة، وهم قومندونات ثغور السويس ودمياط وإسكندرية، والدفتردار، وأمير الحج، وأمير الخزنة، ومديرو المديريات الخمس، وهيجرجا والبحيرة والمنوفية والغربية والشرقية.
وكانت وظيفة الدفتردار ضبط الحسابات، وحفظ الدفاتر والسجلات، ولا ينفذ أمر بيع عقار إلا بعد توقيعه عليه، إشارة إلى تسجيله في دفاتره، وأمير الحج يحمل الهدايا والصدقات التي كانت ترسل من السلطان سنويا، إلى الحرمين الشريفين، وأما أمير الخزينة فيحمل الجزية السنوية للأستانة، من حاصلات مصر برا، وكانت مديريات القليوبية والمنصورة والجيزة والفيوم في عهدة كشاف «مديرين» لا فرق بينهم وبين البكوات في النفوذ، ولهم في كل مديرية من هذه المديريات ديوان خاصة من الوجاقلية والشربجية.
وكان هم الباب العالي منصرفا إلى العناية بالسويس ودمياط وإسكندرية؛ لأنها أبواب الفاتحين لمصر، فكان يرسل حاميتها من الآستانة، تحت قيادة ضباط أتراك، ولا تحسب هذه الحاميات من جيش مصر، وإن كانت نفقتها على الخزينة المصرية.
Unknown page